عجائب الدنيا السبع (الجديدة) : البتراء .. مدينة الأنباط الوردية
مدينة قديمة يلفها السحر و الغموض نحتت بيوتها و معابدها و قبورها في الصخر فسميت لذلك بالمدينة الوردية , كانت يوما ما محطة للقوافل امتزجت فيها الحضارات و الثقافات و رفل سكانها بالعز و الغنى لقرون , و لكن دوام الحال من المحال , فقد جار عليها الدهر و هجرها أهلها و صارت أطلالا تحاك حولها الأساطير , فتارة هي مساكن للجان و أخرى مخبأ للكنوز المنسية , نسيها الناس و احتجبت خلف جبالها الوعرة لأكثر من ألف عام , ثم أطلت مرة أخرى لتسحر العالم بجمالها الأخاذ و ليتدفق إليها السياح و الزوار من كل حدب و صوب.
مدينة كاملة نحتت من الصخر و لا يمكن الدخول اليها الا من ممر ضيق يخترق الجبال
![]() |
صورة تصور مبنى الخزانة في البتراء و هو احد اجمل و اشهر الابنية فيها |
البتراء مدينة قديمة تقع على مسافة 250 كم الى الجنوب من العاصمة الأردنية عمان , احتضنت الصخور الوردية لوادي موسى أطلالها الساحرة , و قد سمي الوادي نسبة إلى نبي الله موسى الذي يعتقد انه أقام فيه مع قومه لردح من الزمن قبل دخولهم إلى ارض فلسطين , و حسب بعض الروايات , فأن هذا المكان هو الذي ضرب فيه موسى الحجر فتدفقت منه اثنتا عشر عينا على عدد أسباط بني إسرائيل , و على الجبل الذي تنتصب البتراء على سفحه , يعتقد بأن النبي موسى دفن أخاه هارون هناك و لذلك سمي الجبل بجبل هارون , و هذه المنطقة رغم انها ذات طبيعة صحراوية الا ان الإنسان سكنها منذ أقدم العصور , ففي نهاية الألف الثاني قبل الميلاد كانت هذه الأرض جزءا من مملكة الادوميين , و هم من الأقوام السامية (1) الذين جاء ذكرهم في التوراة , حيث يبدو ان علاقتهم مع العبرانيين (بنو إسرائيل) لم تكن جيدة فلم يسمحوا لموسى بعبور أرضهم لدخول فلسطين , و رغم ان الادوميين ذكروا في الألواح الأشورية في حوالي القرن الثامن قبل الميلاد الا ان تاريخهم يشوبه الكثير من الغموض و ذلك لأنهم لم يتركوا خلفهم لغة مكتوبة , و يبدو أنهم استغلوا فرصة اكتساح الملك البابلي نبوخذ نصر لمملكة يهوذا اليهودية في القرن السادس قبل الميلاد و ترحيله لسكانها من اليهود قسرا الى ارض بابل , لذلك انتقل الادوميون الى ارض فلسطين تاركين أرضهم الممتدة جنوب البحر الميت للأنباط , و هم قبائل سامية كانوا يتكلمون اللغة الآرامية , أسسوا مملكة صغيرة و اتخذوا من البتراء عاصمة لهم , و البتراء هو الاسم الروماني للمدينة اما الأنباط فكانوا يطلقون عليها “سلع” او “رقيم” , و قد تميزت المدينة بموقع جغرافي استراتيجي و مهم لتوسطها طريق القوافل التجارية القادمة من بلاد فارس و العراق و اليمن باتجاه الشام و مصر , و قد ساهمت الجبال و الصخور الرملية المحيطة بالمدينة في تحويلها الى ما يشبه الحصن الطبيعي فأصبحت محط رحال قوافل التوابل و العطور و الصمغ العربي و غيرها من البضائع النفيسة , و كان الأنباط يجبون الضرائب و المكوس من هذه القوافل المارة بأرضهم مقابل الحماية من اللصوص و قطاع الطرق كما كانوا يشترون البضائع الوافدة من الشرق فيبيعونها بأسعار مضاعفة في غزة و دمشق و مصر , و قد أدت هذه الحركة التجارية المزدهرة الى تدفق الأموال و الثروات على المدينة فأصبحت إحدى أغنى مدن ذلك الزمان و تفنن أهلها الأثرياء في تشييد الصروح العظيمة التي نحتوها في الصخور الوردية لوادي موسى و لذلك سميت البتراء بـ “المدينة الوردية” , و كانت بعض هذه الصروح مخصصة للآلهة و أخرى كقبور للموتى , كما ان بيوت السكان حفرت في جوف الصخر أيضا , و ربما تكون أعظم انجازات الأنباط هي نظام الري الرائع و الدقيق الذي أقاموه في المدينة , فقد تحكموا بمياه العيون و الآبار عن طريق إنشاء السدود و الخزانات و أوصلوا الماء الى كل جزء تقريبا من أجزاء المدينة , و في الحقيقة ان استمرار الحياة و ديمومتها في البتراء تعود بالدرجة الأولى الى هذا النظام الاروائي الدقيق الذي ساعد السكان على تحمل البيئة الصحراوية و القاحلة المحيطة بهم , و من الناحية الثقافية فقد تأثر أنباط البتراء بجيرانهم العرب كثيرا , فتحولت لغتهم تدريجيا الى العربية و عبدوا الآلهة العربية ذو شرى و اللات و هبل و مناة و العزى , و يبدو ان سكان المدينة كانوا خليطا من العرب و الأنباط و كانت أسماء بعض ملوكهم عربية.
في القرن الرابع قبل الميلاد قام الاسكندر المقدوني بمهاجمة آسيا فدحر جيوش الإمبراطورية الاخمينية الفارسية و أسقطها و وصلت جحافله حتى الهند , و قد توفى الاسكندر شابا في بابل فتقاسم إمبراطوريته المترامية الأطراف جنرالات جيشه , فتأسست دولة البطالسة في مصر و دولة السلوكيين في العراق , و قد عرفت هذه الحقبة التاريخية بالعصر الهيليني و تميزت بامتزاج الفن و الثقافة الشرقية مع الإغريقية , و قد استغل الأنباط لفترة الحروب هذه و عدم الاستقرار التي شملت منطقة الشرق الأوسط فوسعوا مملكتهم الصغيرة ليستحوذوا على أجزاء كبيرة من الشام و سيطروا بشكل كامل على طرق التجارة بين الشرق و الغرب و سكوا العملة المعدنية بأسم ملوكهم , كما تأثروا بشكل واضح بالثقافة الهيلينية و يبدو هذا التأثر جليا في اسلوب النحت و الزخرفة الذي استخدموه في بناء صروحهم و معابدهم و هو مزيج من الفن الفرعوني و الإغريقي.
فلم فيديو عن البتراء يظهر بعض معالمها |
هناك الكثير من الآثار و المواقع الرائعة في المدينة , و الزائر لها اليوم , يحط رحاله أولا في بلدة وادي موسى القريبة و من هناك يمكنه التوجه مشيا او على ظهور الحيوانات نحو اثار البتراء الواقعة في الجبال المقابلة للبلدة , و ربما يكون أكثر ما يبهر السائحين عند ورودهم الى المدينة هو المدخل المؤدي اليها و يسمى السيق و الذي يعتقد انه مشتق من كلمة “شق” العربية , اذ انه عبارة عن ممر طويل يمتد لأكثر من ألف متر مخترقا صخرتين عظيمتين يصل ارتفاعهما في بعض الأماكن الى 91 – 182 مترا , و يشعر الزائر أثناء سيره داخل السيق بأنه في عالم آخر خارج الزمان و المكان و يضفي التمازج الجميل لألوان الصخور المختلفة المحيطة بالممر المزيد من السحر و الغموض على المكان , و عند الخروج من السيق يجد الزائر نفسه أمام احد أجمل و أشهر آثار البتراء و هو مبنى الخزانة الذي نحت في قلب الصخور الوردية بارتفاع الأربعين متر تقريبا , و سمي المبنى بالخزانة لأن البدو في المنطقة كانوا يعتقدون بأنه يضم كنزا قديما , و هناك الكثير من الآثار الأخرى في البتراء التي تجذب السائحين مثل المدرج الروماني و الدير و قصر البنت و المحكمة و معبد المدينة و كلها نحتت في الصخر و أبدع الفنان النبطي القديم في قطعها و زخرفتها.
(1) السامية (Semitic) ليست قومية او انتماء اثني و إنما تطلق على مجموعة من اللغات البشرية ذات الخصائص المتشابهة كالعربية و اليهودية و السريانية و الامهرية (لغة إثيوبيا الرسمية) و المالطية (اللغة السامية الوحيدة ضمن الاتحاد الأوربي) إضافة الى لغات العديد من الأمم و الشعوب القديمة كالاموريين و الكنعانيين و الاكديين و الفينيقيين و الأشوريين .. الخ , فرغم بعض التشابه الجيني الذي أظهرته الأبحاث العلمية الحديثة لكن لا يوجد أي دليل قاطع يثبت رجوع كل هذه الأمم و الأقوام الى أصل واحد , و في العصر الحديث ظهر مصطلح معاداة السامية (Anti-Semitism) و هو يطلق حصرا على معاداة اليهود حول العالم و لا يشمل غيرهم من الشعوب السامية , فالعربي المعادي لليهود يسمى أيضا (في الغرب) معادي للسامية , و ينبغي التذكير بأن المناطق السامية شهدت ظهور بعض أعظم الحضارات في العالم كما ان الديانات السماوية الثلاث التي تسمى بالأديان الإبراهيمية هي سامية الأصل , فموسى (ع) كان يهوديا و المسيح (ع) كان يتكلم الآرامية و محمد بن عبد الله (ص) كان لسانه عربيا.
هذه القصة نشرت بتاريخ 16 /07 /2009