الفتاة في الصندوق – الجريمة المروعة التي هزت ألمانيا لعقود
قضية اختطاف أورسولا هيرمان إحدى أكثر القضايا الجنائية شهرة في ألمانيا و التي لا تزال مثيرة للجدل حتى يومنا هذا |
تسأل أحدهم : ما هو شعوركِ بفقد أحد أبنائكِ ؟.
فأجبت : كوني أماً لطفل مفقود أشعر أحياناً بأنني لا أود المضي في حياتي ، إنه أمر يصعب تحمله ، كثيراً ما يثقل قلبي الأسى ، فقدت حماستي لكل شيء ، إنه شعور متِعب ، الفقد ، التساؤل ، الحاجة إلى معرفة ما حدث ، البحث عن إجابات ، و لكن دون جدوى .
ما كنت لأتمنى أن يصيب هذا المصير أي شخص على الأطلاق .. على الأطلاق .
أضع ثقتي في الرب بأنني سأجتمع به يوماً ما .
من الصعب أن يكون لديك طفل ، و لا يتسنى لك أن تراه و هو يكبر ، إنه لأمر مؤلم جداً.
هكذا ستكون إجابة كل أم مكلومة أثقل كهلها الهم و الحزن ، لذلك اليوم عزيزي القارئ ستكون لدينا قضية اختطاف حدثت في 15 سبتمبر عام 1981 م ، حيث قادت الفتاة الصغيرة أورسولا البالغة من العمر 10 سنوات دراجتها الهوائية على أمل العودة للمنزل و لكنها لم تصل قط ، لذلك بدأت إحدى أكثر القضايا الجنائية شهرة في ألمانيا ، و التي لا تزال مثيرة للجدل حتى يومنا هذا.
تبدأ قصتنا :
في أقصى جنوب ألمانيا توجد بحيرة شاسعة تسمى أميرسيه ، تنتشر أنهارها في قرى عمرها قرون ، حيث تشتري العائلات الثرية من ميونيخ منازل ثانية كبيرة ، على بعد أقل من ميلين يفصل بينهما كتلة من غابات التنوب تلك المنطقة تجذب الصيادين والرياضيين الراكضين و سائقي الدراجات الجبلية ، و لكنها أيضاً قد تكون مرتعاً للمجرمين وأصحاب السوابق أيضاً ، والدليل أن في أواخر الصيف قبل 40 عاماً كان الخاطفون يستعدون لارتكاب جريمة في تلك المنطقة .
في جنوب ألمانيا توجد بحيرة شاسعة تسمى أميرسيه تجذب السائحين |
بعد انتهاء المدرسة يوم الثلاثاء 15 سبتمبر 1981 م ، في اليوم الأول من العام الدراسي الجديد عادت ” أورسولا هيرمان” إلى منزلها في إيشينج.
تدربت أورسولا الصغرى من بين أربعة أشقاء ، على البيانو مع شقيقها الأكبر مايكل ، ثم توجهت إلى درس الجمباز في وقت متأخر من بعد الظهر في شوندورف ، و استخدمت دراجتها لتنقل عبر الغابة على طول طريق البحيرة.
عندما انتهى درس الصالة الرياضية ذهبت إلى منزل أبن عمها في شوندورف ، حيث تناولت العشاء.
كانت أورسولا هيرمان تستخدم دراجتها الهوائية للتنقل |
في الساعة 7:20 مساءً اتصلت والدة أورسولا بالعم تطلب منه إن يخبر أبنتها بأن تعود إلى المنزل لأنه الليل بدأ يسدل ستاره ، كان هناك لا يزال ضوء خفيف في السماء ، المنزل ليس بعيداً يستغرق ركوب الدراجة 10 دقائق فقط للوصول .
بعد نصف ساعة شعرت الأم بشيء غريب حيث أن أبنتها لم تصل إلى المنزل ، فتصلت مرة أخرى بالعم الذي قال : أن أورسولا غادرت قبل 25 دقيقة ، سرعان ما علم كلاهما على الفور أن هناك خطب ما ، لذلك هرع والد أورسولا إلى الغابة من إيشينج ، و فعل عمها الشيء نفسه من شوندورف ، التقيا في المنتصف على طول الطريق المؤدي للغابة ، فأخذا يرددان أسم أورسولا و أحدثا جلبة كبيرة بصَدَّى أصواتهم ، و لكن للأسف لم يكن هناك أي رد ، و في غضون ساعة أنتشار الخبر بين الجيران ، فانضمت الشرطة و رجال الإطفاء والكلاب البوليسية إلى عملية البحث و الإنقاذ ،
شعرت الأم بالقلق على أبنتها فتصلت مرة أخرى بالعم |
كان الظلام دامس ليلتها والشجيرات الكثيفة تنتشر في الظالمة الحالكة ، و مع اقتراب منتصف الليل و تساقط الأمطار الغزيرة الذي سهم في زيادة صعوبة البحث في البحيرة و الغابة في آن واحد ، تكلل البحث بنتائج و أهمها أنه تم أيجاد دراجة أرسولا الحمراء ، و لكن السؤال الأهم أين هي الفتاة و أين اختفت ! بتأكد هذا ما كان يدور في أذهان الجميع .
بعد البحث المكثف تم العثور على دراجة أرسولا الحمراء |
و في صباح اليوم التالي أنتشار الخبر بين وسائل الأعلام و نقلت الإذاعة الأخبار الصادمة عن الفتاة المفقودة في المنطقة و الجهود المبذولة من قبل ضباط الشرطة ، بالإضافة إلى وجود طائرة هليكوبتر تحلق في السماء لعلهم يجدونها بصحة والعافية ، مع أن هذا الاحتمال كان ضئيل جداً ، و تم أجرأ مقابلة مع والداي أروسولا و سؤالهما عن الملابس التي كانت ترتديها وعن هيئتها الخارجية ؟ كما أنه أتضح أن والدها مدرس و والدتها ربة منزل عائلة لطيفة و بسيطة ليس لديهم أعداء ، وعلى عكس بعض سكان إيشينغ لم تكن عائلة هيرمان أثرياء قط ، فقط حالفهما الحفظ و تمكنا من بناء منزل بالقرب من البحيرة بسبب جد أوسولا الأكبر الذي أشترى الأراضي هناك منذ عقود .
تم نشر صورة أورسولا هيرمان في الصحف على أمل العثور عليها |
و في صباح يوم الخميس عندما كانت أورسولا مفقودة لأكثر من 36 ساعة رن جرس الهاتف في منزل هيرمان ، كان جميع أفراد العائلة مترقب لسمع أخبار سارة ، و لكن حدث العكس حيث كانت المكالمة مبهمة و غامضة فساد الصمت الجميع ، كانت المكالمة عبارة عن أغنية قصيرة تتوقف ثم تعود من جديد من البداية لتعزف ألحانها ، ثلاث مكالمات أخرى مماثلة – محيرة و شريرة – متبوعة على مدار ساعات ، مما جعل العائلة تستدعي الشرطة التي بدورها أخذت تسجل المكالمات ، على أمل العثور على الخاطف .
كان جميع أفراد العائلة مترقب لسمع أخبار سارة من خلال الاتصال |
و في ظهر يوم الجمعة سلّم ساعي البريد ظرفاً موجه إلى والد أورسولا ، و كان الظرف يحتوي على قصاصات ورقية تحتوي على الكلمات وأحرف مبعثرة و مبتورة من أحدى الصحف المحلية ، و كانت اللغة الألمانية المستخدمة ركيكة ، الرسالة مفادها ” لقد اختطفنا أبنتك و إن كنت تريد رؤيتها من جديد و على قيد الحياة فدفع 450 ألف مارك ألماني كفدية ، و سنتصل من جديد باستخدام الأغنية كالمرة الماضية ، قل فقط إذا كنت ستدفع أو أنك لن تدفع ؟ إذا اتصلت بالشرطة أو لم تدفع ، فسنقتل أبنتك “.
كان الظرف يحتوي على قصاصات ورقية تحتوي على الكلمات وأحرف مبعثرة |
و على ما يبدو أن الخاطفين كانوا يتوقعون وصول الرسالة قبل عدة ساعات من أتصلهم ، و كأنهم في منزل هيرمان يراقبون الوضع عن كثب ، و بالفعل في ذلك اليوم رن جرس الهاتف هذه المرة كانت والدة أرسولا هي من أجابت على الاتصال ، و بدأ كل شيء كما ذُكر في الرسالة “الأغنية” فأجابت : أنني أوافق على دفع الفدية ، ولكنني أطالب بإثبات على أن أبنتي سالمة و ما زالت على قيد الحياة ، أريد سمع صوتها..” حينها توقفت الموسيقى ولم يرد عليها الخاطفون ، هنا انهارت أم أرسولا و بدأت تبكي بحرقة و صوتها يعلو شيئاً فشيئاً “تحدث معي ، أعطني طفلتي الصغيرة ” و أنقطع الخط مشيراً إلى انتهاء المكالمة .
طلب الخاطفون من العائلة مبلغ ضخم من المال كفدية |
و في مساء يوم الأثنين الذي يصادف 21 من سبتمبر وصلت رسالة أخرى من الخاطفين إلى منزل هيرمان ، تحتوي على طلبات أخرى تخص الفدية وأهمها ، أن الأموال يجب أن تكون أوراق نقدية ليست الفواتير “الشيك” معبأة في حقيبة سوداء ، و طلب من والد أرسولا أن يضع الحقيبة في المكان المحدد المجهول و أن يأتي بمفرده و يرجع ، و ستعود أبنتهم إلى المنزل في القريب العاجل .
طلب الخاطفون من والد أرسولا أن يضع الحقيبة في المكان المحدد المجهول |
و لكن الأمور أبداً لم تجري على ما يرام ، تم دفع الفدية ، و لكن الغريب لم يعد هناك مزيد من الرسائل ولا المكالمات ، و ما زالت الشرطة تبحث و ليست لديها أدلة كافية والعائلة تنتظر بيأس ، و بعد مرور أسبوعين كانت أرسولا في عداد المفقودين ، فقررت الشرطة البحث في الغابة من جديد لذلك نشرت عناصرها و كلابها و تم تشكيل فرق ليسهل البحث ، و مرت الأيام ، و في اليوم الرابع و بالتحديد بعد 19 يوماً و في حدود التاسعة صباحاً ،
عثر أحد الضباط علىلوح خشبي مدفون في الغابة |
كان أحد الضباط يبحث في أحدى زوايا الغابة و هو يمشي شعر بوجود صوت يشبه الخشب تحت قدميه مغطى بالتربة ، لذلك أمر أحد العناصر بحفر تلك البقعة ، و بعد مسح الأوراق و كشط طبقة من الطين ، اكتشفوا بطانة بنية تغطي لوحاً خشبياً ، تم أزالته فقط ليجدوا اللوحة الثانية ، التي بدت و كأنها غطاء صندوق بقياس 72 سم × 60 سم × 139 سم ، مطلية باللون الأخضر و مغلقة من الأعلى بأحكام باستخدام المسامير ، لم يكن ذلك بالحسبان عندما فتح الضابط الصندوق كانت بالفعل أرسولا بداخله و قد فارقت الحياة بجسدها البارد و الهزيل ، كان ذلك اليوم بالنسبة للجميع يوم كئيب .
و عند الحفر تمكنت الشرطة من العثور على صندوق فيه جثة الفتاة |
وعلى أثر اكتشاف الفاجعة تم تحويل أرسولا إلى المشرحة لاكتشاف سبب وفاتها ، و لكن الطب الشرعي صرح أنها ماتت في غضون 30 دقيقة إلى 5 ساعات من دفنها ، حيث أنه لم يكن هناك أي علامة على وجود صراع أو حتى حركة داخل الصندوق أو علامات على جسدها ، وأفترض الأطباء بأنه تم تخديرها “بأكسيد النيتروز” مسبقاً قبل وضعها في الصندوق ، و بعد التكتم تقرر أرسال محققين أثنين لنقل الأخبار الحزينة إلى منزل و الداي أرسولا ،
تم تحويل أرسولا إلى المشرحة لاكتشاف سبب وفاتها |
بالطبع الصدمة كانت كبيرة جداً عليهما و كانت والدتها في حالة ذهول شديدة إلى درجة عدم تمكنها من طرح أي أسئلة ، كانت حالتها يُرثى لها لأنها أخذت تلوم نفسها و اعتقدت أنها كان يجب عليها أن تذهب لإحضار ابنتها من منزل أبن عمها بمفردها ، أما والداها كان في حالة استنكار و توتر فأخذ يعيد سؤاله مراراً وتكرراً : هل أصيبت أبنته بمكروه قبل وفاتها ؟ فكان جوابهم بالنفي .
صورة لوالد و أخ أرسولا أثناء الجنازة |
بعد فحص الصندوق والحفرة من قبل الخبراء تبين أن الخاطفين خططوا للإبقاء على أورسولا حية بأي طريقة ممكنه ، من خلال التصميم الذكي للصندوق نفسه ، حيث يبلغ عمقه 1.40 متر ، مزود برف و مقعد يمكن استخدامه كمرحاض ، تم تخزين ثلاث زجاجات من الماء ، و 12 علبة من مشروب فانتا ، و ست قطع كبيرة من الشوكولاتة ، وأربع عبوات من البسكويت وعلبة علكة ،
كان الصندوق مجهز بانابيب بلاستيكية للتهوية |
كما احتوت على مكتبة صغيرة متنوعة تتألف من القصص المصورة و روايات و كان عددها المجمل 21 كتاب ، بالإضافة إلى جهاز راديو صغير ، و لتتمكن أورسولا من التنفس كان الصندوق مزوداً بنظام تهوية مصنوع من أنابيب السباكة البلاستيكية التي تمتد إلى مستوى الأرض ، لكن أياً كان من صممها فقد فشل في إدراك أنه بدون آلة لتجديد الهواء سينفد الأكسجين بسرعة.
كان الصندوق يحتوي على بعض علب البسكويت و العصائر |
و من خلال تحريات الشرطة كانت هناك عدة نقاط مثيرة للشك و أهمها :
1- من المستحيل أن يكون الخاطف شخصاً واحد ، لأن الصندوق نفسه يزن 60كيلوغرام ، و يحتاج على الأقل إلى شخصين لنقله .
2- لا بد أن الجناة قد عرفوا الغابة جيداً ، و لا يستبعد أن يكونوا من سكان المنطقة أيضاً ، لأنهم اختاروا موقعاً بعيداً بداخلها بعناية ، وتجنبوا أثارة الانتباه والشكوك أثناء حفر الحفرة.
رسمة توضح كيفية تصميم الصندوق لابقاء الفتاة محتجزة فيه |
و بعد مرور عدة أيام كان من الصعب العثور على المجرمين ، و في محاولة يائسة أخرى قررت الشرطة وضع مكافئة مالية وقدرها 30000 مارك ألماني لمن يدلي بأي معلومة صحيحة عن القضية ، و سرعان ما أدلى شخص بمعلومة جديدة عن شخص مثير للريبة يُدعى “فيرنر مازوريك” يبلغ من العمر 31 عاماً ، وكانت الشرطة لديها دافع للاشتباه به من خلال خلفية حياته ، حيث كان يعيش مع زوجته و طفليه قريباً ببضع مئات الأمتار من منزل عائلة هيرمان ،
بالإضافة إلى أنه ترك الدراسة عندما كان في 15 عاماً ، و تدرب في ورشة إصلاح السيارات بسبب مهارته باستخدام يديه ، كان شخصاً يهابه الجميع ، طويل القامة ، ممتلئ الجسد ، سريع الغضب و يفتعل المشاكل دائماً ، و لم يكن محبوباً في أيتشينغ ، والأهم من ذلك كان لديه ديوان متراكمة تصل 140 ألف مارك ألماني ، مما جعل لديه دافع قوي للاختطاف.
القت الشرطة القبض على فيرنر مازوريك و زوجته للتحثيق معهما |
ألقت الشرطة القبض على مازوريك لاستجوابه ، في البداية أدعى أنه لا يتذكر أين كان في الليلة التي اختفت فيها أرسولا ، مما أستغرقه 24 ساعة لإيجاد حجة غياب دامغة ، حيث أدعى أنه كان يلعب لعبة اللوح “ريسك” مع زوجته و أثنين من أصدقائه ، و تزامن مع تفتيش منزله و ورشته لم يكشف عن شيء يربطه بالجريمة ، لذلك تم أطلاق سراحه.
و في وقت لاحق وجد فريق البحث الجنائي بصمة أصبع على جزء من شريط لاصق كان موجود في مسرح الجريمة ، كانت آمال الجميع على هذه البصمة مرتفعة جداً ، و لكن عند فحص الآلاف البصمات من السكان المحلين بمن في ذلك مازوريك ، خاب أملهم لأنه لم يتم اكتشاف أي تطابق مع أي شخص .
و في شهر يناير عام 1982م ، كانت لا تزال الشكوك تدور حول مازوريك ، لذلك تم اعتقاله مرة أخرى مع أثنين من أصدقائه ، استجوبوهم لعدة أيام قبل الإفراج عنهم.
و بعد شهر تم استجواب أحد معارف مازوريك ، الذي يُدعى” كلاوس بفافينغر” كان ميكانيكي عاطل عن العمل يعاني من مشكلة الشرب ، أبلغ مالك المنزل الذي كان مديناً له بالإيجار الشرطة أنه في الأسابيع التي سبقت الجريمة رأى المستأجر يقود دراجة نارية مع أشياء مشبوهة مربوطة خلف الدراجة ، نفى بفافينغر كل التهم الموجه له في البداية و أصر على أنه بريء ،
لكن في اليوم الثاني من الاستجواب عندما أخذ المحققون استراحة ، كان وحده مع الجندي حارس البوابة و تفوه بكلام غريب و كأنه بدأ يعترف : ماذا لو كنت أعرف شيئاً ؟ عندما عاد المحققون ، أخبرهم بفافينغر أن مازوريك طلب منه حفر حفرة في الغابة في أوائل سبتمبر عام 1981م و وعده بدفع 1000 مارك ألماني وجهاز تلفزيون ملون ، قال بفافينغر : لقد حفرت الحفرة ، و لقد جذبني الصندوق الذي رأيته لاحقاً خلف سيارته.
أقتنع المحققين حينها أنهم سيمسكون بطرف الخيط والقضية قد حُلت ، لذلك طلبوا منه أن يقودهم إلى موقع الدفن ، مما أثار استياءهم أنه لم يتمكن من تحديد موقعه ، أو حتى الاقتراب منه ، عند عودته إلى مركز الشرطة سرعان ما أعلن : أنا ألغي جميع أقوالي و اعترافاتي ، ما قلته سابقاً غير صحيح لأنه مختلق ، و خلال استجوابه لعدة مرات لمدة أشهر أصر على عدم تكرار اعترافه ، و أُطلق سراحه بالنهاية دون أن توجه إليه أي تهم ، مع أن اعترافه كان دقيقاً من عدة نواحي : فقد وصف موقع الدفن بالتفاصيل ، كان ممثل بارع و محتال من الطراز الأول على حسب أقوالهم..
ظلت قضية اختطاف أورسولا هيرمان لغز غامض |
و بعد عدة سنوات تم أغلاق القضية و تم تصنيفها من ضمن القضايا الغير محلولة لنقص الأدلة ، و أُعيد أفتتح القضية من جديد في عام 2000 م ، حيث كان مكتب ولاية البافارية للتحقيقات الجنائية يسعى لحل القضايا المجمدة ، كانت قضية أورسولا هيرمان هي الأكثر شهرة والأكثر تعقيداً لأنه موتها لم يُعتبر جريمة قتل بل صُنفت على أنها اختطاف من الدرجة الأولى ، و مع وجود تحليل الحمض النووي على عكس العقدين الماضيين حيث كان من الصعب التعامل بمثل هذه القضايا ،
تم فحص الأدلة والأقوال من جديد ، وأهمها المشتبه بهم الرئيسين ، و تبين حينها أن كلاوس بفافينغر ، الرجل العاطل عن العمل الذي أدعى لفترة وجيزة أنه حفر الحفرة قد تُوفى ، أما بنسبة ل فيرنر مازوريك فقد كان لا يزال على قيد الحياة و يعيش مع زوجته في شمال ألمانيا ، حيث كان يدير أعمالاً لإكسسوارات القوارب.
و في عام 2007م تم تفتيش منزله ، و أثناء البحث وجدوا مسجل شريط قديم حيث يُشتبه أن هذا الجهاز تم استخدامه لتسجيل الأغنية من الراديو لغرض الفدية ، و كان لا بد من الاستعانة بخبير ، و الذي كان لديه حق للوصول إلى التسجيلات الأصلية لمكالماته عام 1981 م ، حيث قضى شهوراً في إجراء اختبارات على جهاز التسجيل ، واستنتج أنه تم استخدامه بالفعل في عملية الاختطاف ،
عثرت الشرطة على مسجل شريط قديم حيث يُشتبه أن هذا الجهاز تم استخدامه لتسجيل الأغنية من الراديو |
و الأكثر أثارة للدهشة أنه عند سؤاله أدعى أنه اشتراه قبل أسابيع قليلة فقط من سوق للسلع الرخيصة والمستعملة بينما كان يقضي إجازة قصيرة مع زوجته ، لكنه لم يستطع إثبات من باعها له ، و طُلب منه تقديم عينة من اللعاب ، وللأسف لم يتطابق مع أي من الخصائص الجينية الموجودة على الصندوق ، مع ذلك وُضع مازوريك تحت المراقبة ، و تنكر ضابط سري لمصادقته ، بالإضافة إلى أن الشرطة زرعت أجهزة تنصت على هاتفه و في منزله .
في 28 مايو 2008 م و بعد ما يُقرب من 27 عاماً من وفاة أورسولا تكللت الجهود بثمارها ، وألقي القبض على مازوريك و نقله إلى مدينة أوغسبورغ بالقرب من إيشينج ، كانا والدا أورسولا ما زالا يعيشان في نفس المنزل ، تم أخطارهما أن أيام الجاني معدودة و بات الاعتقال وشيكاً ، تم دعوتهم ، بموجب القانون الألماني في القضايا الخطيرة يُسمح لأفراد عائلة الضحايا بالانضمام رسمياً إلى الادعاء العام أو ما يُسمى المدعي المشترك ،
و هذا يمنحهم الحق في عرض الأدلة و طلب الشهود و طرح الأسئلة على القضاة ، لم يرغب والدا أورسولا في أن يواجها مرة أخرى التفاصيل المروعة لوفاة ابنتهم ، كل هذه السنوات ، وبدلاً من ذلك تم الاتفاق على أن يكون المدعي المشارك هو أبنهما الأكبر ، مايكل ، الذي كان بحلول ذلك الوقت في الأربعينيات من عمره.
شارك مايكل الأب الأكبر لعائلة هيرمان في المحاكمة |
بدأت المحاكمة في فبراير عام 2009 م أمام المحكمة التي كانت مزدحمة و مكتظة بسبب شهرة القضية ، و كان خلف القضبان يجلس مازورك الذي وصفته إحدى الصحف ب “المتجهم العملاق الملتحي” ، أمام زوجته التي كانت تُحاكم أيضاً باعتبارها شريكاً في الجريمة ، أصر مازورك في بيان كتبه على أنه بريء حتى ينال الاستعطاف أمام هيئة المحلفين : أعلم أنني بالتأكيد لست مواطناً صالحاً ، وأحياناً وقح ، وسنرى محاولات عديدة لتصوري كشخص سيء ، لكن لا علاقة لي بهذا العمل البشع .
حاول مازورك الدفاع عن نفسه و استعطاف المحكمة |
كان مازورك أشهر من نار على علم ، حيث لم يجد الادعاء صعوبة في العثور على الأدلة و البحث عن شخصيته العدائية للإطاحة به والحرص على عدم خروجه من السجن ، حيث أن عائلته كانت تعاني منه و خصوصاً أبنائه ، ليس هناك الكثير من الأمور الجيدة ليقولها عنه كأب ، و الأمر لا يتوقف هنا بل لديه سجل أجرامي طويل في مجال الاحتيال و تم القبض عليه وأدانته عام 2004 م لتزوير الوثائق ،
و في يوم ما رجع إلى المنزل في حالة ثمالة أمسك بكلب العائلة و قتله و وضعه في ثلاجة القبو ، قال مازوريك بسخرية في وقت لاحق : أنه عاقب الحيوان الأليف “بالنفي إلى سيبيريا” و لم يبدي أي أسف على فعلته ، فكان سجله حافل لا ينتهي ، و بحسب الأدلة الظرفية التي قدمها الادعاء العام ضد مازوريك التي جعلته يرتكب الجريمة:
1- كان لديه دافع لأنه يحتاج إلى المال.
2- لديه الوسائل اللازمة لبناء الصندوق سراً ، لأنه كان يمتلك ورشة .
3- وجود قطعة من حزام جلدي أستخدم في بناء الصندوق تم قطعها من حزام خصر يملكه شخص لديه معدة كبيرة كمازوريك.
و بالرجوع إلى عام 2007م بعد أن تم تركيب أجهزة التنصت ، استمعوا إلى مكالماته الصادرة والواردة ، كانت هناك مكالمة هاتفية مثيرة للشبهة بينه و بين صديق قديم من إيشينغ حيث ناقشوا قانون التقادم في قضية أورسولا هيرمان ، والسؤال لماذا ؟.
تم إصدار الحكم الأخير على مازوريك في 25 مارس 2010م ، حيث قال الادعاء كلمته الأخيرة في القضية : دُفنت الطفلة حية في الصندوق بدم بارد ، من مفقودة إلى مخطوفة ، و من فتاة سعيدة إلى فتاة ميت ، ماذا تنتظر ؟ أن نعانقك و نخبرك أنك بريئ ! ، و بعد الاقتناع التام من قبل القضاة والمحلفين تم أدانته و حُكم عليه بالسجن مدى الحياة ، و تم تبرئة زوجته لعدم وجود أدله ضدها.
و بعد عدة أيام طعن شقيق أرسولا الأكبر بالحكم و لم تعجبه النتيجة لأنه شعر بوجود نقص كبير في القضية و أن الأمر أكبر من يرتكبها شخصين ، و لكن الادعاء العام أعلن رسمياً أن القرار صحيح ” نهائي ومطلق”.
طعن شقيق أرسولا الأكبر بالحكم و لم تعجبه النتيجة |
وفي هذه الأثناء أرسل مازورك خطاباً إلى مايكل للإشارة إلى أنهما كانا على نفس الجانب بطريقة ما ، استمر مازورك بالكتابة من السجن ، بل أرسل بطاقة تهنئة عيد الميلاد في عام 2013م ، و في نهاية المطاف رد عليه مايكل : لقد فوجئت بتلقي رسالة منك ، لأنه من الواضح لك بالتأكيد أنه على الرغم من كل الشكوك التي لدي حول ذنبك لدي تحفظات كبيرة على شخصك ، وإذا لم تكن الجاني ، أنا أتمنى أنه يمكن إعادة تأهيلك ، و إذا كنت الجاني فلتذهب إلى الجحيم .
من زنزانته في السجن في أقصى شمال ألمانيا ، لا يزال مازوريك يحاول تبرئة أسمه.
في النهاية عزيزي القارئ ، هناك أسئلة كثيرة محيرة في القضية ، صحيح أن كل الإشارات تدل على أن مازوريك قد أرتكب الجريمة ، و لكن لماذا اعترف صديقه الميت فافينغر الذي ألغي الاعتماد عليه و قبوله من ملفات الشرطة السابقة ، كان من الواضح أنه كان يعاني من مشكلة كحول خطيرة ، أثناء احتجازه كان يهلوس ، عند استجواب زوجته عام 2008م ،
وصفته زوجته السابقة بـ “الرجل الكسول” الذي لم يكن ليوافق أبداً على حفر حفرة كبيرة ، و لكنني أيضاً أشكك بالموضوع قليلاً لأن الشرطة أرادت الحصول على الجاني بأسرع وقت لرد اعتبارهم و كرامتهم أمام سكان المنطقة ليتسنى لهم تنفس الصعداء حتى لو كان هذا الشخص الخطأ ، و الدليل أن البصمة و الحمض النووي الذي كان في مسرح الجريمة لا يعود إلى مازوريك و لا لفافينغر ، لا أنكر أنهم مشتركين و لهم يد بالجريمة ، و لكن ربما يكون هناك طرف ثلاث و هو العقل المدبر .
السؤال لك الأن : هل مازوريك شخص بريء لا يستحق السجن ، أم أنه مجرم مذنب متمرس ، متنكر بالادعاء بالبراءة ؟.
مصادر :
https://en.m.wikipedia.org/wiki/Kidnapping_of_Ursula_Herrmann
تاريخ النشر : 2020-12-13