جدات قاتلات : الجدة الأمريكية
![]() |
العجائز لسن دوما لطيفات |
معظم الناس ينظرون لكبار السن على أنهم مثال للمحبة واللطف والحنان , فهم عبق الماضي وبقية زمن ولى كانت فيه البساطة والطيبة هي العنوان , أو بالأحرى هذا ما يحلو لمعظم الناس تخيله عن الماضي وأناسه , وهي نظرة فيها الكثير من الغلو والشاعرية , فعجائز اليوم كانوا حتما شباب الأمس , وكانوا يرفلون بجميع الحماقات التي رافقت البشر منذ الأزل , كالعنف والقسوة والشهوة والأنانية والطمع … وأنا بحكم سني الذي جاوز الأربعين عاما فقد عاصرت عنفوان الشباب للكثير من عجائز اليوم , وأذكر جيدا بأن – البعض منهم – لم يكونوا عنوانا لا للطيبة ولا للمحبة , بل كانوا نموذجا للحماقة والاستهتار , وربما فاقوا في طيشهم شباب اليوم . لكنهم اليوم بعد أن سقطت أسنانهم ووهنت عظامهم وزادت أمراضهم وخارت قواهم وخبت شهوتهم والتبست عقولهم .. صاروا كالحمل الوديع بعدما كانت الذئاب تخاف منهم وتخشاهم . وهذا هو حال الدنيا , فقد قالوا قديما : "كل قوي للزمان يلين" .
بيد أن هذا القول لا ينطبق على جميع العجائز , فالبعض منهم على ما يبدو لا تؤثر فيه عوامل الزمان , يظل كما هو , سيء الخلق والطباع , بل يصبح أسوأ , وأنا شخصيا , وربما أنتم أيضا , تلوع قلبي مرات على يد عجائز يعشقن إشعال الحرائق وبث الفتن وجرح مشاعر الآخرين بكلامهن المسموم , ظاهرهن الطيبة والحنان وباطنهن الخبث والدهاء , اتخذن من الشعر الأبيض والوجه المجعد والصوت المستكين قناعا وسبيلا ماكرا من اجل الوصول إلى مآربهن الشريرة. ومقالنا عزيزي القارئ يختص بهذا النوع من الجدات .
سفاحة ساكرامنتو
![]() |
ولدت مع الكساد الكبير عام 1929 حيث كان اغلب الامريكان جائعين ومشردين |
لو سألت أحدا من جيرانها عنها فسيخبرك فورا بأنها خير مثال للإيثار والتضحية في سبيل الآخرين , فهي تأوي العجزة والمسنين , خصوصا أولئك الذين لا يريدهم أحد , من مرضى ومدمنين ومشردين , تفتح لهم أبوابها وتحيطهم بأقصى درجات العناية والرعاية , مجانا أحيانا , وقد يمتد كرم نفسها وسخاء يدها ليطال الحيوانات أيضا , فكثيرا ما يراها الجيران وهي تستمتع بإطعام القطط المشردة والضالة في حديقة منزلها …
تلك هي دورثي بونتي , العجوز الوادعة التي ما أن تراها حتى تقفز إلى ذهنك فورا صورة الجدة الطيبة الرءوفة الحانية .
لكن المظاهر كثيرا ما تكون خادعة ..
فما لا يعرفه الكثيرون , خصوصا جيران دورثي , هو أن هذه العجوز التي تبدو في غاية الرقة لها ماضي أسود كسواد الليل البهيم . وأن الكثير من الأكاذيب التي درجت على أخبارها للآخرين حول ماضيها لا وجود لها إلا في عقلها المريض . فهي لم تولد لوالدين ثريين من الجنوب .. لا .. هي ولدت في ريدلاند – كاليفورنيا عام 1929 لأبوين فقيرين يعملان كأجيرين في مزارع القطن , وقد صادف مولدها نحسا كبيرا , ففي تلك السنة وقع الكساد الكبير , وهي أزمة اقتصادية خانقة ألمت بالولايات المتحدة والعالم وخسر الناس بسببها وظائفهم ومدخراتهم وحتى منازلهم , وأنتشر جراءها الفقر والجوع والتشرد والمرض في كل مكان , وكان لعائلة دورثي نصيب من ذلك البؤس , حيث مات أبوها عام 1937 بمرض السل , ولحقته أمها بعد عام واحد , وانتهى المطاف بدورثي إلى دور الأيتام .
![]() |
هربت لتتزوج بجندي شاب .. |
كانت دورثي طموحة ومتمردة منذ نعومة أظفارها , هربت من الميتم في سن السادسة عشر لتتزوج بجندي عائد توا من ساحات الوغى في أوربا , حدث ذلك عام 1945 , وسرعان ما تكلل ذلك الزواج بإنجاب طفلتين جميلتين , لكن دروثي لم تحتفظ بالطفلتين , ربما بسبب أنانيتها , أو فقرها المدقع , فأرسلت إحداهما لتعيش مع أقارب لها في مدينة أخرى , فيما أعطت الثانية لزوجين قررا أن يتبنيانها .
ومن الأكاذيب الأخرى التي اعتادت دورثي تلفيقها هي أن زوجها الأول مات جراء سكتة قلبية , وذلك غير صحيح أيضا , فهو لم يمت , لكنه هجرها عام 1948 بعد أن أجهضت , تركها دون مال , فحاولت تدبر أمرها بتزوير عدد من الشيكات , لكن ألقي القبض عليها وسجنت لمدة ستة أشهر .
بعد خروجها من السجن أنجبت طفلة من علاقة عابرة مع رجل لا تعرفه التقت به صدفة في حانة , وكان مصير الطفلة هو التبني أيضا . دورثي مارست السرقة والبغاء لفترة قبل أن تتزوج من رجل يدعى اليكس جوهانسن , وذلك عام 1952 , وقد كان زواجا بائسا تعيسا بكل معنى الكلمة , فلم تلبث دورثي أن عادت لمشاكلها مع القانون , وألقي القبض عليها عام 1960 بتهمة إدارة بيت دعارة فنالت حكما بالسجن لثلاثة شهور , وما أن أطلق سراحها حتى عادت إلى السجن لثلاثة أشهر أخرى , هذه المرة بتهمة التشرد .
لاحقا عملت دورثي كمعاونة ممرضة , كانت وظيفتها تقتضي رعاية المسنين والعجزة , وعن طريق هذه المهنة تعلمت بأن الاحتيال والنصب على المسنين , خصوصا الذين لا يرعاهم أحد , أسهل بكثير من أنواع الجرائم الأخرى , فبدأت تتردد على الحانات لاصطياد المسنين , خصوصا المتقاعدين , كانت تقوم بتزوير إمضائهم ثم تستلم شيكات الرعاية الاجتماعية الخاصة بهم , لكن سرعان ما تم اكتشاف حيلتها وانتهت إلى السجن مجددا .
في عام 1966 تزوجت برجل يدعى روبيرتو بونتي , وذلك بعد أن حصلت على الطلاق من زوجها السابق , ولم يكن زواجها هذا أفضل حالا من سابقه , إذ انتهى هو الآخر إلى الطلاق بعد عامين . وفي عام 1976 تزوجت للمرة الأخيرة في حياتها من رجل سكير , ولم يدم هذا الزواج سوى بضعة أشهر .
![]() |
منزل دورثي بونتي حيث وقعت الجرائم |
في هذه الفترة بالذات انتقلت دورثي إلى منزل كبير في شارع 1426 F في ساكرامنتو وبدأت تؤجر الغرف للعجزة وكبار السن , كانت خطتها بسيطة , فهي تبحث عن المسنين الذين يحصلون على معونة الرعاية الاجتماعية الحكومية , كانت تستولي على الشيكات التي تصلهم وتودعها في حسابها البنكي . ولأن بعض أولئك المسنين كانوا يتذمرون جراء سرقة أموالهم , فقد قررت دورثي إسكاتهم إلى الأبد عن طريق قتلهم , وأولى الضحايا كانت صديقة لها تدعى روث مونرو انتقلت للعيش معها عام 1982 ولم تلبث أن ماتت جراء جرعة زائدة من الدواء , لكن الشرطة لم تشتبه بدورثي .
دورثي لم تتمكن طبعا من إسكات الجميع , فلقد تمكن أحدهم ويدعى مالكوم مكانزي من الاتصال بالشرطة وأتهم دورثي بتخديره وسرقة أمواله , فالقي القبض عليها وحكم عليها بالسجن لمدة خمسة أعوام .
خلال وجودها في السجن بدأت دورثي تتبادل الرسائل مع قريب لها متقاعد يدعى ايفرسون غلماوث – 77 عاما – وسرعان ما تطورت العلاقة بينهما إلى حب وغرام , وحين أطلق سراح دورثي مبكرا عام 1985 كان غلماونث ينتظرها بحرقة وشوق قبالة بوابة السجن بسيارته الفورد الحمراء , وقد عاش الاثنان معا لفترة وخططا للزواج , حتى أن غلماوث أفتتح حسابا بنكيا مشتركا مع دورثي , لكنه ما أن فعل ذلك حتى اختفى ولم يره احد بعدها ! .
بعد اختفاء غلماوث بفترة جلبت دورثي عاملا إلى منزلها وطلبت منه أن يصنع لها صندوقا خشبيا يشبه التابوت , قالت بأن لديها أغراضا قديمة تريد أن تضعها في ذلك الصندوق , ولم تعطي العامل نقودا مقابل عمله , بل وهبت له سيارة فورد حمراء قالت بأنها لصديقتها ولم تعد تحتاجها . وحين انتهى العامل من الصندوق , وضعت فيه دروثي بعض الأغراض ثم أغلقته بأحكام , طبعا العامل لم يرى ماذا وضعت دورثي داخل الصندوق , لكنها طلبت منه أن يساعدها في نقل الصندوق إلى مخزن يقع في ضواحي المدينة , فوافق على ذلك وذهبا معا بالسيارة , وفي منتصف الطريق طلبت منه التوقف وجعلته يرمي الصندوق على ضفاف أحد الأنهر قائلة بأنه لا يحوي أمورا ذات قيمة ولا يستحق عناء دفع المال مقابل تخزينه .
بعدها بأشهر , في مطلع عام 1986 , كان أحد الرجال يصطاد على ضفة النهر حينما شاهد الصندوق وأرتاب بأمره فاخبر الشرطة عنه .
الشرطة فتحت الصندوق لتعثر داخله على جثة متفسخة بالكامل حتى أنهم لم يستطيعوا التعرف على هوية صاحبها .
![]() |
دورثي بونتي .. الجدة الامريكية |
دروثي استمرت بسحب المال من الحساب البنكي المشترك مع غلماوث وفي نفس الوقت كانت تتصل بعائلته وتخبرهم بأنه مازال يعيش معها لكنه مريض ولهذا السبب لا يتمكن من الحديث معهم .
في هذه الفترة بالذات شهد عمل دورثي توسعا كبيرا , كان هناك نحو أربعين نزيلا في منزلها , وأصبحت معروفة لدى موظفو الرعاية الاجتماعية على أنها السيدة التي تستقبل في منزلها حتى الحالات الصعبة والمزعجة , كالمسنين المدمنين على الكحول والعنيفين , طبعا دورثي لم تكن تفعل ذلك من اجل سواد عيون هؤلاء المسنين , لكن غرضها الأساسي كان الحصول على شيكات الرعاية الاجتماعية التي تصلهم شهريا عبر البريد , كانت تسرقهم , وكان البعض منهم يختفون دونما أثر فيما تستمر هي في استلام شيكاتهم .
لقد أزدهر عمل دورثي إلى درجة أنها كانت تودع شهريا مبلغ خمسة آلاف دولار في حسابها البنكي , ولقد استطاعت تجنب الشكوك والشبهات , لكن بعض الجيران بدءوا يشتكون من وجود رائحة كريهة مصدرها قبو منزلها , فأحضرت دورثي رجلا مشردا سكيرا يدعى جيف وأخبرت الجميع بأنها تبنته وأنه أصبح مساعدا لها . وسرعان ما بدأ جيف يحفر في القبو بإشراف دورثي , لم يعلم أحد لماذا يفعل ذلك , لكنه كان ينقل أشياء تحت جنح الظلام من القبو ويدفنها في الحديقة , ثم قام بصب أرضية القبو بالخرسانة , ولم يره احد بعدها !.
في نوفمبر عام 1988 طرق المحقق جون كابريرا باب منزل دورثي , زيارته لم تكن لها علاقة بأي شبهات أو شكوك تحوم حول دورثي , بل كانت زيارة روتينية الغرض منها السؤال عن عجوز مصاب بالفصام اسمه الفارو مونتويا كان موظفو الرعاية الاجتماعية قد أبلغوا عن اختفاءه .
كابريرا لم يعثر على مونتويا في منزل دورثي , لكن أثناء خروجه من المنزل شاهد حفرة كبيرة تم ردمها حديثا في الحديقة , ولسبب ما لا يعلمه هو نفسه , قادته غريزته إلى أن يطلب من رجاله أن ينبشوا تلك الحفرة , فشرعوا بالحفر , وما لبثوا سوى برهة حتى ظهرت لهم جثة بشرية , كانت تعود لإحدى النزيلات وتدعى ليونا كاربنتر . وبمزيد من الحفر تم العثور على 7 جثث أخرى .
![]() |
في قاعة المحكمة |
العجيب أن الشرطة لم تلقي القبض فورا على دورثي , بل سمحوا لها بالخروج لشرب كوب من القهوة في مقهى مجاور , وقد فرت طبعا ما أن خرجت من المنزل , هذه المرة إلى لوس انجلوس , هناك تعرفت على صاحب فندق وصادقته , لكنه تعرف على صورتها صدفة بينما كان يشاهد أحد البرامج التلفزيونية التي تتحدث عن الجرائم فأبلغ الشرطة عن مكانها .
الشرطة ألقت القبض على دروثي وتم تقديمها للمحاكمة بتهمة القتل , ولا يعلم على وجه التحديد كم عدد ضحاياها , لكن الشرطة تعتقد بأنها قتلت ما بين 9- 11 إنسان . وقد طالب الادعاء العام بإنزال أشد العقوبات بحقها , أي الإعدام , شارحا للمحلفين كيف كانت تقتل ضحاياها بكل برود ودناءة عن طريق تخديرهم ثم خنقهم بالوسادة . لكن محاميها استعطف المحلفين بالتطرق إلى طفولتها البائسة والأثر الذي تركته على تصرفاتها ونفسيتها .
بالنهاية حصلت دورثي على حكم بالسجن لفترتي مؤبد من دون إمكانية الحصول على عفو . وطوال السنوات التي قضتها في السجن كانت دورثي تصر على أنها بريئة , وبأن جميع أولئك المسنون ماتوا جراء أسباب طبيعية ولم يقتلهم أحد .
في عام 2011 ماتت دورثي بونتي في زنزانتها لأسباب طبيعية .
——————-
يتبع : الجدة الروسية
المصادر :
– Dorothea Puente
– Wikipedia
– DOROTHEA PUENTE AND THE BOARDING HOUSE OF DEATH
تاريخ النشر 07 /10 /2015