للشَطَط أرقباط
الحَلوى ذَاتِ القِمَم الكِريميةَ تَنهار والفَساتين المُعَلقةِ بِالمَحلاتِ تجعُلك تحتار ، بأي عَالم سَيعيشُ البَشرِ الأشرار ، فالماء جَعلهُم يَسيرونَ على دَربِ الأنصار ، لا يَسقي قُلوبهم بِحَمم الأقذار بل يَروي عَطشهم بِمياهِ الأقدار ، أسيرُ مرُهَف الخَدين باسطِ اليَدين خالي الأفكار ، في مَدينة تَعجُ بالأخيار ، و فاكهةٌ مِن عَسل تُشبع البطون ، و أضواء تُنير القلوب .
أتجول وأنا مُرتاح البال ، حاملاً حَقيبتي التي تُفصح عن رَحال وبعمر يُقارب العقد والعامان ، وَصلت لأرض هذا المكان .
أخذني أحد الأشخاص ذَوو خيرِ الأعمال ، رآني مشردًا ذليلًا عابس الوجنتين ، فانتشلني من زُقاق تنتشر به الأمراض ، واعتنى بي قرابة الثلاثة أعوام ، و أرسلني اليوم لأحد أصدقائه القلال لأعمل في محله المعروف ببيعه قطع من الآثار ، فرحت أسأل هذا وذاك :
“سيدي أين أجد محل مسرور للأنتيكات ؟”
دلني السكان وهم مبتسمون والطيبة على وجوههم تفصح عن المكنون ، وأنا في طريقي قاطعتني قطة صغيرة ، منفوشة بخيوط حريرية نظيفة تموء إلي وكأنها تطلب علبة تونة صغيرة ، رحت أبحث بحقيبتي العتيقة لعلي أجد ما يسد به جوعها ، فأخرجت قطعة من شطيرة سبق وقضمت منها وتركت الباقي أثناء الرحلة ، اقتربت منها محاولاً إطعامها ، ولكن هربت مني فجأة تركتها وكل كياني صار بها مشغولاً ورحت أكمل دربي و أعطيها الأعذار ، ولكنها ظهرت أمامي من بين الجدران وراحت تموء وكأنها تطلب معونةً على الأسبار ، زفرت وكلي بكلها مكلول البال ، تتبعت تلك الأقدام ، ذات خطوات وكأنها عجين كعكات ، لا تصدر أصوت أو اضطرابات ، عكس خطواتي التي ملأت المكان ، بصوت هزاتها وكأنها سهول عزفت بها أبواق الانتصار ، وبعد بضعة خطوات أشرفت قدماي على زقاق عريض الممرات مغلق بسياج وأسوار ، تخرج منها حبات الزجاج و أشواك ، ولافتات تدل على خطر لا يعرف مداه إنسان .
دخلت القطة الزقاق بكل استهتار ووقفت تنتظر مني اتباعها وهي قررت بأني هو المختار ، ما الذي يسعى إليه هذا الكائن الأوضار !!.
انسحبت من مكاني وعدت أدراجي تاركاً هذا المخلوق خلفي ، فقد انتابني شعور بالاختناق ورجفة في أعماق مكنوني ، وأنا أحدق بذاك الرواق وكأنه مسكن للأشباح .
ظللت أسير في دربي حتى وصلت إلى مقصدي ، محل ذو لافتة بلون الورد الأحمر ذو كتابات منقوشة بذهب وفضة يلمعان ، بزجاج ذو حواف توحي بمدى قدم هذا المكان ، تقدمت و فتحت ذلك الباب الخشبي الأنان ، فسمعت صوت صفير من بين تلك القضبان رافقها تراقص أصوات أجراس ، سرعان ما هبت رائحة هذا المكان وتسللت إلى قلبي وجعلت من روحي لها مسكنا ، فهي أقرب لرائحة العجائز وطاعني السن وبعض الأخشاب الرطبة وقطع حديد متآكلة .
وزع المكان على شكل ثلاث ممرات تفصلها مدرجات عرضت عليها الأنتيكات والتي هي رمز لحياة أشخاص قد حيكت أيامهم في أزمان بعيدة ، وغطى التراب صفحات لحظاتهم السعيدة والحزينة ، اقتربت قلقاً لأبصر فتى صغيراً ولكنه أطول مني قليلاً ، يكنس بكل هدوء وكأنه يدغدغ الأرض لا ينظفها ، وعلامات الصمت قيدت المكان بجبروتها ، فاقتربت منه ملقياً التحية ولكن سرعان ما تكلم أحد من خلفي قائلاً :
“أهذا أنت يا إسحاق ؟”
فالتفت لأبصر رجلاً نحيلاً يقارب عمره الأربعة عقود وسنين قليلة ذو بشرة بيضاء ناصعة وعيون زرقاء كبيرة ، له شوارب تنزل حتى تلقي التحية على قلائده القصيرة :
“نعم ، أنا آسف ، كان علي أن أصل صباحاً و لكنني ظللت الطريق ، سأعوض ذلك لا تقلق “
أجبته بكل أسف وتوتر ليرد علي بابتسامة ساخرة :
“لِمَ أنت متشنج هكذا ؟ لا عليك المهم أنك وصلت سالماً استرح هذا اليوم وابدأ غدا”
ثم اقترب نحو ذلك الصبي وأمسك كتفه بهدوء ، سرعان ما التفت إليه واخرج تلك السماعات المخفية ، والتي لم ألاحظها من شدة صغر حجمها ، كان جميلاً أخضر العينين وبوجه أسمر ذو نقاط أشبه بنجوم توسطت تلك الجفون ، ثم قال ذلك الرجل موبخاً :
“كم مرة أخبرتك ألا تستعملها أثناء ساعات العمل “
رفع الصبي رأسه وقال متأسفاً :
“آسف يا معلمي “
ثم نظر إلي وأكمل متسائلاً :
“هل هذا هو ؟”
ليرد عليه :
“نعم “
ثم نظر إلي وأكمل معرفاً :
“هذا هو يعقوب، إنه يعمل عندي منذ سنتين تقريبا وهو من سيكون مرشدك هنا”
اقترب مني يعقوب و أعطاني المكنسة وقال بصرامة :
“أكمل الباقي وسأذهب لأعد العشاء “
تكلم المعلم معاتبا :
“ما هذا يا يعقوب ألم أخبرك أن تعامله جيدًا “
” لا بأس ، أنا أحب مثل هذه الأعمال ، فهي أسهل بكثير من العمل بمناجم الفحم والحدادة ، أرجوك دعني أبدأ اليوم “
زفر المعلم متأسفاً:
“كما تشاء ، ولكن لا تجهد نفسك “
أومأت إليه موافقًا ورحت اكنس الأرض مسروراً .
كانت أيامًا جميلة ، الليالي الباردة ولت بعيداً ، أصبحت أستطيع شرب حسائي ساخناً ، و أتغطى بأغطية دافئة نظيفة ، لا توجد جرذان أو عناكب تتبهرج بأرجاء الغرفة المعلم كان إنساناً لطيفاً ، عاملني شخص كالبشر أخيرا ، ذرفت دموع الامتنان في بعض الأحيان ، وأنا شاكر لوجود مسكن يأويني ، وملجأ أعود إليه ليلاً ، مكان يحميني ، يطعمني ويرويني ، لن تعرفوا ما مدى كبر هذه النعمة بالنسبة إلي أبدا.
مرت الأشهر سريعاً اعتدت على تقلبات مزاج يعقوب الغريبة وصار لي صديقاً وفياً . وفي إحدى ايام الصيف الحارقة رن الجرس محلنا كالعادة معلنًا قدوم أحدهم ، نهضت من مقعدي وتوجهت للزبون لعلي أقدم المساعدة ، وإذ به طفل بعمر الثامنة ينظر إلي بغرابة ، وبتوتر يكاد يصبح له سجانًا ، تكلم الصغير خائفاً :
“هل تستطيع مساعدتي باختيار هدية لأبي ؟”
“نعم ولك…”
وقبل إكمالي للجملة قال يعقوب بكل صرامة :
“هل تملك نقوداً ؟”
لم أستطع التكلم بعدها، ولكن سرعان ما أخرج الصغير بضع قروش ودولارات ثلاثة ، زفر يعقوب باطمئنان ، وأمسك كتفي وقال :
” ساعده باختيار هدية مناسبة لهذا المبلغ من المال “
هززت رأسي موافقاً ورحت أصطحب الصبي بجولة لعله يجد ما يحتاج ، مرت نصف ساعة وهو على هذه الحال لا يحب ما أخرجه وما يختاره غال الثمن وتحفة عاشت لأزمان ، دخل زبونان آخران فانشغل بهما يعقوب ، أما عن المعلم فقد خرج لجولته المعتادة في البحث عن الأثريات ، أمسك الصغير أحد تلك الساعات الذهبية وقال لي مبتسماً :
“ماذا عن هذه؟ هل أستطيع شرائها؟”
أخذت نفساً وقلت متأسفاً :
“لا للأسف ، هذا واحدة من أغلى الأشياء عندنا “
ناداني يعقوب متعجلاً :
” إسحاق هات القلادة الخاصة بالسيدة العجوز من الأسبوع الماضي “
هرعت من مكاني مسرعاً فكلام يعقوب كالأوامر لي ، إنه سريع الهيجان وصارم وكأنه أحد الكبار ، رغم أنه لا يكبرني إلّا بعامين ، تركت الصغير في غفلة من أمري وذهبت لأحضر القلادة كما أمرني ، ما إن أوصلتها للزوجان حتى نظر إلي يعقوب وأكمل :
“ألم يختر شيئاً حتى الآن؟”
“لا “
فجأة سمعنا صوت الجرس الذي ينذر بخروج أحدهم ونظرنا جيدا وإذ بالطفل يلوذ فراراً وهو يحمل الساعة الذهبية ، نهض يعقوب من مكانه متعجلاً وراح يلحقه مسرعاً ، فقلت للزبون متوتراً:
“يا عمي سلمان هل تهتم بالمحل حتى نعود ؟”
فهز العم رأسه موافقاً فهو أحد زبائننا المعروفين ، وأسرعت بالجري خلفهما ، كانا سريعين للغاية بالكاد استطعت اللحاق بهما في اللحظات الأخيرة ، دخل الصغير لإحدى الممرات والتي لها زقاقان ، أشار يعقوب لي بأن أدخل أحدهما وهو سيذهب من الآخر ، وهذا ما فعلناه ، ومن حسن الحظ وجدته أخيرا وهو يجري بالشوارع مسرعاً وبعد بضع محاولات ، دخل لزقاق مليء بالأسلاك ، وركض على تلك الدرجات وانعطف يساراً ، لم أستطع الدخول ، أو بالأحرى لم أكن أريد ذلك ، هذا هو نفس الزقاق الذي قادتني إليه القطة في أول يوم لي هنا ، بقيت واقفاً التقط أنفاسي ، فجأة سمعت صوت خطوات خلفي :
” ألم تجده أيضاً ؟”
ابتلعت ريقي بصعوبة وترددت في الإجابة فهذه ستكون نهايتي إن علم بأمري ، ولكني لم أتحمل المماطلة :
“لقد دخل إلى هذا الزقاق ، آسف لم أستطع اللحاق به لأنني خفت من شكل المكان “
انتظرت عتاباً وصراخاً حاداً ، لكنه فاجأني بوضع يده على كتفي وبهدوء أردف :
” جيد ، لا تتحرك انتظرني هنا سأعود “
ركض يعقوب عائداً من حيث جاء ، وبقيت في أرضي مذهولاً.
مرت قرابة العشر دقائق وعاد يعقوب حاملاً بندقية صيد ، كانت احدى الأنتيكات في المتجر ، فصرخت مرعوباً :
” انتظر ، أنا آسف، سأدخل الآن ، لا داعي ﻷن تقتلني ، فكر في ما سيقوله المعلم “
صرخت بوجهه بهستيرية وانا أهرب منه متعجلاً ، ولكن سرعان ما جاءني الرد صادماً :
“إنها ليست لك “
فأردفت مسائلاً :
“إذاً لمن؟”
أنزل يعقوب البندقية ، بجدية راح يقول شارحاً :
” إنها لسكان زقاق – القاتل الجديد -“
“ماذا تقصد؟”
” إنها قصة طويلة سأختصرها ببساطة ، كان سكان هذه المدينة يتشاجرون بالأسلحة النارية ، ويقتلون بعضهم بعضاً ، حتى جاء قانون مُنِع فيه حمل فيه الأسلحة ، ولكن لم ينصاع إليه سكان هذا الزقاق أبداً ، فقرر سكان المدينة حبس المجرمين في هذا الزقاق ، لذا ومنذ مائة عام وحتى الآن لم يخرج أحد منهم ، تقول الأسطورة بأن عالمهم أصبح مختلفاً عن عالمنا ، نادراً ما يخرج منه الأطفال لأنهم الأكثر براءة ، ولكن ما أن يقوم أي منهم بجريمة ، فإن الزقاق لن يسمح له بالمغادرة بعدها أبدا ، قيل بأن من يدخله من الأشخاص العاديين لن يستطيع الخروج منه ، لأنه بالتأكيد سيقتل أحدا ، ويبقى عالقاً “
لبتلعت ريقي وقلت غير مصدق لما قاله :
” أنت تمزح صحيح؟ “
” لا “
ثم حمل البندقية وراح يسير نحوه بثقة مفرطة :
“سبق و أخذ هذا الزقاق مني شيئًا، لن أسمح لأحد منهم أن يأخذ مني شيئا هذه المرة “
لم أتحمل الوقوف وسرعان ما لحقت به مرتعباً ، عبرنا السياج عن طريق فتحة صغيرة حفرت من الأسفل بدقة ، ورحنا نصعد تلك الدرجات المظلمة ، أمسكت طرفًا من ثياب يعقوب خوفاً ، ثم التفتنا يساراً .
المكان كان يجعل العقل يحتار والمنطق من الدهشة يزار ، فلا بيوتهم كبيوت العناكب أو البشر الأخيار ، فكل مربع منها كانت بيتًا واحدًا ، المساكن مبنية بين مسكنين شاهقين ، وبعضها على بعض تتهاوى ، بزوايا هندسية غير منطقية ، تجعل من الجاذبية مجرد نكتة قديمة ، تمر بها ممرات مائية بأشكال هندسية ، مربعات ومستطيلات تمر عبر المساكن سويا ، بعض البيوت عبارة عن شلالات وبعضها عن أنابيب للمجاري المائية ، المياه كانت خضراء غامقة وفاتحة ، شبيهة بمستنقعات تعيش بها الضفادع النقاقة ، الطحالب ملأت المكان ، فهي أشبه بكساء يغطي أغلب الأسطح والجدران ، لا أنسى أبدًا الرائحة ، فهي أكثر ما يعلق بالوجدان ، كانت أشبه برائحة ثوم وبصل ، تجعل العينان تسيلان ، البشر بأرجاء المكان يحملون أسلحة وبنادق بكل استهتار .
نظرت إلى يعقوب متسائلاً ، وإذ بي أراه معتاداً ، وأكمل السير وهو لا يعطي للمكان بالاً ، سرت خلفه بكل ارتجاف .
عبرنا بضع طرقات وفجأة ، ظهرت لنا مجموعة من المراهقين الصغار ، حاملين أسلحة ثقيلة ،ولكنهم لوزنها يتمتعون ، نظر أحدهم بتمعن إلينا ، وتكلم مصدوماً على حين غرة :
“أهذا أنت يا يعقوب؟ لم أرك منذ ثلاث سنوات ، أين اختفيت يا رجل؟”
ابتلع يعقوب ريقه بتوتر :
” هذا ليس من شأنك يا مسعود “
اقترب مسعود من يعقوب وأمسك رقبته بغضب مكبوت :
“أنت لم تنسَ ما الذي فعله والدك بأبي صحيح؟”
“وكيف أنسى ما فعله أعمامك بوالدي؟”
رد يعقوب بكل ثقة ورفع بندقيته نحو مسعود وبنظرات شيطانية ، كان يريني إياها حين أكسر شيئاً ، قال يعقوب مهددا :
“ابتعد وإلا أنهيت أمرك كما فعل أبي لأبيك “
توتر مسعود وبات الخوف يرتسم على محياه ، رغم عدد الأطفال الذين كانوا يحمونه إلا أنه قرر الانسحاب .
نظرت إلى يعقوب وأنا أخاف السؤال ، ولكنه أجابني قبل حتى أن أفكر بالكلام :
” لقد قتل والدي أباه ، وأعمامه قتلوا والدي قبل أكثر من خمس سنوات ، عشت بعدها هنا لفترة ثم خرجت من المدينة ، والآن لنجد ذلك الصغير بسرعة قبل أن يحين موعد عودة المعلم “
كنت مذهولاً ، بالأصح خائفاً ، وزادني كلامه رعباً ، لوهلة تمنيت لو أعود للعمل بمنجم الفحم والحديد على التواجد هنا ، ولكني سرعان ما استجمعت شجاعتي حين أدركت مدى قوة يعقوب .
وبعدها بلحظات أبصرت ذلك اللص الصغير وهو يلهو بالساعة ، ركضت نحوه بدون إرادة ولحقني يعقوب بكل سرعة ، من سوء حظنا لبصرنا ذلك الصغير وراح يجري وهو يحدد المصير ، عبرني يعقوب بسرعة وراح يلحق الصغير بكل وحشية وابتعدا عني بمسافة ، أبصرت يعقوب وهو يمسك بالصغير ، و يحاول انتشال الساعة من بين يديه ، كان يقاوم بقوة ، فجأة صرخ أحد الرجال الكبار على يعقوب وقال :
“أنظر ماذا لدينا هنا “
وقفت أراقب من بعيد ، أكمل الرجل كلامه مشيراً للصغير :
“ارمي إلي الساعة يا بني “
سرعان ما انتبه إليه الصغير ورمى الساعة :
” خذها يا أبي ، إنها هدية عيد ميلادك “
أمسك الرجل بالساعة و وظل يعقوب يمسك الصغير بكل غضب متأجج ورفع البندقية ناحية رأس الفتى وصرخ:
“أعطني الساعة وإلا أطعمته بارود بندقيتي”
نظر إليه الرجل باستهزاء وقال :
” حسناً لنتبادل الرهائن عند العد لثلاثة ، واحد اثنان ثلاثة “
رمى الرجل الساعة وبذات الوقت أرسل يعقوب الصبي ، أمسك يعقوب الساعة متعجلاً وركض الصبي لوالده ولكني لاحظت إخراج الرجل لسلاحه ومحاولته لإصابة يعقوب فركضت نحوه مسرعاً ودفعت يده خائفاً ، الحمد الله الرصاصة لم تصب يعقوب ولكنها أصابت الصغير ، كنت مصدوماً ، هرع الرجل نحو ولده مذعوراً ، وبذات الوقت أمسك يعقوب يدي وراح يجرني غصباً .
هربنا مسرعين ، خائفين ، حائرين ، لحق بنا مجموعة كبيرة من الرجال ، حاولنا تضليلهم بكل طريقة ولكن يبدو أن هذا محال ، اختبأنا خلف أحد الجدران ، وجلست مرتجفاً ، رمى يعقوب البندقية عليّ وصرخ آمرًا :
“فلتهدأ سبق وخرجت بضعة مرات من هذا الزقاق ، وسأخرج مجددا ولا تخف سنخرج سالمين “
ابتلعت ريقي وهززت رأسي موافقا ، رمى يعقوب حجراً بالزقاق المجاور ليضلوا الطريق ، وركضنا نحو المخرج بدورنا ، و أخيرا شارفنا على الخروج .
وعلى حين غرة خرج أحد الرجال من يمين طرفنا وامسك يعقوب ، ظللت واقفاً حائراً ، ويعقوب يحاول الإفلات من بين يديه عبثاً ، سرعان ما اجتمع باقي الرجال ، ووصل والد الصغير ، وقال لأصحابه مهونا:
“يبدو أنه كان جرحاً سطحيا ، سيكون بخير “
ثم التفت إلى يعقوب وقال حاقداً :
” والأن كيف تحب أن ينتهي أمرك ؟”
” ابتعدوا عنه “
صرخت وانا أوجه البندقية نحوهم بكل يأس ، وسرعان ما التفتوا إلي ، ابتسم الرجل بكل خبث ، وقال ساخرا:
” لدي فكرة ، إذا ما ضغطت الزناد على صاحبك فسوف أسمح لكما بالمغادرة “
كنت مصدوما فصرخت غاضبا:
” كيف سنخرج إذا كنت سأطلق عليه؟ كيف سأثق بكلامك أصلاً ؟”
ليرد علي بكل شيطانية :
“من يعلم فربما تصيب مناطقاً لا تؤذيه ، أنا أعدك وعد شرف بأني سأسمح لكما بالمغادرة إذا ضغطت على الزناد على صديقك “
قالها الرجل الحقير وهو يعرف بأني لا أجيد التصويب من الرجفة التي احتلت يدي ، فحاولت أن أجد طريقة ، بها أستطيع إنقاذ صديقي من دون هذه الفكرة السخيفة ، ولكن سرعان ما صرخ علي يعقوب قائلاً :
” أطلق يا اسحاق “
لم أفهم لماذا ، ولكنه كان هادئاً وكأنه على هذا الأمر كان معتاداً :
“هذا مستحيل ، بالتأكيد سأقتلك “
فرد علي وله ابتسامة تجعلك تظن بأنني أحترف الرماية :
“أطلق ، فأنا أفضل الموت على يدك على كل حال “
“ولكن “
فصرخ بقوة كما يفعل دائماً :
” إفعل هذا وإلا حرمتك من طعام العشاء “
لم أتمالك ذاتي ، ربما لأنني اعتدت على أوامره ، أو الخوف هو ما دفعني ، ضغطت على الزناد .
لم يظهر صوت ، وضغطت مرة ثانية وثالثة ، لم تنطلق اي رصاصة ، نظرت إلى يعقوب وإذ بالابتسامة رسمت على محياه ، وقلت متسائلاً :
” إنها معطلة صحيح ؟”
” بالضبط “
أجابني وهو يخرج يديه من بين قبضتهم ، كان الجميع مصدوماً ، وقال يعقوب وهو ينظر إليهم ساخراً :
“والآن لنخرج ، فقد وعدك وعد شرف بأنه سيسمح لنا بالمغادرة “
وبالفعل خرجنا من ذاك المكان سالمين ، ومعنا الساعة.
كان المعلم غاضباً ووبخنا بشدة ليس لأننا عرضنا حياتنا للخطر ، بل لأن العم سلمان قد سرق المتجر .