أدب الرعب والعام
الخيانة في زمن الكورونا
للتواصل : [email protected]
![]() |
نحن فريق مكون من أغلب دول الأرض و مهمتنا نشر هذا الوباء |
إنه زمن (الكورونا).
لم يكن يتصور أن يعيش مثل هذه الأيام العصيبة ، هو الذي كان يصف أفلام هوليود بالمبالغة في الخيال ، والإمعان في التلفيق المُحال ، و لطالما كان يُشاهد تلكم التمثيليات وهو يبتسم كأنما يقول : (لا يكاد يُصدّق ، لكن الفكرة لا بأس بها).
كان يظن أن هذه الطواعين لا تكون في زمننا ، على الرغم من حدوث ما يُماثلها في الأزمان الغابرة ، فقد كان يتصّور – كما الكثير – أن العلم بلغ شأناً عالياً من الدقة والنجاعة حتى لا يكاد شيء يهزمه ، فصار يثق بكل ما يُقال له (بحث علمي) أو (دراسة علمية موثوقة) ثقة عمياء لا تتزحزح ، كأن فيها شيئاً من التقديس !
والآن دهم العالمَ هذا الفيروسُ الغامض مع مطلع العام الجديد.
* * *
– نعم سيدي ، ها هما.
ألصق هشام تصريح الخروج وبطاقته الوطنية بنافذة السيارة من الداخل ، فمدّ الشُّرَطي المكمّم بالخارج عنقه ليقرأ الاستمارة ، وحوّل بصره لبطاقة التعريف ليتأكد من الهوية ، ثم لم يلبث حتى استقام مرة أخرى ، وأنزل الكمّامة عن فمه ليقول :
– يمكنك سيدّي الذهاب الآن للتبضّع ، وأكرر : عليك ألا تبتعد عن هذه المنطقة ودكاكينها ولا تتأخر ، فساعة الحظر اقتربت..
شكر هشام للشرطي، و زفر وهو يدوس دوّاسة البنزين مبتعداً.
لطالما احترم رجال الأمن هؤلاء بالرغم من سوء سُمعة بعض المنتسبين لهم كما هي العادة في كل طائفة من البشر ، لكنهم في الأزمات رجال يعوّل عليهم حقاً ، لا بل إن الغرب يتعلّم منهم كيف تكون مجابهة الأخطار والإرهاب المنظّم.
تلهّى هشام – وألهانا معه – بهذه الخواطر الوطنية وهو يجوب بعض الشوارع التي بدت خالية على عروشها ، أغلب الدكاكين مغلقة ، فليس كل أحد يُفضّل المال على السلامة كما يبدو.
حسن ها هو ذا دكان صغير.
* * *
– السلام عليكم.
– وعليكم السلام و رحمة الله ، نعم سيدي.
– أحتاج شيئاً من المنظفات ومناديل الورق و..
توقف هشام ليتذكر ما أخبرته زوجه.
– أرجو أن تُسرع يا سيدي ، فأنا على وشك إغلاق الدكان.
– أأ.. نعم ، نعم. سأحتاج أيضا لبعض المعجنات والخل.. والملح. هذا كل شيء.
أسرع البائع (الأمازيغي) النحيف لجلب ما طلب هشام في مزيج من السرعة ونفاذ الصبر ، كل الباعة هنا نحيفون لسبب غامض !
ثم دار أخيراً محملاً بالأكياس الورقية عائداً إلى سيارته.
شغّل المذياع ما إن أوصد باب السيارة ، وبدأت قطرات من المطر تنقر زجاج نافذته وهو يلتهم الطريق بهدوء ، يتمعّن بأشباح المنازل الهائمة تحت هذا الدوش الصباحي الدافئ ، يا سلام !.
أطلق زفرة ارتياح بسبب هذا التغيّر اللطيف في الجو ، ثم إنه لم يكد ينهيها حتى دوّى الصّوت المرعب من حيث لا يدري ! أهذا حقاً صوتُ نذير الحرب المشهور ؟ أوَ يوجد في مدينته الصغيرة أيضاً مثل هذه الأبواق ؟.
تلفّت بهلع يمنة ويسرة علّه يعثر على مصدر الصوت ، أو سبب إطلاقه.
لا شيء ، فقط طيور ترفرف فارّة من على الأغصان وحدانا و زرافات.
ليته يستطيع سؤال أحدها !.
* * *
– سيدي .. اسمح لي أن أسألك من فضلك ؟.
قالها هشام من خلال نصف نافذة سيارته المفتوحة لدركي يركض بسرعة في الشارع مرتدياً كمامته التي تُشبه منقار البطة.
– سيدي..
لم يعره الدركي انتباها بل زاد من سرعة ركضه بشكل غريب !.
وجد هشام نفسه في حيرة وارتباك شديدين ، ماذا حدث ؟ ألسنا في حجر صحي أصلاً ، فماذا استجدّ يا تُرى ؟ لماذا هذا الإنذار ؟.
ارتمت أمام عينيه فجأة سلسلة مدببّة لتسدّ عليه الطريق ، فأطلقت عجلات السيارة صريراً يصمّ الآذان قبل أن تتوقف على بعد سنتمترات من أسنان السلسلة التي تشبه أسنان القرش ! صوت هدير مروحيات ، و سيارة إسعاف قادمة من بعيد.
ما هذا الـ.. ؟.
* * *
– دكتور هشام السارح ، توقّف مكانك ، لا يحقّ لك التجوّل بعد الآن !.
كان مصدر الصوت من خلفه ، ولماّ نظر إلى المرآة فوقه وجد فيها جندياً يحمل مكبر صوت وقد ترجل من مدرعة حربية و بدأ يخطو باتجاه السيارة بحذر.
أمسك هشام بطاقته وتصريح الخروج بحركة آلية وأنزل زجاج السيارة قليلاً وانتظر حتى يصل إليه الجندي.
– لقد أدليت بأوراقي عند الخروج يا سيدي.
لم يجبه الجندي ، فقد كان منخرطاً في كلام متقطع غير مفهوم من خلال جهازه اللاسلكي وعينه النسرية ترقب هشام لا تفارقه .
– دكتور هشام.
– نعم ، أنا هو ، ما الذي يجري ؟.
– ليس من حقك التجوّل بعد الآن ، هذه أوامر عليا.
– كيف ؟.
– ضع كل ما في يدك وترجل من السيارة بهدوء.
– لكن.
– نفّذ ما أقوله بالحرف ، هيا !.
* * *
” لا يكاد يُصدّق ، لكن الفكرة لا بأس بها ! “.
* * *
– حسن .. سأفعل ، سأفعل.
خرج هشام من السيارة بتردد ، محنياً قامته.
– ضع يديك أعلى رأسك ، وتقدم أمام السيارة.
فعل هشام كل ما أُمر به ، وما إن صار أمام السيارة حتى قام بحركة مفاجئة وأخرج قارورة خضراء صغيرة من جيب سترته ، و وضعها أمام أنف الجندي صائحاً :
– إن قُمتُ بأدنى حركة سأرشّها في وجهك وحوالي المكان فلا تستطيعون الإفلات أبداً ، أعلم أن أمري افتُضح ولا أبالي بعد الآن ، فلم يعد لي من شيء أخسره ، ارم البندقية من يدك حالاً !.
تصلّب الجندي مكانه للحظات ثم أخفض البندقية ببطء ، و تردّد لحظة قبل أن يرميها ، وعيناه متسعتان من الرعب.
ركل هشام البندقية بعيداً ، ولاحظت عيناه أن نوافذ قد فُتحت ، وأبواب فُرجت ، لتُطلّ منها عشرات الوجوه الفضولية.
استطرد كلامه بصوت مخيف:
– لقد كنتُ في الصين فعلاً ، وأتيت منها بطريقة ملتوية ، حسبتُ أنكم لن تكشفوها أبداً ، لكنكم أثبتم براعتكم حقاً ، وأودّ لو أصفّق لولا أن يدي مشغولة الآن.
نحن فريق مكون من أغلب دول الأرض ، مهمتنا نشر هذا الوباء لأسباب يطول شرحها ، لا تنظر لي باحتقار هكذا ، أعلم أنك ستموت الآن بطلاً وأموت أنا خائناً ، ولكن .. هل كنتَ لتقاوم الإغراء الذي عُرض عليّ ؟ هل يقدر على مقاومته أي بشري على الأرض ؟ أشكّ في ذلك.
تباً .. ها هم أصحابك قد قدموا ، أتدري شيئا ؟ أحب أن أبوح بكل شيء تحت هذا المطر الجميل قبل أن أموت ، يا لها من لحظات شاعرية ! ليت الكاميرات تصورني الآن ، لكن كعادة اللحظات الصادقة في هذه الدنيا لا تكتمل ، أليس كذلك ؟
لطالما رأيتُ البشر يبالغون في كل شيء ، في الأفلام ، وفي إدمانهم السخيف وصراعاتهم المكررة ، ماذا علينا يا أخي لو نقصنا عددنا قليلاً.. ها ؟ ماذا لو ؟..
ودوّت طلقة عالية أفزعت الطيور فوق السطوح
وسكتَ المتكلّم.
وأفلتت القنينة من يده و استقرت في كف الجندي الذي قفز بأعجوبة ليلتقطها !.
النهاية …….
تاريخ النشر : 2020-03-30