غرائب العشق والغرام

ماريا أوكتيا برسكايا – امرأة خاضت الحرب انتقاماً لزوجها

بقلم : حسين سالم عبشل – اليمن
للتواصل : https://www.facebook.com/profile.php?id=100010781206005

ماريا أوكتيا برسكايا - امرأة خاضت الحرب انتقاماً لزوجها
الحب الحقيقي قد يفعل المعجزات !

في إحدى الاجتماعات النسوية وقفت امرأة ثلاثينية ترتدي الزي العسكري ذو معطف الفراء السميك و قالت : أيها الرفيقات في جمعية زوجات الجنود الوطنية ، إنه لشرف عظيم أن تكون المرأة زوجة لجندي يخدم الوطن و يضحي من أجله و لكن هذا لا يكفي فعلينا نحن النساء أن ننال شرف المشاركة في صناعة هذا المجد ، فأنا زوجة لضابط بالجيش و أعمل كجندي للدفاع عن الوطن ، ثم أنهت خطابها وسط تصفيق النساء الحاضرات في ذلك الاجتماع ..

ماريا أوكتيا برسكايا - امرأة خاضت الحرب انتقاماً لزوجها
ماريا و زوجها

لم تكن تلك المرأة سوى ماريا فاسيلييفنا أوكتيا برسكايا ، فتاة قروية بسيطة وُلدت في 16 أغسطس عام 1905 م في أسرة فقيرة بشبة جزيرة القرم تنازع كسرة الخبز مع إخوتها العشرة فقد كان والديها مزارعين فقراء بالكاد يستطيعان توفير لقمة العيش في ظل المجاعة و الظروف التي كانت تمر بها البلاد ، و مع هذا فقد كافحت ماريا و عملت في مصنع للتعليب ثم انتقلت إلى مدينة سيمفيروبول حيث عملت كعاملة هاتف و هناك تعرفت على أحد جنود الجيش الأحمر و يُدعى إليا ريادنكو و وقعت في حبه و تزوجا عام 1925م و قررا أن يحملا لقب أوكتيا برسكايا تكريماً للثورة البلشفية التي قامت في أكتوبر عام 1917م ، و عاشا في كوخ صغير بضواحي مدينة كييف ، و خلال تلك الفترة تعلمت ماريا من زوجها بعضاً من أمور السياسة كما صارت تجيد الرماية بالبندقية

و في ليلة من ليالي عام 1941 م جلس الزوجان على طاولة العشاء و قد لاحظت ماريا علامات القلق على وجه زوجها الذي ظل سارحاً في أفكاره.
– عزيزي إليا أنت لم تتناول طعامك ، فما الذي يشغل بالك ؟
– أعتقد أن الجيش النازي يخطط لاجتياح بلادنا .
– مستحيل ، فألمانيا النازية حليفة بلادنا ، حتى أني سمعت من المذياع أن قيادتنا أرسلت عدد من الطلاب للدراسة في ألمانيا .
– عزيزتي ماريا في السياسة لا توجد صداقة أو عداوة دائمة ، هناك تحركات مريبة على الحدود ، لهذا أتوقع أن تندلع الحرب قريباً .
– و هل سوف تشارك بالحرب يا عزيزي ؟
– بالطبع سوف أشارك بالقتال فهذا واجبي كجندي أن أحمي الوطن .

ماريا أوكتيا برسكايا - امرأة خاضت الحرب انتقاماً لزوجها
انلدلعت الحرب العالمية الثانية و لم يتوانى زوج ماريا عن اللحاق بركب المقاتلين

و لم تمضِ سوى أشهر قليلة و مع ذوبان ثلوج الشتاء حتى اندلعت شرارة الحرب في 22 يونيو1941م عندما اجتاحت القوات النازية أراضي الاتحاد السوفيتي في عملية عسكرية خاطفة أطلق عليها الزعيم النازي أدولف هتلر عملية بارباروسا و شارك فيها 4 و نصف مليون جندي من القوات النازية مدعومة ب 600 ألف دبابة و مدرعة و سرب مكون من آلاف الطائرات .
وجدت ماريا نفسها تودع زوجها الحبيب الذي ذهب إلى جبهات القتال للدفاع عن الوطن و بعد حوالي شهرين من المعارك أوشكت أوكرانيا على السقوط و طلبت السلطات من سكان مدينة كييف المغادرة إلى مدينة تومسك في سيبيريا شرق روسيا ، انتقلت ماري و شقيقتها إلى صحراء سيبيريا القارصة البرودة مما زاد من معاناتها و أُصيبت بمرض السل و بالرغم من ذلك فقد عملت كممرضة في المستشفى لإسعاف الجرحى الذين صاروا يتوافدون إلى المستشفيات بشكل كبير خصوصاً بعد انكسار الروح الوطنية للشعب السوفيتي الذي فاجأه الاجتياح النازي ، كان أقصى أمل لماريا أن يكون زوجها قد وقع أسيراً و أنه لم يُقتل بالمعركة مع أنها كانت تموت باليوم ألف مرة عندما كانت ترى الجثث و الجرحى قادمة من جبهات القتال بشاحنات النقل و تركض مسرعةً لترى أن كان زوجها من بينهم .

ماريا أوكتيا برسكايا - امرأة خاضت الحرب انتقاماً لزوجها
كانت ترى الجثث القادمة من ساحات القتال و تخشى ان تكون جثة زوجها من بينها

و بعد عامين من اندلاع الحرب علمت ماريا أن زوجها قد لقي حتفه و هو يدافع عن مدينة كييف في شهر أغسطس 1941م ، لقد نكأ خبر موته الجرح القديم و أشعل نيران الانتقام لدى ماريا التي أقسمت على أخذ الثأر لزوجها و ارتدت الملابس العسكرية بدلاً من ملابس الحِداد ، و ذهبت إلى مقر التجنيد للجيش الأحمر ، و انضمت إلى صفوف الرجال الواقفين في صفوف طويلة ، و لكن لجنة التقييم رفضت طلب ماريا للانضمام للجيش كونها مصابة بالسل و سنها غير المناسب ، و لكنها لم تيأس و فكرت بفكرة غريبة حيث قامت ببيع منزلها و ممتلكاتها و مدخراتها من عملها في خياطة الملابس و التطريز حتى جمعت مبلغ 50 ألف روبل و عادت إلى مقر التجنيد مرة أخرى و التقت بأحد الضباط المسؤولين عن تسجيل المجندين ، و عندما أخبرته برغبتها بشراء دبابة للقتال ضد الغزو النازي سخر منها و أشار بيده و طلب منها الذهاب للتسجيل في قسم تصنيع الذخائر حيث كانت النساء يقمن بتصنيع الذخائر أو إسعاف الجرحى ، ففي ذلك الوقت لم يكن يُسمح للنساء بالقتال بالصفوف الأمامية

ماريا أوكتيا برسكايا - امرأة خاضت الحرب انتقاماً لزوجها
جمعت مدخراتها و اشترت دبابة

غادرت ماريا المقر غاضبة و قررت كتابة رسالة إلى القيادة العليا تطلب فيها شراء دبابة و كتبت فيها ” إلى الرفيق جوزيف ستالين أنا امرأة فقدت زوجها الذي ضحى بحياته دفاعاً عن الوطن فأرجو منك إعطائي شرف القتال ضد كلاب النازية و الانتقام لموته و موت الأبرياء تحت التعذيب البربري النازي ، لقد جمعت مبلغ 50 ألف روبية من أجل شراء دبابة لأقودها في القتال ضد الجيش النازي ” و وضعت الرسالة في ظرف و أرسلتها إلى مكتب رئيس الاتحاد السوفيتي جوزيف ستالين ، ربما لشدة غضبها لم تفكر ماريا بشيء في ذلك الوقت و سخرت من نفسها عندما هدأت فورة غضبها ، و حصل ما لم يكن في الحسبان فبعد أيام قليلة طرق باب منزلها ضابط في الجيش و طلب منها الحضور إلى مقر التجنيد و هناك تفاجأت ماريا بموافقة الرئيس ستالين على طلبها شراء دبابة متمنياً لها التوفيق في مهامها القتالية

ماريا أوكتيا برسكايا - امرأة خاضت الحرب انتقاماً لزوجها
حملت السلاح و انضمت لصفوف المقاتلين ضد الاحتلال النازي الذي قتل زوجها

جاءت الموافقة فقط لخلق الدعاية و رفع الروح المعنوية للمقاتلين فلم يسبق أن قادت امرأة دبابة بذلك الوقت ، و بعد دفعها للمبلغ المحدد استلمت ماريا دبابة تي 34 و هي دبابة متوسطة الحجم ، و تقرر إرسالها للتدريب العسكري في مدرسة أومسك العسكرية و قد استغرق تدريبها 5 أشهر تخرجت منها برتبة قائد دبابة إضافة إلى تعلمها المهارات الميكانيكية اللازمة لإصلاحها ، و في المعسكر صارت ماريا قائدة للدبابة و قد كتبت على برج مدفعها ” الصديقة المقاتلة ” مما أثار السخرية بين زملائها من الجنود و تم نقلها إلى فيلق الدبابات في الحرس الثوري الثاني استعداداً لإطلاق هجوم مضاد الذي أطلقت عليه القيادة الروسية الحرب الوطنية العظمى لتحرير الجبهة الشرقية ، و شاركت ماريا في أول معركة لها بالقرب من مدينة سمولينسك في 21 أكتوبر 1943 م و قد أثبتت مهارتها بقيادة الدبابة برفقة أفراد طاقمها الأربعة و انطلقت تدك معاقل الأعداء و استطاعت تدمير مدفع رشاش و مدفع مضاد للدروع و قتل عدد من الجنود الألمان و تم ترقيتها إلى رتبة رقيب

و بعد شهر و في 17 نوفمبر خاض الجيش السوفيتي معركة عنيفة تحت جنح الظلام تقدمت الدبابات لاستعادة بلدة نوفوي سيلو قرب مدينة فيتبسك و في الظلام الدامس شقت دبابة الصديقة المقاتلة الصفوف و لم يكن هناك من ضوء سوى بريق القذائف و لهيب النار المنطلق من فوهات المدافع و البنادق ، و استطاعت ماريا تسديد ضربات قاصمة و قضت على عدد من تحصينات العدو و لكن قذيفة مدفعية أصابت الدبابة و بالرغم من ذلك لم تستسلم ماريا و قفزت من الدبابة و قامت بإصلاح الأضرار و عادت للقتال حتى تحررت البلدة ، و قد كتبت رسالة إلى شقيقتها تقول فيها ” لقد أخذت ثأري لزوجي و حان الوقت لأخذ الثأر لوطني “

ماريا أوكتيا برسكايا - امرأة خاضت الحرب انتقاماً لزوجها
شن السوفييت هجوما كاسحا لتحرير مدينة لينينجراد

و بعد شهرين من القتال المستمر قررت القيادة السوفيتية البدء بحملة عسكرية لتحرير مدينة لينينجراد و في 17 يناير 1944م شنت الدبابات السوفيتية هجوم كاسح على قرية شيفدي بالقرب من فتسبك و كانت دبابة ماريا في المقدمة حيث هاجمت جنود الأعداء المتحصنين في المنازل المدمرة و استطاعت تدمير مدفع ذاتي الحركة ، واصلت ماريا تقدمها إلى وسط القرية في قتال مستمر حتى انفصلت عن الرتل العسكري و وقعت في كمين محكم و انهالت على دبابتها القذائف من كل مكان مما تسبب في تدمير جزء من درع الدبابة و توقفها عن الحركة

أمرت ماريا طاقم الدبابة بتغطيتها بالنار لكي تتمكن من التسلل إلى خلف الدبابة لإطفاء الحريق و إصلاح المحرك ثم صعدت على الدبابة و فجأة دوى انفجار ضخم و عم الدخان المكان و سقطت ماريا إلى داخل حجرة الدبابة و الدماء تنزف من رأسها بغزارة و بسرعة انسحب الطاقم بالدبابة و أوصلوها إلى المستشفى الميداني ثم نقلت إلى مستشفى فاستوف قرب كييف حيث تمكن الأطباء من إخراج شظية اخترقت رأسها و لكن ماريا ظلت في غيبوبة استمر شهرين حتى تُوفيت في 15 مارس 1944م عن عمر 38 عام ، و قد كرمتها القيادة السوفيتية بوسام الشجاعة من الدرجة الأولى و دُفنت في أحدى ساحات المدينة و تم إقامه نصب تذكاري لتخليد ذكراها .

ماريا أوكتيا برسكايا - امرأة خاضت الحرب انتقاماً لزوجها
أقيم نصب تذكاري لها تخليدا لبطولتها

استمرت الحرب حتى انتصار الجيش السوفيتي و الحلفاء و رُفع العلم السوفيتي في وسط العاصمة الألمانية برلين في 2 مايو 1945م .

ملاحظة :
قصة ماريا فاسيلييفنا أوكتيا برسكايا هي قصة امرأة من بين 800 ألف أمرأة بالاتحاد السوفيتي ممن شاركن بالحرب العالمية الثانية في مجال التمريض و تصنيع السلاح و القليل منهن شاركن بالقتال في سلاح القنص و الطيران و المدرعات ، و غيرهن الكثير من النساء في البلدان المشاركة بتلك الحرب ، و لكن ما يجعل قصة ماريا مميزة هو عشقها لزوجها الذي دفعها لخوض الحرب انتقاماً لمقتله .. إنها قوة الحب و الرغبة بالانتقام التي تصنع المعجزات .

المصادر :

Mariya Oktyabrskaya – Wikipedia

Mariya Oktyabrskaya Avenged Her Husband s Death At

 

تاريخ النشر : 2018-09-09

guest
49 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى