أدب الرعب والعام

أحلام وشموع 2

تم احتجازي في الحراسة النظرية لدن ولاية أمن فاس.. هذه المرة زيارتي إلى مركز الأمن لم تكن بذنب خفيف؛ فأنا هنا لأجل جريمة قد تصل إلى القتل، أو محاولة القتل.. وحلمي المفرط في جماله، غدا اﻵن متماديا في قبحه. يوم كامل أنصرف فيه إلى تفكير عميق، منتهاه نتيجة واحدة: انتهى كل شيء. في صباح اليوم الموالي، أخبرني الحارس بوجود زيارة. بعد هنيهات دخل إلي باحسون رفقة عمر ابن عمي، وهذه أول مرة تقع عليه عيني منذ أربع سنوات. تلاقت نظراتنا، ثم أطرقت رأسي من فرط الخجل.. تذكرت الماضي وأنا طفل مفرغ من كل الطموح، ما عاد اللهو واللعب بألعاب تافهة. كنت أنتظر عمر هذا لكي يعود من المدينة ويجلب لي حذاء جميل، أسعد به وأفخر، حتى تصل بي حالة الفرح إلى أن أركن الحذاء الجديد جنب مخدتي نائما.. كنت أحب عمر في صباي، وهو يبادلني الشعور.. نلعب سويا رغم فارق العمر بيننا.

رفعت أنظاري، لأجد عمر ما زال يحدق إلي، وفي عينه نظرة التحسر والأسى، وهو ينظر إلى ابن عمه، وقد تحول إلى شيطان.

كان الخجل يتقطر من وجهي بحضور ابن عمي عمر، لم ألق ما سأقوله في وجوده.. تمنيت لو الأرض تنشق وتبتلعني. أرفع أنظاري لأجد الأسف باديا على محياه. كأن لسان حاله ينطق: أي نهاية هذه التي نلتها يا أنور؟. قدري، إنه الإنطلاق بسرعة الميراج، ما أدى بي إلى هنا يا ابن العم.

عانقني عمر، قائلا :

“لا بأس يا أنور، ستخرج من هنا قريبا”.

زاد كلامه من خجلي، كنت تمنيت لو عاتبني، وألقى علي توبيخا.. لأني أستحق كل عتاب العالم. سألته عن صحة والدته؟ أجابني بعدما صمت هنيهة: “لقد ماتت”. جوابه شل لساني.. مكثت أحملق فيه كالمعتوه، باحسون يحرك رأسه إشارة منه بالحزن. لعنت هذا الصباح في خيالي، كل هذا بسبب بسبب صغير الحمار المدعو علال. تذكرته، أيكون قد مات؟ خشيت أن أطرح هذا السؤال، لكن عمر قال بأني سأخرج من هنا قريبا؟ إذن لم يمت. كأن كيان غامض يسكنني، وطرح السؤال بدلا مني:

_ هل مات علال يا باحسون ؟

_ لا لم يمت.

جوابه أراحني، وطرد مني أفكار القضاء في السجن. قبل انتهاء وقت الزيارة، قال عمر بنبرة الأمل: “سأزور علال وعائلته، وأطلب منهم الصلح” ثم رحلا. أعادوني إلى السجن الإحتياطي في ولاية الأمن، بانتظار تقديمي إلى القضاء. بعد يومين عاد عمر لزيارتي حاملا معه أخبارا سيئة:

_ لقد رفض علال وعائلته الصلح.

_ وبعد ؟

_ قد تحاكم بجناية محاولة القتل.. وأتمنى أن لا يكون هذا.

_ لماذا محاولة القتل؟ أليس فقط جنحة الضرب والجرح؟

_ لقد تلقى علال ضربتين على رأسه، والضربة الثانية قد يراها القاضي بأنها محاولة القتل.. لقد أرسلت علال إلى غرفة الإنعاش؛ وعليك أن تحمد الله على بقائه حيا.. من كل هذا، لا يجب على والديك معرفة ماذا حصل، وسأرى كيف أتصرف.

إقرأ أيضا: مصل الحياة

عاد عمر في حال سبيله بعدما زف إلي أنباء تعيسة.. لم أكن أقصد قتله، فقط أن أرد له الصاع صاعين.. تساءلت كم يا ترى تكون مدة السجن؟ ثم تذكرت منصف وجواد، والعصابة.. ألا يفترض بهم انقاذي؟ فكرت: عملية واحدة لا تجعلني فردا منهم. فكنت مخطئا.. قبل تقديمي للقاضي بيوم واحد؛ زارني شاب في سيماه ما هو مألوف لي، لكني لم أفلح في تذكره، كأن غمامة تحجب عني أين رأيته. قال باستغراب: “ألا تذكرني؟!”

_ أتذكرك ولا أتذكر !

_ أنا صاحب كيس حلوى، والعرس؟

تبا، كيف خانتني ذاكرتي وطالها الوهن؟! لكن قد تغيرت فيه بعض الأشياء، لم يعد يرتدي النظارات، ونبت أيضا شعر رأسه.

قال والبسمة تملأ شفاهه:

_ لا عليك، نحن لا ننس أفرادنا.. خصوصا الأذكياء والشجعان منهم، وأنت فيك الإثنين.

_ وبعد، يا.. ما اسمك؟

_ مهدي، المهدي اسمي. أما بعد؟  تعلم أنك تواجه جناية محاولة القتل، وفي أضعف الإيمان ستحظى ببضع سنوات سجنا نافذا؛ لكن هذا لن يحصل، فسيتم تغيير الجناية من محاولة القتل، إلى جنحة الاعتداء بالضرب والجرح، وبدلا من بضع سنوات، ستلقى ثلاث أشهر تقريبا. ما رأيك؟

_ لكن، كيف هذا ؟!

_ أنت لا تعرف جواد بعد، المعلم أقصد.. إنه بإمكانه حتى تبرئتك، وتخرج غدا حرا طليقا.. لكن هذا سيثير الشكوك حولك. إنك لا تحتاج أي توصية، لذا حتى نراك قريبا.

غادر بهدوء ينم على هالة المجرمين فوق القانون!.

**

ليلة إقرار الحكم علي.. كنت أنصرف إلى استحضار طفولتي، التي عشتها كما ينبغي وأكثر.. وبعض سنوات دراستي التي خلفت لي (ديبلومين) لا نفع فيهما ولا ضر كجلد الكلاب.. شهادة الإعدادي، وشهادة الفندقة والسياحة بتكوين لعام واحد.. في اﻷخير وجدت نفسي غير نادما على ما وصلت إليه، وما زال الحلم يراودني بأن أكون غير أنا! حلم ركنته اﻵن جانبا بانتظار قضاء ثلاث أشهر، هذا إذا صدق المهدي.

فوجئت باصدار الحكم، بعدما نطق القاضي في حضرة عمر وباحسون؛ وأيضا والد علال: “حكم على المتهم أنور الرازي بالسجن لمدة شهر ونصف، بعدما تبت عليه جرم الاعتداء بالضرب والجرح”.

 صرخ والد علال:  “اللهم إن هذا منكر! لقد أرسل ابني إلى غرفة الإنعاش، هذا أمامكم مجرم يا سيادة القاضي.. أو تنتظرون حتى يقتل بريئا!”

قلت له في خيالي: اللهم إن هذا من وراء “العود” ورجاله. عمر ينظر إلي نظر عدم التصديق! باحسون تنفرج أساريره؛ فقد كانا ينتظران في الأقل الأضرار، حكما يتجاوز العامين، إنما هيهات هيهات، شهر ونصف وها أنا ذا معكم.

انطلقت الخمسة والأربعين يوما التي سأقضيها وراء أسوار سجن فاس.. احترم المنطق نفسه، فكانت زنازين السجن وممراته في حالة من العبث وقلة الإهتمام، إن لم نقل عدمه.. فراش النوم والغطاء مهترئان تفوح منهما رائحة الجرذان. لكنه السجن وماذا كنت أنتظر؟ أيحق لي الترفع عن الأغطية النتنة وأنا الذي كدت أقتل إنسانا؟. لا على اليقين التام. في كل زنزانة ثلاث مساجين، وفي زنزانتي كان أحدهم طاعنا في السن، وآخرين بين الثلاثين والأربعين.. بحضوري كسرت رتابتهم القاتلة، فكلهم مسجونون منذ سنوات، وقد بلغ فيهم الشوق أقصى مداه للتحرر من القيد وإلقاء نظرة عن الذي يجري في الخارج.

جلب لي صديقي عثمان كتبا ومجلات لتمضية الوقت.. اندمجت مع كتاب “كفاحي” لـ أدولف هتلر، لقد زاد من إلهامي هذا الرجل النازي.. فكرت: هكذا يكون الرجال وملاحقة طموحهم، لا البكاء على الأقدار كالعوانس، وانتظار يد غامضة تهبط من السماء وتنتشلهم من مأساتهم. أقسمت لنفسي ولجدران زنزانتي وقضبانها، بأني يوما سأحكم فاس وأكون سيدها. نعم إن هذا الذي يقولون عنه راعي الحمير وعشير المعز، سيقبض على النجوم ليلة دوي الرعد وميض نار!

إقرأ أيضا: بائع الويسكي ( ملك الفودو )ج1

**

يونيو 1996

فاس

انقضت مدة الحكم، وبعث أنور إلى أزقة فاس مرة أخرى.. شهر ونصف جعلني أنزوي إلى نفسي ومعاشرتها أكثر وسبر أغوارها.. خرجت مفعما بجرأة أكبر للمبادرة، وأن أطرق كل الأبواب التي دون أعلاها “خطر!” علني أمتطي المجد يوما، أو أتلاشى في العدم في سبيل ذلك. وجدت عمر في دكانه يبيع المواد الغذائية لسكان حي مولاي عبد الله.

_ ستعمل معي يا أنور، حتى تتعلم مني هذه المهنة، لأجد لك دكانا آخر تعمل فيه بجهدك، بينما رأس مال لصاحبه، وبذلك تتقسمان الأرباح.. هكذا بدأت أنا.

قالها عمر، والمسكين على نيته ظنا بل متوهما بأني سأكتفي ببيع الحليب والخبز والزيت لهذا الشعب المفلس، وأنتظر ربحا يجعلني أعيش مستورا.. أبدا لا يا ابن العم. أضاف:

_ سأعطيك أجر خمسمائة درهم في الشهر. ما رأيك؟

قلت له سرا : بل سأبيع “الحشيش” في دكانك هذا كما فعلت بخضروات باحسون، وأكسب في اليوم الواحد عشر أضعاف هذا الأجر الزهيد. فقلت له جهرا:

_ أنا موافق يا ابن عمي، إنه لأجر مُغري أجده.

لقد شعرت بالتعاطف اتجاه عمر، المسكين يتخذ الدكان مسكنا في الليل، حتى يوفر ثمن الذي سيستأجر به شقة. إنه يفكر بالمستقبل والزواج والأولاد.. هو في فاس منذ أكثر من عشرين سنة، واليوم يطرق أبواب الأربعين ربيعا. يعبد الله كثيرا، ويعاتبني على ترك الصلاة. التقيت مع منصف في مقهى رجينسي؛ وهو يرفض إتمام العمليات في حي مولاي عبد الله.. يقول بأنه يتوجب علي أن أعود إلى بن دباب وبيع الخضروات.. إنها أوامر المعلم، فلا بيع في مولاي عبد الله.

سعاد فتاة تبلغ سبعة عشرة سنة،  من زبائن عمر.. نمت علاقة غربية بيننا، التنمر والمزاح المبتذل.. حتى بدأت العلاقة تميل إلى الحب. لم أحب يوما من غير نفسي وكسب المال.. لكن سعاد توشك أن تغير فيّ بعض المكتسبات. لاحظت أنها تختار ملابسها عندما أكون أنا في الدكان، إنها تبرز أنوثتها لي. دعوتها ذات يوم لنزهة فوافقت، هناك انطلقت علاقة أكثر جدية بيننا، لكني سريع الضجر، الحب في دستوري ليس فقط المحدثات والتعبير عن المشاعر؛ بل يتوجب على المحب تقبيل حبيبته ومص شفاهها، وتحسس ثديها، لا بل تحسس كل جسدها، فما فائدة كثرة الكلام كأننا نخطط لتفجير البانتاغون.. أخبرتها أن علينا أن نعيش الحب لا مجرد كلمات لا تغني شيئا، فوافقت للتو.. كنا ننتظر حتى تظلم فاس لنتبادل العناق والقبلات؛ لكنها تحافظ على عفتها وتخشى عليها؛ تقول إن البكارة للزوج فقط…

إقرأ أيضا: تحت ظلال النسيان

كنت على يقين بأني لن  أصير يوما زوجها، لذا لا داعي لكي تشتري مني وهما. ذات يوم نحس بغيض، بعد زواله، بينما أغلب الناس في موائد الغداء؛ كنت أتحسس ثدي سعاد كالعادة، بينما والدتها تقصد الدكان في غفلة منا.. لم أعرف أي مصيبة قد حلت بي وقد وجدت والدتها أمامي تلهث وترميني بالسلعة، وهي تشتمني وتشتم أهلي وجميع أسلافي. هربت سعاد وتركتني داخل الدكان والسلعة تتساقط على رأسي مثل القذائف.. لقد جنت أمها :

“إنه يتحرش بابنتي، ابن البادية عشير الكلاب الذي أرضعته حمارة!”

 اجتمع الناس حول الدكان بينما والدة سعاد تواصل الصراخ : “أين عمرررر؟ أين عمرررر؟” من بين الجموع الفضوليين عثرت على مسلك ولذت بالفرار تاركا الدكان بلا رقيب، حوله مسرحية رديئة بطلتها والدة سعاد التي مسها الجنون مسا. مسكين عمر لا يدري ماذا ينتظره.. المسكين حقا.

في الليل عدت إلى مولاي عبد الله، وأنا أخطو بثقل وتوجس.. توجهت إلى منزل باحسون لأستفسر كيف انتهت المسرحية. وقد تغاضيت عن مقابلة عمر لشدة خجلي منه. وجدت باحسون يتهيأ للنوم ويسعل على عوائده. حدجني بنظرات زائغة مخيفة ! بادرت إلى الحديث:

_ أقسم لك ياباحسون أني لم أرغمها على فعل شيء معي، كل ما حصل نابع من إرادتها.

_ لقد قالت بأنك تحرشت بها.

_ لكني لم أفعل، هي تكذب، تكذب يا باحسون تكذب!

أشعل سجارة، وصمت لبرهة قبل أن ينفجر سعلا:

_ كح.. كح.. كح.. وهل تظن بأنها ستعترف بالحقيقة حتى تمس كرامتها ؟ ألا تعرف النساء؟ عمر المسكين قبل رأس والدة سعاد حتى تغفر لك.

_ إذن يا باحسون اللعنة على نساء العالم إذا كن مثل سعاد. 

نظرات باحسون تنم على أن الكيل قد طفح مني ومن كل مصائبي التي لم تنته منذ أول خطوة خطوتها في حي الشؤم هذا.. خرجت من منزل باحسون لأصادف ابنه رضوان في الباب وقد تبضع لوالده.. سألني:

_ ما بك يا أنور قلق هكذا ؟

_ لا أعرف بالضبط.. إنما أتركني في حالي يا رضوان أفضل لك ولي.

_ إني أعرف ماذا حصل هذا الزوال.. ألم أقل سلفا بأنك تذكرني بنفسي؟

ثم أخرج من جيبه بطاقة:

_ هذا عنواني إن احتجت لأي مساعدة.

لم أنظر حتى إلى البطاقة ودفنتها في جيبي؛ ثم شكرته وواصلت سبيلي مغادرا حي مولاي عبد الله إلى الأبد.

في آخر خطواتي من حي مولاي عبد الله، لم أستدر برأسي، كأني أُخلف وراء ظهري ماض لا يستحق أن يُنظر إليه من جديد، بعد كل ما قضيته هنا في هذا الجرف المنسي من فاس، وغادرت الليلة مجبرا لا مخيرا؛ فلم يعد عندي وجه لأقابل به الناس، حتى عمر ابن عمي. في الأول كدت أجهز على الروح، ثم تلاها التحرش بابنة الحي، وأنا الغريب.. أقصد عشير المعز كما يلقبني البعض منهم.

هي ليلة صيف والناس يتأخرون في الشوارع..  توجهت صوب منزل عثمان في بن دباب لعله يجد لي مكانا أقضي فيه ليلتي.. العودة إلى بن دباب في هذا الوقت يتخلله خطر كبير، إنه أحقر حي في فاس، حيث الاعتداءات على المارة لأجل السرقة في الليل، فيه لعلك ترضى. زاد شؤم هذا اليوم حين وجدت الصراخ في منزل عثمان، لا شك أن أبواه يتعاركان ويتخاصمان، إنه سحق دركات المجتمع الملعون.. لم أطرق منزله وعدت أدراجي قاصدا شارع الحسن الثاني؛ حيث الفسحات الخضراء يستلقي فيها من لا جدار تحجبهم؛ وأنا الليلة قد صرت منهم.

فاس في الليل مهيبة ومخيفة.. في سبيلي إلى شارع الحسن الثاني؛ يتوجب علي المرور جنب مقبرة المدينة التي تسترها أسوار فاس العتيقة، إنه طريق خطير حتى في أطراف النهار، فما أدراك عند آناء الليل؟ فما عدت أستبق العراك مع أحد، لقد اكتفيت وفاض الخير من كل المعارك التي خذتها منذ اليوم الأول لي في فاس.

مررت جنب أسوار المقبرة؛ تظهر لي عاهرة تضع مسحوقا رديئا على وجهها، وهي تصرف أنظارها يمنة ويسرة تنتظر أي بائس مثلها يدفع له فلسا أو فلسين مقابل لذة عابرة. رأتني أقترب ناحيتها، فصنعت ابتسامة مبتذلة تنوي إغرائي بها: ما يغريني أرفع من مشيتك هاته يا مومسي. كذا قلت في بالي.

_ وبعد يا سمكة أعالي البحار، كم ثمن (…) الجميل؟

_ لن يغلى عليك يا وسيم.

_ ثمنه يا سمكة ؟

_ أراك تستعجل الثمن!

_ لأني لا أُطيق المقدمات.

_ يبدو أن كل شيء فيك سريع!

_ بل أملك سلحفاة عرجاء.

تلوك العلك بصوت مرتفع، ثم قالت بعد برهة تفكير :

 _ حسن.. خمسين درهما.

_ إنه ثمن مناسب. الله يأتيك بزبون يستأجره منك.

_ وأنت يا ألفريدو ؟

_ لا أستحق مثله.

_ ينعل (…) أمك !

_ لو كنتِ رجلا، لجردتك من سروالك.

_ لكنك تستغل وضعي. 

ردها جعلني أشعر بالذنب إزاءها، ما كان علي نسيان همي بها.. سألتها عن اسمها:

_ فتيحة.

_ هل أكلت وجبة العشاء يا فتيحة؟

_ ليس بعد.

_ سأعشيك يا فتيحة بلا مقابل وراء ذلك.. قل لي ماذا تشتهين؟

لم تجب في الحين.. مكثت خرساء تحملق إلي، لعلها تتساءل من أكون؟ ولم سأفعل هذا دون مقابل؟

إقرأ أيضا: أوراق الزمن الأسود

**

عبد الوهاب الدكالي ينادي في المذياع: “مرسول الحب فين مشيتي فين غبتي علينا”. أجلس رفقة فتيحة في مقهى شعبي في الملاح.. بعدما أكلنا وجبة العشاء في مطعم فاخر. كأن بها تحلم وهي معي، لم تأكل يوما ما أكلته الليلة رفقتي، وبدون مبتغى مني.. لا شيء سوى مزاجي أملى علي أن أجعل البسمة في وجهي هذه البائسة، أن أملأ بطنها وأجعلها تعود إلى منزلها وقد شبعت.. كانت تود أن تقص على مسمعي حكاية حياتها، فمنعتها، أعرف ما ستقوله ولا داعي أن تحكي لي.

تركتها تدخن في المقهى ودفعت ثمن المشروبات، وقمت إلى حال سبيلي تاركا عبد الوهاب الدكالي ما زال ينادي بشجون: “غيابك طال هاد المرة، وقلوب لحباب ونتا يا بعيد، ولات صحراء، لا يحركها إحساس جديد ولا تنبت فيها زهراء؛ تفتح بالشذى والطيب، وتونس لي بات غريب، آه بات غريب، تايه فالليل بلا قمرة”.

بل أنا التائه الغريب في الليل وفي بهجة القمر يا الدكالي.

استلقيت في واحة خضراء قرب شارع الحسن الثاني، هنا سأقضي ليلتي، وغدا، الأرجح سأقابل رضوان ابن باحسون، لأرى ما وراء هذا الرجل الغامض، وهل فيه ما يشفع لي. كنت أنظر إلى  النجوم تبرق في عنان السماء، ما أبهاه من مشهد حالم. فكرت: قد أكون في فاس هائما أتقفى السراب. كنت على يقين أني أضحيت علي مرمى صحارى قفر، فهل لي مؤنة لعبورها؟ والوصول إلى أرض لا تعرف خريفا، قطوف أشجارها دانية، ونساءها غيد لم ير لهن في الحسن مثيل. سمعت صوتا هامسا يخاطبني:
“نم، يا أنور في العراء، نم وكفاك أحلاما”. ثم نمت أفترش الأرض وأتغطى بالسماء.


أغسطس 1996

عدت إلى بن دباب لبيع الخضر والفواكه، إنما هذه المرة بعيدا عن باحسون، لقد أخذت استقلالي وصارت السلعة في ملكي.. عمليتان ناجحتان في الطاعون رفقة العود، أذخرتا علي مبلغ عشرة ألاف درهم في آخر شهرين هنا في عقر بؤس المدينة.. لقد أضيحت أستأجر شقة في الملاح، أرى فيها نواة المستقبل القريب، قريب من أي زمن مضى. 

رضوان ابن باحسون، قبل شهرين اقترح علي العمل معه في المطار؛ لكن لم يكن ذلك ممكنا بلا إرشاء أحد الموظفين. فإحدى أكبر شروطهم: شهادة الفندقة والسياحة مقدمة من (ofppt) وأنا لي شهادة الفندقة والسياحة من “التعاون الوطني”. فكان لا بدا من شراء الوظيفة بمبلغ سبعة أﻵف درهم، لكي يتغاضى الموظف الفاسد عن أصل الشهادة.

كان لا مرد لي من دخول مطار فاس سايس، بأي سبيل كان. فقدمت المبلغ المطلوب بعدما جمعه خلال شهرين، وأنا ذا داخل المطار موظفا في عمل تجهيز الأطعمة والمشروبات للطائرات التي تقلع من مطار فاس. إنه عهد جديد وقد قلع.

إقرأ أيضا: ستموت الليلة – قصة قصيرة

لم يكن الأجر الشهري يرضيني رفقة هذه الشركة، فيبدو لي أنها تستغل موظفيها، بينما تغتني وراء أكتافهم. فكرت: هل يحق لي الاعتراض وأنا الموجود هنا بارتشاء؟

**

أيلول 1996

 فاس

رضوان ابن باحسون يدخن كثيرا، عجاجة أدخنة تنفت في فاهه كما لو كان فرن الحي.. يريد أن يقول لي شيئا وما زال يأخذ وقتا.

_ أنا أسمعك.

_ ما سأقوله لك خطير !

_ وأنا أخطر منه.

_ ولهذا أتيت بك إلى هنا.. اسمع يا أنور، أنا أهرّب زجاجات الخمور من المطار وأبيعها لأحدهم.. إنه عمل خطير، وأريدك أن تشتغل معي وستنال الكثير.

هكذا إذن يا باحسون، سليلك مهرب محترم، ولهذا لا تفتخر به، وتخشى علي منه. فكرت: أنا لم آت إلى المطار إلا لغاية في نفسي، وسأقضيها.

_ أنا معك يا رضوان.

_ تبدو واثقا !

قلت له في خيالي: منذ الوهلة الأولى كان حدسي يخبرني أنك تخرق القانون في المطار الدولي للمدينة، وكان إلزاما أن أكشف لعبتك.. حتى أمزج بينك وبين جواد وأجعل منكما شخص واحد، يكون أنا! إذن سأهرب الخمور من المطار وأبيعها لأرقى الحانات في المدينة التابعة لـ جواد، وأعطيك منها الفُتات، بانتظار اليوم الذي سأطفئ فيه عينيك الواسعتين هاتين، ثم أمر إلى بلاط  المعلم!.

_ نعم يا باحسون الصغير، أنا فداء لك.

أشتغل في المطار من الصباح حتى بعد الزوال، ثم أعود إلى بن دباب لبيع الخضر والفواكه.. رضوان يستغرب لماذا متشبث ببيع الخضر والفواكه في الحي الأحقر في فاس؟ لكني تهت به بعيدا عن عمليات الطاعون التي أحرسها هناك، لا البندورة الخضراء يا غافل.. في الشهر الواحد عمليتان ومبلغ عشرة آلاف درهم أقبض عليها، بانتظار أن أرجّ المطار!

التقيت جواد في حانته الفخمة وسط المدينة “حانة موغادور” أخبرته أني سآتي لحانته بزجاجات خمر فخم، لكنها تفتقد إلى الغطاء الأصلي.. لم يكن بمقدوري الكذب عليه، أخبرته بكل شيء، المطار و رضوان و و و. وافق للتو دون تردد:

_ أنت أحد رجالنا الذي نتوسم فيهم خيرا.. تعرف أني لا يحيط بي سوى الأذكياء الشجعان من لا قلب لهم.. وبما أنك أفلحت معنا منذ اللحظة الأولى؛ فسأجزيك وأطلب من المسؤول هنا أن يشتري منك الزجاجات بالثمن الأصلي، لأننا نقدم لأغلب زبائننا القنينات وهي مفتوحة.

فكرت: رضوان في مهب الريح! 

أبدا لم يكن تعامل جواد معي محبة من الله؛ إنه يدري جيدا أني أكبر رويدا رويدا وأكبر، ويراني الشخص المناسب لأركان مملكته.. لم لا، وقد جنى ورائي مبالغ كبيرة في عمليات الطاعون. وكذا عدم اعترافي مرتين أثناء التحقيق؛ فتيقن أني مثل أشجار السنديان التي تموت واقفة.. لكن لم يتخيل البتة أن أنور الذي أتى إليه معصوب العين؛ في ذات يوم سيتبادلان نظرات باسمة، وفي بال كل واحد منهما: كيف يتخلص من الآخر؟! 

إقرأ أيضا: ليلة لا تُنسى

**

هي تلك الشمعة التي تأبى شعلتها الخمود، وإن تراقصت مع ريح شرقي حتى يخيل لي أنها انطفأت فما عاد نصعها ضرام.. ليبعث فيها النور ويعاودني الأمل العنيد، وإن كنت أفترش الرصيف مكوم كحفنة أديم، أكاد أشبه صبي أزيم، لأصير من الذين لن ينالوا من الدنيا نصيب، وما عاد الوهم يغدق عليهم بعض الدفء والتحنان.. إنما، حلم قد تمسكت به بأصابعي، أسناني، فلا ألعن مدينتي التعيسة كما يفعل بؤساء القوم. حلم، لم ألق له سوى سبيل واحد.

**

أغسطس 2005

فاس

_وبعد يا أنور؟

قال صابر ابن خالي، وهو ينظر إلي بوجل، منتظرا أن أقصص عليه ما تبقى.. كنت أدخن بشراهة، لا تفتأ تنطفئ السجارة حتى أوقد دونها.. متوتر، مضجر، لقد استبد بي الخوف كما لم يحدث يوما.. أتيه عن حديثي مع صابر كثيرا، هو مندمج مع سيرتي الذاتية، إلا أن ما عاد لي رغبة بإكمالها.

_ ماذا أصابك يا أنور .. مالك أخرسٌ هكذا؟ قل لي ما مصدر الخمور في المطار؟

_ حسن.. إن في الطائرات توجد الدرجة الأولى، أي تلك التي يركب فيها رجال أعمال والذين يفوح منهم عبق المال.. إن وظيفتي هي تجهيز تلك الدرجة بأجود أنواع الخمور والعصائر قبل إقلاع الطائرة، وبعد عودتها نقوم بتنظيفها، وهنا نجد قنينات خمر نصف أو شبه ممتلئة.. وكنت أهربها بتواطؤ مع عمال آخرين، لكنهم يعتقدون بأني أبيعها بنصف ثمنها، والحقيقة أني أبيعها كما لو كانت غير مستعملة، لحانة جواد.

_ كيف مات رضوان ابن باحسون؟

_ لقد مات جراء حادثة سير، بعدما اصطدمت سيارته مع شاحنة البوتشار (حاملة اﻵليات).

نظرات صابر تتهمني بتصفية رضوان !

_ لا تنظر إلي هكذا يا صابر، أنا لم أدبر موت رضوان.. حقا كنت خططت لتخلص منه، لكن ليس قتله، فلست قاتلا.. ولا تنس، هو كذلك متورط مع عصابات أخرى، والأرجح أنهم قد استنفدوا مبتغاهم منه وجعلوا منه أشلاء في الطريق، لأنه بليد. 

صابر لا تزال نظراته إلي تخبرني بأنه لا يصدقني، كأن عيناه بهما تنطقان: “أنت من قتلته، اعترف.. قتله، لقد قتله، قاتل!”.

_ وعندما مات رضوان أخذت مكانه ؟

_ بلى، وظن معلمه في المطار أني مثل رضوان، لكنه فوجئ أن ورائي عصابة تقتل الأجنة في الأرحام.

_ وماذا عن منصف، كيف أرسلته إلى السجن؟ أليس من المفترض أن يتدخل جواد حتى ينقذه؟!.

_ منصف عزم على قتلي، بعدما كبر شأني عند معلمه جواد، فكان لزاما علي أن أتغدى به قبل أن يتعشى بي.. جواد لم يكن على يقين بأني الفاعل بمنصف إلا بعد فوات الأوان.. ثم لم يُعتق جواد صاحبه القديم غياهب السجن، لأنه ما عاد يصلح له، هكذا تكون القاعدة في أعمالنا، وكذلك ألقي القبض عليه بعيدا عن نفوذه، تحديدا في مدينة سلا بتهمة حيازة كمية كبيرة من مخدر الكوكايين.

**

يناير 1999

فاس

كلما دجن الليل، وطبق الصمت الأرجاء؛ تراني قد صرت كائنا ليليا، أخرج إلى شرفة شقتي في الساعات المتبقية من انفراج الفجر وتنفسه على فاس.. أدخن في هدوء ممزوج بهواء بارد، يجعلني أحسن التفكير جيدا.. أهل المدينة غارقون في قعر النعاس، بينما يخيل لي أني المستيقظ الوحيد في المدينة، لا، بل في المغرب. كنت أدري جيدا أني وفي ظرف ثلاث سنوات قد حققت الكثير من “حلم” لم أنته منه، فمازلت لم أحكم فاس بعد، وإن كان لي فيها اﻵن ما أريد.. مبلغ أربعمائة درهم (أربعون دولار) كان كل ما في جيبي عندما لفظتني حافلة شيباء لأول مرة في فاس.. من ذلك الصباح ذات خريف، إلى هذه الليلة الساكنة، بينهما بضع سنوات تعج بالأخطار، انسللت منها سالما غانما محظوظا..

لقد مررت مرارا على مشارف النهاية ولم أدلف بابها؛ تذكرت قول الشاعر : “لا يمتطي المجد من لم يركب الخطر، ولا ينال العلى من قدم الحذر”.  فحق هذا البيت الشعري، وغدا ترسيخه ومغزاه مرادفا لي، فاليوم في جيبي مليون ونصف درهم، (مائة وخمسون ألف دولار)  جنيتها من بيع الممنوعات، وتهريب الخمور من المطار.. كأن الشيطان كان حليفا لي، وأتت الرياح كما تشتهي شراعاتي، فلا يتبق اليوم سوى اللعبة الأخيرة، تلك التي ستجعل وعدي لصديقي عثمان أمر مسلم به “أن أحكم فاس ويكون لي فيها ما أريد”. 

إقرأ أيضا: أيام بلا ألوان

**

مارس 1999

 
فاس

المغاربة يتحدثون  عن مرض ملكهم.. التلفزيون الرسمي يحاول زرع الطمأنينة في نفوس الشعب: “نزلة برد، فترة النقاهة، إنه يتماثل لشفاء”. يظهر أن المرض قد هوى بقوى الملك، وكأنه يمهله فترة وجيزة لتوديع شعبه العزيز (كما يستهل خطاباته).

جواد متحمس ومتخوف، إنها أكبر عملية نقل الممنوعات من إفريقيا إلى أمريكا اللاتينية، والعملية مرتبطة بحياة الملك.. يستغرب جواد من ذلك، يشرب كثيرا على غير عادته:

_ كيف هذا يا أنور، ما هي صلة حياة الملك بأعمالنا؟!

_ ليس اﻵن.. نلتقي بعد يومين في أزرو (مدينة صغيرة قرب فاس).

تركت جواد في حانته، وقد بدا عليه القلق.. لقد شرب كثيرا الليلة.. هو يدري جيدا أن أي خطأ، قد يهوي بعروشنا معا، ثم حياة الملك غدت في مخططاتي! كأن سحنته تقول “لقد جن هذا الأنور وبجنون العالم!” هكذا حال الدنيا الخسيسة متعددة الوجوه، بالأمس قادني رجاله إليه وأنا معصوب العين؛ واليوم لحقت مقامه وصرنا سيان.. لا، بل إني أهُمُّ لأولي له الأدبار.

باحسون مات منذ سنة.. لقد قتله مرض الرئة، إنه التدخين كما توقعت يوما.. أسفت على موته، ما زلت أحبه كما لو كان أبي.. عمر ابن عمي تعرض للإفلاس ورحل إلى الرباط ليبدأ مشروعا جديدا.. علال الذي كدت أجهز عليه وبسبب ذلك تعرضت لسجن؛ صار اليوم يعمل لمصلحتي، هو وكل ثعالب حي مولاي عبد الله،  لكن جواد ما زال يحكم بن دباب وحي المصلى، وعين قدوس أيضا.. حي واحد مقابل ثلاثة، الغلبة (للمعلم) بلا ريب. في الحقيقة جواد يحكم فاس بمن فيها، إلا أن الأحياء المذكورة استولى عليها بدلا من القانون، بل هو القانون فيها.

**

في فيلا جواد بمدينة أزرو، التقيت معه لوضع التخطيط لنقل الحشيش من مطار فاس إلى مدينة بويبلا في دولة المكسيك.. عملية تحتاج إلى دماغ الفضائيين للوصول بها إلى مرفأ الأمان، كما هو ظاهر لمجرد التفكير في الأمر.

شعرت بجواد قد استولى عليه الخوف لأول مرة بحضوري، يحاول قمعه والتعالي عليه، إنما هيهات هيهات، الخوف قد تمرد عليه وعلى كبريائه.

_ ما دخل حياة الملك يا أنور ؟! هذا مس من الجنون!

_ لأنه لو مات الملك، سيكون هناك ارتباك أمني في الأيام الأولى التي تلي مماته.. إذن علينا الذهاب عند صاحبك في تطوان في أقرب وقت ممكن.

**

أبريل 1999

   
تطوان

مصطفى المريني، كبير تجار الحشيش في نواحي تطوان، يملك منه الهكتارات في قرية كتامة، المعروفة عالميا بزراعة القنب الهندي.. لقد صنع لنفسه امبراطورية وخندق حوله كبار رجال الأمن في الشمال المغربي.. هو صديق جواد، وسبق وأن تعاملا مع بعضهما في نقل الحشيش إلى إسبانيا.. اليوم قد كبر التحدي، وتعملق وبدا من المحال، ولكن.

توجهت لأول مرة إلى تطوان بسيارة خاصة، جواد يلحق بي بسيارة أخرى. لقد هالني مشهد مدينة تطوان وهي تتراءى من بعيد، فكانت سرب مباني بيضاء ينهمر من رأس جبل إلى سحقه. أزقتها لم ير لهم مثيلا، أي نظافة؟ أي هندسة؟ أين فاس من تطوان؟

إقرأ أيضا: حرية لها قضبان «فتاة الملجأ»

في فندق مالغا التقينا أنا وجواد، وقضينا ليلتنا، وفي الغد أخذ كل واحد منا فسحة في تطوان.. لقد شغفتني تطوان اعجابا، فقضيت يومي أتجول في أزقتها، من المدينة القديمة مرورا على رياض العشاق، ثم سانية الرمل، وصولا إلى مرتيل على ضفاف البحر المتوسطي، وجبال الريف هنالك تطل من كل ناحية.. لقد صدقوا، تطوان جميلة تفوق الجمال.

بعد ثلاث أيام في تطوان، توجهنا إلى حي الولاية، أرقى الأحياء في المدينة، ليوقف جواد سيارة قرب فيلا فخمة.

_ إذن هنا يقطن المريني؟

رد جواد بعد برهة:

_ بلى، في هذه الفيلا يوجد واحد من أكبر تجار المخدرات في المغرب، إن لم نقل في إفريقيا.. وعليك أن تعرف أن هذا الرجل قتل أخاه بيده، وقام بتصفية عشرات الأشخاص بينهم رجال الأمن في ثلاثين سنة الأخيرة، إننا تلاميذ في حضوره، فإذا كنا اليوم نحكم فاس؛ فهو يحكم الشمال وجباله، بل إن الأمن يرتعد أمامه.

نظرت في عيني جواد بابتسامة شاحبة زادت من روعه:

_ حتى لو كان يرتعد الجن والإنس أمامه، فنحن لن نفعل.. عليك أن تعرف يا جواد أن زمن هؤلاء العجائز انتهى؛ نحن على مرمى القرن الواحد والعشرين، وهذا زمننا أنا وأنت، أما الوحش القاطن هنا، فبعد اليوم ولّت أيامه إلى غير رجعة.

جواد لا يفتأ يذكرني بالماضي، كأنه يحذرني من التفكير  بالمساس به ضررا.. إنه يعرف طموحي الذي يُخيل له في بعض الأحيان أنه يكون جنونا!

_ أعرف يا جواد أنك كنت أكثر رزانة بحيث انتظرت تسعة سنوات لتنقلب على غول طنجة الذي كنت تعمل لصالحه.. بينما لم أنتظر أنا سوى ثلاث سنوات؛ لأني اجتهدت أكثر.

إنه لا يجعلني أستغرب أنك تعلم أني كنت أعمل لصالحه غول طنجة قبل سنوات، تماما كما أعرف أنك انقلبت على ابن باحسون في المطار وصرت تهرب منه الخمر لوحدك، ثم كمية الكوكايين الكبيرة التي وصلت إلى باريس عن طريق مطار فاس، كان لك في يدك في ذلك، فكان اقلاعا ناجحا، أعترف.

اسمع يا جواد، أنت مازلت ذلك (المعلم) الذي عرفته أول مرة، نعم نعم وأنا معصوب العين كما تقول دائما.. وأنت ما زلت وستبقى أستاذي.

أردفت في نفسي: إلى حين!.

**

أغسطس 2005

فاس

قال صابر ابن خالي بالكثير من الشوق: كيف كانت معالم الصفقة الثلاثية بينك وبين جواد إضافة إلى مصطفى المريني؟

_ هي منقسمة إلى ثلاث؛ السلعة تعود لتاجر المخدرات التطواني.. ثم الذي سيشتري السلعة ويتعرض لها في المكسيك من معارف جواد، وهو تاجر مخدرات كوبي يزور المغرب كثيرا.. ثم يبقى الجزء الأصعب الذي سيكون مهمتي، أي العبور بطن ومائتين كيلو من مخدر الحشيش من مطار فاس وصولا إلى مدينة بويبلا بالمكسيك.

_ هل وافق تاجر المخدرات التطواني على الفور؟

_ نعم، لأن مقابل نجاح العملية مغري جدا، فلم يسبق أن كسب ذلك المبلغ الموعود في عملية واحدة.. لكنه كان مترددا خائفا من الفشل.

_ إذن انتظرتم حتى مات الملك؟ لكن ماذا لو لم يمت في ذلك العام؟

_ كنا سننتظر فلسنا على عجل.. لأن العملية حساسة جدا.. لكن الصحافة تتحدث عن أزمة صحية تتّدهور وأن البلاط للمغربي يجهز لنقل الحكم.

_ ومات.

_ نعم، مات الملك، وانتظرنا كذلك انقضاء فترة الحداد على روحه.

_ ما دخل فترة الحداد؟

_ لأننا سنقوم بموكب عرس مزيف من قرية كتامة حيث تواجد السلعة إلى قصر الحفلات بـ فاس، إن المشوار فيه أكثر من ثلاثمائة كيلو متر.. كل هذا لتمويه الدرك الملكي في الطرقات والأمن الوطني في مداخل المدن.. الموكب يحمل كمية ضخمة من مخدر الحشيش.. لقد أقمنا عرسا شبه حقيقي بحضور العروس وعريسها، وحتى رجلين من العدول لتوثيق زواج وهمي.

إقرأ أيضا: فوق رماد الرّجال

_ وبعد؟

_ اشترطت على شركائي بعدم التدخل فيما تبقى.. هما يظنان أني متواطئ مع بعض عمال المطار، لكنهما يجهلان أن نائب مدير المطار بنفسه على علم بالعملية وهو من سيرخص الهبوط لطائرة الخاصة التي ستأتي من المكسيك إلى مطار فاس لنقل طن ومائتان كيلو من مخدر الحشيش في ثلاث رحلات.. لقد كان كل شيء سلسا.

_ لكن نائب مدير المطار، ألن يطلب بمقابل كبير كونه الشخص الأهم في هذه العملية؟

_ لقد رضي بالمبلغ الذي اقترحته عليه، وهو ليس بالقليل، بل يفوق أجرته السنوية.. ثم وإن كان هو الجزء الأهم من العملية؛ لكنه لا يستطيع أن يملي علي شروط كثيرة، لأنه يخشى العصابة، وهو متزوج وله أولاد.. لكن الطمع جعله أصم ولا يرى.

_ لماذا سكت؟ أكمل.

_لقد تعبت من القص.. غدا.

_سؤالان فقط.

_ لك ذلك.

_ أين جواد اﻵن؟

_ لقد مات، فقد قتله رجال “المريني” رجل المخدرات التطواني.

صابر انفغر فاهه بعد سماع كيف هلك جواد.

_؛لا تخشى علي، إن التطواني لن يقدر على تصفيتي.

_كيف؟ ولمَ أجد في نبرتك كل هذه الثقة؟

_ لأنه ميت اﻵن ! فبعد نجاح أكبر عملية تهريب الحشيش من أفريقيا إلى أمريكا اللاتنية؛ لم يعد الكون بسعته يسعنا نحن الثلاث، فكان لزاما أن يبقى واحد، واحد فقط.. فكان ابن عمتك.

زاد روع صابر وهو يحملق إلي.

_ السؤال الثاني.

_ حم حم.. آ.. نسيت.. أوو تذكرت.. هل أنت سعيد اﻵن؟

سؤاله أثقل لساني، لست أدري بماذا أجيبه بمعية نفسي.. هل أنا سعيد يا ترى؟ إذا كانت السعادة هي راحة البال والطمأنينة؛ فلست سعيدا.

_ هذا السؤال أترك جوابه لك!

_ هكذا لست سعيدا يا ابن عمتي.. أستغرب من هذا ! كيف لك أن لا تسعد وقد صرت مليونيرا؟ لقد ملكت في الدنيا ما تشاء فيها.

_ ربما، لأني ذكي أكثر مما ينبغي ! فلو كنت غبيا قليلا فقط، لكنت سعيدا اﻵن.

_ لم أفهم ؟

_ إذن حق لك السعادة (ضاحكا).

_ تسخر مني يا أنور.. إنما فلتشهد أني سألحقك وأتجاوزك يوما.

_؛حينئذ أتمنى أن تصير سعيدا.. وقبل أن أتركك، عليك معرفة أني لا أدري حقا لم أقصص عليك أسراري، ربما لأرتاح قليلا، لأني أشعر بوهن شديد من كل الأخطار الذي ركبتها وأحتاج من يسمعني وكذا أرى فيك نفسي، رغم أني على علم أنه ما كان عليّ اطلاعك على كل هذا الذي سمعته.. وبما أنك تعلمه الآن؛ فضع في بالك من أكون، ومن أي عجينة خُبزت. 

تركت صابر ابن خالي رفقة شقراء جميلة في منزلي ليتسلى بها قليلا، وخرجت إلى الشارع لأستنشق هواء آخر الليل.. إنه محظوظ، بل محظوظ جدا، فقد وجد من سيستند إليه في فاس، إنه ابن عمته: أنا. بينما لم ألق في اليوم الأول لي في فاس سوى البؤس والعراك مع أبناء العاهرات، كذلك العجوز باحسون وأراجيفه.. آه يا باحسون وخضرواتك، وأعقاب سجائرك، سعالك، طاجينك، نظراتك الزائغة.. فليرحمك الله.

أعود لأمشي في شارع الحسن الثاني قاصدا حي مولاي عبد الله، كما حدث في صباح الأول لي في هذه المدينة. الليلة أنا أستعيد الذكريات وماض مضى وخلف حلم اكتسى الحقيقة.. أخطو حتى وصلت إلى الملاح، حيث  تضيق الأزقة.. لا أحد هنا، الملاح نائم ما عاد كلب هنا وهنالك يرفع ذيله باحثا عن مخدع يأويه. زمان بيني وبين المدينة القديمة وإن كان رجالي يبسطون نفوذي فيها.. لم تتغير البتة، إن الزمان جامد هنا، ساكن لا يتجاوز عتبته. ثم أضحيت إلى باب عملاق كتب أعلاه، “باب مولاي عبد الله” في هذا الركن انطلق كل شيء.. فجأة ظهر لي شابان رفقة فتاة حسناء، أكتافهما فيها ندوب تُعرف بالإدمان والخطر.. قصدوني حتى صرنا متقابلين.. قال أطولهما:

_؛ماذا يفعل الوسيم في الأزقة هذا الوقت؟

ضحك اﻵخر قائلا :

_ لا شك أنه عاشق تعيس هجرته حبيبته، فخرج ليلا للبكاء عليها.

فضحكت رفيقتهما.

_ اسمعا يا هذين الجروين، كلمة أخرى منكما؛ سأعريكم جميعا.

رد الطويل ساخرا :

_ هل تظن نفسك أنور الرازي يا ابن العاهرة؟!

_ لا أظن نفسي، لأني الرازي نفسه أيها الشاذ.

فأخرج سكينا عملاقا يبرق فيه ضياء القمر.. من أين أخرجه؟ لا أدري! كأنه انسله من لحمه.. ربما.

_ تنعتني بالشاذ يا من يتوهم نفسه أنور الرازي! بل أنت أنور ابن العاهرة، والليلة سألحقك بالمقبرة.

هو صادق في تهديده، هم سيقتلونني كما لو كنت حشرة، كأني لا شيء! إنه قعر فاس حيث لا قانون ولا إنسان..  تذكرت كل معاركي في فاس، لقد مر زمن طويل لم أتعارك فيه.. ثم أشهرت مسدسا في وجوههم، فخروا أمامي كالكلاب المريضة:

_ تهددني أيها الشاذ بهذا السكين الصدئ! أمثالكم أتبول على أمهاتهم وهم شهود. أتعرفون اﻵن من أكون؟

بصقت عليهم وقمت لسبيلي باتجاه ساحة بوجلود تاركا خلفي حي مولاي عبدالله..  وصلت إلى ساحة بوجلود لأتنزه فيها وحيدا، بينما القمر في عنان السماء يؤنسني ويشاركني الذكريات التائهة التي تشبحت في هذه الأرجاء.. ثم اتجهت نحو حديقة جنان السبيل المجاورة.. جلست وسط الحديقة، ثم تذكرت كم مرة قضيت ليلتي هنا أفترش الأرض وأحجب بالسماء، في الوقت الذي يلعب فيه صابر ابن خالي اﻵن مع الشقراء، ألم أقل لكم إنه محظوظ؟.

إقرأ أيضا: مذكرات عاهرة

***

 لقد كان لي حلما أتى من منبع الحرمان والعدم، حلم يراود ليلاي ويناجي عتمتها، ويرى في ضياء شموعها حياة ومستقبل؛ أن أصير غير ما تبتغي لي الحياة،  فلا أدفن أحلامي مع كل يقظة صباح. ما أنا إلا ابن أمة منسية منفية في جرف هار تطوقه جبال الأطلس الصلداء، فكنت كالمحارب الذي يهرع إلى حرب وهو مجرد من سلاح، أعزل كنت ما عدا طموح لن تقدر عليه الجبال، جبال عزمت أن أحفرها بأظافري وأسناني. لم أتعلم الندم على ما فات من عمري، ولست أقيم ترانيم الوداع على من رحل من حياتي.. وما آليت إليه سوى ما جنى المجتمع على نفسه، وإذا أضحيت اليوم أفتح ذراعي كصليب على  الحرام واللاقانون؛ فلا الذنب ذنبي، بل للذين أرادوا مني، أن أكون شيطانا لأتعايش في دنياهم، أن أكون غير أنا.

***

جريدة العلَم عدد 2006/5/28

( فاس تتخلص من مُجرمها )

تمكنت الفرقة الوطنية لمراقبة التراب الوطني من إيقاف المدعو أنور الرازي زعيم عصابة راقية تتاجر في الممنوعات والأسلحة، وهو العقل المدبر لأكبر عملية نقل الحشيش من إفريقيا إلى أمريكا الجنوبية أواخر التسعينات.. وتهم ثقيلة بانتظار أنور البالغ من العمر ثلاثين عامًا، والذي راكم ثروة كبيرة في تبييض الأموال، من بينها التجارة الدولية بالممنوعات وتهريب الأسلحة والتصفية الجسدية. سقوط زعيم العصابة التي روعت فاس لسنوات يجر التحقيق إلى شخصيات مرموقة في المدينة، من بينهم مسؤولون في مطار فاس سايس الدولي.

**

نُشرت لأول مرة عام 2019 في مدونة الكاتب.

guest
25 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى