منوعات

آه منك يا زمن (1) – محمد فوزي .. قتيل الحسرات

بقلم : اياد العطار

 

آه منك يا زمن (1) – محمد فوزي .. قتيل الحسرات
على فراش الموت .. الفنان محمد فوزي ..

أيام طفولتي في سبعينيات القرن المنصرم ، كان تلفزيوننا باللونين الأبيض والأسود ، ولم يكن سخيا معنا ، بل كان شحيحا فيما يقدمه ، يضن علينا بالقليل ومع هذا كنا نحبه ونعشقه . لم يكن يحتوي داخل صندوقه الخشبي المتين إلا على قناة يتيمة ، الجيد في الأمر أننا لم نكن مضطرين لتغيير القناة والبحث طويلا عن ما يستحق المشاهدة كما هو الحال الآن . ولعل تلك الشحة هي ما جعلنا متلهفين لمتابعة برامجه ، فكنا نتحلق حوله بشغف وشوق عسى أن نرى فيلما أو حلقة من مسلسل أسبوعي . أما اليوم فها هو التلفاز قابعا جواري كأنه صخرة صماء ، لا أجد ميلا لتشغيله رغم أنه يحتوي على مئات القنوات الفضائية .. أظنني أصبت بالتخمة وعسر الهضم البصري .

اغنية ماما زمانه جايه للمبدع محمد فوزي ..

على العموم ، في تلك الأيام الشحيحة بالبرامج والأغاني ، خصوصا أغاني وبرامج الأطفال ، كانت هناك أغنية محببة إلى قلبي وقلوب معظم الأطفال للحنها الخفيف وتصويرها الظريف ، أسمها ” ماما زمانها جايه ” ، يظهر فيها طفل صغير محبوب القسمات يتفاعل مع أداء المغني بكاءا وضحكا بحسب ما تقتضيه كلمات الأغنية . كان يعجبني مغنيها ذو الوجه الصبوح والابتسامة الساحرة والصوت الشجي الذي يأسر القلوب . كنت اسأل عن أسمه ، فيخبروني بأنه محمد فوزي ، وقد مات قبل مولدي ببضعة سنوات . وعلمت لاحقا بأنه شقيق الفنانة هدى سلطان .. “الست أمينة” .. زوجة “سي السيد” في رائعة “بين القصرين” للأديب الكبير نجيب محفوظ الحائز على جائزة نوبل للآداب .. الكاتب الذي طالما وجدت متعة وفائدة كبيرة في قراءة رواياته في عهد الصبا والشباب وذلك حتى قبل أن أراها مجسدة في التلفاز على شكل أفلام ومسلسلات ، ولطالما نصحت ، ومازلت ، أولئك الأعزاء الذين يسألون دوما : كيف نتعلم الكتابة ؟ .. أقول اقرءوا لنجيب محفوظ .

آه منك يا زمن (1) – محمد فوزي .. قتيل الحسرات
غنى في الموالد والحفلات الخاصة حتى اشتهر ..

بالعودة إلى محمد فوزي ، فقد كان خفيف الظل ، ذو حنجرة ذهبية ، وإطلالة مشرقة ، وفوق هذا وذاك كان عبقريا في التلحين ، إلا أنه وبرغم موهبته ونبوغه لم يصنف كأحد أساطين الطرب العربي مثل عبد الوهاب وعبد الحليم وفريد الأطرش ، ربما لكونه مات في سن مبكرة أو لطبيعة أغانيه الاستعراضية الخفيفة .

محمد فوزي لم يكن سليل أسرة معدمة ، لكنها أسرة كبيرة بتعدادها ، فتسلسله الواحد والعشرون من بين 25 أبنا وابنة ، لذا حين حضر إلى القاهرة عام 1938 لم يكن في جيبه سوى جنيه واحد ، وهو مبلغ ضئيل كانت أمه ترسله إليه مرة كل شهر ، وبالكاد يكفي لسداد أجرة الحجرة التي اكتراها . ولهذا عاش فناننا بداية مسيرته في ضنك ، عرف الجوع والشقاء ، وناضل وكافح كفاحا مريرا لسنوات حتى واتته الفرصة حين عمل في فرقة بديعة مصابني المسرحية ، ولم يطل الوقت حتى لمع أسمه كما يلمع الماس بين الجواهر ، فأرتفع نجمه وعلا كعبه في عالم المسرح والسينما والغناء .

آه منك يا زمن (1) – محمد فوزي .. قتيل الحسرات
مع زوجته الثانية الفنانة مديحه يسري ..

وبشهادة كل من عرفه ، كان ذو شخصية محببة ، تسبقه ضحكته الجذلة العذبة أينما حل وأرتحل ، وكان وسيما مشهورا ، لا عجب بعد ذلك أنه كان معشوق النساء ، تزوج ثلاث مرات ، إحداها من الفنانة المخضرمة مديحه يسري ، في حين كانت زوجته الأخيرة ملكة جمال مصر ، وقد نتج عن زيجاته مجتمعة أربعة من الأبناء وبنت واحدة .

من ميزات محمد فوزي الكثيرة التي تفوق بها على زملاءه من الفنانين أنه كان ذكيا ذو عقلية تجارية فذة . لم يبدد أمواله التي شقى وتعب في جمعها على الملذات والمشاريع الفاشلة كما يفعل غيره ، بل كان يستثمر نقوده فيما يعود عليه ، وعلى الفن عموما ، بالفائدة والثراء . أسس مبكرا شركته الخاصة لإنتاج الأفلام وأطلق عليها أسم “أفلام محمد فوزي” ، وكانت شركة ناجحة . أما نجاحه التجاري الأكبر فكان في عام 1958 حين وضع كل ما يملك من مال وعقار في تأسيس شركة جديدة لإنتاج الأسطوانات أسماها “مصر فون” ، كاسرا بذلك احتكار الشركات الأجنبية لهذه الصنعة الدقيقة . كانت أسطواناته تتميز بالرخص والجودة مقارنة بغيرها ، فاكتسحت السوق بسرعة وحققت نجاحا باهرا حتى أن عمالقة الفن كأم كلثوم وعبد الوهاب لجئوا إلى شركته لتسجيل وطباعة روائعهم الغنائية .

آه منك يا زمن (1) – محمد فوزي .. قتيل الحسرات
تميز عن بقية الفنانين بعقليته التجارية .. مع الموسيقار فريد الأطرش ..

كانت تلك أسعد أيام محمد فوزي .. لكنها للأسف لم تدم طويلا .. فالنجاح له ثمن ، وأولئك الناجحون المبدعون دائما ما يكونون غرضا لسهام الحساد والعذال والمرضى النفسيون بكل أشكالهم وأنواعهم . وقد طالت تلك السهام الغادرة فناننا الجميل في ذات يوم من عام 1961 حين توجه إلى شركته كما أعتاد أن يفعل كل صباح تعلو شفتيه ابتسامة عريضة محببة تنم عن الرضا والطيبة . لكن ذلك الصباح لم يكن كغيره ، فقد كان هناك رجال بملابس وملامح كئيبة منتشرون في جميع أرجاء الشركة ، وفي مكتبه ، على كرسيه المريح الوثير وجد رجلا لا يعرفه يجلس مكانه ..

ما الذي يجري ؟ .. ماذا تفعلون هنا ؟! .. تلك هي الأسئلة التي طرحها محمد فوزي على الفور . فجاءه الجواب كالصاعقة .. لقد تم تأميم شركة “مصر فون” وتقرر تعينك موظفا فيها ! .

تصور عزيزي القارئ أن تهدر سنوات من عمرك على مشروع ، تنفق عليه كل أموالك ، توليه كل عنايتك وجهدك حتى يزهر ويثمر ، ثم يأتيك أحدهم ليخبرك بأن مشروعك ومالك وجهدك وعرقك .. كل ذلك تمت مصادرته وبدون مقابل . وزيادة في إذلالك يجبروك على أن تعمل موظفا في المشروع الذي أنت صاحبه ومالكه الشرعي ! ..

آه منك يا زمن (1) – محمد فوزي .. قتيل الحسرات
مع شقيقته الفنانة الراحلة هدى سلطان ..

التأميم لم يكن بدعة مصرية .. فالكثير من الأمم عبر التاريخ أممت ممتلكات وملكيات خاصة على أراضيها ، لكن مفهوم التأميم يختلف غربا وشرقا . في الغرب يعني التأميم (Nationalization ) استحواذ الدولة على غالبية الحصص في أسهم شركة أو ملكية ما ، لكن الدولة تشتري تلك الحصص ، تدفع نقدا مقابلها وبقيمتها الحقيقية في السوق ولا تصادرها بدون مقابل . أما في الشرق ، ومع بزوغ المد الشيوعي الداعي أصلا لإنهاء كل أشكال الملكيات الخاصة ، فكانت المشاريع والأراضي في روسيا تؤمم “تصادر” من دون تعويض أصحابها الشرعيين ، لا بل غالبا ما يتم إعدامهم باعتبارهم برجوازيين ، أي أعداء الثورة . ولاحقا اقتبست بعض الأنظمة في الشرق الأوسط وجهة النظر الشيوعية المتشددة تلك من خلال تبني الأفكار الاشتراكية ، فالدولة التركية في زمان أتاتورك صادرت وأممت الكثير من الممتلكات الخاصة بالعهد العثماني . وفي إيران قام الدكتور مصدق عام 1953 بتأميم النفط ، وهي خطوة ، بالرغم من فشلها ، ألهمت الكثيرين لاحقا في المنطقة .

أما في مصر ، فثورة يوليو عام 1952 أممت وصادرت الكثير من ممتلكات رجالات العهد الملكي ، لكن أكبر عملية تأميم قامت بها الجمهورية المصرية الناشئة تمثلت بتأميم الرئيس الراحل جمال عبد الناصر لقناة السويس عام 1956 وما تلا وترتب على ذلك من حرب عسكرية واقتصادية لسنا بصدد الخوض فيها فضلا عن كون أحداثها تكاد تكون معروفة للجميع .

شخصيا أرى أن التأميم ، أي مصادرة أموال الآخرين بدون مقابل ، ينطوي على ظلم فادح ، وذلك بغض النظر عن الأسباب والمبررات . فأن تصادر أموال شخص ما لمجرد أنه غني أو وريث عائلة ثرية ، أو لأنه مختلف عرقيا أو دينيا أو فكريا ، وبالرغم من كونه لم يخالف أي قانون ولم يرتكب أي جرم ، ففي ذلك الظلم والجور كله . ولعمري فأن الأمم التي أممت وصادرت أموال الآخرين بغير حق ودون تعويض لم ترى خيرا من ذلك ، بل عاد عليها بالويلات والمصائب .

آه منك يا زمن (1) – محمد فوزي .. قتيل الحسرات
على فراش المرض مع زوجته الأخيرة ..

وإذا كان البعض يرى مبررا في تأميم أموال الأجانب ، فما المبرر لتأميم أموال شخص مثل محمد فوزي ، العصامي الذي بنى نفسه بالتعب والكد والادخار ، المتواضع الذي كان يفترش الأرض مع عماله البسطاء لتناول الفول والطعمية ، الوطني الذي غنى للثورة .. هل كان يستحق مصادرة أمواله وأهانته بهذا الشكل ؟ .. والمفارقة المضحكة المبكية هي أن الدولة كانت قد أشادت بجهد محمد فوزي وحسه الوطني في كسر الاحتكار الأجنبي ، حتى أن وزير الصناعة شارك بنفسه في افتتاح مصنع الأسطوانات .. وقد كافئوه على ذلك بتأميم شركته ! . ولم يكتفوا بذلك .. بل وضعوه في مكتب صغير وبالغوا في إذلاله وأهانته ، أصبح الرجل “على الحديدة” ، لأنه كان قد أستثمر كل ما يملك من مال وعقار وأصول في تأسيس الشركة ، لم يعد يملك شيء ما خلا راتب بسيط لا يتجاوز المائة جنيه يصرف له لقاء العمل موظفا في شركته ! .. يا لسخرية الأقدار .

انزوى محمد فوزي في مكتبه الصغير يتجرع الغصص والأحزان والحسرات وهو يرى ماله نهبا بين يديه وأمام عينيه من دون أن يستطيع فعل شيء لاسترداده .. غصة وحزن وحسرة سرعان ما تحولت إلى ألم ووجع وآه .. فسقط صريع المرض والفراش وحار الأطباء في كشف علته وداخوا في معرفة أصل مرضه ، ليس أطباء مصر فقط ، بل حتى أطباء أوروبا وأمريكا ، قالوا بأن مرضه نادر إلى درجة أن ستة فقط على مستوى العالم أصيبوا به ، وتضاربت الأقوال والإشاعات التي تناقلتها الصحف حول حقيقة مرضه ، ما بين التهاب وفيروس وسرطان .. كل هذا والجميل محمد فوزي يذوي ويذبل كما الزهرة التي تفقد نظارتها وعطرها بالتدريج .

وقبل وفاته بوقت قصير كتب محمد فوزي من على فراش المرض الكلمات التالية :

آه منك يا زمن (1) – محمد فوزي .. قتيل الحسرات
محمد فوزي يحتضن عوده .. وقد انهكه المرض لكن لم تغادره الابتسامة ..

” منذ أكثر من سنة تقريبا وأنا أشكو من ألم حاد في جسمي لا أعرف سببه، بعض الأطباء يقولون إنه روماتيزم والبعض يقول إنه نتيجة عملية الحالب التي أجريت لي، كل هذا يحدث والألم يزداد شيئا فشيئا، وبدأ النوم يطير من عيني واحتار الأطباء في تشخيص هذا المرض، كل هذا وأنا أحاول إخفاء آلامي عن الأصدقاء إلى أن استبد بي المرض ولم أستطع القيام من الفراش وبدأ وزنى ينقص، وفقدت فعلا حوالي 12 كجم، وانسدت نفسي عن الأكل حتى الحقن المسكنة التي كنت أُحْقَن بها لتخفيف الألم بدأ جسمي يأخذ عليها وأصبحت لا تؤثر فيّ وبدأ الأهل والأصدقاء يشعروني بآلامي وضعفي وأنا حاسس أنى أذوب كالشمعة .

إن الموت علينا حق .. إذا لم نمت اليوم سنموت غدا، وأحمد الله أنني مؤمن بربي، فلا أخاف الموت الذي قد يريحني من هذه الآلام التي أعانيها، فقد أديت واجبي نحو بلدي وكنت أتمنى أن أؤدي الكثير، ولكن إرادة الله فوق كل إرادة والأعمار بيد الله، لن يطيبها الطب ولكنى لجأت إلى العلاج حتى لا أكون مقصرا في حق نفسي وفى حق مستقبل أولادي الذين لا يزالون يطلبون العلم في القاهرة.. تحياتي إلى كل إنسان أحبني ورفع يده إلى السما من أجلى.. تحياتي لكل طفل أسعدته ألحاني .. تحياتي لبلدي .. أخيرا تحياتي لأولادي وأسرتي”.

بعد كتابة هذه الكلمات لم يطل المقام بمحمد فوزي ، ففي 20 أكتوبر عام 1966 أغمض عينيه إلى الأبد .. رحل محمد فوزي عن هذا العالم قتيلا .. لا برصاصة مسدس ولا بضربة سكين .. لكن بحسرته .

ختاما ..

عزيزي الفنان محمد فوزي .. أينما كنت الآن في السماء ، وأنا على يقين بأنك في مكان رائع ، أتمنى أن تصلك كلماتي ، سيدي أنا كنت أحد أولئك الأطفال الذي أسعدتهم ألحانك وأفرحتهم أنغامك .. أود أن أشكرك ، ولو متأخرا جدا ، على تلك الابتسامة البريئة الجميلة التي رسمتها على شفتي والذكرى الخلابة التي أضفتها لذهني عن طفولتي . وأحب أن أقول لك سيدي بأنهم لما ظلموك وظلموا غيرك من المبدعين والمثقفين والموهوبين فأنهم ظلموا أمة بأكملها ، وما حاضرنا البائس إلا الوليد المشوه لذلك الظلم القديم .

المصادر :

محمد فوزي السيرة الذاتية مع روابط كثيرة عن أحداث حياته – جولولي
محمد فوزي – ويكيبيديا
رسالة محمد فوزي الأخيرة قبل وفاته – المصري لايت
محمد فوزي..الأسطورة الذي أصيب بمرض نادر حير الأطباء وقتله قرار التأميم – مصراوي
Nationalization – Wikipedia

تاريخ النشر 16 / 01 /2014

guest
87 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى