أدب الرعب والعام
جدي و البحر – قصة قصيرة
للتواصل : [email protected]
![]() |
يْتَنِي أَعْرِفُ جَوْفَ تِلْكَ السَمَكَةِ فَأَنْزِلُ وَأحْتَضِنُ جَدِّي الّذِي اسْـتَقَرَ فِيه مُنْذُ عِشْـرِيْنَ عَامًا |
صَهَلَتْ الذِكْرَيَاتُ وَضَرَبَتْ بِحَوَافِرِهَا فِي أَنْحَاءِ رَأْسِي، فَتَطَايَرَ الْغُبَارُ ، مُوْقِدًا شَـرَرًا وَلَهِيبًا ، حِيْنَمَا تَذَكَرْتُ جَدِّي وَالشَّيخَ الْعَجُوْزَ، جَلَسْـتُ أَعِدُّ حَبَاتِ عُمْرِي، وَأَرُصُ الْذِكْرَيَاتِ كَبَائِعِ فَاكِهَةٍ لَمْ يَشْتَرِ مِنْهُ أَحَدٌ مُنْذُ سَنَوَاتٍ ، كَانَتْ عِشْـرِينَ سَـنَةً كُلُهَا عِجَافٍ، جَلَسْـتُ كَشَـبَحٍ طَوَاهُ الزَّمَنُ وَالْسُنُونَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ مُنْذُ آلَافِ السِـنِينِ .
كَانَ شَيْخًا عَجُوْزًا هَرِمًا يُجَالِسـنَا عَلَى شَـاطِئهِ كُلْمَا هَرَبْنَا إِلَيْهِ ، نَسْتَجِيرُ بِهِ مِنْ الرَّمْضَـاءِ، نُسَـامِرَهُ وَيُسَـامِرَنَا ، نَهُشُ إِلَيْهِ وَنَهْرَبُ إِلَيْهِ كُلَمَا أَحْدَقَتْ الصَّـحْرَاءُ بِنَا ، وَضَـرَبَتْ بِحَوَافِرِهَا رُؤُوْسَـنَا مِنْ لَهِيّبِ الشَّـمْسِ الْمُحْرِقَةِ ، وَغُبَارِ الصَّـحْرَاءِ الْقَاحِلَةِ ، كانَ يَهُشُ إِلَينَا يَفْتَحُ ذِرَاعَيهِ يَحْتَضِنُنَا وَيَفْرَحُ بِنَا، فَيَأخُذَنَا بَعِيدًا بَعِيدًا فِي عَرضِـهِ وَ وَسَطِهِ الّذِي لَا نِهَاية لَهُ ، يُطْعِمُنَا مِنْ أَسْـمَاكِهِ ، وَيَجُوْدُ عَلَيْنَا بِلُؤْلُؤهِ وَيَاقُوْتِهِ وَمَرْجَانِهِ ، ثُمَّ يَعُوْدُ بِنَا إلَى الْشَّـاطِئ وَيُوَدْعُنَا ؛ فَيَفْرَحُ الَأهْلُ وَالخِلَانِ وَالْكِبَارِ وَالْصِّـغَارِ لَأمَانَتِهِ وَصِـدْقِهِ المَعْهُودِ ، وَيَدْعُوْنَ لَهُ لَيلَ نَهَارٍ بَأَنْ يَدُوْمَ عَلَيّهِ الخَيرَ الْوَفِيـرَ، وَأَنْ يُبْقِيّهُ لَنَا رَغْمَ كِبَرِ سِـنْهِ ، فَقَدْ تَسَـاقَطَتْ أَسْـنَانَهُ وَانْحَنَى ظَهْرُهُ كَعرجُوْنٍ قَدِيمٍ أَكَلَ عَلَيهِ الْدَّهْرُ وَشَـرِبَ .
كَمْ مَرَّةٍ غَضِـبَ فَيَحْتَوِينَا فِي قَاعِهِ ، وَيُطْعِمُنَا لَأَسْمَاكِهِ رَضِينَا أَمْ أَبَيْنَا ؛ إِنْ تَأَفّفَنَا مِنْهُ أَوْ كَسَّـرْنَا لَهُ أَمْرًا، كَانَ جَدِّي فَخُوْرًا حِيْنَمَا كَانَ َيَمْتَطِي صَـهْوَتَهُ فِي وَضَـحِ النَّهَارِ ، وَتُوَدْعُنَا عَيْنَاهُ وَتُلَوّحُ لَنَا يَدَاهُ، وَتَصْـغُرُ وَتَصْـغُرُ كُلَّمَا بَعُدَ وَسَـارَ مَعَهُ إلى وَسَـطِهِ وَهَا قَدْ بَلَعَهُ وَلَمْ نَرَ سِـوَى نُقْطَةٍ بَعِيدَةٍ فِي وَسَـطِه الْهَائِجِ ، لَقَدْ غَابَ عَنْ أَعْيُنَنَا كَفِكْرَةٍ لمَعَتْ لِلَحَظَاتٍ ثُّمَ انْطَفَأَتْ فَلَا أَثَرَ لَهَا فِي الْكَوْنِ أو المَوجُوَدَاتِ ، حِينَئذٍ نُوَلِي وُجُوْهَنَا شَـطْرَ بِيُوتَنَا ، بَاكِينَ مُتَبَاكِينَ حِينَهَا تَتَلَفْتْ قُلُوبُنَا إِلَى جَدِّي حَيْثُ النُّقْطَةُ الَلَانِهَائِيّةُ .
كُنْتُ أَرْتَجِفُ خَوْفًا ، كَمَا كَانَتْ أمِّي تَذْرِفُ الْدَّمْعَ، كُلَّمَا رَكِبَ جَدِّي صَـهْوَةَ هَذَا الجَوَادِ الْكَاسِـرِ الَّذِي لَا يَرحَمَ ، يَعطِي وَيَمنَعُ وِفقًا لمزَاجهِ ، فِي لمَحِ البَصَـرِ أَعُودُ إلَى كُتُبِي وَأَمْضغُ صَـبْرِي ، وَأُشْـعِلُ مِنْ أفْكَارِي قِنْدِيلاً يُضِيئُ لِي الدَّربَ أو شُعَاعًا يَمْتَدُ نَحْوَ الأُفُقِ الَّذِي تَنَاهِى فِي عرضِ الْبَحر الهَائِجِ ، أَتَوَقعُ يَوْمًا مِنْ الَأيَامِ أنْ يَعُودَ هَذَا الجَوادُ بِجَدي كَمَا أَخَذَهُ ، لَمْ أُفَكِرْ فِيمَا سَيأتِي بِهِ أَكْثَرَ مِمَا كُنْتُ أُفَكِرُ ، هَلْ سَيَأْتِي أَمْ لَا ، لَقَدْ ابْتَلَعَهُ الأُفـقُ .. أينَ هُوَ ؟ أَيْنَ أَنْتَ يَا جَدي ؟.
تِلْكَ الذِكْرَياتُ الجَامِحَةُ الّتِي تُصْهِلُ فِي صَـدْرِي كُلّمَا تَذَكَرْتُهَا وَتَضْـرِبُ بِحَوَافِرِهَا قَرَارَةَ رَأْسِي ، وَتَقْدَحُ شَرَرًا بِحَصَـوَاتٍ فِي رَأْسِـي كُلْمَّا تَسَـابَقَتْ .
تَحَسَّسـتُ مَقْعَدِي الْوَثِير فِي الْطَائِرةِ الّتِي تَقِلنِي ، وَهَا أَنَا فَوْقَ السَّحَابِ وَفَوْقَ الْغَمَامِ ، أَنْظُرُ مِنْ كُوَةٍ لِأَرَى ذَاكَ السَّـرَابَ الَأَزْرَقَ الممُتَدَ عَلَى الْأرضِ ، وَالّذِي لَا نِهَايِةِ لَهُ وَلَا حُدوُدَ ، حِينَهَا صَهَلَتْ الذِّكرياتُ المُنْدَثَرةُ فِي أَعْمَاقِي ، وَ رَاحَتْ حَوَافِرِهَا تَضْـرِبُ فِي أَنْحَاءِ رَأَسِي الموُجَعَة ، وَتَطَايَرَ الغُبَارُ حَتَى حَجَبَ الْرُؤْيَةَ الْوَاضِحَةَ أَمَامَ بَصَــرِي .
أَمْوَاجُهُ الْعَاتِيَةُ تَعْلُو وَتَهْبِطُ ، وَجَدِّي يَسْـبَحُ عَلَى ظَهْرِهِ وَيَعْلُو مَعِ الَأمْوَاجِ وَيَهْبَطَ، لَا.. إِنَّهُ يَرْقُدَ فِي جَوْفِ سَـمَكَةٍ كَبِيّرَةٍ نَامَتْ أَسْـفَلِ الْبَحْرِ تَحْميهِ وَتُغَذْيهِ وَتُدَفِئَهُ وَتَحْرُسَهُ مِنْ سِـبَاعِ البَحْرِ ، حَتْمَا لَا بُدْ أَنْ يَكُوْنَ حَيَّا ؛ لَأَنَّ الَأسْـمَاكَ الّتِي مَعَهُ حَيّةٌ ، مُنْذُ أَنْ صَاحِبَهَا فِي الْبَحْرِ، عُمْرُهُ عُشْرُوْنَ عَامًا فِي الْبَحْرِ كَمَا هُوَ عُمْرِي أو أَقْرَب، أَلَيسَتِ الَأسْـمَاكُ تَعِيشُ تِلْكَ السّنِينَ ؟ إِنْنَي أُشَـاهِدُ الْبَحْرَ كُلَّهُ ، لَيْتَنِي أَعْرِفُ جَوْفَ تِلْكَ السَمَكَةِ فَأَنْزِلُ وَأحْتَضِنُ جَدِّي الّذِي اسْـتَقَرَ فِيه مُنْذُ عِشْـرِيْنَ عَامًا .
تُوْقِظُنِي المُضِـيفَةُ مِنْ ثُبَاتٍ عَمِيّقٍ، قَائِلَةً :
ـ تَفَضَلْ .
ـ أَيْنَ ؟.
ـ قَدْ وَصَـلْنَا مَطَارَ .
قَبْلَ أَنْ أَسْـحَبَ حَقِيبَتِي ، تَحسستُ جَوَازَ سَـفَرِي ، وَتَأَمَلْتُ صُـوْرَتِي الّتِي تَرْقُدُ فِيهِ ، أَحْسَّـسْتُ بِأَنَّ بَلَدِي وَ وَطَنِي يَرْقُدُ دَاخَلِي ، وَأَنَا عَلَى مَشَـارِف أَبْوَابِ الغُرْبَةِ وَالخُرُوْجِ مِنْ بَابِ الطَائِرَةِ .
صَـخَبُ الحَيَاةِ تَسَاوَى مَعْ صَـخَبِ الأَمْوَاجِ الْهَادِرَةِ في عُرْضِ البَحْرِ وَهَدِيرِ الذَّكْرَيَاتِ الجَامِحَةِ وَالّتِي تَضْـرِبُ بِرَأْسِي لَيْلَ نَهَارٍ ، لَمْ أَعِدْ أَسْـمَعُ إِلَا أَنِيْنًا وَصَـهِيلاً لِتِلْكَ الذِّكْرَيَاتِ الّتِي تَجُوْبُ الصَّـحْرَاءَ، وَتَوَجْعَاتْ سَـمَكَةُ الْقِرْشِ الَّتِي تَحْتَـضِن جَدي فِي عرْضِ البَحْرِ، فقَدْ حَاوَلَتْ مِرَارًا أنْ تُكَفّرَ عَنْ سَيئَاتِهَا ، وَتَرُدُ جَدي لَنَا ، وَلَكِنْ ضَلّتْ الطَّرِيقَ، حَلِمْتُ بِأنَّ الذِّكْرَيَاتِ تَحْمِلُنِي عَلَى ظَهْرِهَا وَتَعُوُدُ بِي إلَى أُمِّي الَّتِي ذَرَفَتْ دَمًا عَلَى غِيَابِ جَدِّي مُنْذُ عِشْرِيْنَ عَامًا ، كَمَا أَحِسُ بِأَنَّ الْغَدْرَ يَمْلَأُنِي .
فَجْأَةً كَانَ التَّصْـمِيمُ وَالتَّحَدِي لِكُلِ الذِّكْرَيَاتِ الّتِي بَاتَتْ تَصْهِلُ فِي رَأْسِي ، وَتَضْـرِبُ بِحَوَافِرِهَا مُحْدِثَةً شَـرَرًا وَجَلَبةً كُلَّمَا اصْـطَكَتْ حَوَافِرُهَا بِصُـخُوْرِ رَأْسِي الْعَاتِية المُلْتَهِبَة ، كَانَ الْبَحْرُ رِسَـالةً .. كَمَا كَانَتْ أمي رِسَـالَةً .. وَكَانَ وطني رِسَالَةً ..
أنْهيتُ عَمَلي عَلَى أكمَلِ وَجْهٍ وَعِشْتُ مُتَحَدياً نَفْسٍي بأنَّ الزَّمَنَ سِبَاقٌ والنَّجَاحُ حَلِيفَهُ الصِّدْقُ والإخلاصُ ، تَوَجْتُ رِحْلَتِي وَرِسَالَتِي بِكَلِمَةٍ أِلْقَيتُهَا فِي مُؤْتَمَرٍ تَعَددتْ فِيهِ الجِنْسِيَاتُ كَمَا تَعَدَدَ فِيهِ الذُكُورُ وَالإنَاثُ ، وَكُنْتُ وَاحِدًا مِمَنْ يَحْمِلُ فِي قَلْبِهِ وَطَنَهُ الجَريح ، صَفَّقَ الحُضُورُ حِينَمَا قُلْتُ بِأْعْلَى صَوتِي وَقَدْ ذَرَفَتْ عَيناي: أنا … وَقْتَهَا لَمْ أَرَ فِي القَاعَةِ سِوَاي ، كَانَتْ جُفُونِي مُطْبَقَةً عَلَى مُقْلَتِي عَينَي ، فَكَانَ التَّصْفِيقُ قَدْحٌ لِتِلكَ الحَوافرِ المُسَننةِ المُدَببةِ لِخيولٍ تَعُودُ بِي حَيْثُ وَطَنِي الأبِي الجَرِيح !.
النهاية …..
تاريخ النشر : 2020-05-09