قتلة و مجرمون

المافيا (1) – المهد والنشأة

بقلم : اياد العطار

المافيا (1) – المهد والنشأة
تاريخ المافيا يساعدنا في فهم الكثير من اساليب العنف والترهيب الحديثة

أجزم بأن معظمنا شاهد فيلم "العراب" الذي يصور حياة جيلين من زعماء إحدى العائلات الخمس المهيمنة على أنشطة المافيا في نيويورك والولايات المتحدة ، وهو في الواقع ، رغم شخوصه الخيالية ، مستمد ومقتبس من سيرة بعض أشهر زعماء المافيا الواقعيين . طبعا الفيلم نال أعجاب معظم من شاهدوه ، حتى أصبحت كلمة مافيا بالنسبة للبعض منا لا تعني سوى سهرة ممتعة ومثيرة مع فيلم يضج بأزيز الرصاص وصراخ وتوسل الضحايا ، لكن بالنسبة أولئك الذين عرفوا وعايشوا المافيا عن قرب في أوج قوتها ونفوذها فهي ترمز لكل ما هو مخيف وشرير . ونحن في هذه السلسلة الجديدة من قسم "عالم الأجرام" ، والتي أظنها ستستمر طويلا ، سنتتبع خطى تلك المنظمة الرهيبة منذ ولادتها ونشأتها في جزيرة صقلية قبل أكثر من قرن ونصف مرورا برحلتها وصيرورتها في بقية أرجاء العالم ، خصوصا في الولايات المتحدة الأمريكية … سنتعرف على طقوس وتقاليد وقوانين المافيا ، سنتطرق لسيرة أقوى الزعماء وأشهر العائلات ونعرض تفاصيل أبشع المجازر والحروب ، وسنشرح أسلوب عمل المافيا وطرق كسبها غير المشروع للمال .. لكن دعونا قبل ذلك كله نتعرف على أصل الكلمة والعوامل التي ساهمت في نشأة المافيا .

المافيا (1) – المهد والنشأة
جزيرة صقلية .. مهد المافيا ..

معظمنا يعلم طبعا أن المافيا تعود في أصولها إلى جزيرة صقلية الايطالية ، لكننا ربما لا نعلم أصل التسمية ومعناها . المصادر الغربية تذكر بأن "مافيا" هي كلمة ذات أصول عربية مشتقة من "مهياص" والتي تعني المفتخر والمتبجح ، أو كلمة "مرفوض" . وبعض تلك المصادر لا تكتفي بنسب الكلمة إلى العربية ، بل تذهب أبعد من ذلك فتزعم بأن بعض مفردات الثقافة الصقلية التي طبعت المافيا بطابعها تتشابه إلى حد بعيد مع تلك الموجودة في الثقافة العربية ، مثل استبعاد وإقصاء النساء كليا عن المشاركة في الأعمال وفي شؤون الرجال عموما ، وكذلك الالتزام بالثأر وأخذ الحق باليد ، وتقديس العائلة والعشيرة . لكني شخصيا أجد صعوبة في هذا الربط ، فالعرب لم يحكموا صقلية بشكل كامل سوى لقرن من الزمن ، حدث ذلك قبل ألف عام ، وقبلهم وبعدهم أتى غزاة ومحتلون كثيرون . فالأرجح هو أن الصقليين تأثروا بتاريخ جزيرتهم ككل وليس بتأثيرات حقبة معينة مهما طالت أو قصرت . فتعاقب الغزوات وحكومات الاحتلال أسست لثقافة قائمة على الريبة بكل ما يمت بصلة للسلطة التشريعية والتنفيذية ، ذلك أنها كانت دوما سلطة غاشمة محتلة همها الوحيد مص دماء السكان المحليين عن طريق الضرائب والمكوس المرهقة ، وهكذا فأن النفور منها وعدم الثقة فيها واحتقار من يتعاملون ويتعاونون معها أصبحت سمة متأصلة في نفوس سكان الجزيرة ، ولعل خير مثال وتجسيد حي على هذا النفور والكره الشديد للسلطة هو قسم وميثاق المافيا الشهير المسمى (اوميرتا) أو قانون الصمت ، الذي يحظر أي تعاون مع السلطات حتى لو كان فيه مصلحة الشخص ، يعني لو تم اتهامك بجريمة قتل وكان الجاني الحقيقي معروفا بالنسبة إليك فلا يحق لك أخبار السلطات عنه ، بل تتحمل الجرم وتذهب إلى السجن من دون أن تنبس ببنت شفة وتدع العدالة تأخذ مجراها عن طريق المافيا .

المافيا (1) – المهد والنشأة
تاريخ الجزيرة شهد العديد من الغزوات والاحتلالات ..

بالنسبة للصقليين أنفسهم فهم ينسبون كلمة "مافيا" إلى أسطورة قديمة ، يقولون أنها مشتقة من شعار : " الموت لفرنسا ، ايطاليا إلى الأمام! " ، وهو شعار رفعوه خلال ثورتهم على حكم عائلة أنجو الفرنسية في القرن الثالث عشر . فمجموع الأحرف الأولى لهذا الشعار " Morte Alla Francia, Italia Avanti " ينتج عنه كلمة مافيا "Mafia " .

وبعيدا عن التكهنات والفرضيات حول أصل الكلمة ، فأن مافيوز أو مافيوزو "mafiusu " هي كلمة بدأت بالظهور في أدبيات الجزيرة خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر ، كانت تطلق على الرجل الشقي المتبجح المغامر الذي لا يهاب شيئا . أما ربطها بالجريمة المنظمة فحدث أول مرة عام 1863 عندما استعملت في عنوان مسرحية شعبية نالت قسطا وافرا من الشهرة والنجاح آنذاك . المسرحية كانت بعنوان رجل المافيا من فيكاريا "The Mafiosi of the Vicaria " وهي تتحدث عن عصابة لها تشكيلات وطقوس شبيهة جدا بتلك التي تمارسها عصابات المافيا اليوم .

المفارقة هي أن رجال المافيا قديما وحديثا لا يحبذون تسمية أنفسهم بهذه الكلمة ، بل يفضلون تسمية كوزا نوسترا " Cosa Nostra " التي تعني : "ذلك الشيء خاصتنا" .

المافيا (1) – المهد والنشأة
زقاق صقلي .. هنا ترعرعت المافيا ..

بالعودة للحديث عن العوامل التي ساهمت في نشأة المافيا في صقلية فيجب أن لا نغفل عدم اهتمام السلطات بتوفير أمان واستقرار دائم وحقيقي للمواطن الصقلي حتى بعدما عادت الجزيرة إلى حضن الوطن الأم ايطاليا ، فخلال النصف الأول من القرن التاسع عشر لم يكن في صقلية بأسرها سوى 350 شرطي ، يتمركز معظمهم بالعاصمة باليرمو ، أما المدن والبلدات الأخرى فبالكاد كان فيها تمثيل للحكومة وتطبيق للقانون ، وذلك أدى طبعا لتقوية شوكة ونفوذ رجال العصابات وعتاة المجرمين ، فملاك الأراضي وأرباب التجارة وأصحاب الحرف كانوا بحاجة إلى من يحميهم من بطش اللصوص والرعاع ، فكانوا يلجئون لزعماء العصابات لكي يمنعوا عنهم الأذى مقابل المال ، وأحيانا كانت تفرض عليهم الحماية حتى بدون رضاهم . الأمر أشبه بنظام الفتوة والقبضاي والشقي الذي حكم الأحياء العربية عندما كان القانون غائب أو ضعيف جدا . وهذا العمل ، أي توفير الحماية ، أو بالأحرى ابتزاز الآخرين مقابل الحماية ، كان ولا يزال في صميم عمل المافيا بأشكال وأساليب شتى ، ولعل خير تجسيد لهذا الأسلوب الإجرامي نجده ماثلا في شخصية "دون فانوتشي" في الجزء الثاني من فيلم "العراب" ، فهذا الرجل كان يجبر جيرانه على دفع الإتاوة له مقابل الحماية من أذى بقية العصابات ، وفي حال عدم الدفع كان يلحق الأذى بهم أو بأحبائهم .

المافيا (1) – المهد والنشأة
دون فانوتشي .. فيلم العراب الجزء الثاني ..

في الحقيقة شخصية دون فانوتشي ليست خيالية تماما ، فهي مستمدة من حياة رجال العصابات الشهير إغنازيو لوبو ، الذي كان يعرف بأسم لوبو الذئب ، وهو صقلي المولد هرب لأمريكا بعد أن أقترف جريمة قتل في موطنه ، وما أن أستقر به المقام في الوطن الجديد حتى بدأ يستغل ويبتز مواطنيه من المهاجرين الايطاليين وكان معروفا بوحشيته وقسوته إلى درجة أن مجرد ذكر أسمه كان يبث الرعب في النفوس ، ويعتقد بأنه قتل ما يزيد على 60 إنسان خلال السنوات التي أدار فيها عائلة موريلو في مانهاتن .

زعيم المافيا الشهير لاكي لوشيانو ( لوشيانو المحظوظ ) بدأ مسيرته الإجرامية بهذا الأسلوب أيضا ، فقد كان يأخذ 10 سنتات من كل يهودي في منطقته مقابل حمايتهم من أذى رجال العصابات الايطاليين والايرلنديين . أما زعيم مافيا شيكاغو الشهير آل كابوني فابتدأ حياة الإجرام بتوفير الحماية للعاهرات مقابل المال .

المافيا (1) – المهد والنشأة
لوشيانو المحظوظ .. اشهر واقوى زعماء المافيا

طبعا يجب أن نفهم بأن أغلب الناس لا يقدمون المال مقابل الحماية تلقائيا ، لكنهم يفعلون ذلك بعد أن يتعرضوا للابتزاز والتهديد ، تصور أنك توقف سيارتك كل صباح في مكان معين أمام محل عملك ، وفي ذات يوم ، بينما أنت تركن السيارة ، يتقدم منك رجل بغيض ذو وجه كالح شرير ويطلب منك أن تدفع له مبلغا معينا من المال مقابل إيقاف سيارتك في ذلك المكان . طبعا أنت ستعترض وترفض بشدة ، فيتركك الرجل ويرحل .. لكن في مساء اليوم التالي ، بعد انتهاء عملك ، تتوجه لسيارتك فتجد الإطارات ممزقة ، وفي اليوم الذي يليه تجد المصباح مكسورا … وهكذا ستدرك الرسالة جيدا ، أما أن تدفع أو تتعرض للأذى ، وأظنك ستفضل الدفع عن طيب خاطر . طبعا قد يقول قائل أشتكي إلى الشرطة ، لكن تذكر بأننا نتحدث هنا عن مناطق القانون فيها فاسد وضعيف ، مناطق يسودها قانون الصمت ، فلا أحد سيشهد معك ضد الشرير ، حتى أعز أصدقاءك . وحتى لو افترضنا تم توقيف الشرير فهو قادر على الخروج بسرعة عن طريق دفع رشوة ، لا بل قد يكون رجال الشرطة أنفسهم متواطئون معه في ابتزاز المواطنين .. بالنهاية ستضطر إلى الدفع صاغرا .. لم لا .. طالما الجميع يدفعون .

هذا هو ببساطة أسلوب عمل المافيا ، يأتون إليك عارضين الحماية مقابل أجر شهري أو حصة من أرباحك ، من حقك أن ترفض ، لكنهم سيجعلونك تندم على اليوم الذي ولدت فيه ، لن يسامحوك أو يتهاونوا معك ، لأنهم يعلمون جيدا بأنهم متى ما تهاونوا مع شخص فأن الآخرين أيضا سيتجرؤون على رفض الحماية ، لذلك سيجعلونك عبرة وأمثولة للآخرين .

المافيا (1) – المهد والنشأة
رسالة حقيقية من رسائل اليد السوداء ..

المافيا في بداياتها ، في صقلية وجنوب ايطاليا ، ولاحقا في أمريكا ، كان تتبع أسلوبا خاصا للابتزاز ، يعرف بأسم اليد السوداء "Black Hand " ، وهو أسلوب قديم كان مستعمل قبلا في مناطق البلقان ، وطريقة عمله كالآتي : يتم أولا تحديد الضحية ، عادة ما يكون رجلا غنيا أو ذو دخل ثابت ، ثم ترسل إليه رسالة تتضمن تهديدا بقتله أو خطف أحباءه أو تخريب عمله في حالة لم يقم بدفع مبلغ معين من المال ، وتشير الرسالة طبعا إلى المكان الذي ينبغي تسليم أو ترك المال فيه ، وتذيل برسوم مخيفة على شكل سكين أو جمجمة ثم توقع برمز على شكل يد مرسومة بالحبر الأسود ، ومن هنا جاءت تسمية هذا الأسلوب باليد السوداء أو الكف الأسود . ويقال بأن المافيا في أمريكا أنشئت مدرسة في مزرعة سرية لتعليم أتباعها على أسلوب الطعن المباغت بالخنجر للانتقام ممن لا يستجيبون لرسائل اليد السوداء .

بحسب الإحصاءات فأن حوالي 90 بالمائة من المهاجرين الايطاليين في أمريكا مطلع القرن العشرين تعرضوا للابتزاز بأسلوب اليد السوداء ، وبأساليب أخرى ، والكثير منهم كانوا يدفعون دوريا لزعماء العصابات مقابل الحماية . هذه الإحصاءات تبين لنا كم كانت دنيئة وشريرة عصابات المافيا على العكس من الصورة التي رسمتها بعض الأفلام لهذه المنظمة الإجرامية .

طبعا لاحقا ، في العشرينيات والثلاثينيات ، ترفع زعماء المافيا الكبار عن أسلوب الابتزاز المباشر ، بدلا من ذلك كانوا يأخذون حصة من مجموع الأعمال غير المشروعة التي تمارس وتدار في مناطق نفوذهم ، وهذه الأعمال في مجملها هي القمار والدعارة والمخدرات والتهريب وتبييض الأموال .

في الحلقة الثانية من هذه السلسلة سنعود لنتعرف على بدايات المافيا في صقلية وجنوب ايطاليا وأسباب هجرتها إلى الولايات المتحدة الأمريكية .

المصادر :

Mafia – Wikipedia
ORIGINS OF THE MAFIA
History of Sicily and the Origins of the Mafia
The Black Hand
Black Hand (extortion)
History of Sicily
Ignazio Lupo
Lucky Luciano Biography
ال كابوني .. رجل المافيا الذي تحول الى أسطورة

تاريخ النشر 23 / 12 /2014

guest
41 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى