أدب الرعب والعام

الرهان

بقلم : أميمة – المغرب

الرهان
لماذا لا تتغير بنيته و ملامحه مهما تقدم بالعمر؟

وحيد أنا بالمنزل كما هي العادة بجل أيام الأسبوع، أقضي الأمسية كما أفعل دوما، كوب شاي دافئ و مجلات من السبعينات تعيد إليك حنين أيام الصبا و التهور، يوم كنت شابا أحمق تمخط بأكمام قمصانه كلها، و تذوق جميع أنواع المواد المضرة بدءا بالحلوى …و انتهاء بالسجائر، و لهذا ترون أن جسمي قد نحل و رئتي قد ضعفتا، و لم يبق بأسناني ما يصلح إلا لشرب الحساء ،لكن و لأصدقكم القول فإن أكثر ما تذكرني به هذه المجلات هو الرهان، الرهان الأحمق الذي وافقت عليه ذالك اليوم…..

بدأ كل شيء في إحدى ليالي الصيف الحارة، كنت أقضي تلك الفترة مع أصدقائي كامل و إبراهيم، و قد كنا حينها على وشك التخرج من الجامعة، و مع ذلك فقد كان طيش الشباب متفرعا بأوصالنا، كنا لا نخاف شيئا أو هذا ما أوهمنا به أنفسنا، ما من بيت تسول أشباحه لنفسها الظهور حتى ندخله، و ما من مقبرة تسمح لنفسها بإفزاع أهل الحي حتى نكشف زيفها،فذاع سيطنا بين سكان القرية، وأطلق علينا لقب الشجمنين-أي الشجعان و المجانين- لكن ما ميز مغامرتنا هذه هو الرهان. كنا نتناقش تحت أضواء النار التي نستعملها لشي الذرة، فيضفي وهجها شيئا من الرعب و الجدية إلى الحديث مع أنهما لا يلزمانه فهو كذلك من الأساس، قال كامل و هو العقل المدبر لمخططاتنا :

“ألا ترون معي أننا لم نقم بعمل منذ فترة …”

فيجيبه إبراهيم و هو لو شئتم ” عضلات” الفريق :

” كنت أفكر في الذهاب إلى بيت عبد العزيز، تعرف ما يقولونه عنه….”

“لقد سئمت البيوت المسكونة، هي أشبه بالمزحة القديمة بالنسبة إلي”

“ليس هذا البيت…”

صمت كلاهما لفترة ثم تراقص شبح ابتسامة شيطانية على ثغري كامل، و أضاف:

“لدي فكرة أفضل، هل سمعتما من قبل بمصاصي الدماء”

صرخت و إبراهيم بصوت واحد:

“مصاصوا الدماء ؟”

ثم أردف إبراهيم :

“ما الذي تفكر فيه؟”

ابتسم كامل أكثر لرواج فكرته و قال:

“حسنا إليكما الرهان، سوف نلقي هذه التعويذة كلنا في آن واحد،ثم..”

قاطعته و قلبي يكاد يخرج من فمي :

“تعويذة؟؟؟ هل هذا سحر ؟؟”

“أجل تعويذة هل من مانع؟”

“…………………”

“فلتتوقف عن مقاطعتي ، و إن كنت خائفا فلتعد لمنزلك، فلست أجبرك على شيء، …أين كنا، أجل تذكرت بعدها،نخمد النار ، و يمسك كل منا طرفا من هذا الثوب و نتوجه نحو البحيرة أمامنا، و يكون أول من يغمر جسمه كله بالماء هو الفائز”

قال إبراهيم و علامات التوتر على وجهه :

“و ما علاقة مصاصي الدماء بكل هذا؟”

“إنها تعويذة قرأتها بإحدى المجلات، هناك احتمال أن يتحول أحدنا إلى مصاص دماء”

ثم التفت نحوي و قال :

“ما رأيك أنت ؟”

و الواقع أن ما أرعبني فعلا لم يكن مصاصي الدماء أنفسهم، بل إخماد النار، فأنا قد كنت و لازلت أخاف الظلام بشدة، لم يكن إخبارهم بذلك خيارا معقولا،فحين يخبرك طفل في العاشرة أنه يهاب الظلام فستجد أنه أمر طبيعي، و لو كبر الطفل قليلا و صار مراهقا لا زال يخاف الظلام ستقول : لم يتخلص من جانبه الطفولي بعد، و بعدما يصير شابا فلن تسامحه أبدا على خوفه من الظلام، أما حين يخبرك رجل شارف على بلوغ الثلاثينات من عمره- كحالي آنذاك- بأنه خائف من الظلام فسيكون دور الطبيب النفسي – أو المصحة- قد حان، و لهذا فقد أثرت الصمت، و حركت رأسي أن نعم.أمسكنا أوراق التعويذات التي أعدها كامل مسبقا، و بدأنا القراءة، بعدها أطفأنا النار، و تقدم كل منا حاملا الثوب نحو البحيرة، كانت كل ذرة بكياني حينها ترفض ما أقوم به و تصيح بي : ” ما الذي تفعله أيها الأحمق؟ فلتعد أدراجك، فلتدعهم يصرحوا بجبنك، جبان حي ، أفضل من شجاع في قاع البحيرة” و قد قررت حينها التوقف فعلا، ليس انصياعا لخلايا الجبن لدي، و إنما لأن أحدهم كان قد فاز بالرهان فعلا، أضأت المصباح و وجهته نحو الماء، حيث ظهر كامل و الماء يغمر جسمه كله، بينما كان نصف جسد إبراهيم قد تبلل، صاح بي كامل :

“يالك من جبان أنت لم تلمس الماء حتى”

بعدها قال إبراهيم:

“ما الذي يحدث للخاسر يا كمال”

“أتقصد نفسك و الجبان ؟”

“بل أقصده هو فقط، فقد تجاوز الماء نصف جسدي، و أنت أسرع مني ليس إلا”

“على أي حال ما من الطبيعي أن يحدث هو تلبس مصاص دماء بجسد الخاسر “

قلت و قد بدأ الخوف ينخر بعظامي:

“تت…تلبس؟”

لم يجيباني حينها بل جلسا يجففان ثيابهما بما تيسر من مناشف، ثم قال كامل :

“الآن ننتظر التلبب….”

ثم توقف فجأة عن الحديث و بدأ بالتحرك و كأنما قد دخل في صراع مع نفسه،صحت بإبراهيم :

“فلتحذر، ربما قد تم تلبسه “

لكن قبضتي كامل كانتا أسرع من جملتي،رأيته و قد ارتمى على جسد إبراهيم ينتوي به شرا، مع أنني لم أفهم بالضبط ما الذي كان يحاول فعله،إلا أني لم أحاول التفكير فيه، بل حملت احد الكراسي و هويت به على ظهر كامل ، فعوى كذئب جريح، صاح إبراهيم :

“كامل هل أنت بخير ؟”

ثم رأيت كامل و قد بدأت ضحكات هستيرية تتعالى من جوفه و كذا ضحك إبراهيم بعد ما اطمأن على سلامته، لم أستوعب ما حدث حينها إلى أن جاءني صوت كامل المفسر :

“يالك من وغد، كدت تحطم ظهري بذاك الكرسي”

و تابع ضحكه، ثم قال بعد أن هدأ قليلا:

“لا أصدق أنك ظننت أن مصاص دماء قد تلبسني فعلا ، هل سمعت من قبل بمصاص دماء متلبس ؟”

ثم قال إبراهيم :

“كدت أنا نفسي أصدق التمثيلية، لكن ما لم أتوقعه هو أن تتخذ موقفا هجوميا”

“لقد ظننا أنك ستفر كالفأر الجبان”

كان الدم قد صعد إلى رأسي من كل هذا، فقلت و أنا أوشك على الانفجار :

“ما هذا المزاح؟ كدتما توقفان قلبي…ماذا كان ليحدث لو كانت الضربة مؤذية ؟”

قال كامل مخففا من غضبي :

“اهدأ يا رفيق، فهي لم تكن كذلك، فلتتقبل المقلب و ….”

لكني لم أعطه فرصة إنهاء جملته، بل عدت إلى المنزل، و تكومت داخل فراشي دونما حديث…

هذا ما حدث ليلتها، و توقعت أن ينتهي الأمر عند هذا الحد، لكن إبراهيم زارني صباح اليوم التالي و قد بدا على ملامحه أنه لم ينم الليل بأكمله، كنت سـأعاتبه على ما حدث بالليلة الماضية، لكن حاله كانت فعلا يرثى لها، لذا فضلت السكوت، قال لي بعد أن خلى المنزل من أهله :

“اسمع، أتذكر ليلة أمس ؟”

“وكيف لي أن أنساها”

“لقد ساورني الشك حول ما حدث…….و بحثت في الموضوع”

“و يبدو أن ما وجدته مقلق فعلا، ما الذي حدث”

قال بعد أن ابتلع ريقه:

“التعويذة…إنها حقيقية”

” أتعني أن كامل قد صار….”

” لا التعويذة ليست كما شرحها هو ، إنها تعويذة تجعل منك مصاص دماء”

“لا أفهم ما ترمي أليه”

“اسمع لا تعمل التعويذة إلا لو استعملها أحدهم، إنها تقتضي بأن كل من ينزل إلى الماء بعد قول التعويذة ، مع مصاص دماء، فإنه سيكون ضعيفا أمامهم “

“لا أصدق أنك تثق بهكذا خرافات..»

“دعني أكمل و حسب ، هذا يعني أنني كنت ضعيفا جدا لهذا هاجمني أنا، لأنني نزلت الماء، لم يكن هذا ما اتفقنا عليه من الأساس ، إضافة لهذا لقد كانت ضربتك كافية لتهشيم كل ظهره،لم لم يتأذ إذن؟ لماذا غرز أسنانه برقبتي ما دامت مزحة ؟ لماذا كان كامل يعرف الكثير عن الماورائيات؟ لماذا لا تتغير بنيته و ملامحه مهما تقدم بالعمر ؟”

“كلها أمور تحتمل التحليل المنطقي”

بعد جملتي الأخيرة نهض إبراهيم بعد ما عرف ألا جدوى من إقناعي، وتوجه نحو الباب و قال دون أن يدير ظهره:

“أنت لن تفهم الأمر، فأنت لم تنزل الماء،…..أنت لم تنفذ الرهان”

و قد كان ذلك لقاءنا الأخير، سمعت بأنه تخرج و صار محاميا مرموقا، و قد حصلت على رقم هاتفه من صديق آخر، هي مكالمة واحدة و تبعثر كل هذا الغموض ، مكالمة واحدة، ربما أجريها لو لم تخني الذاكرة، ربما……..

تاريخ النشر : 2015-03-13

أميمة

المغرب
guest
29 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى