أدب الرعب والعام

أحـمـد سـكِين

بقلم : عطعوط – اليمن
للتواصل : [email protected]

فشاهد داخله خنجر غمدها جسد أفعى ، لم تصدق عينيه ما ترى
فشاهد داخله خنجر غمدها جسد أفعى ، لم تصدق عينيه ما ترى

رعى الله من قراء و أثاب من علق ، و أحسن إلى من نشر و دقق  ، و سلم من سلم الناس لسانه و يده ، و غفر لمن سمى و أستسمى وعلى النبي صلى.
 
في غابر السنين عاش احمد سكين ، تميز أحمد منذُ الصغر بالنباهة والتفكير و حسن التدبير ، رغم جسمه النحيل وطرفه الكحيل ، كان يظهر بمظهر أنيق ،  حسن الهندام ، تفوح منه روائح الطيب قبل الكلام ، طويل القامة ، مرفوع الهامة ، باسم الثغر ، كثيف الشعر ، بهي ، زهي ، إن اقبل ملك و أن أدبر أسر.

بعد المعاناة و الحرمان اضحى أحمد ذو شأن ، يقضي نهاره مع الأخيار في نظر الخصومات
و تقدير الأضرار ، طعامه ما لذ و طاب ، و لبسه جديد الثياب ، زوجته الطاف تسر من نظر و شاف ، كاملة الأوصاف ، حميدة الخصال ، فائقة الجمال ، تفهم  إشارة الطرف و جناس الحرف ، تظهر المحاسن و تخفي العيوب ، و تسأل الرحمن غُفران الذنوب.
 
بينما أخيه عاطف ذا بدن قرِف  و قلب غلف وعقل صلف ، إن اقبل غم و إن ادبر هم ، غالباً مأكله الخبز والماء ، قُدر لهُ أن يعيش عيشةً ظنك ، يحرث الأرض صيفاً و شتاء.
 
أمرأته تقوى تزهو عليه  في أغلب الصفات و تساويه في أُخرى ، رشيقة القد ، غليظة اليد
، ليس لها حظ في سجع الكلام و صنع الطعام ، فهي عامِية من سائر العوام لا تضيف و لا تُستضاف ، لسانها ناطف ، و بصرها خاطف ، صغيرها باكي  و جارها شاكي ، لا تشبع رضيع  و لا تدفئ ضجيع ، تخفي النعمة و تظهر النقمة ، لا تكتم سر و لا تبوح بالبر ، إن سألت ألحت  و أن سأُلت جحدت ، فكانت لعاطف صلف على صلف وغلف فوق غلف.
 
آتى والدهم هادم اللذات مفرق الجماعات ، فمات مستور بعد والدتهم بعدة شهور ، ذهبوا ليلاً لحفر قبره ، وجدوا المقبرة ممتلئة ، و انتقلوا إلى أخرى قديمة ، بدأوا الحفر بالعتل والفؤوس ، مطاطئي الرؤوس ، وعند اقترابهم من المنتصف شاهدوا هيكل عظمي  انتبش و أرتجف و على الأقدام وقف ، فتناثروا وتنافروا ثم فروا بعد أن رأوا ما رأوا.

عاد الميت إلى وضعه و بقي أحمد بُغية جمع رفاة الميت و دفنه ، أثناء جمعه العظام  النخرة عثر على عُلبة صغيرة محشورة في تجويف صدره ، كان قد بقى بمفرده بعد  فرار من حوله ، نظر يمينه شماله باستعجال و لم يجد أحد  من الرجال ، تسأل في نفسه : هل  ألوذ بالفرار ، أم استمر في النبش ؟ أنا محتار.

تعودت على المثابرة والإصرار ، هذا هو الفأس لن أخشى ، فما تحت الثراء رفاة موتى ، لا تسمع و لا ترى.
سأزيح ما تبقى من أضلاعه و أنتزع ما دُس في نحره.

عاد للحفر بإصرار لا يعرف الملل ، انتشل الجمجمة كأنها قلة من القلل ، وضعها على حافة القبر ثم نزل ، أزاح الأضلاع عن القص ، و بيديه ألتقط القفص ، سقط على الصندوق بعض الحصا دون أن يرى فأصدر صوت رنين ، خُيل اليه أن الميت آن ، انتابه رعب و رعشة في سائر أعضاء البدن ، حاول الصعود من الحفرة فتعثر ، هلل و كبر ثم أنتظر ، فإذا بسبع مهول ينفض التراب والحصاء إلى القبر بشكل مستمر كأنها سيل منهمر ، فاستدار كي يقي وجهه ، فوقع الحصاء على ظهره ، و كلما امتلأت الحفرة تراب و حصاء

صعد برجليه إلى الأعلى ، فلما أوشكت الحفرة على الامتلاء توارى السبع و اختفاء ، فتخطى الحفرة و سار ، كان القمر سامر في كبد السماء ، أوى إلى تحت شجرة متفرعة ، أمتد على ظهره واضعاً الصندوق على صدره حتى ذهب روعه و استقرت أنفاسه.
حاول فتح الصندوق دون جدوى ، هزه فسمع بداخله قرقعة و صدى.
قال في نفسه : الوقت يمضي و فتح الصندوق يحتاج إلى تروي ، ساخفيه جوار هذه الصخرة
و أعود كي أدفن الجمجمة و أخرج المنجل .

عاد و أنتشل المنجل و وضع الجمجمة بنفس المحل ، عثر على تاج مرصع بالجواهر و الصدف ، عادت اليه الرعشة فارتجف ، لمس عظم أصابع فشع ضوء أبيض ساطع ، كشف بأصابعه مصدر الضوء من التراب فوجد فص خاتم مُذاب ، نفخ عنه الغبار ثم مسحه بالإبهام ، فتبسم الميت ضاحكاً و نطق بالكلام ، بُهت فاحتار وعقله من رأسه طار ، بات مغشي عليه إلى أن طلع النهار.

حضر أخاه و عدد من الجيران كي يحفروا القبر في مكان غير المكان ، فشاهدوا أحمد مُلقى في الحفرة على قفاه ، فاقد وعيه بين الموت و الحياة ، حملوه و إلى البيت أوصلوه .
ثم غطوه بعد أن رشوه ، شيعوا والده ثم دفنوه ، عادوا ظهراً و أيقضوه ، استيقظ مبهور مذعور ، نظر إلى من حوله من الحضور ، و عادت به الذكريات بأن أباه قد مات ، انهار بالآهات ، استقام و أراد أن ينطق لكنه لم يعد قادراً على الكلام ، اصطحبه أخاه إلى قبر أباه ، جثى ناحب صاخب ، أقترب من الحفرة فوجدها تعج بالعناكب ، فترك أخاه و فر هارب ، أستمر على هذا الحال.

و مرت الأيام والليال.

في ليلة من الليال هجم السرق فكسروا الصناديق و الأقفال ، في الصباح سمع أحمد الصياح : سُرقت الصناديق و ذهبت الأرباح.
فلما رأى الصناديق مكسرة تذكر الصندوق الذي أخفاه تحت الشجرة ، توجه إلى المكان في غفلة ، أخرجه و فتحه ، فشاهد داخله خنجر ( سكين ) مقبضها دمية فأر ( نصلها) و غمدها جسد أفعى ، لم تصدق عينيه ما ترى ، خُيل له أن الفأر والحية أحياء ، فكب القفص على فوهته ، فوقع ما بداخله على جذع قرض.

فسمع صوت ارتطام حاد ، فتأكد له أن ذلك جماد ، أخذه بيده و أستله من غمده ، نظر اليه فلم يستقر عليه نظره ، أشار به نحو فرع من فروع الشجرة فأنقطع الفرع من تلقاء نفسه ، ذُعر فأفلت الخنجر من يده ، فوقع على مقدمة النعال ، احتزت و بترت احدى أصابعه في الحال ، بقي الغمد في يده الشمال ، شعر بالألم و شاهد الدم فرجم الغمد ثم جثم ، لمح أصبعه تتدحرج على الأرض تأتي و تروح كرأس الديك المذبوح ، بلمح البصر هبطت حداءه من السماء فالتقطتها و طارت في الهواء ، تسأل في حوار مع ذاته بعد أن نطق بالشهادتين و تلى المعوذتين  و تفل مرتين.

– ما هذا ، كيف بترت هذه السكين قدمي بمجرد أن هوت من يدي ؟ من أين أتت هذه الحداءه؟
كنت سأعيد أصبعي إلى منبتها علها تُشفى.
ها هو الدم ينزف ، سأمزق اللحاف و أربط الجرح كي يقف الرعاف ، ها قد خف و تم تضميده ، يا للهول ! ما الذي أعاد الخنجر إلى غمده ؟ و قد كان كلاهما على حده.
 
هذا الخنجر سلاح الجان وعلي أن أعيده إلى نفس المكان قبل أن يحل بي الهوان ، لكني لا أقوى على الحفر و أنا على هذا الحال ، سأخفيه تحت الصخرة ثم أعود لإخراجه بعد أن يتحسن بي الحال .

عاد إلى البيت و هو في شر حال ، شاهده الجميع بالعكاز أعرج ، التقته زوجته فساعدته على صعود الدرج و هي تسأله عما جرى و من الذي عليه جنى ؟ ثم أتى أخيه عاطف فسانده من الجهة الأخرى ، أجتمع الناس صغار وكبار كُل يريد أن يعرف الذي صار ، ادخلوه و على الفراش مدوه ،  ثم اسرعوا بإحضار الطبيب فطببوه.
 
سأل الطبيب من حوله عمن قصل إصبعه ؟ فلم يجيبوه ، هل كان بموجب حكم حاكم أم إثر جناية ظلم ظالم ؟.

أنعدم الجواب المُحكم كون المجني عليه أبكم ، تحرى عاطف عن مسار الدم فتتبع أثره ، فأوصله إلى جوار المقبرة ، لم يعثر على شيء يلفت الانتباه ، فكان مجرد بقع دم هو كل ما رأه.

لم يجبهم أحمد لا بصوت و لا بإشارة ، فهو أساساً متعمد كتم أسراره ، ذهبت زوجة أحمد في الخفاء و نثرت بذور الشعير و فصوص الملح ثم اتبعتها بزخ رذاذ الماء.

تناول الأهالي قصة أحمد بالزيادة و النقصان ، روايات يشيب لها الولدان و معظمها كان زور و بهتان ، منها أن أحمد أيقظ ولي من الأولياء من مرقده و انتزع جمجمته ، فكان بتر قدمه و خرس لسانه بداية عقابه ، بينما رأى أحد الكهنة أن أحد الجان المردة كان يسكن الجمجمة فآذاه احمد في مسكنه ، فرأب المارد و جاب وأنزل فيه أشد العقاب ، فعقد لسانه و أفقده الصواب .

أما عاطف فأرجع ما جرى إلى تكاسل احمد عن الأعمال و كثرة التنقل والتجوال ، و ظلمه المعتاد في الحيف بنظر الخصومات بين العباد ، و محاباته من قبل والده و ترك الأعمال على عاتقه الشِدِاد ، فما حل به إنذار إلى ما سيؤول اليه في نهاية المسار.
زوجته بدورها وجدت كتاب فقامت بإحراقه في التنور ، مدعيه أنه كان يقرأ فيه في الضُحى فتجتمع النسور في السماء ، و لربما هذا الكتاب هو سبب في ما جرى…
 
مرة الأيام و تعافى احمد ، فنفث وعزم على إعادة القفص إلى الجدث ، و في المنام سمع هاتف يقول و هو يتضجر : يا احمد عليك بالخنجر ، لك فيها وثبة تقيك  الشر  و تجنبك السقوط في الحُفر.

فز من المنام فاستعاد وعيه التام ، فتوجه إلى مكان القفص في الظلام و أخذ الخنجر فوضعه على خصره تحت الحزام ، احتار بأمر القفص و قال في نفسه : هذا القفص ربما فضحني و كشف سري ، من يدري قد يتعرف عليه أهل الميت فأكون بذلك قد جنيت على نفسي ، سأذهب به إلى كهف النمر ، فهو مهجور عن الأعيان مستتر ، أضعه فيه ثم أبقى منتظر.
 
حزم احمد أمرهِ و توجه نحو الكهف تحت ضوء القمر تنفيذاً لما جال بخاطرة من الفكر.
توغل في الكهف حتى أسدل عليه ظلام ساكب ، فسد أنفه بيده من نتن الخفافيش و زهم العناكب ، فلمح انبعاث شعاع حوله ، فوضع القفص في الزاوية و بدأ البحث عن مصدره ، فإذا به ينبعث من تحت معطفه ، فكشف عن الخنجر و أخذها بيده ، يا للهول ! أن مصدر الوميض هو غمد الخنجر ، نصبها أمامه كالعصى فإذا بعيني الأفعى تتلألأ ، فأستخدمها في دربه كسراج و إلى بيته عاد الأدراج ، وضع حول عيني الأفعى حزام ، فكان لا يكشف عنهما إلا وقت الظلام ، أتخذ أحمد ذلك الخنجر رفيق و صديق ، ففي الظلام ينير له الطريق ، و في النوائب يفرج عنه الضيق.
 
أحب السكين حباً شديداً ، أخرجها من الغمد فمسها بأنامله ، و بفعل لا إرادي لعقها بلسانه ، فعاد اليه الكلام من جديد يوم عيد الفطر.
 
ذبح احمد ذبيحة لأحد الأسر ، فذبح الكبش بلمح البصر ، طار رأس الكبش عن جسده و علقه بيده ، خُيل للحاضرين أنه ذبحه بكفه ، فوقفوا مبهوتين مذهولين ، فلم يحدث أن رأوا ما رأوا أو سمعوا في الأولين والأخرين أو حقبة من السنيين.

فقالوا: أخبرنا في الحال و أصدقنا المقال ، كيف ذبحت فأرحت دون خنجر أو سكين أو نصل مسكت ؟.
قال: بيدي أوكيت و بخنجري ذكيت .
قالوا: أننا لم نلاحظ أو نشاهد في يدك خنجر أو سكين أو أي أداة من أدوات الجزارين؟.
تبين لأحمد أن الخنجر من الأمور المخفية و ليس من المرئية و أنها تظهر له دون سواه من المخلوقات.

ذات يوم بينما كان من المسجد عائد قابله جمل هائج ، حاول الفرار لكنه ثبر فأخرج الخنجر و نحو رقبة الجمل أشر ، ففُصل رأسه و على الأرض خر ، كان صاحب الجمل يمعن اليه النظر ، فصاح و لاح حتى جمع الناس حوله.

فقال: لقد ذبح جملي بيده.
قالوا : كيف ذلك ؟.
رد : هذا الذي لم أعرفه !.
لم ألحظ سيف أو خنجر ، و أنما رأيته بيده أشار ، فبُترت رقبة الجمل دون أن تمسه يده أو إليه تصل.
فأخذ أحد جماله عوضاً عنه و بدل ، فنعته الناس و كنوه بأحمد سكين بسبب ما رأوه.
عاطف المسكين
 
استبشرت زوجت احمد فسلكت درب البر و الإحسان ، بعد أن أضحى زوجها فصيح اللسان
بالمقابل ، استاءت و اغتاظت زوجة عاطف و ضاقت ، فعلى كاهل زوجها تقع الأعباء
بينما ينعم أحمد و زوجته بعيشة رغداء.
فقالت : بعلي الغالي من طلب العُلا سهر الليالي ، وعليك أن تختار بين طلب العُلا و سهر الليال ، أو أن تتبادل مع أخيك الأعمال ؟.

قال: بل أتبادل مع أخي الأعمال ، فلم يعد لدي حِيل لسهر الليال.
ذهب لأخيه فقال : أخي و سندي ، أنقضى جُل عمري ، و أنت تدري أن أشق الأعمال تسير على ظهري ، فمن العدل أن تشاطرني ، غد تذهب تحرث الأرض على الجمل ، و أنا سأذهب أحضر اجتماع عُقال المحل .

أجاب أحمد بسرور تام : سنرى مِسكها والختام.
في الصباح ارتداء عاطف قميص طويلة أكمامه و وضع على رأسه عمامة ، فمشى مع الأخيار لا يكاد يفقه شيء مما جرى و صار ، فكان يستعيض عن الكلام بهز الرأس و رد السلام ، فاتوا بطعام الغداء ، خبز مغشاة و مرق شاة ، هشم الخبزة بيده وألقاها في حنجرته دون أن يمضغها أبتلعها ، تمددت في البلعوم فأنسد ، فانهالت الأيدي ضرباً على قفاه حتى خرجت لقمة الخبز مغشية بدماه ، فلم يُكمل غداه عاد إلى البيت واضعاً كفيه على قفاه ، فطلب من زوجته أن تأتيه بالخبز و الماء .

ردت: ما الذي جرى ، ألم يعطوك غداء ؟.
قال : بلى ، و لكن كدت أهلك لولا أن قُرعت على ظهري طبول الحرب ، فكان غم و كرب و لمثل هذا لن أعود و لن أعتبر احمد محسود ، فالأكل مع الأخيار عسير غير يسير و يحتاج مزيد من الاحترازات و التدابير ، من الآن فصاعد دعيني و شأني ، سأعود إلى ما كنت عليه سابق عهدي.

في المساء ذهب إلى أخيه احمد يعتري وجهه الحياء ، فطلب منه على استحياء أن يعطيه الجمل كي يعود للعمل .

تبسم احمد و نعته بعدة جُمل ، استمر الحال لفترة زمن ، مل عاطف في نهاية المطاف ،
تبادل المشورة مع زوجة أخيه الطاف ، فأستقر رأيهما على أن يقوم بالتجارة ، كرحال على الجمل يتنقل بين المدينة والأرياف.

طرح الرأي على أحمد فلم يبدي أي خلاف ، بل أعطاه رأس مال ، فشد عاطف الرحال و قطع المسافات و طوى الوديان ، و أثناء مروره بجوار قرية يُقال لها قرية السلطان ، سمع منادي فأنصت اليه بإتقان ، فإذا به يقول : بنت السلطان ربة الحسن والجمال ، من نظر إلى وجهها دفع مائة ريال ، فأمسك لجام الجمل و اقترب و قال :
ها أنا لدي مائة ريال ، أريد رؤية وجهها في الحال.
استلم المنادي المال و صعد إلى بنت السلطان فأطلت بوجهها من النافذة برهة زمان ، تبسمت ضاحكة ثم لوحت بكفها فبادلها تلويحة الوداع ، و أستمر في سبيله ساع.
 
وصل إلى المدينة وقت الظهيرة ، استقبلته ثلاث بنات من بنات الخان بالترحاب ، فوضعن عنه ما بحوزته من أغراض و ثياب و عقلن الجمل في مربض الجمال.
فقلن : ما أسمك ؟.
رد : أنا عاطف برق خاطف و رعد قاصف ، كلمتي دائماً هي العليا .
تلطفن له بالقول و فقلن : اذهب إلى السوق يا فتى ، أشتري طلبات طعام الغداء.
ساورته الشكوك فطلب الأسماء .
فقالت الأولى: لا تخشى البته ، أنا أسمي كحيلة الأعيان.
و قالت الثانية : و أنا  مخضبة البنان.
و قالت الثالثة: و أنا  منقوشة الخدان.

ذهب عاطف إلى السوق و هو يردد في ذاكرته الأسماء كي لا ينسى المنقشة ، المخضبة ، المكحلة.

اشتراء الطلبات و حملها على  قفاه وعاد ، و لكنه تاه ، فطاف و أدار باحث عن المكان ، و كلما صادف أنسان سأل عن عنوان المنقشة و المخضبة والمكحلة ؟.
فيقابل سؤاله بالاستغراب والاستهجان ، فكل نساء المدينة منقشة ، مخضبة ، و معظم بناتها مكحلة ، فقد عاطف الجمل و المال وبقي تائه أسير الحال ، صال و جال و في نهاية المآل ترك المدينة و توجه صوب أحد الجبال.

و في الضحى قابل راعي في المرعى ، فحكى له عما جرى ، أخبره أنه يوجد في هذه القرية شيخ كبير ، يمتلك الضياع الواسعة و قطعان من المواشي و الأنعام و الجمال ، ليس له سوى بنت و يحتاج إلى صبيان كما تقتضيه طبيعة الحال.
قال عاطف: ما هو أسمه و كيف يتسنى اليه الوصال ؟.

رد: أعلم أنه يشترط شروط قاسية ، و بحسب علمي لن يقدر أحد ممن سبقك أن يأتيها وافية ، بل كانوا يغادروا القرية بأقدام حافية و أجساد عارية و دمائهم تقطر كالساقية ، فهو ذو طباع خشنة لا يغفر الزلات و لا يتغاضى عن الهفوات ،
يريدك عبد مطيع ، ما لم يقطعك تقطيع ، فلا تلقي بنفسك في الهلاك ، فقد رأيت ما فعله بسواك ، فحبه للبهائم يفوق حبه للأوادم .

رد:  لا أبالي ، هيا أوصلني اليه حتى لو كان الموت على يديه.
 
أدخله على العم راوح في المساء ، فسأله عن اسمه و ما يجيد من عمل ؟.
فأجاب بعجل:  أحرث و أشقى و أزرع و أرعى و أطحن الحب على الرحى و أحطب و أحضر الماء من المسنى .
سمع العم راوح ما حكى ، فرأى فيه المبتغى.
فقال : لي شروط وعليك الوفاء .
رد: أشرط يا عم راوح ولا تهتم.
ستجدني للشرط ألزم.

الشرط الأول : أن تصحى و تذهب بالأثوار للحرث الصباح عندما تصحى كلبتي سجاح.
الثاني : أن لا تعود إلى البيت إلا خلفها عند الرواح.
الثالث: أن تأكل قرص الخبز دون  كسره ، و أن تشرب قعب اللبن دون  فتحه.
ها أناء قد انتهيت من شروطي ، هل لك شروط  عليك أن تخبرني ؟.
تبلد عاطف فهو أضحى بين النار و الرمضاء ، فلم يعي ما سمع و لم يفهم له معنى ، فهز رأسه إلى الأعلى.

قال العم راوح : إن لم تفي بشروطك سأسلخ سير من جلد ظهرك.
رد عاطف : الشرط أملك يا عم راوح ، أفعل ما بدا لك.
بات عاطف ليله لم يكتحل طرفه ، و مع التسبيح فتح الباب فانتبهت الكلبة من مرقدها ، فأخرج الأثوار و حمل المحراث ، فمشت الكلبة و مشى مع الأثوار خلفها ، مع أذان الفجر مسك المحراث و بدأ العمل دون كلل أو ملل.

أتت زوجة راوح بالصبوح ، قعب لبن و قرص خبز بالسمن ممسوح.
و قالت : تذكر شرط عمك كي تحفظ جلدك .

رد: أعلم ذلك ، و لكن التصقت الأمعاء و تهتكت الأوردة من الظماء ، فلم يعد للشرط معنى.
هشم القرص مع اللُب و فتح القعب و شرب ، فصب اللبن صب ، و مزق الرغيف إرب .
أخبرت راوح زوجته  بما شاهدت و أن شروطه قد أختلت.
 
ثم استمر عاطف في عمله ، فلم تدله الكلبة على وقت رواحه ، مع حلول الظلام عاد عاطف إلى البيت و رجليه على الوقوف لا تقوى ، يذود أمامه الأثوار و خلفه الكلبة السوداء.
 
استقبله راوح بأدوات حداد ، في يده اليمين كلباش و في الشمال مشرط حاد.
فقال: ها آنت بغباء و طيش فتحت غطاء الوعاء و كسرت طوق العيش ، حان وقت العقاب مهما كانت الأسباب.

أراد عاطف الرد فلم يسمح له بالكلام بعد أن وجه اليه الاتهام بل صاح بصوت غاضب : هيا ، أجث من قيامك ، أزح عن ظهرك ثيابك  كي أقوم بسلخ جلدك إسوة بمن سبقك .
أنحنا مغلوب على أمره بعد أن عرى ظهره ، فسلخ من جلد ظهره سيرين مقابل الشرطين ، فسال دمه إلى الكعبين.

أتى الراعي الذي دله و أرشده ، أخذ بيده و دماه تسيل على عقبه.
بات ليله قاطع للزاد متشائم من سائر العباد ، مع الشعاع و الناس رقاد ، شد الرحال نحو بلده عاد ، قرع الباب قرع خائب ، فتحة زوجته .
فقال: ها قد عدت اليك يا رأس المصائب.
ناحت و طرقت و بالعويل صرخت ، فقتادته إلى الفراش فجارحته و ضمدت ، ذهبت إلى أخيه و أخبرته بإجمال و شرحت له ظروف الحال .

هب أحمد إلى أخيه ملهوف ، فشاهده منبطح بظهر مكشوف.
فقال: أخبرني متى و أين و كيف وأي جُرمٍ أتيت ؟.
فرد بصوت حزين يتخلله الآنين : شارح رحلتي من البسملة إلى آمين.
 
اكتظت حجرات الدار بالزوار ، كبار و صغار من الأقارب لسابع جار ، الجميع رثى حاله و تأسى لما جرى له.
 
الانتقام…..
 
قالت الطاف : دعونا من الاستعطاف ، أعلموا أن علاج الأسقام هو سرعة الانتقام ،  بهِ تلتئم الجراح و تزول الأورام.
ثم نظر إلى زوجها نظرة قناص ، فقالت: عليك دون سواك  تقع مهمة الاقتصاص والقصاص.
حاص و ماص فرأى أنه لا مناص .
استعد استعداد غازي و تزود بزاد الصحاري ، ثم أصطحب كبش مهول كأنه عجل من العجول ، عرض عليه بعض الشباب  مصاحبته لمساندته في الصعاب ، فأبى و غدا بمفرده بعد أن غرز خنجره في خصره ، فسلك الوديان والشعاب وتسلق الجبال الرواسي ، أستمر ماشي ، أرض تغدي و أرض تبدي و أرض تصلي بها على روح النبي.
 
مر جوار قرية السلطان بطاش  بحلول الصباح ، أقترب  فحط ما على ظهره و استراح ، فسمع صوت منادي ينادي بصوت عالي : من رام الجمال دفع المال.

فوقف مع الكبش أمام الدار ثم لف حول الخروف و دار ، بعد أن أخرج السكين قال: تسمع يا بطاش كيف ذباح الكباش ، و هم بذبحه من ظهره ، فتقدم أحد الحرس فمنعه ، ثم صاح : تسمع يا بطاش كيف ذبح الكباش ، فهم بذبحه من بطنه ، سمعت أبنة السلطان الجدال فاطلت من النافذة في الحال ، فلما رأت ما يصدر عن هذا الغريب من أفعال طلبت من أحد الحراس أن يقوم بذبح الخروف و أن يحل عليهم صاحبه ضيف من جملة الضيوف ،  كان قد رأها تنظر اليه و تضحك من الشرفة ، فعرف أنه قد وصل إلى هدفه.

ذُبح الكبش في الحال و أُدخل احمد سكين إلى صالة الاستقبال و عند الطعام جلس احمد سكين في أشرف مقام ، فتبادل مع بنت السلطان طيب الكلام ، بعد أن أماطت عن وجهها اللثام.
فقالت: أمرك يثير الارتياب و فعلك يدعو للاستغراب ، أيُعقل أنك لا تعلم أن الأضاحي تُذبح من الرقاب بعد أن تُبطح أرضاً على الأجناب ؟.

نظر إلى وجهها نظرة ود ممزوجة بدلال فأطرق  صامت عن جواب السؤال.
اكتظت المائدة بصنوف الإدام و كثر الزحام ، السلطان و خدمه و الأعوان و حراسه و بعض جواريه الحِسان.

أثناء الآكل التفتت نحوه فقالت: لحم  شهي ومرق مري و دسم ثري ، لم يسبق أن وُضع مثله على مائدتي ، هل لك أن تخبرنا عن أسمك و موطنك وسبب مجيئك الينا ؟.

رد: بعد أن تنحنح : أنا احمد سكين ، أبي ملك شديد البذخ ، يؤتى الينا باللحم دون أن نعلم كيف ؟ و من جزر وسلخ ، و أمي ملكة مُهابة ، أمرها نافذ و كلمتها مُجابة ، أرسلتني باحثاً لي عن عروسة ، فقبلت الاختبار و سلكت هذا المسار ، و اليكم ساقتني الأقدار ، راقني هواكم و تلألئ سماكم ، و كل أملي أن أفوز بودكم و رضاكم.
 
تبادل السلطان و أبنته النظرات ، فقالا : لا بد من استضافتك ثلاثة أيام متتاليات حسب التقاليد والعادات.
 
امضى نهاره في استطلاع المداخل والمخارج والممرات.
في المساء قيل له في هذه الحجرة  تنام .
رد: في الغُرف يأتيني الجاثوم و كوابيس الأحلام ، فمن عادتي أن لا أنام بمفردي ، بل تنام إلى جانبي احدى الجواري ، إن انتابني كابوس أيقظتني.
لم يرق لبنت السلطان المقال ، فقالت: ما تطلبه مُحال ، في كل الأحوال كيف لي أن أسمح لغيري أن تله فيك و تسرح و تمرح ؟ فربما تغدو من نصيبي ، إذا كانت الجارية المطر  أنا قوس قزح…

 هلم إلى مخدعي فنم جوار سريري خفية عن أبي.
 
دخل مسرع نزع عنه الثياب وتحت اللحاف انساب…
فاطفأة الانوار واغلقة الباب…
تبادلا همس العشق و الغرام المعتاد…
بعد الوعود و قطع العهود نال منها ما أراد.
فقال : هل أصيح أنا نائم في حضن بنت السلطان؟.
ردت بعد أن وضعت يدها على فمه : أصمت ، هل ،انتابتك نوبة الصرع و الجنان ؟.
رد: بلى ، لكن أريد ثمن كبشي مائة ريال ، و المئة التي أخذتيها من أخي في الحال.
 
ردت : أنتظر حلول الصباح و كل ما تطلبه مباح ، سأعطيك من الفضة رماح و من الذهب أقداح ، أحس بكيد النساء ، فقال: لا تطيلي  ، لبي مطلبي ، ما لم سأصيح بأعلاء صوتي.
 
مُرغمة توسلت طالبة ستر الحال ، فدفعت اليه المال .
مع بزوغ الفجر إلى بنات المدينة شد الرحال ، وصل السوق مذعور ملهوف ، فاشتراء من طلبات الغداء عدة صنوف ، وقف باب الخان فشاهد تصاعد الأبخرة من نوافذه و الدخان.
نادى ، فخرجن ثلاث  كاسيات عاريات ، مرحبات مسهلات ، انزلن ما على ظهره من أدوات ، ثم طلبن منه أن يذهب إلى السوق فيشتري طلبات الغداء و بعض الفواكه و الخضروات.

قال: في هذه الصرة كل الطلبات ، من لحم و بصل و ثوم و بهارات.
وقفن محتارات ، فقمن بتحضير الطعام وتقديمة على الصيوان ، ثم أوصلنه إلى موضع إقامته في الخان ، عبارة عن حجرة بقاعها بير مغطاة بالحصير مخفية ، في احدى زواياها معلقة بندقية ، شعر بما يُحاك و يُخفي ، فجلس في مدخل الغرفة وضع القرفصاء ، فطلبن منه الوقوف أن يتخطى و يأخذ البندقية من الجهة الأخرى ليضعها على كتفه فيمتعهن بمنظرها ، تظاهر بالتثاقل و أنه على الوثوب غير قادر ، و أيديهن تغزوا كل معاطفه بحثاً عن ما يخفيه من مال غير ظاهر.

فقبضن على يديه و حاولن مساعدته ، فوضع يديه على أكتافهن خلف رقابهن و اتكأ عليهن بقوة ، ثم جمعهن فهوى فيهن فأسقطهن في فوهة البير تحت الحصير ، انبعثت ريحة نتنة من جثث متعفنة مرمية في قعر البير  ، لقين حتفهن فسلم الناس  شرهن.
اخذ ما بحوزتهن ثم غادر و كرِهن.
 
لكل ساقطة لاقطة.
 
إلى العم راوح اتجهت مراميه ، إلى من سلخ  جلد أخيه.
 
في منعطف الجبل أتى الليل و أسدل ، دخل وكر من الأوكار فحل ، رجف الجبل تدحرجت القلل ، فزمجر الأسد ، ثم وقف على الباب ، فنفض إلى الكهف الحصاء والتراب ، أستل سكينه مسكها بيمينه ، كانت عينا الأفعى تشعان بالنور ، وجهها نحو الليث ففر مذعور ، بعد برهة عاد فحاول الدخول ، فأشار بالخنجر نحوه بيده ففصلت رأس الضُرغام عن جسده.
 
ثم وضع جثته باب الكهف كترس من المتارس يقيه برد الليل القارس ، ثم أحتز لسانه وانتزع قلبه وكبده ، فوضعها فوق الأحجار وأشعل حولها النار ، فاشتوت واستوت فأكل حتى سد رمقه وقوي جسده ، فخشن طبعه و قسى قلبه ، فلم يعد يهاب المهالك و ضرب الفؤوس.
و لا يترد عن سحل الأنفس و قطع الرؤوس.

في الصباح مضى في طريقه حاملاً رأس الأسد على كتفه.
في الضُحى التقى بذات الراعي يذود  القطعان ، ففرا الأغنام و ذُعرت الضأن بمجرد أن رأت رأس الأسد بارز الأسنان ، بُهت الراعي لِما رآه و جثى على قفاه مُبحلق عيناه فاتح فاه.
وضع رأس الليث على صخرة و أقترب من الراعي رفعه و أسند ظهره  ، و بعد أن عاد له وعيه أخبره كيف قضى على الغظنفر فأكل كبده و قلبه ، و أنه شريد طريد من بلد بعيد لا يجتمع بأهله من العيد إلى العيد .

– ابحث عن مجير يجيرني ، اعمل لديه مقابل أن يطعمني و يسقيني.
رد: ليس هنا مبتغاك و ما تريد ، و أن وجد فذلك مقرون بالتهديد والوعيد والجزاء الشديد.
قال : دلني تنل أجري و ثوابي ؟ إن لم تفعل لن تنجو من غضبي و عقابي.
 
دبر و فكر و إلى رأس الأسد نظر.
قال في نفسه : لن يكن العم راوح المتغطرس
أقوى من هذا الأسد المفترس ، سأدله عليه ربما يكن هلاكه على يديه.
إنه في سفح هذا الجبل ، لكنه شديد البطش مفتول السواعد ، سبق و أن سلخ جلد أكثر من واحد.
 
أكتفى بما سمعه ورآءه فواصل مسيره نحو مبتغاه ، وصل قبل  الغروب ، تجمع حوله الكبار والصغار من كل الدروب ، سمع العم راوح الصياح فخرج يتفرج ، شاهد رأس الأسد موضوع على الدرج ، فسأله عن أسمه و سبب مقدمه و ما هو العمل الذي يجيده و يمتهنه ؟ و قصة رأس الأسد و سيرته؟.

رد: أنا احمد سكين ، أجيد كل أعمال الفلاحين ، أما الليث فقد اعترض طريقي و أقلق مضجعي ، فأستحق عقوبة الإعدام بما اقترفه من إجرام.
فطلب منه أن يعطيه الرأس كي يطبخه للجمل فيذهب عنه بعض العلل.
رد: بشرط أن تعولني و توليني بعض العمل ؟.
قال : عملي شاق و عقوبتي لا تُطاق.
كان الناس متجمعين و لرأس الأسد ناظرين ، سامعين مبصرين.
قال: أطلب ما تريد ستجدني عبد من العبيد.
أخبره بكل الشروط و عقوبة نقض العهود ، و الناس على ذلك  شهود.
وافق احمد سكين ، بينما زوجة راوح أبدت اعتراض مصحوب بالآنين.
همسة في إذن راوح : أحذر من الأقدام على هذا العمل المشين ، أنظر إلى رأس الأسد و تدبر ، لن تكن أقوى من هذا الغظنفر.

رد : ما هلك القُدماء إلا حين أرجعوا أمرهم إلى النساء ، أذهبي و جهزي موضع  فيه ينام ، و حضري معدات الحرث بالكمال والتمام.
قال احمد سكين: يا عم راوح أسمعتني شروطك القاسية ، بقي أن تسمع شروطي القاضية.
الأول : إذا تمزق سير المحراث و أنشطر ، ما الحل المبتكر؟.
رد: الحتر و الوتر من جلود البقر.
 
تبسم احمد سكين بحذر ، فقال: إذاً على بركة الله البُكر .
 
بعد أن شعشع الفجر و حل الصباح ، فتح احمد سكين الباب و صاح : حيا على الفلاح.
فعوت الكلبة و زادت في النُباح ، ذاد الأثوار و سلك نفس المسار ، في أسفل الوادي وضع الأطمار و ربط الأثوار ، ثم دخل المحراس ، اضطجع فنام ، وحين أحس بحرارة الشمس قام و نظر إلى النجد فرأى زوجة راوح أتيه بطعام الإفطار ، فك رباط الأثوار ثم دار بالمحراث على الحقل دوران ، فصعد الحقل الثاني فحرثه تلمان دائريان ، ثم انتقل إلى الثالث و عمل فيه ما عمله بالسابقين…

، وصل الصبوح فحطته طرف الحقل الرابع.
فقالت: هذا غير معقول ، هل أتممت حرث ثلاثة حقول ؟.
ثم اطلت فقالت: ماذا صنعت  ؟ حرثت الأطراف و الحواف ، لن تنج من غضب راوح و لن يكبحه عنك كابح.

رد عليها جاد غير مازح ، فقال: أحوج ما يكون اليه الحقل هو حرث الجوانب والأطراف ،
أما البؤر والأرداف فحرثها فيه ضرر وإسراف ، تنجرف التربة مع السيول ، فتظهر الصخور أوساط الحقول.
قالت: يبدو أن كلامك معقول ، فكل عام نقوم بتزويد الحقول بالتربة بانتظام ، وقد أرحتنا من عناء هذا العام ، تفضل الأن تناول الطعام.
جلس وهي اليه ناظرة ، فوضع قُرص العيش على ركبته ، و قعب اللبن أمامه.
قالت: تذكر الشرط ام أذكرك كي لايقع على عاتقي وزرك…
قال : أكل قُرص الذمول لا يختلف كثيراً عن حرث الحقول.
أخرج خنجرة فطعنه بعد أن رفعه فوق ، صانعاً منه طوق ، دفعه اليها و دحرجه بعد أن التهم جسده ، ثم اخذ قعب اللبن رافعاً إياه نحو الأعلى ،
فنقبه بالسكين من الأسفل ثم شرب حتى أرتوى.
 
ثم نهض فوضع الطوق على عنقها و دفع القعب إلى يدها و قال:  أبلغي راوح عني سلام.
صمتت عن النطق بالكلام فقد كانت في ذهول تام.
أتت راوح بطوق القرص المشطوب و وضعت أمامه قعب اللبن المثقوب ، أنتفض واقف على الأقدام ، كان جواره بعض السادة الكرام ، نظر اليهم فقال : رأيتم ماذا صنع ؟ عبث بالعيش و للقعب فقع.

قال قائل : نراه قد أوفى بشرطك ، وعليك أن تفي بعهدك.
استمر أحمد في العمل ، فانقطع سير من الأسيار التي تربط أعناق الأثوار ، شحذ خنجره و قطع سيرين من ظهرها ، ثم التفت إلى الكلبة فقذفها بحجر في رأسها ، عوت و إلى البيت أوت ، فحمل المحراث على كتفه الشمال و ذاد الأثوار خلف الكلبة في الحال ، وصل البيت قبل الغداء ، حضر راوح فصاح و لاح و نادى : أشهدوا يا حاضرين ماذا جنى احمد سكين ؟ قطع جلود الأثوار بالسكاكين ، و ترك العمل في الوقت الذي لا يزال العمال فيه عاملين ، كما ثقب القعب وعبث بنعمة رب العالمين.

نظروا اليه نظرات ازدراء و استحقار مما بدر منه وصار ، فاستقام احمد ثم قال: يا معشر العقال كنتم أنتم الشاهدين على شروط عمي ، فأنظروا ماذا بدر مني قبل أن تعنفوني ؟ ذهبت بذهاب الكلبة وعدت بعودتها ، تمزقت الأوتار فقطعت من جلد الأثوار حسب الاتفاق الذي جرى و صار ، شربت القعب بنقبه و لم أفتحه ، و خرقت القرص و لم أكسره ، فأوفيت بشرطه ، فهل تروني قد أخليت أم أوفيت ؟.

شهدوا لأحمد سكين بالوفاء و أن ساحته براء ، خضع راوح لما رأوه ، فطلب منه إطعام الأثوار حتى أفول النهار.
فكان يضع داخل التبن ( المهاد ) بعض الحصى و الأحجار ، فأحجمين عن الأكل و نفرين نفور شديد ، فذهب إلى العم راوح في مجلسه الجديد ، فقال: يا عم راوح شبعت الأثوار فلم ترغب بأكل المزيد.

رد : سلمت يا سكين ، أدخلهن الحضيرة وأغلق الباب الحديد .
ذهب و عاد إلى المجلس في الحال ، والعم راوح يتبادل شفط الشيشة مع ندمائه من الرجال .
صاح : يا عم راوح الباب مغلق بالأقفال.
غضب راوح أشد الغضب فقد أقلق راحته و ذهب بمزاج نشوته.
فقال: أدخلهن حتى من الشجج  و المقاطير.
ذهب مسرعاً شاهراً خنجره  ، فقطع الرؤوس كما تُقطع الخشب ، ثم مزقهن إرب إرب ، و رجمهن إلى الداخل  كأعواد الحطب.
عاد إلى راوح  و الدماء تلطخ ثيابه.

فقال: عمي راوح حسب أمرك أدخلت الأثوار   وصال و قِطع ، بعد عناء وجهد منقطع .
اشتد غضب راوح فترجل بعد أن استرق النظر من النافذة بعجل ، فشاهد اللحم و الدماء تملأ المحل.
فقال سكين : يا عم راوح ما ليس بيننا زعل ،
أنا نفذت ما به  أمرت و هذا ما حصل.
قال من كان بجواره : نلتمس لسكين العذر وعلى الشيشة يقع الوزر.
فقالوا : يا راوح أجعله راعياً للأغنام ، أنت رجل كبير المقام ، لا تجعل غضبك يهوي بك إلى مستوى العوام.

نزل راوح عند رأي ندماه ، فعرض على سكين رعي الضأن والشاة.
فقال سكين: أنا ممتثل لأمرك يا عم راوح كل الامتثال ، أن شاء الله ترمي بي خلف الجبال ،
لكن أعلم يا عمي أن الموسم موسم هطول الأمطار ، فكيف اذا أحدقت بي الأخطار ؟.
رد: إن حدث ذلك كنِن الرؤوس الرؤوس.
مضى عليه أسبوع راعي ، في المساء يستمع لقصص عمه راوح ، فيدله على الشعاب و مواضع المراعي  والأعشاب.

ذات يوم غامت السماء و تهيئت الأجواء ، بدأت زخات المطر في الانهمار ، تلفت يمين شمال فأحتار ، فلمح كهف في منحدر ، فذاد الأغنام نحوه و زجر ، تسلقت الضأن فدخلت ، بينما الأغنام عجزت لصعوبة المسار ،  زادة غزارة الأمطار فتجمعت و تكومت قُرب المغار.

فصاح باعلا صوت و كرر ، سمع أهالي القرية فأبلغوا راوح بالخبر ، أخذ المظلة و إلى النجد ظهر ، فناداه : يا متعوس ، يا منحوس ، كنِن الرؤوس الرؤوس ، ما الذي أوصلك كهف الرباح ، ألم تراه في ضاحة من الضياح ؟.
عاد راوح نحو القرية فاستل أحمد سكينه ففصل كل رأس عن جسده و إلى داخل الكهف ألقى به.

أقلعت السماء و أشرق الضُحى ، فتسلق إلى الكهف بعناء ، فأخذ يعيد الرؤوس إلى بين الجثث ، و كلما رجم برأس قال : أعرفي رؤوسك ، أعرفي رؤوسك.
فخرجت الضأن و بقت جثث الأغنام مكومة.

فصاح و لاح :  يا عم راوح : الضأن عرفت رؤوسها بينما الأغنام لم تتعرف عليها.
ذهب راوح و تبعه أهل القرية ، فوجدوا جثث الأغنام متناثرة .
حاول راوح الإمساك به ، ففر وصعد قمة صخرة ، ثم حاوره : يا عم راوح ، أنا يتيم ضيع ، لكلامك سميع ، لأمرك مطيع ، مبتئس يائس ميؤوس ، و أنت أمرتني أدخل الرؤوس الرؤوس .

أشهدوا  يا من حضر ، هل منكم أحد ممن سمع الخبر ؟.
قال أغلبهم : نعم ، سمعناك يا روح عندما ناديته يا منحوس كنِن الرؤوس ، نرى أن الراعي لا يُلام و ليس عليه إثم من الآثام ، و عليك يقع الوزر في البداية و الختام.
تبسم احمد سكين بينما حمل أهل القرية لحم الأغنام فرحين ، بعد أن أبلغهم أنه هلل و كبر و تقبل القبلة فذبح و نحر.

عاد راوح مكظوم مغموم ، منتفخ للحلقوم.
بات احمد سكين لدى أحد جيرانه ، متظاهر بالخوف الشديد من جبروت راوح و طغيانه ،
كان يوم سعيد ذكره القريب والبعيد ، فقد جرة العادة أن ينتظروا للحم الأضاحي من العيد إلى العيد ، لذلك أبدوا حيال احمد سكين تعاطف و تعاضد ، فاقنعوا راوح أنه لم يكن فيما بدر منه قاصد ، فجرى التوافق على أن يعمل حطاب ، أجر و ثواب.
 
زنقل.

مر شهر زمان ، فأتى خُطاب ، و أثناء تبادلهم الكلام في الديوان كانت بنت راوح  زنقل
تطحن الحب على الرحى في الطابق الأسفل ،
فأطربت بالغناء ، اعترى راوح الحياء فأمر احمد سكن أن ينزل اليها و يطلب منها خفض صوتها.
 
وصل اليها فقال: عمي راوح يقول أرفعي صوتك يرتفع شرطك.
ثم  اليهم عاد ، فإذا بصوتها علاء و زاد.
فقال: عُد اليها من حيث أتيت ، أطلب منها أن تغادر البيت.
نزل إلى منتصف الدرج فقال: أزيلي عن والدك الحرج ، ليكن صوتك عالي يغد مهرك غالي.
ثم عاد و قبل أن يصل كان صوتها قد زجل وصهل كالمزمار ، صداه يجوب كل غُرف الدار.

نظر اليه فقال : ألم تامرها ؟.
رد: بلى ، و لكنها تأبى.
– عد اليها إن لم تصمت أقطع لسانها.
بلمح البصر كان واقف خلفها و بيده الخنجر .
– أمرني عمي راوح أن أقطع لسانك لأنك لم ترفعي صوتك.
و بعد أن لكمها خلف رأسها فافقدها وعيها
و أحتز لسانها من فمها.

خيم الهدوء والسكون ، عاد اليهم يعتريه الإرهاق و الفتور ، فألقى بلسانها المبتور إلى قاع الديوان أمام الحضور ، قائلاً : و ما أنا إلا عبد مأمور.
بُهت راوح و الخُطاب ، استل راوح سيفه من غمده و وضعه على عنقه فهم بفصل رأسه عن جسده ، فحال الحاضرين بينه وبينه ، و اكتفوا بربطه و تقييده.

فقال: أين أنتم من العدالة ، ألم ينطق بعظمة لسانه  إن لم تصمت أقطع لسانها ؟ فها أنا نفذت أمره.
انصرف الخُطاب على مسمع و مراء بعد أن أصبحت العروس خرساء.
حل المساء فأجتمع راوح بزوجته سعدى
– أرأيت ماذا جرى ، ما العمل ، كيف نعيد لسان زنقل ؟.
– سنأخذه بالغدر والحيلة فنقتله شر قتله ، سنتظاهر بالسماح والطيب و نطلب منه إحضار طبيب.

– فكوا وثاقه .
اقترب من زنقل فأدخل فمها سكينه الحديد فنبت لسانها من جديد ، فنطقت و على وجهه تفلت ، تهللت وجوههم بالفرح والسرور الدافق ، و اعتبروا احمد سكين خارق من خوارق .
ذات يوم استرق احمد سكين السمع ، فسمع راوح و زوجته يتهامسون ، واضعين خطة للمبيت في السطوح .
التقطت إذنيه ما سقط من لسانيهما ، فبات واعي صاحي.
 
كانت الإشارة إذا لغزها بالعصاء عليها أن تصحى ، فيشيلا الفراش مسرعين الذي ينام عليه احمد سكين ، هو من جهة رأسه و هي من جهة أقدامه.
 
ناموا على السطح متفرقين ، راوح  شمال و احمد سكين يمين و زوجة راوح في المنتصف بين الاثنين.

نام نوم ذئب مغمض عين و مفتح عين ، سمع الزفير و الشهيق ، تأكد أنهما في سبات عميق.
تمكن من زحلقة زوجة راوح من موضعها ثم انتقل فنام مكانها ، صحى رواح منتصف الليل
وغز الراعي معتقد أنها زوجته ، فشال راوح في مقدمة الفراش بينما رفع احمد سكين أسفله ، تنحنح الاثنين و هم لثالثهم رافعين ، فالقوا بها أسفل سافلين.

تنهد راوح و قال : احمد الله الذي أعاننا و من هذا البلى خلصنا.
رد احمد سكين و هو واقف جواره :  بل أحمد الله يا عمي الذي خلصك من عمتي.
وقع راوح من قيامه لا يعلم رأسه من أقدامه.
فتقدم احمد سكين فشد وثاقه ، ثم أحتز سير من جلد ظهره .
 
ثم قال في نفسه: حصلت على مرادي و أخذت بثأر أخي ، علي أن أجمع أطماري و أخف أقدامي ، و أغدُ إلى بلدي.
لم ينتظر شعاع الأفق بل سرى بالليل الغسق ، و على ظهر الحمار شد الأطمار ، و صل ليلاً ، طرق الباب ، فتحت الطاف فهب عاطف و قال : هاه ، أخبرنا بماذا أتيت ؟.
رد: هاك ثمن كبشك وافي ، خذ هذه البندقية الزاكي مقابل جملك العولقي.

و هذه سيور ظهر عمك راوح ، أصنع منها مسابح.
أما ما تبقى من أموال على ظهر الحمار فهي رأس مالي و الضمار.
و أدعو الله بإطالة الأعمار كي نكثر من الاستغفار لما اقترفته يداي من الذنوب والأوزار.
قالت تقوى : نحمد الله على عودتك ، فنعم المخوة إخوتك.
 
مرة السنيين و الأعياد ، كثر الأولاد فقل الزاد ، تذكر الصندوق الذي أخفاه و ما جلبه عليه وابتلاه.
 
 
توجه إلى كهف  فأقتلع مقبض القفص ، ذهب به إلى صائغ ، جس ثم فحص.
قال بعد أن تعجب واستغرب : هذا المقبض من الذهب !.

ثم ابتاعه منه بثمن غالي ، عاد في الحال و حمل القفص بعد أن قطعه أوصال ، فوزعه بالتساوي بين الأصول و الذراري ، فكل من أفراد العائلة باع نصيبه و نعم بثمنه.

بعد أن قُطع القفص و تناثر اختفى الخنجر و لم يعد له آثر ، و هكذا كان القضاء والقدر.
عاشت الأسرة بوأم ومودة و احترام ، فظهر فيها حاكم من الحكام ، حارب الفساد و بدد الظلم و الظلام ، في عهده توارى الإجحاف ، و ساد العدل و الإنصاف ، فشُيدت المنارات و أسست الحضارات ، تتالى الأعوام و يتعاقب الحكام ، تتوارث العداوات و يتفشى الثأر والانتقام ، محل الوحدة ، حل الانقسام.

ويستمر الدهر في الدوران التام ، فتطول الأيام بلا نهاية ، و تعود الحياة إلى البداية ،
تموج الكواكب و تختل المجرات و تتساقط نجوم المخلوقات ، يحل الصمت و تنعدم لغة الكلام .
 
و في النهاية و الختام صلوا على خير الأنام.
اللهم صلي و سلم عليه وعلى آله و أصحابه أجمعين و من تبعه بإحسان من اليوم إلى يوم الدين ، آمين .
 
ملاحظة:
هذه الرواية مستوحاة من التراث الشعبي اليمني.

تاريخ النشر : 2021-03-27

الفهد

اليمن . للتواصل مع الكاتب : [email protected]
guest
22 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى