للشيطان وجه جميل
![]() |
أضفت بضع جروح على يدها ليشعر من يراها بأثر الأشواك على يديها |
اللعنة ! لقد سكبت الطلاء مجدداً ، استحق الموت لهذا الفعل ، فقبل بضع أيام أفسدت مفرش أمي المفضل و ها أنا افعلها مجدداً ، بعد رحلة عذاب طويلة مع الطلاء العنيد نجحت بمحوه عن الأرضية الرخامية ، ثم عدت لإتمام ما تبقى من اللوحة المعلقة أمامي ، هذه اللوحة استغرقت من وقتي ما يقارب الأسبوعين لإتمامها و ها أنا أضع لمساتي الأخيرة قبل موعد المعرض الفني الذي توسط أبي عند الأستاذ ممدوح لإشراكي به ببضع لوحات دون دفع رسوم
اخترت ٤ لوحات من لوحاتي بالإجماع من والدي و الأصدقاء ، تصور مناظراً طبيعية مشبعة بالألوان الزاهية ، ككوخ أمام بحيرة صغيرة ، طيور تحلق بحرية فوق المحيط المزرق ، بستان ورود تحلق بسمائه فراشات ، و مركب شراعي خشبي يضم صيادين و سمك يصطادونه بالطرق البدائية القديمة ، أما لوحتي الخامسة و الأخيرة ما زالت قيد الإتمام ، و هي تختلف كلياً عن سابقاتها ، فبهذه اللوحة التي اكتسح السواد خلفيتها ، تشق امرأة ذلك السواد بثوبها الأحمر وقد قُيدت يداها عالياً بأشواك جعلتها معلقة بالفراغ ، أضفت بضع جروح على يدها ليشعر من يراها بأثر الأشواك على يديها و أضفت نظرة خاوية إلى عينيها كأنها تنظر إلى أكثر شي تهابه
أمام المرآة المعلقة على حائط غرفتي وقفت أتأمل نفسي للمرة الأخيرة ، ذلك الفستان الأسود يجعلني أبدو اكبر سناً و أكثر نضجاً ، رفعت شعري عالياً ثم أسدلته ، مررت يدي من خلاله لأضيف له بعضاً من الحيوية ، رتبت هندامي للمرة الأخيرة و زفرت زفرة توتر فأنا اشعر بانقباض بمعدتي و كأن فراشات الكون تطير بها ذهاباً و إياباً.
بالصالة الرخامية الكبيرة ، علقت لوحاتي الخمس بعناية و وقفت بجانبها انتظر قص الشريط الأحمر لبدء استقبال الزوار ، كنت مرتبكة و رحت أتذكر مبتسمة أول علبه ألوان شمعيه أعطاني إياها والدي بعد أن ألزمتنا معلمة الفنون باقتناء واحده، ، رحت ألون الجدران و وجه الدمى حتى وبختني أمي و نهتني عن هذا الفعل ، وها أنا أقف أمام لوحاتي بحدث فني ضخم متعرقة اليدين و متلعثمة اللسان
بعد قص الشريط الأحمر بدا الزوار بالوفود ، كان معظمهم من الفنانين و هواة جمع اللوحات و نقاد من الدرجة الأولى و كان هذا كفيلاً بزرع التوتر بكل جزء من جسدي ، مر الوقت ببطء شديد ، لم يكترث احد للزاوية التي وقفت بجانبها أنا و لوحاتي الخمس و لا بكأس العصير الذي اعتصرته بين أصابعي حتى كاد أن ينكسر ، حتى اقتربت تلك المرأة من حائط لوحاتي ، كانت امرأة بعقدها الرابع من العمر تقريباً ، يبدو عليها الثراء الفاحش من هندامها و المجوهرات التي زينت عنقها و معصميها ، حادة الملامح شقراء الشعر ، لكننها تتمتع بوجه جميل جداً رغم كبر سنها !
مرت على حائط لوحاتي ، ثم وقفت تتأمل الرسومات الخمس بدقة و عناية فائقة ، اقتربت من لوحة المرأة المعلقة ثم ابتسمت و قالت : أبدعت ! أحببت الألم البادي على وجه المرأة ، أخذت نفساً عميقاً و كأن جرعة من الثقة سُكبت في نفسي تواً .
– شكرا سيدتي ، هذه أخر أعمالي و هي تعبر عن….
أشارت بيدها لي لأصمت ثم أكملت طريقها كالطاووس المتبختر تتفحص اللوحات التي علقت على الجدار التالي ..
شعرت بحنق و غضب شديد ، آه كم هي فظة ! وددت لو ألكمها على وجهها علها تتعلم حسن الاستماع و لو قليلاً ، قاطع شرود أفكاري صوت صديق أبي منظم المعرض الأستاذ ممدوح..
– لوحاتك جميلة يا سالي ، والدك اخبرني كم أنت بارعة ، لكنه نسي إخباري انك فنانة متمرسة بحق.
– شكرا أستاذ ممدوح !
– هل حددت أسعاراً لأعمالك ؟
تلعثمت ، فلم أفكر بهذا مسبقاً : حقا ! لا ، بالحقيقة نعم لقد فعلت !
ربت على كتفي مبتسماً ثم مضى مبتعداً ، لم احدد سعراً لأي تلك اللوحات ! مشيت بهدوء للحائط المقابل و بدأت حديثاً عرضياً مع بعض الفنانين المبتدئين ، استفسرت عن أسعار لوحاتهم المعروضة للبيع ، حفظت بعضاً منها ثم عدت أدراجي مستعدة لتحديد سعر تقريبي .
بعد مدة زمنية قصيرة و قبل موعد انتهاء اليوم الأول بوقت قصير عاد الأستاذ ممدوح برفقة تلك المتعجرفة ، وقفت المرأة على مسافة بعيدة و أشارت بإصبعها نحو لوحه المرأة المعلقة ، ليباشر الأستاذ ممدوح بعدها الاستعلام عن سعر اللوحة ، أحسست بغضب عارم ، و قلت بصوت واضح :
– اعذرني يا أستاذ ، تلك اللوحة ليست للبيع ، أنما للعرض فقط .
اقترب مني الأستاذ ممدوح هامساً : منذ دقائق أخبرتني أن اللوحات للبيع !
– اللوحات للبيع ، لكن ليس لتلك المتعجرفة ، لقد أهانتني منذ بضع دقائق .
– يا صغيرتي أن أردت النجاح فلتتجاهلي تصرفات الآخرين ، أنها امرأة ذات نفوذ ، قد تكون نافذة ليحلق اسمك عالياً بالأفق بعالم الفن.
صمت و أومأت براسي معلنة موافقتي ، بعدها اجتمعنا ثلاثتنا بمكتبه الموجود خلف صالة العرض ، حددنا سعراً ثم حررت لي شيكاً بالمبلغ و انتهى اليوم الأول للمعرض الفني ضارباً بتوقعاتي عرض الحائط .
مرت بعد تلك الحادثة بضعة شهور عملت خلالها بجهد ، فقريباً سأسافر لإحدى الدول المجاورة للاشتراك بأحد المعارض المهمة ،
كنت أقف بملابسي الملطخة بأنواع الطلاء المختلفة أتأمل لوحة كنت قد انتهيت منها للتو ، حين قاطع شرودي صوت رنين هاتفي كان رقما غير مسجل :
– الآنسة سالي ؟
– نعم من المتحدث ؟
– سارة تتحدث من المكتب الخاص للسيدة سعاد.
– أهلاً سارة ، عفواً و من تكون السيدة سعاد؟
– السيدة سعاد التي قامت بشراء إحدى لوحاتك خلال المعرض الفني قبل بضعة شهور.
– آه ، نعم اذكرها جيداً.
– هذا رائع ، أنا اتصل لأقدم لك عرض عمل بالنيابة عن السيدة سعاد ، لقد قررت السيدة رسم لوحه فنية على احد جدران منزلها و اختارتك أنت لتلك المهمة ، و ستدفع لك مبلغاً طائلاً من المال لقاء هذا العمل ، و قد أعلمتني برغبتها بلقائك قريباً لمناقشه نوع الرسومات و جدول الأعمال الذي ستتبعينه إن رغبت بهذا العمل .-
زفرت بقوة فأنا أتوق للعمل ، لكن ليس مع تلك السيدة .
ثم حددنا بعدها موعداً لزيارتي لمنزلها عصر اليوم التالي و دونت عنوان منزلها على ورقة صغيرة ، في ظهر اليوم التالي ارتديت ملابسي و نظمت أدوات الرسم الخاصة بي تحسباً لأي طارئ و انتظرت سيارة الأجرة التي كنت قد طلبتها مسبقاً ، عند وصول سيارة الأجرة ناولت سائقها العنوان المدون و انطلقنا نحو وجهتنا
حين انعطفت المركبة لتبتعد عن الطريق الرئيسي كنت لا اعلم موقعي تحديداً رغم أن مدينتنا صغيرة لكنني لم أتجاوز حاجز الأشجار هذا قبلاً ، بما انه ملكية خاصة كما كتب على اللوحة الزرقاء المعلقة على العامود ، بعد حاجز الأشجار اطل على المركبة منزل ضخم البناء ، يبدو قديماً لكنه تحفة فنيه بحق ، كانت الأشجار الكثيفة مزروعة على جانبي الطريق الرملي ، لكنها تتشابك فوق رؤوسنا لتضيف ظلاً و مشهدا يخلب له الألباب ، مشينا لبضع دقائق قبل أن نصل للبوابة الحديدية الضخمة ، اقترب رجل من سائق المركبة فعرفت عن نفسي، ففتحت تلك البوابة فوراً و كأنه يتوقع وصولي ، بآخر تلك المساحة الخضراء الشاسعة كان يقبع المنزل
بعد أن دفعت للسائق أجرته ، وقفت أتأمل المكان حولي ، آه كم أتمنى البقاء و العيش هنا ! أتوقع أنني سأرسم أحلى لوحات قد تراها عين إنسان ، فكمية الخضرة المحيطة لا تبعث في نفسي سوا الطاقة الايجابية والكثير من الإلهام ! قاطع شرودي صوت أنثوي:
– ساره ، سعيدة بلقائك ، تفضلي.
كانت مدبرة المنزل قد فتحت الباب الخشبي المزخرف باللون الذهبي ، بالطبع لم يقل المنزل روعة من داخله عن خارجه ، فكل زاوية كانت مليئة بالتحف و الزخارف على الجدران ، و أن دل على شيء فهو يدل على ثراء قاطنيه الفاحش ، تُرى كم من الأشخاص يعيشون هنا ؟ فهذا المنزل يتسع لعشرات الأشخاص ؟ تساءلت في نفسي بينما كنت أجول الصالة بعيني بحثاً عن لوحتي ، أين عُلقت ؟ لكنني لم أر لها أثراً ! و قد خلت الجدران من أي لوحات فنية .
– ستوافيكِ السيدة سعاد قريباً ، قالتها مدبرة المنزل قبل أن تشير لي بالجلوس على احد المقاعد المذهبة الأطراف ثم رحلت ، انتظرت ما يقارب العشر دقائق دون ظهور أي احد حتى ، أطلت المدبرة مره أخرى تحمل قدحاً من القهوة ، بدأت بشرب القهوة الساخنة و توتري قد ازداد قليلاً ، ما لبثت أن انتهيت من قهوتي حتى أتت مجدداً تطلب مني الانتقال لمكتب السيدة سعاد
بين جدران و ممرات كثيرة اطل ذلك الباب الخشبي يتصدر عرض الحائط العاجي ، و ما أن فتحته أمامي حتى شهقت ، فالغرفة مليئة باللوحات المعلقة و مكتب خشبي صغير يتوسط تلك النافذة الكبيرة .
– يا لروعة ! صرخت بهذا.
و ما أن أغلقت المدبرة الباب خلفها ، حتى بدأت التهم تلك اللوحات بعيني ، جميع تلك اللوحات كانت سوداوية بل أن معظمها لوحات مخيفة بحق ، الآن فهمت فقط لما أعجبتها لوحة المرأة المعلقة ، فقد كانت لوحة سوداويه تماماً كاللوحات المعلقة أمامي ، هواية غريبة لامرأة غريبة ! تمتمت بهذا قبل أن انتبه لنقطة حمراء كانت مرسومة على معظم اللوحات المعلقة !
أثناء تفحصي لتلك الدائرة الحمراء ، بدأت اشعر بدوار مزعج بدأ بغزو راسي فجأة ! لم أكن افقه ما الذي يحدث تحديداً ، لكنني كنت أحاول فتح عيناي بصعوبة بالغة حتى ثقل جفناي و احتل السواد مجال بصري ، عندما بدأ النور بالتسلل نحو عيناي كنت اشعر بثقل و صداع اجتاح كل سنتيمتر من رأسي ، لكن الألم الحقيقي الذي اشعر به مصدره يداي و ليس رأسي ، كنت معلقة بالهواء من كلا رسغاي و قد قُيدت بأسلاك شائكة مدعمة بسلاسل حديدية تمتد من رسغاي إلى أكواع كلتا يداي ، ارتدي ثوباً احمر اللون كما ألبست المرأة المعلقة تماماً ، ما أن نظرت أمامي حتى رأيتها تجلس على كرسي خلف المكتب الخشبي تنفث دخان سيجارتها عالياً.
تأوهت ألماً و رجوتها حل وثاقي ، ابتسمت بمكر و قالت : اخبريني عن أعظم مخاوفك ، ثم ارتشفت قليلاً من الكوب الموضوع أمامها ؟
لم اجب لكنني أستمريت باستعطافها لحل وثاقي ، ضربت بكلتا يديها سطح المكتب الخشبي حتى تطايرت القهوة على السطح الخشبي و صرخت ، اخبريني ما الذي تهابينه ؟
بصوت راجف أجبتها : الظلام ، أنني أهاب الظلام !
– الظلام ؟ ! أهذا أعظم مخاوفك ؟ ثم قهقهت عالياً بصوت شيطاني : يا صغيرتي أنا أسوأ كوابيسك ..
قبل أن تكمل ما كان بصدد إخباري به قاطع حديثها صوت مدبرة المنزل بعد دخولها الغرفة و قد تجاهلتني تماماً و كأنها لا تراني.
– سيدتي ، اتصلت سارة من المكتب لإخبارك بموعد الأسبوع القادم مع الفتى صاحب تلك اللوحة ، ثم أشارت بيدها نحو لوحة علقت بجانب لوحتي ليد تعتصر قلباً بشرياً بين أناملها و جسد شاب قد انتزع قلبه يصرخ و يتلوى ألماً ، ابتسمت لمدبرة منزلها و بحماس طفولي قالت : رائع ، هذا رائع ، ثم دفعت بنفسها بعيداً عن المكتب الخشبي بحماس شديد ، استلت إحدى فراشي الرسم و اقتربت من معصم يدي الدامي لونت الفرشاة من دمي و توجهت نحو لوحتي و هي تدندن ، ثم رسمت دائرة على إحدى الجوانب ثم غادرت الغرفة بعد أن أطفأت النور حتى حل السواد من حولي !.
تاريخ النشر : 2017-09-25