العطر الجذّاب
![]() |
أخذ يتشمم ذلك العبق الجذّاب التي حملته أمواج النسيم الشمالي |
و كلما أخذ شهيقاً أعمق كلما حصل على دفعة أكبر من ذلك العطر الأخاذ ، و لم يفق من جنونه ذاك إلا و هو في قلب الغابة تماماً و في جوف ظلاماً دامس لا يدري من أين أتى و أين وصل ؟ فقد انقطع العطر قليلاً ، وما أن دب الخوف في قلب وديع حتى انساب من بين جذوع أشجار الصنوبر ذلك العطر النفّاذ من جديد فوقف يشتمه برغبه عارمة حتى أنه فقد إحساسه من فرط النشوة و أخذ يتجه صوب مصدر العطر ، لأن العطر ينقطع اذا وديع انقطع عن السير و يتدفق اذا تحرك ومشى ، فقد غطت نشوة العطر وسكره مشاعر الخوف عنده فأخذ يتوغل مترنحاً نشواناً لا يلوي على شيء حتى توقفت شذرات العطر من جديد ، و قبل أن يسيطر عليه الخوف من جديد صدح بصوتاً هادئ وادع ، صوت عزف في منتهى الشجن والإطراب على أوتار قيثارة لا يقل سحراً و جذباً من ذلك العطر ،
فاهتاج قلب وديع واختلب لبه و أخذ يرهف السمع و ينصت بكل جوارحه إلى تقاسيم و مواويل ذلك العزف الشجي العذب لم يعد يملك من أمره شيء فقد أصبح رهين ذلك العزف ، أسير العازف المحترف ، ثم انبعث العطر من جديد و كأن أشد عبقاً و طيباً من ذي قبل ، مع الحان تلك القيثارة الساحرة أخذ يمشي و بدون أي حاسة فقد بلغ ذروة الانجذاب والسكر ، و كلما تقدم نحو مصدر العزف والعطر أخذ يتباعد عنه ذلك اللحن الشجي و يقل شذى العطر الفوّاح ، لذلك جد في السير يرتطم يمنةً و يسرة في جذوع أشجار الصنوبر العملاقة ، و كلما توقف أزداد العزف سحراً و شجواً و العطر فوحاً و جاذبية ، فيعود للسير الحثيث من جديد حتى أفاق مرةً أخرى على رأس منحدراً شاهق أسفله بحيرة زرق كأنها السماء أو أشد زُرقة ، فارتد مذعوراً على عقبيه ينظر إلى كل النواحي و يتسأل : أين أنا ، و ما هذا المكان ؟ ينظر لحوله لا يرى شيئاً سوى محيطاً أزرق لا نهاية له ، يقع أسفل ذلك الجبل و يمتد جنوباً منبسطاً كأنه وجه صحراء لا يرى فيها عوجاً ولا أمتى ،
و فجأة عاد العطر يتدفق من جديد أشد جاذبيةً و طيباً من كل المرات السابقة ، و العزف أشجى و أطرب مما كان من قبل ، و كان وديع قد تراجع عن حافة الجبل بعد أن أفاق عدة أمتار إلى الخلف ، و حينما تهادا العطر والعزف من جديد عاد ليتقدم إلى رأس الجبل ، لأن العطر والعزف يأتيان من قبل البحيرة التي تقع أسفل ذلك الشاهق المرتفع ، و بما تبقى لديه من وعي حاول ألا يتقدم أكثر ناحية الجرف السحيق الذي يقف على مقربة منه ، إلا أن العطر والعزف أخذا بتلابيب قلبه و سلباه إرادته من جديد ،
و قبل أن يهوي و حينما وضع قدمه ليرتمي فداء و ضحية و قرباناً لساحر العطر والعزف غرق في جذب تام و فقد ذاته و حركاته ، وعندما أرتمى من على قمة الشاهق و تجاوز الارتفاع نحو نصف قدم نحو الانخفاض الهائل ، تلقفته أيدي مخمليه حريرية ناعمة و احتضنه صدر حنون و دثره شعراً حريرياً ناعم ، أخذته فتاة لها جناحان آية في الحسن والروعة ، و أخذت تطير به تصف جناحها و تقبض متجهةً به صوب البحيرة ، و هو ساكن الحركة ، مشلول القوى ، فاقد الإدراك ، كأنه جثة هامدة لا يحس و لا يشعر بشيء ، استيقظت عائلة وديع في صباح ذلك اليوم بعد أن أسفر الفجر و دبت الحياه من جديد في أرجاء القرية ،
أفاقت تلك الأسرة على اختفاء وديع ، و هرعوا إلى جميع غرف المنزل ، بحثوا في قن الدواجن و في حضائر الحيوانات و لم يدعوا مكاناً في القرية إلا و بحثوا فيه عن وديع ، وانتشر الخبر عن اختفاء شاب ليلة البارحة من أحد بيوت القرية ، فدب الخوف و الرعب في قلوب الجميع ، فتوجه حشد كبير من الناس وانتشروا في مجاميع تمشط أطراف القرية متراً متراً ، و لكن دون جدوى ، فقد بحثوا في جميع الأماكن و سألوا جميع أهل القرية و لكن دون جدوى ، فلم تبقى سوى الغابة التي تبعد نحو ثلاثة كيلو مترات إلى شمال القرية ، هي المكان الوحيد الذي لم يبحثوا فيه ، لذلك شدوا الرحال إلى هناك ، و توجهوا قاصدين الغابة عند التاسعة من صباح اليوم التالي ، و أخذوا في الانتشار في تعرجات الغابة وأغوارها وكهوفها المظلمة ، و بين أشجارها العملاقة و الحشائش الكثيفة التي تحجب السير بينها إلا بصعوبة ، فقد أزمعوا على البحث إلى قبيل الغروب ثم العودة إلى للبحث في صباح اليوم التالي ، لأن الغابة موحشة في الصباح فكيف بالليل ؟
استمر البحث حتى قبيل الغروب و لم يعثروا على أحد و لا حتى على أثر أقدام أتت إلى هذا المكان ، رجعوا بخفي حنين خاليي الوفاض ، ثم عادوا للبحث في صباح عدة أيام في الغابة و في غيرها من الأماكن الأخرى ، غير أنهم لم يجدوا أحد ، أستمر الأمر و البحث لنحو شهر كاملاً دون جدوى و لا بصيص أمل في العثور على وديع ، نادوا و صاحوا و أرسلوا الباحثين و الشرطة و عمموا الخبر على جميع القرى المحاذية ، بل و إلى المدينة التي تبعد نحو خمسين كيلو متر عن موقع القرية ، و لكن لا خبر و لا أثر عن وديع ، فزاغ بصر أمه و امزق فؤادها و كادت أن تهلك حزناً عليه مع بقية أفراد الأسرة ، فلم يدعوا وسيلة و لا حلية إلا أستخدموها في البحث عن وديع ، حتى أنهم ذهبوا إلى العراف و لكن لا فائدة تُرجى و لا بارقة أمل تلوح ،
و في احد صباح الخامس من أذار مارس و في مثل ذلك اليوم التي اختفى فيها وديع ، أفاقت العائلة المكلومة على ظهور ميؤوس منه من أبنهم ، اتجهت أم وديع إلى غرفت أبنها لتشم أشياءه و ثيابه لعلها تجد سلوى في ذلك أو لتفرغ بحوراً من الحزن في ثنايا ملابس أبنها الغالي ، فتحت الباب لتلج إلى الغرفة ، و كانت المفاجأة التي ألقت بها فاقدة للوعي في الحال ، و قبل أن تسيطر عليها نوبة المفاجأة صرخت صرخة سمع دويها أخر بيت في أقصى القرية ، فانطلق كل أراد العائلة تاركين كل ما بأيديهم جانباً حتى دخلوا إلى حيث سقطت الأم ، فإذا هم بالمفاجأة ، نعم وديع بشحمه و لحمه يقف أمامهم ، يتفحصهم بعينين تكاد أن تخرجن من محجريهن من الحيرة والاستغراب ، وهم واضعين أيديهم على رؤوسهم و فاغرين أفواههم من هول الصدمة ، فأخذ يسألهم عن حالهم هذا و لما هم متفاجئين ، و لما أمه طريحة هنا ؟.
تاريخ النشر : 2021-02-12