دمعة مهرج
![]() |
لم تستطع الوان المكياج اخفاء دمعته |
و فتحت الستائر الحمراء ذات الطراز القديم … و صعد على المسرح ككل يوم ، راسماً البسمة على شفاه الناس , و مخرج الضحكات العالية ، مُخلّص الناس من أعباء الديون وهموم المجتمع القاسي.. بسرواله الواسع صاحب الألوان الزاهية والرقعات الحمراء المميزة في ثيابه .. و القميص الواسع الكبير بمربعاته الزرقاء والبرتقالية ، والإسفنجة الحمراء المدوّرة على أنفه ، و شعره البرتقالي ،
مُطلقاً ضحكاتٍ عالية , خارجة من قلبه الذي رهنهُ طوال حياته لإضحاك الناس ..
فبعد صعوده الدرجات الخشبية الثلاثة .. وقف أمام محبيه بسعادة ظاهرة . . و اخذ يُضحك جمهوره , بينما تحرّكت يداه ورجلاه بشكلٍ هزلي , مُصدراً اصواتاً مضحكة …
بدأ الجميع بالضحك , وهم يقولون له : المزيد !! نريد المزيد !!
و بعد عمل دام ثلاث ساعات ، نزل المهرج من المسرح وهو متعبٌ تماماً .. ثم خرج من هناك , بعد ان انهى فقرته الهزلية.. و سار و هو متلهّف للوصول الى بيته .. لكنه مرّ اولاً على متجر الألعاب و اشترى منه لعبة صغيرة .. وبعد وصوله المنزل , وأسعاد ولده الوحيد بلعبة زهيدة الثمن , عسى بذلك يخفّف عنه فقدان الأم .. استلقى على الأريكة لأخذ قيلولته المعتادة ..
وهذا الشريط كان يعيد نفسه يومياً ..
لكن في هذا اليوم بالتحديد , لم تكن غفوة صغيرة .. بل كان متعباً حتى غلبه النعاس ..واستيقظ فجأة !! على أصوات الصرخات المفزعة
ليجد النيران تهبّ و تشبّ في كل مكان !
وأطلق صرخته المُفجعة : ولدي , أين أنت ؟!! ولدي !! ردّ عليّ .. أين أنت !!
وكان يناضل تحت دخان النار ، وصرخات الجيران في الخارج : أخرج !! هيا أنقذ نفسك !!!
وهو يردّ بهلع : أريد ولدي !! لن أخرج من دونه !!!
وإذّ به يلمح عباءة ولده المرقّعة الصغيرة .. فهبّ اليها مُسرعاً . ونادى ولده العزيز ..
-حبيبي !! هل أنت بخير ؟!
وما أن اقترب إليه .. حتى إنتصب شعر رأسه ، و تفجّرت عيونه دمعاً !!!
فقد رأى ولده الوحيد مُغطّى بالسخام , و محترقاً كقطعة خشبية ..
و هنا !! دخل الجيران وأخرجوه بالقوة ، وهو في حالة لا وعيّ , يتفوّه بكلماتٍ تخنقها العبرات
-هل ذاك ابني ؟! لا !! ليس هو .. لا لا !! ليس ولدي ..
ثم أخذ يضحك بهستيريا ويقول : وجهه أسود , لم أتعرّف عليه .. قد يكون متسوّل دخل بيتي واحترق .. هيا اخبروني , أين اخذتم ولدي ؟!! هيا !! فأنا لا أحب هذا النوع من الألعاب ..
و بعد مرور الوقت .. و بصعوبة بالغة , خضع للأمر الواقع ..
و مضت ليلة العزاء بنحيب الذكريات , وهو يحادث ولده طوال ساعات الليل و يبكيه ..
***
في اليوم التالي .. كان الجميع يتأهّب بعد ان أتخذ كلاً مكانه , ينتظرون بشوق المهرج ليعيد إليهم إبتسامتهم من جديد , ويخرجهم من عبء النهار ..
انكشفت الستائر الحمراء ، ولم يصعد أحدٌ على عتبة المسرح !
تحوّل الجمهور المبتهج إلى غاضب ! و صاروا يصرخون : نريد المهرّج !! نريد المهرّج !!
نظر المهرّج إلى مرآته في غرفة الكواليس ، وأصوات الحاضرين الغاضبة وصلت الى مسمعه
مسح دمعته التي لم تجفّ من ليلة أمس ، وابتسم ابتسامته الكبيرة ..
دقائقٌ معدودة .. ثم صعد المهرج على عتبة المسرح ، ففرح الناس به فرحاً جمّاً ،
نظر المهرّج الى الحشد .. ثم ضحك .. فضحك الناس
ثم بكى , و بانت الهالات السوداء تحت عيونه , و التي لم تستطع الوان المكياج اخفاءها .. فزادت الناس ضحكاً !
ثم سقط أرضاً و هو يحاول بصعوبة التقاط انفاسه .. فوقفت الناس جميعاً و هم يصفقون له بحرارة على هذا التمثيل المتقن ..
و انتهى التمثيل بإعلان نهاية قلبٍ أدمته الحياة .. راسماً بسمته الأخيرة على وجوه الناس !
تاريخ النشر : 2016-02-04