خواطر متشرّد
![]() |
من سيأخذ مكاني و ينزوي تحت عمود الإنارة ؟ |
-أنظري إلى ذلك المجنون , بالقرب من عمود الإنارة !!
– لا أظنه مجنون .. أعتقد أنه متشرّد يبحث عن مأوى , يقيه من صقيع هذا اليوم البارد .. و لعلّه وجده بين أكياس القمامة تلك .. هيا دعينا نصعد إلى الحافلة قبل أن ينتبه إلى وجودنا , و يرشقنا بطعام الأسبوع الماضي .
– معك حق .. هيا بنا ..
لما كانتا ترمقانني بتلك النظرات الساخرة الباردة , و كأنهما تشمئزّان من فكرة أنني أتنفّس نفس هوائهم ؟! الم تريا من قبل , شخصاً أخذت منه الحياة أكثر مما أعطته !
أنا لم أولد مرتدياً هذا المعطف الرثّ , المرقعة ثقوبه بقطعٍ مختلفة الألوان .. و لا هذا السروال المهترىء الذي أكاد أسمعه يتوسّل لأنزعه عنّي , حتى بات ارتداؤه كعدمه ..
و رغم ذلك , فهو الذي يبقيني في خانة “المتشرّد” , لأني ما ان انزعه حتى أتحوّل إلى “مجنون” ..
اما قبعتي السوداء الغالية ، فلم أعد أتذكّر متى ارتديتها أول مرة ! فشعري العثّ لم يرى النور , منذ ان حصلت عليها .. أو ربما اكون سرقتها !.. أو أهداها لي أحدهم .. لا اتذكّر !
..آآآه ! و هل سيشكل ذلك أيّ فرق !! صرت متأكداً الآن أكثر من ذي قبل , بأنني لم أولد هكذا
و بعد كل هذه السنوات التعيسة ، مازلت لم أعتدّ بعد على توسّد الأرض الرطبة كل مساء..
يا ترى ! على ماذا ينام أصحاب المنازل الفخمة ؟ أيعقل أنهم يلتحّفون أطناناً من الجرائد كل ليلة ؟ أم لعلّهم ينامون على أرضية دافئة جافة !
..مهلاً ! .. ذلك الصغير الحقير ! ما الذي يحاول فعله بعشائي ؟!
-هااايّ !! أترك ذلك الكيس أيها القزم !! نعم أهرب !! أيها الجرذ الحقير قبل أن أمسك بك , و اعلّمك بأن لا تعبث بأغراض غيرك !!
هآقد ذهب .. لعلّني كنت قاسياً عليه بعض الشيء ! .. لكن لم عسايّ ان أشفق عليه , ما دمت بنفسي لم أشعر بهذا الإحساس من قبل !!
لكن هذا خطأ .. و ان كانت الحياة قاسية عليّ ، فلا يجب أن تمنعني من التصرّف بلطف ..
الظاهر أن قساوة البرد , اتعبت أفكاري.. ” لطافة “! .. ههههه… و من سيقدّر لطافة رجلٍ على عتبة الجنون ..
..ماذا ! .. لا !! اللعنة .. ليس الآن ..كم تزعجني قطرات المطر .. انها تخترق قبعتي الغالية و تلمس فروة رأسي.. حتى شعري العثّ لم يعد يقيني منها , بل صرت اشعر بها و كأنها تتساقط على رأسي كضربات سكينٍ , تؤلم و لا تقتل …
آه أيها الموت العزيز !! أما تزال بعيداً عني , أم أن موعدنا اقترب ؟.. يبدو انني سأموت , و انا مازلت لا اذكر ان كنت سرقت قبعتي الغالية , أم وجدتها صدفة ! اليس هذا مثيراً للشفقة ..
..طيب يا ترى , ما الذي سيحدث بعد ذهابي عن هذه الحياة ؟ من الذي سيأخذ مكاني هذا و ينزوي تحت عمود الإنارة , الذي أصبح نوره لا يكاد يُرى ؟ و من سيتوسّد هذه البقعة الرطبة , التي أصبحت مزدحمة بأمثالي ؟ و من سيرث معطفي و سروالي ..و قبعتي الحبيبة ؟
….لا لااا !! لن أدعهم يسلبونهم منّي , كما سلبوني كل شيءٍ آخر في حياتي !! سآخذهم معي إلى القبر , حتى يقونني من نخر برد الشتاء لعظامي , و يؤنسوا وحدتي صيفاً .. مع انني لا أدري إن كنت سأحسّ بالفصول و انا تحت الأرض , كما أحسّ بها فوقه .. لكن يظلّ الإحتياط واجب
.. آآه ، يا له من شعورٍ مريح ! لعلّ التفكير قد جرف بأحاسيسي بعيداً , حتى ما عدت أشعر بالبرد .. كم هذا غريب !
و انطفأ عمود الإنارة …
تاريخ النشر : 2016-02-11