العودة
![]() |
علينا قتل هذه المرأة مع ابنها الشيطاني !! |
انه في عام كبيسة ..شحّ الزرع و الثمار في تلك السنة اليائسة , و تحديداً في عيد الأضحى من ذلك العام ..
و حينها قرّر سكان البلدة الإكتفاء بالقليل من الأضاحي و البهائم , حفاظاً لهم من عامٍ سيءٍ طويلٍ ..
و توفيراً لما يعينهم عليه , قرّروا الإكتفاء بذبح عدّة اغنام , مع القليل من البقرات , و جملاً واحداً لكل اهل القرية
, و هكذا مرّ العيد على غير عادته في كل سنة ..
و قد مضى على كبار السن , بعد ان ارتسم الحزن على وجوههم للحال الذي وصلوا اليها !
اما الصغار فلم يروا الكثير مما كانوا يرونه كل عام , من الأغنام التي تُربط بجانب كل منزل ..
..و النساء لم تتعب كثيراً ” التعب اللذيذ ” من طبخ الولائم و الأضاحي..
..فمرّ و كأن لا عيد اتى !
و بعد شهرٍ واحد .. اتى امرٌ آخر شغل و حيّر أهالي القرية ..
حين ولدت احدى النساء طفلاً .. و رغم ان المرأة غريبة عن القرية , الا ان قصتها باتت معروفة من الجميع : بأن زوجها غائبٌ عنها منذ مدّة .. فكيف اذاً رزقت بطفل ؟! و من أين اتى ؟ ..و من هو والده الحقيقي ؟!
كلها احداث بدأت من تحت الرماد و من بين المجاورين لدارها .. الى ان عمّ الخبر , و ارتفع الصوت بالحديث ..
وعقدت المجالس للتناقش : بأمر هذه المرأة الزانية , و طفلها الشيطاني القادم الى القرية !!
و انقسمت الآراء ..فكبار السن : يطالبون بترك الحديث عنها و شأنها .. بل ان بعضهم زارها للتأكّد من امرها ..
حيث اخبرهم العجوز (بعد ان زارها) : بأن زوجها غائبٌ عنها , منذ ثلاثة اشهر فقط !!
و قد اخبرته ايضاً : بأن زوجها ضاع في الصحراء في رحلة تجارية , و اصحابه اتوا لها براحلته و عليها اغراضه !
اما شباب القرية و رجالها فلم يصدّقوا كلام العجوز , و ظنّوا بأنه قال ما قال لتهدئتهم , و انه كذب عليهم بشأن اشهر غياب الزوج , ككذبةٍ بيضاء ..
و تطوّر الأمر .. فبعضهم اكّد انها بغيّ يجب قتلها , هي و طفلها ..و الآخرون طالبوا بدليلٍ على ذلك ..و بعضهم كان يرغب بنفيها عن القرية و من المعيشة بينهم , قائلين : كيف نقبل بعيش هذه الزانية بين نسائنا , و تربية ابن الشيطان بين ابنائنا وما سنقول لهم ..و اخلاقنا و و…. ” .. فطال الأمر و لم يحسم بينهم !
و في احد الأيام ..قامت عصبة من اشدّهم رفضاً و تعصّباً , بالإجتماع سرّاً لوضع حدٍّ للموضوع .. و قرّروا انه لابد من قتلها فوراً و طفلها .. بينما تهاون بعضهم عن قتل الطفل .. غير انهم اتفقوا جميعاً على وجوب قتل الزانية ..
و فعلاً !! و في ليلة غير مقمرة .. اجتمع ثلاثة منهم , وعقدوا على تنفيذ ما تعاهدوا عليه .
و تسلّلوا الى بيت المرأة ..و وقفوا مباشرة امام الغرفة الوحيدة في بيتها الصغير الهشّ .. و كسروا الباب ..و بضربة سيف وقعت على قدمها , صاحت المرأة مذعورة و متألمة !! و اتت الضربة الثانية على يدها , فامتلأت وجوههم بالدماء ..وعمّ الذعر , القاتل و المقتول !..الى ان اشعل احدهم الضوء , و اتى بالضربة على مكانٍ قاتل ..
ثم عمّ صمتٌ طويلٌ و قلق ..و على عجل !! اخذوا الطفل ..و توجّهوا نحو الجامع , بغية وضعه امام بابه
لكنهم وجدوا بعض النائمين داخل المسجد , و خشوا الى تطورٍ قد يحصل لو رأوا الطفل معهم
فوضعوه على وجه السرعة امام احد البيوت ..
و ولّوا الى بيوتهم , بعد ان انتهت الليلة السوداء !
في اليوم التالي .. عمّ الخبر ارجاء القرية , و اكتظّ الناس امام منزل القتيلة .. و كان من بينهم القاتلين , نفياً للشبهات عنهم , و كي لا يلتقط احدهم الخيط الذي قد يجرّهم للعقاب ..
و تم دفنها بلا صلاة ..و اغلقوا باب منزلها , رغبة بإغلاق قضيتها المزعجة و المؤلمة ..
اقلّهم شأناً قال : على الأقل سنتحدث عن حديثٍ آخر , غير قصتها المزعجة و المملّة
كبار السن تألّموا مما حصل , و طالبوا قاضي البلدة بالقبض على القتلة ايّا كانوا .. إلا ان المزاج العام كان يريد دفن القضية برمّتها , لتعود المياه تجري مجدداً في القرية ..
احدهم اكّد ان ما حدث هو عقوبة من الله ..
بل اضاف انه رأى الملائكة في منامه و هي تقتلها !
و لم يجادله احد : لما الملائكة تخطأ في قتلها ثلاث مرات , و تعذّبها بهذا الشكل ؟!
هذا عدا الكثير من الأقاويل و القصص التي انتشرت بعد الواقعة..
***
و مرّت 21 سنة , حدث فيها الكثير من التغيرات داخل البلدة .. فقد مات الأكبر سناً ..و تولّى الأصغر منهم القيادة المعنوية لشؤون القرية ..
و كبر طفل القتيلة في بيت احد الشيوخ , الذين كانوا ممن اكّدوا براءة والدته قديماً ..
و كبر هذا الصبي , و هو يعلم فقط : بأنه يتيم منذ الولادة ..
و عاد عام اشبه بعام يعرفه الكبار من اهل القرية , و تذكّره الآخرون ببطء ..
بعضهم اكّد انه مثل عام الجمل الواحد , و حلف انه يشابهه برياحه و جفافه و رائحة نباتاته .. و تهيّئوا جميعاً للعام المقبل الصعب , بالكثير من الإحتياطات ..
الى ان اتى عيد الأضحى و معه نفس السؤال :
هل نذبح الأضاحي , ام نكتفي بالقليل ؟
و عاد نفس الحوار القديم , و كأن الزمن يعيد نفسه !
و اتفقوا على عدّة خراف و بقرتين .. لكن بلا جمل هذه المرة , خوفاً من سنةٍ مشؤومة
هكذا قرّر الكبار ..رغم اعتراض بعضهم على عدم ذبح ايّ جمل هذه السنة !
و بعد الذبح , بدأ توزيع اللحوم .. و اتى الشاب ” اليتيم ” .. فتفرّس ملامحه القصّاب .. ثم اعطاه المتفق عليه , على حسب ما حدّده اكابر القرية , لكل يتيم و فقير و مسكين من لحوم الأضاحي
و مضت ايام العيد على غير عاداتها ! و عاد الناس لأعمالهم اليومية
و بعد مضي شهرٌ واحد عليه .. اتى رجلٌ غريب للقرية , راكباً جمله الذي اناخه عند الجامع , ككل غريب يصل طالباً للراحة و الإستزادة لأكمال طريقه .. إلا انه لم يغادر المسجد ! و لاحظته العيون ..و الفه الناس , غير انهم لم يجرؤا على سؤاله .. و ايضاً هو لم يكلّف احداً بإطعامه او بسكنه ..
ثم سأله كبار القرية بعد مضي اسابيع , عن حاله ؟ و من اين اتى ؟ و لما لم يغادر القرية الى اليوم ؟
و هلمّ جرّا .. لكنه التزم الصمت غير ذي بال , فتركوه على راحته ..
و صار الرجل يمشي بأسواق القرية متفرّساً جدرانها و طرقاتها , و كأنه يبحث عن ذكرى او شيءٍ له ضائع !
كان هائماً بلا هدف .. و كان مُراقباً من اشخاص , بطلب من كبار القرية
و في يوماً ما .. رجع هذا المراقب (مُقتفي الغريب) مشدوهاً الى مجلس كبار القرية , و اخبرهم : بأن الرجل الغريب دخل احد البيوت اطراف القرية , احد البيوت المهملة التي صارت مهجعاً للكلاب .. دخله و اغلق الباب خلفه , و لم يخرج منه !
هنا !! وقف جميع كبار القرية على اطراف اصابعهم , و درات برؤوسهم التساؤلات , و اشتعلت بها الأفكار ..و رجع شريط السنين امامهم بغتة ! إلا انهم فضّلوا الصبر على الغريب ..
لكنهم قرّروا بعد ثلاثة ايام , اخراجه بالقوّة من القرية .. حتى انهم اطلقوا شرطتها و رجالهم للبحث عنه , و طرده من قريتهم … إلا ان الخبر الأكثر صدمة !! انه ما من اثرٍ له , و لا حتى في بيت الكلاب ! ..
رغم ان المراقب حلف : انه رآه مرة يدخل الى هناك و يغلق الباب عليه .. و بأنه لا يكذّب عيناه ..
فبدأ الشكّ يلعب برؤوس الكبار ” خاصّة القتلة منهم ”
فانطلقوا قاصدين اليتيم .. ثم جبروا الشاب على المضي معهم الى ساحة القرية .. و امام الناس صباح مساء , ظلّ مربوطاً في عامود .. وسط استنكار باقي اعضاء المجلس و الأهالي , المطالبين بمعرفة السبب !
و اخبر القتلة , كبار القرية بمعلوماتٍ مُشتّتة .. و بأن ربط اليتيم وسط القرية : هو لطرد الشياطين التي دخلتها .. و انه ما من طريق لطرد الشيطان , إلا بوضع هذا المسكين اليتيم (لأن الأيتام احباب الله) في وسط القرية ..
لكن الحقيقة : انهم كانوا يعلمون بأنه لا طريقة اخرى لإخراج ذاك الغريب الى النور , الا بربط ” ابنه المحتمل ” في وسط القرية .. و بالنهاية تبقى كلّها احتمالات .
و مرّت ثلاثة ايام , ما مرّ على القرية مثلها رعباً و خوفاً و الماً ! حيث وجدوا ثلاثة من كبار القرية مقتولين بأبشع الطرق , و هم على فراشهم و بين زوجاتهم !
و الخبر الأكثر رعباً : بأن زوجاتهم لم يلاحظن ايّ شي .. مما جعل الناس تتهمهنّ بالمؤامرة و الكذب , الذي بالنهاية ادّى الى ايداعهنّ في حجزٍ للمجانين
اما كيف ماتوا هؤلاء الثلاثة (قتلة المرأة سابقاً) :
فالأول : مات حرقاً بالنار , و لم يبقَ إلا قدميه ..و الأغرب ان فراشه بقيّ سليماً , بل ان زوجته لم يمسّها اذى ! لكنها فقدت عقلها من هول ما رأت !
اما الثاني : فوجدوا سيفه مغروزاً في بطنه , حتى خرج من دبره بطريقةٍ وحشية !
اما الثالث : فوجدوه مقطوع الأطراف , و كأنه طفلٌ كبير مُدثّراً بلفافته ! و بعضهم اكّد انه رآه قبل لحظاتٍ من موته , و هو يناغي كطفلٍ غارقٍ بدمائِه !
فظنّ الناس ان هناك قبائلاً من الشياطين قد حلّت بواديهم ..
بل شاع بينهم : إذا لم يرحلوا فوراً من القرية , فسوف تقتلهم الشياطين كما قتلت اكابرهم !
فبدأ رحيل الناس زرافاتٍ و وحدانا , على جمالهم و حميرهم الى خارج هذه القرية الملعونة ..
اما الضعفاء و المساكين ففضّلوا البقاء على الرحيل نحو المجهول
و بقى بينهم ذاك اليتيم , الى ان قرّر لاحقاً الرحيل مع احد التجار , الذي اغراه بالعمل لديه ..
و بالفعل ..و في اثناء توضيب الشاب اليتيم لإغراضه من منزل العجوز (الذي ربّاه) , سقطت ورقة من احد الكتب المهترئة اثناء بحثه عن اغراضه ..و عندما همّ لإعادة الورقة للكتاب , اخذه الفضول لقراءتها
و ما ان انتهى من القراءة , حتى تغير حال اليتيم ! .. و دارت به الأرض من تحت اقدامه ..و خارت قواه في غرفة الرجل العجوز .
(( ورقة البيان و الذمّة من س……. اليك يا….. اني اشهد الله اني والدتك من ابيك ص……….. و انه لم يلمسني رجلاً غيره ..و حاشا لله ان افعل ..و قد بعُدَ والدك عني ..و ازددّتُ ضعفاً .. فلجأت الى الله منزوية , عارفةً بفضله و كرمه..
و هذا متاع ابيك المتوفي , سنة كذا وكذا ..و هذا كتابي الى شيخنا ابو مصعب , الذي زارني في بيتي ..عارفاً بعد الله بحالي ))
و قد وجد متاع والده في بيت الرجل العجوز (بيت التربية) ..
و رفض النزوح او الرحيل ..و ازداد تشبّثاً بالأرض , بعد ان عرفَ بأنه ابن حلال , له اصلٌ بهذه القرية ..و قد سميّ اخيراً بإسم ابيه ..و ناداه الناس به..
الى ان أمدّ الله بعمره , و اصبح شيخ القرية و كبيرها .. و التجأ اليه الضعيف و المسكين ..
و اصبح سيدها , بعد ان كان يتيمها و لقيطها .
تاريخ النشر : 2016-01-25