الورقة الأخيرة
![]() |
و هي تراقب تساقط اوراق الشجرة الواحدة تلوّ الأخرى |
و كانت الصغيرة قد اصيبت بمرض منذ بداية الخريف , ممّا اضطرها لملازمة الفراش .. حيث كانت تجلس تراقب لساعاتٍ طويلة , الشجرة الضخمة التي تظهر بوضوح خلف نافذتها , و اوراقها التي تتساقط الواحدة تلوّ الأخرى ..
و في احد الأيام ..استدعت امها الطبيب بعد ان ساءت حالة ابنتها كثيراً ..
و بعد ان فحص الصغيرة , خرج من الغرفة ليخبر امها المتوترة بالنتيجة ..
-ما بها ابنتي جونجوي , يا دكتور ؟
-لا ادري حقاً ماذا اقول لك .. لكن حرارتها لا تنخفض , رغم كل المسكنات التي اعطيتها لها .. كما انه لم يعجبني نحول جسدها ..
مقاطعة بقلق :
-ماذا يعني كلامك هذا ؟
-ابنتك بحاجة الى رغبة قوية في الحياة , لتشفى
استغربت الأم من قول الطبيب : ماذا ؟! ..الرغبة في الحياة !
و نزل الطبيب الأدراج مستعجلاً و هو يقول : نعم !! الرغبة في الحياة
ففي ذلك الزمان .. كان مرض ذات الرئة من الأمراض الخطيرة .. و قد عرف الطبيب ان موت الصغيرة محتمّ , لكنه اراد ان يعطي الأم بعض الأمل .. اما السيدة فقد عرفت من تسرّع الطبيب بالذهاب , بأن الأمل في الشفاء قليل !
فعادت حزينة الى غرفة ابنتها .. ثم جلست بقربها تراقب نوم صغيرتها المتعب ..
و أمسكت بيدها و هي تهمس بحزن :
-ارجوك قاومي يا حبيبتي .. قاومي المرض لأجل امك ..أرجوك لا تتركيني وحيدة في هذه الدنيا
و لم يكن أمام والدة جونجوي إلا البكاء امام سرير ابنتها ..
____
و كان هنالك رجلاً آخر يعيش في احدى شقق هذا المبنى .. و كان ايضاً متأثراً بمرض الصغيرة جونجوي .. و هو الرسّام المعروف بيل مان ..كان رساماً متمرداً , لم يكن يعجبه ما ترسمه يداه من تحفٍ فنيّة .. الا رسمة واحدة رسمها لجونجوي , عندما كانت طفلة تلهو حوله .. كيف لا ؟ و هي حفيدته المدلّلة … فهو والد والدها المرحوم .
في ذلك النهار , عرف بيل مان بحضور الطبيب .. فصعد السلالم بصعوبة ليطمئن على حفيدته .. ففتحت امها الباب و آثار الدموع و الحزن بادية على وجهها .. و اخبرته عن ما قاله الطبيب في تشخيصه لحالة ابنتها ..
و بعد لحظات من الصمت الحزين .. قطع تفكير الجد و الأم , صوت جونجوي و هي تصرخ من داخل غرفتها :
-امي !!!! لقد سقطت ورقةٌ اخرى !! لقد سقط الكثير من الأوراق !!!
فدخل بيل مان و الأم غرفتها , و وجداها تبكي بقلق قائلة :
-جدي !! لقد بقيّ فقط 7 ورقات !
فقالت الأم : ماذا تقصدين , عزيزتي ؟!
قالت جونجوي بصوتٍ مخنوق و هي مستلقية على سريرها , تنظر عبر النافذة القريبة منها , و تشير بيدها نحو الشجرة في الخارج :
-إنها تسقط بسرعة ! …أوراق الشجرة.. أنظرا إليها !! عندما أصبت بالمرض , كانت هناك أكثر من 100ورقة .. لقد عددتهم بنفسي .. لكن كلما استيقظت , ارى بأن اعداد الأوراق تتناقص ..ربما ستسقط كلها الليلة !
فأرادت الأم ان تُفهم صغيرتها ما يحدث :
-حبيبتي .. انه فصل الخريف .. و عادة ما ..
لكن الجد اشار للأم ان تترك ابنتها تكمل كلامها .. فسكتت الأم .. و قال الجد للطفلة :
-عزيزتي جونجوي .. اخبريني عن سبب قلقك من سقوط اوراق الشجرة ؟
فمسحت الصغيرة دموعها قائلة , و بصوتٍ مكتئب حزين :
-اوراق الشجرة , هي عمري !! عندما تسقط كل الأوراق , ستنتهي حياتي .. و انا لا اريد ان اموت , يا جدي !!
ثم عادت للبكاء ..
فنظرت الأم و الجد لبعضهما بنظرات الحيرة و الحزن .. ثم نظرا الى النافذة , ليريا 4 اوراق متبقية على الشجرة..
فأشار الجد للأم بضرورة التحدّث خارج الغرفة .. فذهبت الأم اولاً لتسدل الستارة فوق النافذة .. فصرخت الصغيرة بغضب :
-لا امي !! انا اريد ان ارى الشجرة !
– سترينها غداً , حبيبتي .. فبعد قليل ستغيب الشمس , و عليك ان تنامي .. لكني اعدك بأنك سترينها غداً , هذا وعد !!
ثم خرج الجد و الأم من الغرفة , تاركين الصغيرة لتنام .
في الصالة ..
جلست الأم حزينة و قلقة :
-ماذا سنفعل الآن ؟ الجوّ في الخارج ينذر بقدوم عاصفة .. و اكيد في الصباح لن تتبقى ايّ ورقة على تلك الشجرة ..و اخاف ان تتأثر صحة صغيرتي بذلك .. و الطبيب اكّد عليّ : بأن ازيد رغبتها بالحياة !
– لا عليك .. فأنا عندي فكرة جيدة
و ارادت الأم ان تعرفها , لكن الجد اسرع بالخروج من المنزل , تاركاً الأم بحيرتها و قلقها على طفلتها
___
في تلك الليلة .. اشتدت العاصفة , و تساقط المطر بكثافة على غير عادته بهذا الوقت من السنة !
و بعد قليل .. عاد العجوز الى شقته قادماً من الخارج , بارداً كلوح ثلج .. حيث قام بوضع السلّم الخشبي جانباً , و هو يلهث بصعوبة .. ثم اخذ يمشي بخطواتٍ متثاقلة متعبة ..
و فجأة !! تساقطت ادوات الرسم من يده , لتتبعثر في ارجاء الصالة .. بينما جسده المتعب تهالك على الكنبة .. واضعاً يده على قلبه , و ألمه الشديد منعه حتى من اطلاق صرخة استغاثة
___
في صباح اليوم التالي ..هدأت العاصفة .. و استيقظت الأم على صوت ابنتها تناديها .. فدخلت مسرعة اليها ..
-امي ارجوك , افتحي الستارة !! اريد ان ارى الشجرة .. هيا امي , رجاءً !!!
فمشت الأم نحو النافذة بتردّد , فهي تدرك تماماً بأن جميع الأوراق وقعت مع تلك العاصفة .. و صار عقلها يحاول ان يجد تبريراً مقنعاً لإبنتها , كي لا تتأثر نفسيتها بسقوط الأوراق الأربعة الأخيرة
لكن ما ان فتحت النافذة .. حتى صرخت الصغيرة بفرح .. و هبّت على الفور من سريرها , قائلة بحماس :
-انظري يا امي !!! لقد بقيّت ورقة واحدة .. تلك هي ورقتي انا !! ..ورقتي القويّة !! لقد تغلبت وحدها على العاصفة و المطر ! ارأيتِ يا امي ؟!
و رغم دهشة الأم من بقاء تلك الورقة , كما من نشاط ابنتها المفاجىء ! .. الاّ انها اسرعت قائلة :
-نعم جونجوي !! هذه الورقة تشبهك تماماً ..فهي قوية مثلك .. لذا عليك ان تعديني : فكما قاومت هذه الورقة كل الرياح القوية , فعليك انت ان تقاومي المرض .. اتفقنا ؟!!
-نعم امي , اتفقنا !! فأنا ايضاً قوية كورقتي .. و سأبقى على قيد الحياة , ما دامت تلك الورقة حيّة .. اعدك بذلك !!
فاقتربت الأم من ابنتها و حضنتها بحنان , و هي تبكي من الفرح :
-نعم جونجوي .. سنبقى معاً لسنواتٍ عدّة .. حمداً لله على شفائك .. حمداً لله
و بعد قليل .. أسرعت الأم لتخبر الجد , بتحسن ابنتها المفاجىء .. و طرقت كثيراً على باب شقته , الاّ انه لم يفتح ! ..فتذكّرت المفتاح الذي يضعه عادةً , تحت دعاسة الباب ..
و بعد ان دخلت .. وجدت جثمان بيل مان على الكنبة .. فاتحاً عيناه , و قد رسمت على وجه ابتسامة رضا !
و ما ان رأت الأم ادوات الرسم , مبعثرة في كل مكان .. و السلّم الخشبي امام الباب , حتى عرفت بأنه هو من اعطى الدواء لإبنتها , الذي سيعطيها الرغبة الدائمة في الحياة ..
بعد ان خرج الجدّ الرسّام ليلاً , في خضم تلك العاصفة العشواء , ليستنفذ كل طاقته في رسم ورقة , لا يمكن لأعنف عاصفة ان تسقطها !
ورقة حقيقية أخيرة , متمسكة بغصنها الى الأبد !!
تاريخ النشر : 2016-01-20