عيون الرعب
![]() |
لم اراهم وحدي ؟! |
تعبت أنا و زوجي من محاولات الإنجاب و أرهقنا الأمل , و المواعيد الكثيرة في عيادات الخصوبة و مصاريفها الباهظة .. و في النهاية إستسلمنا لأمر الله .
لكن حياتنا تغيرت منذ ما يقرب العام ، عندما وقعت لي حادثة تسبّبت في تلف قرنية عينايّ , فأصبحت أعيش في ظلامٍ دائم .
و في يومٍ من الأيام ، أخبرنا الطبيب أن هناك أملاً بأن أرى من جديد , في حال تبرّع لي شخصٌ ما بقرنيته .. و ما إن سمعت الخبر , حتى أشرق في قلبي شمس الأمل من جديد .
و مرّت الأيام دون جديد يُذكر .. و بدأت أفقد الأمل مجدداً , و ضاقت بي الدنيا بما رحُبت ، خصوصاً و انا اشعر بتضحيات زوجي الكثيرة و حبّه الكبير لي ، الذّي دفعه إلى تحمّل ما لا يطيق في سبيل التخفيف عنّي .
أيام قليلة تفصلنا عن نهاية العام.. و هآقد بدأت أعتاد الظلام ، و أعتمد حاسة اللمس في مختلف شؤون حياتي ، حتى حفظت مكان كل شيءٍ في المنزل .. و لك أن تتخيل مدى التعاسة التى عشتها في أول أيامي المظلمة .
– (جيلان) !! لديّ مفاجأة سارة لك
إستطعتُ تمييز نبرة السعادة في صوت زوجي ، فقلت له و أنا أرسم إبتسامة على ثغري :
– و ماهي , حبيبي ؟
فأحسّست بأنفاسه تقترب مني , و سمعته يقول :
– لقد اتصل بي الطبيب (مجدي) وأخبرنى بأنهم وجدوا متبرّعاً ..و بأنك ستدخلين غرفة العمليات غداً , و إن شاء الله سترين النور مرة أخرى !!
دقّ قلبي بعنف بين ضلوعي , و سألته و أنا أرفع حاجبايّ :
– و كيف وجدوا المتبرّع ؟
تخيّلت ملامح زوجي , و هو يردّ على سؤالي :
-في الحقيقة .. المتبرّع شخصٌ فارق الحياة في حادثة .. و قد وافق أخوه على إقتراح الدكتور (مجدي) بالتبرّع بقرنية شقيقه لكِ , و من دون مقابل ايضاً !
و هنا أحسسّتُ بالقلق ينهش قلبي , و كأنه وحشٌ كاسر… فجلس زوجي بجانبي طوال الليل يحدّثني , و يقنعني بأن الأمر عادي , و ربما يكون فيه الخير .
و بعد ايام .. دخلت غرفة العمليات و لم أعلم كيف جرت العملية ، كل ما أعلمه أنني إستفقتُ في غرفتي بالمشفى . ثم مرّت الليالي , الى ان حان موعد إزالة الضمّادة الطبّية عن عينيّ .
و كان قلبي يدقّ بعنف , حتى شعرت بأن من حولي يسمعون دقّاته المزعجة .. و فتحت عينيّ بهدوء ، الاّ ان الصورة كانت غير واضحة ! و ترافق ذلك مع ألمٍ فظيع , احسسّت حينها و كأن رأسي سينفجر !..
فسألني الطبيب عن الأمر , فأخبرته بأمر الرؤيا المشوشة و الصداع ..فقال لي :
– لا تقلقي , فهذا شيءٌ طبيعي ..و مع الأيام ستتحسّن الرؤيا , بعد ان يلتحمّ العصب بالقرنية جيداً ..و مع مداومتك على اخذ العلاج , سيختفي هذا الصداع .
كان حديث الطبيب صحيحاً .. لأن شيئاً فشيئا بدأت الرؤيا تتضّح , كما إختفى الصداع اخيراً ..و بدأت أعتمد على نفسي في القيام ببعض الأعمال و المهام , التي كنت قد دأبت سابقاً على الإستعانة بغيري لإتمامها.. و كنت سعيدة جداً بشفائي , الى ان حدث ذلك الأمر !
كنت حينها جالسة أشاهد التلفاز ، و كانت الرؤيا غير واضحة , لكني كنت أسلّي نفسي حتى عودة زوجي من عمله ..
فلاحظت فجأة ! شخصاً ما أسوداً يقف في أحد الأركان بصمت , فظننته زوجي .. فتعجبت لأمره ! لمَ يقف هناك بجمود ؟! و كيف دخل اصلاً إلى الشقة , من دون أن أشعر به ؟
حاولت أن أدقّق النظر، لكن الصورة كانت مشوّشة ..
ناديت عليه فلم يجيبني , بل بقيّ صامتاً !
فكرّرت ندائي .. وعندما لم القى جواباً , بدأ الخوف يتسلّل الى قلبي .. نهضت وأخذت أقترب من هذا الشخص …ثم وقفت بالقرب منه , و بالرغم من ذلك لم أستطيع تميزه بعد !
و هنا إهتزت كل خلّية بداخلي رعباً , و سألت نفسي :
-إذا لم يكن هذا زوجي , فمن يكون ؟!
و كان الموقف مرعباً و بعيداً عن كل ما توقعته .. و رغم ما كان يتملّكني من هلع و خوف لم أختبره يوماً .. قرّرت قراراً خطيراً يتعارض مع كل مخاوفي , و مدّدت يديّ لأتلمّسه و….
-(جيلان)…
و هنا سمعت صوت زوجي من خلفي !
فنظرت نحوه و قلت , و أنا أشير إلى الشخص الغريب :
– (نديم) ! أهذا أنت ؟ .. اذاً من الذي هنا ؟!
لكن المفاجأة أنني عندما عاودت النظر نحوه , لم يكن هناك أحد !
فشرحت الأمر لزوجي , و لكن ردّه كان : بأنها مجرّد خيالات لا أكثر .. و قد استطاع أقناعني بذلك ايضاً ..
مرّ يومان على الحادثة ، و الرؤيا مازالت لم تتضّح كثيراً .. و بينما أنا أقف أمام المرآه أصفّف شعري , إذّ سقطت مني الفرشاة فجأة .. و ما إن إنحنيت لألتقطها و طالعت صورتي مرة أخرى , حتى رأيت وجه رجلٌ ، عجزت عن تبيّن ملامحه ، لكنه كان إنعكاساً لصورتي في المرآة !
و كانت ملامحه شديدة القساوة ، تلقي الرعب في كل من يراه , بعيونه المتجهّمة و حاجبيه الغليظين و شعره الأشعث ..
و على الفور !! إنطلقت من حنجرتي صرخةً مدوّية , دخل على إثرها زوجى ملهوفاً.. فأخبرته بالأمر , و لكنه حاول طمأنتي من جديد , بينما كانت دموعي تسيل على خدي ، و جسدي يرتجف من الفزع .. فأخذني فى حضنه بحنان وربت عليّ , و حاول أن يزيح عنّي توتري .. و ظلّ هكذا , الى ان استغرقت في النوم .
و إستيقظت بعد قليل , لأجد نفسي وحيدة بالشقة ! فناديت على زوجي , لكن لا مجيب .. فظننت أنه خرج ليحضر شيئاً ما , و سيعود قريباً ..
جلست على الأريكة و طال إنتظاري .. و مرّت الدقائق بثقلٍ رهيب و مملّ , و مع كل دقيقة أحسّ و كأني أغرق اكثر في افكاري السوداء..
فقرّرت أن أتصل به , لأطمئن عليه .. و صحيح أنني لا أرى جيداً , لكني سأحاول بما ان رقمه هو أول رقم مخزّن في هاتفي المحمول… لكن أين وضعته ؟
و أخذت أبحث عن جوالي , حتى تذكّرت بأنني تركته على طاولة المطبخ.. فذهبتُ و مددّت يديّ لأبحث عنه , لكني كنت أصطدم في كل مرة ببعض الأغراض.
و فجأة ! سقط كوب من الزجاج و تحطّم على الأرضية , فإنتفضت أوصالي من الرعب ، و بلغ مني الضيق أشدّه , فأخذت ألعن حظّي البائس.
ثم أمسكت أناملٌ مرتعشة كفّي ، فظننت بأن زوجي قد عاد أخيراً .. و نظرت بسرعة إلى صاحبها ، فتبيّنت بصعوبة فتاةٌ جميلة في ريعان الشباب ! و هي تضع يدها الأخرى على رقبتها , و كأنها تحاول أن تتملّص من شيءٍ ما !
و قد لاحظت نظرة الرعب على وجهها و كأنها تختنق ، و لم تلبث أن وقعت على الأرض.. و قد ألجمتني المفاجأة ! و أخذ قلبي يدقّ بشدّة..
حاولت الهرب , لكني لاحظت الفتاة تشير لي و كأنها تحاول ان تقول شيئاً ! فقد كانت شفتيها تتحركان , دون أن يصدر عنهما أيّ صوت .. و كأنه مشهدٌ صامت يعبر عن : استماتتها في محاولة التملّص من شيءٍ خفيّ يخنقها !
مرّت الثواني و هي على هذه الحال , قبل ان يرتخي جسمها , و تنتفض إنتفاضتها الأخيرة .. ثم سكن جسدها فجأة !
تراجعت إلى الخلف بحذر , إلى أن إصطدمت بجسدٍ آخر .. نظرت إليه بسرعة فوجدته زوجي يبتسم لي ، ففقدت الوعيّ بعدما استبدّ بي الرعب.
و في المنام .. شاهدت نفسي و أنا أسير على بحيرة من الدماء , دون ان تخوص قدمايّ فيه , بل كنت أسير فوق صفحة البحيرة ..و انا أرى أناساً ينادون عليّ .. و كنت بدوري أنظر إليهم بإطمئنان , و كأني أعرفهم !
كما رأيت غسقاً من بعيد , فإتجهت ناحيته ..و كان ثوبي يتطاير من خلفي , و كأن الرياح تتلاعب به ..
و أثناء سيري , اقتربت مني نفس الفتاة التى رأيتها تموت , و لكن هذه المرة سمعت صوتها و هي تهمس لي :
– أرجوكِ !! لا تتركينا هكذا… نريد أن نرتاح .
و هنا حدث شيءٌ غريب.. فقد سمعت صوت قطارٍ ما ..لكن الفتاة لم تمهلني لأتبيّن ما يحدث حولي , بل قالت لي قبل أن تتلاشى , و يضيع صوتها في العدم :
– أخبريهم عن مكاننا !!
فاستيقظت فزعة , و وجدت زوجي بجواري .. فقال و هو ينظر إلى عينيّ :
– حبيبتي , أنا قلقٌ عليكِ.. سنذهب غداً إلى الطبيب .. يبدو أن العملية اتعبت أعصابك !
و في اليوم التالي .. ذهبنا إلى الطبيب فوصف لي بعض المهدئات , و نصحني بأن أرفّه عن نفسي .. ففضلت أن أزور أخي (معتز) بالأسكندرية..
و أوصلني زوجي الى هناك , و أراد البقاء معي .. لكني احببت البقاء لوحدي , خصوصاً بعد ذهاب أخي العازب إلى عمله.
و هناك , عادت لي الكوابيس .. و صارت بعض احلامي تتكرّر بأشكالٍ مختلفة ..و بدأت أعصابي تنهار أكثر , و أصبح الأمر مخيفاً حقاً .. فأخبرت أخي عن الأمر ، فبحث كثيراً عن موضوع الأشباح على شبكة الأنترنت ..
و في النهاية أخبرني أنه ربما حدث أمرٌ ما بسبب العملية , جعلني أرى أشياءً لا يراها الآخرون ، خاصة و أنها ظاهرة قد إختبرها العديدون في مختلف أنحاء العالم ، و بأن عليّ ان أتكيّف مع هذه الغرائب ..
و رغم محاولاتي العديدة للتأقلم مع وضعي الجديد إلا أنني فشلت , لأن أعصابي أضعف من ذلك.. فأنا مجرد أنثى رقيقة .
اما في هذه الأيام , فقد اصبحت رؤيتي أوضح بكثير , و صرت أميّز الأشكال بوضوحٍ تام .. لكن ظلّت تلك الأمور الغريبة تحيط بي !..ففي كل مرة كنت ارى نفس الفتاة التي تقتل أمامي بواسطة السلاح الخفيّ , الذي لا استطيع ان أراه و كأنه محجوباً عني لسببٍ ما ..
لكني كنت أرى الدماء و هي تنزف منها و هي تصرخ بفزع , الا انني كالعادة لا اسمع صوتها .. ثم تنتفض , لتموت من جديد !
لكن مهلاً ! تذكّرت !!
هناك شيئاً مهم لاحظته مع الضحيّة الأخيرة .. فصورتي لم تكن منعكسة في عينيها , بل كانت صورة الرجل البشع الذي رأيته سابقاً في المرآة ..
و هنا تراجعت إلى الخلف , حتى سقطت على ظهري .
ثم أسرعت نحو الهاتف …
– (نديم) !! تعال حالاً
و قد تحدّثت مع زوجي عن الأمر .. و بعد ان استطعت اقناعه اخيراً بفكرتي المجنونة التي خطرت لي , ركبنا السيارة و إتجهنا لعيادة طبيبي..
و ما إن قابلته , حتى سألته :
– أريد أن أعرف كل شيء عن المتبرّع ؟
فأعطانا عنوان أخو الميت , فذهبنا إليه ..و ما إن رأيت الرجل حتى إنقبض قلبي , لأنه يشبه تقريباً رجل المرآة !
و جلسنا معه و تحدّثنا عن أخيه المتوفي .. فأعلمنا بأنه كان شخصاً عادياً يعمل في إحدى محطات القطار ، و هو لم يتزوج قطّ , لأنه كان يعاني من تشوّه خلقي في جسده , و لهذا كان يرفضه الجميع ..
و بأن سبب التشوّه هو : ان القطار صدم جزءاً من جسده , أثناء محاولته تجاوز السكّة..
فطلبت منه صورة لأخيه المتبرّع ..و ما ان رأيت صورته , حتى صرخت :
– إنه هو !!!
و واصلت القول بحماسةٍ أكبر , بعد ان شعرت بأنني على وشك حلّ هذا اللغز :
– و في ايّة محطّة كان يعمل اخوك ؟
***
و بعد قليل , وصلت مع زوجي الى المحطة .. و هناك .. جالت عينايّ يُمنةً و يسارا في ارجاء المكان كالمجنونة , و انا أبحث عن شيءٍ لا اعرفه ! و اذّ بفكرةٍ تخطر بالي …
فسألت عن مخزن القطارات , فدلّونا عليه.
كان المكان مظلماً إلاّ من بضعة أنوارٍ خافتة .. و كانت هناك رائحة عفنة تعمّ أرجاءه !.. بحثت عن مصدر الرائحة التي اوصلتني إلى ركنٍ بعيدٍ مظلم .
أشعلت كشّاف هاتفي المحمول ، و صارت الرائحة تزداد سوءاً كلما دنوت اكثر ! .. ثم لاحظت بأن الأرض غير مستوية , و كأن هناك حفرةً قديمة تم طمرها..
فطلبت من زوجي أن ينبشها ..
و ما هي إلا دقائق , حتى صدق ظنّي ! فقد كانت هناك جثثاً تحت الأرضية , و بذلك فكّ اللغز اخيراً .
عند حضور الشرطة ..عرفنا أنه كان يستغلّ طيبة الفتيات و يستدرجهنّ إلى مخزن القطارات , بحجّة حجز مقعداً لهنّ في الدرجة الأولى .. ثم كان يغتصبهنّ و يقتلهنّ , و يدفنهنّ تحت المخزن
لكن ما أثار حيرة الشرطة , هو كيف كان يقضي عليهنّ ببنيته المشوّهة و الضعيفة ؟!
و قد تم التحقيق مع الجميع , حتى مع أخيه الذي كان يشبه هيئته إلى حدٍ ما .. و إنتهت القضية , و إرتاح أهالي الضحايا..
و منذ ذلك اليوم , لم أعد أرى تلك المشاهد المرعبة مرة أخرى.. كما تحقّق حلمي بالأمومة و حملت أخيراً , و عمّت السعادة منزلنا الصغير.
***
و في احد الأيام ..
دخلت إلى المطبخ لأعدّ الغداء , و كنت وحدي بالمنزل بإنتظار عودة (نديم) ..
أدرت مفتاح الموقد و أمسكت القدّاحة .. ثم فجأة ! توقف كل شيءٍ من حولي , و كأني في مشهدٍ صامت ..
و أخذت أستعيد كل ما مرّ عليّ من احداث و ذكريات ..و صرت اسأل نفسي :
– هل للعيون ذاكرة يا ترى ؟!
فكّرت كثيراً , لكني لم أجد الأجابة … و فجأة !! تذكّرت شيئاً ما , جعلني أصرخ بهستريا :
– لم يكن هو !!!!!
و دون أن أنتبه إلى الأمر ، أشعلت القدّاحة , و لم ألاحظ رائحة الغاز التي إنتشرت في المكان , فقد كنت غارقة في التفكير و…
ما حدث يومها أعادني إلى الظلام مرة أخرى .
* * *
وقف الشاب في المحطة ، فإسترعت إنتباهه فتاةً حائرة في أمرها
فإقترب منها و قال لها بأدب :
– هل رأيت شقيقي ؟
فاستفسرت عنه , فأجابها :
– إنه يعمل بالمحطة منذ زمنٍ بعيد …
ثم اخذ يصفّ لها طيبة قلب شقيقه و كرمه , و كيف مكنّه من ركوب القطار بلا مقابل , و متى ما أراد ذلك
فلمعت عينا الفتاة , و قالت له :
– وهل يفعل هذا معك وحدك ؟
– لا بالتأكيد !! بل يفعل ذلك كمعروف لبعض الأقارب و الأصدقاء , و حتى الغرباء ممن يستحقون المساعدة.
و بعد اخذٍ و ردّ , سارت الفتاة معه و هي تطلق الضحكات , ممنّية نفسها برحلةٍ مجانية ..
بينما نظر إليها الشاب و رسم على شفتيه إبتسامةٍ شيطانية , و كأن لسان حاله يقول :
(نعم !! ستكون رحلةً مجانية …رحلة .. بلا عودة)
اشراف : سيبا
تاريخ النشر : 2016-02-24