أدب الرعب والعام

أسافو

بقلم : محمد بن صالح – المغرب
للتواصل : [email protected]

كنت واثقاً من نفسي ، فإبن الأرملة جعل من السدة أمراً لا مرد له

"ﺃﺳﺎﻓﻮ " ﻫﺬﺍ ﻫﻮ ﺇﺳﻤﻲ ﻭﺃﻧﺎ سليل ﻗﺒﻴﻠﺔ "ﺑﺎﻧﻮﻥ " ﻟﺴﺖ ﻣﻦ ﺃﻫﻞ ﺍﻷﻛﺎﺑﺮ ﻭﻻ ﺍﻷﺳﻴﺎﺩ ، ﺇﺑﻦ ﺃﺭﻣﻠﺔ ﻣﺎﺕ ﺃﺑﻮﻩ ﻗﺒﻞ أن ﺗﺒﺼﺮ ﻋﻴﻨﻪ ﺍﻟﻨﻮﺭ . ﺷﺎﺏ ﻃﺎﻟﺐ ﻓﻲ ﻗﺼﺮ ﺍﻟﻌﻠﻮﻡ ﻓﻲ ﻗﺒﻴﻠﺘﻨﺎ ، ﻫﻨﺎ ﺧﺮﺝ ﻛﺒﺎﺭ ﺍﻷﻃﺒﺎﺀ ﻭ ﻭﺿﻌﻮا ﺍﻟﺤﺪ ﻷﻋﺘﺪ ﺍﻷﻭﺑﺎﺀ ، ﻭﻫﻨﺎ ﻳﻨﺒﻊ ﺍﻟﻌﻠﻢ ﻟﻴﺴﻘﻲ ﻛﻞ ﺍﻟﺒﻘﺎﻉ ..

ﻓﻲ ﻛﻞ ﻣﺮﺓ ﺗﺮﻣﺶ ﻓﻴﻬﺎ ﺍﻟﺸﻤﺲ ﻟﺘﺮﻣﻲ ﺑﺨﻴﻮﻃﻬﺎ ﺍﻟﺬﻫﺒﻴﺔ ﻋﻠﻰ ﻗﺒﻴﻠﺔ ﺑﺎﻧﻮﻥ " ﻟﺘﻌﻠﻦ ﻣﻬﺪ ﻳﻮﻡ ﺟﺪيد , ﻛﻨﺖ ﺃقصد بخطواتي ﻗﺼﺮ ﺍﻟﻌﻠﻮﻡ ﺣﺎﻣﻼً ﺣﻠﻤﻲ ﺃﻥ ﺃﺻﺒﺢ ﻓﻲ ذات يوم ﺣﺎﻛﻤﺎً ﻟﻠﻘﺒﻴﻠﺔ ، فاﺧﺘﻴﺎﺭ ﺍﻟﺤﺎﻛﻢ ﻓﻲ ﺃﻋﺮﺍﻓﻨﺎ ﻳﺄﺗﻲ ﻣﻦ ﻗﺼﺮ ﺍﻟﻌﻠﻮﻡ ﺣﻴﺚ ﻳﺨﺘﺎﺭ ﻣﺠﻠﺲ ﺍﻟﺸﻴﻮﺥ ﻃﺎﻟﺒﺎً ﻣﺘﻮﻓﻖ ﻫﻨﺎﻙ ﻟﻴﻀﻊ إكليل الحكمة ﻋﻠﻰ ﺭﺃﺳﻪ ﻭﻳﺮﺙ ﺍﻟﺤﺎﻛﻢ ﺍﻟﻤﻴﺖ ﺃﻭ ﺍﻟﺬﻱ ﻻ ﻳﺴﺘﻄﻴﻊ ﻣﻮﺍﺻﻠﺔ ﻣﻘﺎﻣﻪ ، وبذلك يصبح حاكماً للقبيلة يستشار في كل شيء نظراً لعلمه ومعرفته . 

ﻭﻛﺎﻥ لابد ﻟﻲ ﺃﻥ ﺃﺟﺘﻬﺪ ﻷﺻﻞ ﺇﻟﻰ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺸﺮﻑ ﺍﻟﻌﻈﻴﻢ ، ﻭﺃﻋﻮﺽ ﻋﻠﻰ ﺃﻣﻲ عمر ﺍﻟﺸﻘﺎﺀ ، ﻓﺄﻧﺎ الآﻥ ﺷﺎﺏ اﺷﺘﺪ ﻋﻮﺩﻩ ﻭﺃﺷﻄﺮ ﻃﻼﺏ ﻗﺼﺮ ﺍﻟﻌﻠﻮﻡ ، ﻭﺃوﺗﻴﺖ ﻣﻦ ﺍﻟﺤﺴﻦ ﻭﺍﻟﺠﻤﺎﻝ ﻭﺍﻟﻔﻄﻨﺔ ﻣﺎﻟﻢ يؤتى ﻏﻴﺮﻱ ، ﻭﺑﺬﻟﻚ ﺳﺤﺮﺕ ﻗﻠﻮﺏ ﺍﻟﻘﺒﻴﻠﺔ ﻭﺯﺭﻋﺖ ﺍﻟﺤﻘﺪ ﻓﻲ ﻧﻔﻮﺱ ﺃﺧﺮﻯ ،فهناﻙ ﻣﻦ ﻳﺮﺍﻧﻲ ﺷﺎﺏ ﺧﻠﻮﻕ متفوق ﻋﻠﻰ ﺃﻗﺮﺍﻧﻪ ﻳﺴﺘﺤﻖ ﺃﻥ ﻳﻮﺿﻊ إكليل الحكمة ﻋﻠﻰ ﺭﺃﺳﻪ ﻓﻲ قادم الأيام ، ﻭآﺧﺮﻭﻥ ﻳﻨﻈﺮﻭﻥ ﺇﻟﻲ ﻛﺈﺑﻦ ﺃﺭﻣﻠﺔ ماكر ﻳﻨﺎﻃﺢ ﺍﻷﺳﻴﺎﺩ ، ﻭﻳﺒﺤﺚ ﻋﻦ ﺍﻟﺴﺪﺓ ﻭﻫﻮ ﻟﻴﺲ ﻣﻦ ﺍﻷﻛﺎﺑﺮ .

ﻭ ﻭﺳﻂ ﻫﺬﺍ الاﻧﻘﺴﺎﻡ فقد عزمت أن ﺃﻭﺣﺪ ﺍﻟﺼﻔﻮﻑ ﻟﻴﻜﻮﻥ السبيل ﻋﺎﺑﺮﺍً ﺇﻟﻰ ﻋﺮﺵ ﺍﻟﻘﺒﻴﻠﺔ ﺭﻏﻢ ﻋﺴﺮﻩ ﺍﻟﺸﺪﻳﺪ ، ﻓﻠﺴﺖ ﺍﻟﻮﺣﻴﺪ ﺍﻟﺬﻱ يغازل ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺸﺮﻑ ، ﻓﻜﻞ ﺷﺒﺎﺏ ﺍﻟﻘﺒﻴﻠﺔ ﻳﺤﻠﻤﻮﻥ ﺑﻪ ﻟﻴل ﻧﻬﺎﺭ ﻭﻣﻦ ﺑﻴﻨﻬﻢ ﺇﺗﺮﻱ " نجل ﺃﺣﺪ ﻛﺒﺎﺭ ﺍﻟﻘﻮﻡ ﻭﺃﻛﺒﺮ ﺃﻋﺪﺍﺋﻲ الذي لم أتفق معه ﻳﻮﻣﺎً ، ﻛﻨﺎ ﺩﺍﺋﻤﺎً ﻧﺘﺸﺎﺟﺮ ﻓﻲ ﺍﻟﺴﺮ ﻭﺍﻟﻌﻠﻦ ﻭﻧﺪﺑﺮ ﻷﻧﻔﺴﻨﺎ ﺍﻟﻤﻜﺎﺋﺪ ﻣﻨﺬ ﺍﻟﺼﻐﺮ .
ﻭاﺯﺩﺍﺩ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺤﻘﺪ ﻓﻲ ﻧﻔﻮﺳﻨﺎ ﺑﻌﺪما ﺃﺻﺒﺢ ﺍﻟﺤﺎﻛﻢ طرﻳﺢ ﺍﻟﻔﺮﺍﺵ ، ﻭﺃﺻﺒﺤﻨﺎ ننتظر ﻣﻮﺗﻪ ﺣﺘﻰ ﻧﻘﺒﺾ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺴﺪﺓ . 

ﻭﻓﻲ ﺗﻠﻚ ﺍﻻﻳﺎﻡ ﻇﻬﺮ ﻭﺑﺎﺀ ﻓﻲ ﻗﺒﻴﻠﺘﻨﺎ ﻳﻔﺘﺮﺱ ﺍﻷﺭﻭﺍﺡ ﻭﻟﻢ ﺗﺴﻠﻢ ﻣﻨﻪ ﺣﺘﻰ ﺍﻟﺒﻬﺎﺋﻢ وكانت جهود الأطباء ترحل مع السراب بينما يواصل الوباء في نخر الأجساد ، ﻭﺑﻌﺪ ﻣﺮﻭﺭ ﺍﻟﺸﻬﻮﺭ ﺇﺯﺩﺍﺩ ﺍﻟﻮﺑﺎﺀ ﻓﺘﻜﺎً ، ﺣﺘﻰ ﺩﻕ ﺑﺎﺏ ﻣﻨﺰﻟﻨﺎ لينقض على ﺟﺴﺪ ﺃﻣﻲ ، ليرد ﻣﻦ ﻧﻬﺎﺭﻱ ﻟﻴﻼً ﺣﺎﻟﻜﺎً .. ﻛﻨﺖ أقضي سحابة أيامي بحثاً في الدواء لداء أمي وتجاهلت السدة والإكليل .
ﻛﺎﻧﺖ ﺗﺼﺎﺭﻉ ﺍلمرض ﺃﻣﺎم ﻋﻴﻨﻲ ﻭﻛﻨﺖ ﺃﺗﺄﻟﻢ ﺃﻛﺜﺮ ﻣﻨﻬﺎ ﻭﺃﻟﻌﻦ ﺍﻟﻮﺑﺎﺀ ﻓﻲ نفسي ، ﻛﻴﻒ ﻟﻢ تقصد قصور ﺍﻷﺳﻴﺎﺩ ﻭﺍﻷﻛﺎﺑﺮ ، أﻟﻢ ﺗﺠﺪ ﻏﻴﺮ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺠﺴﺪ ﺍﻟﺬﻱ ﻻ ﺃﻣﺘﻠﻚ ﻏﻴﺮﻩ ﻟﺘﻔﻜﺖ ﺑﻪ …

ﻭذاﺕ ﻣﺴﺎﺀ ﻭﺑﻴﻨﻤﺎ ﺍﻟﻨﻮﻡ ﻳﻀﺎﺟﻊ ﺟﻔﻮﻧﻲ ﻣﺰﻗﻪ ﺻﻮﺕ ﺃﻣﻲ ﺍﻟﻤﻨﺎﺩﻱ ﻭاﻧﺘﻔﻀﺖ ﻣﻦ ﻣﻜﺎﻧﻲ ﻷﺟﺪ ﺍﻟﺴﺎعات ﺗﺪﻕ انتصاف ﺍﻟﻠﻴﻞ ، ﻭﺻﻮﺕ ﺃﻣﻲ ﻳﺨﺮﺝ مبحوحاً ﻣﻦ ﺷﺪﺓ ﺍلاﺧﺘﺘﺎﻕ : ﺃﺳﺎﻓﻮ " ﺃﺳﺎﻓﻮ " ﺗﻌﺎل ﻳﺎ ﺇﺑﻨﻲ ..
ﻭﺗﻮﺟﻬﺖ ﺳﺮﻳﻌﺎً ﻟﻐﺮفة ﺃﻣﻲ ﻷﺟﺪ ﺍﻟﻤﻮﺕ ﻳﻠﺘﻒ ﺑﺠﺴﺪﻫﺎ ، ﻭﻗﻠﺖ ﻓﻲ ﺭﻋﺸﺘﻲ ﻭﺃﻧﺎ ﻣﺒﻬﻮﺭ ﺍﻷﻧﻔﺎﺱ : ﻣﺎﺑﻚ ﻳﺎ ﺃﻣﻲ !
ﺭﺩﺕ عليَّ ﺑﺼﻮﺕ ﻣﺘﻘﻄﻊ : ﺇﺑﻨﻲ ﺃﺳﺎﻓﻮ ﺃﻧﺎ ﺳﺄﻟﺤﻖ ﺑﺄﺑﻴﻚ ﺍلآﻥ ، ﻭﺃﺭﺟﻮﻙ اﻫﺘﻢ ﺑﻨﻔﺴﻚ ﺟﻴﺪﺍً ﻭﻻ ﺗﻨﺴﻰ ﺃﻥ ﺗﻮﺍﺻﻞ ﺣﻠﻤﻚ ، ﻓﺄنا ﺃﺭﺍﻙ ﺣﺎﻛﻤﺎً ﻟﻠﻘﺒﻴﻠﺔ " ﺑﺎﻧﻮﻥ " ﻓﻲ ﻳﻮﻡ ﻣﻦ ﺍﻷﻳﺎﻡ .. ﺇﺑﻨﻲ ﺃﺳﺎﻓﻮ " ﻻ ﺗﺤﺰﻥ عليَّ ﻛﺜﻴﺮﺍً ﺃﺭﺟﻮﻙ ، فأﻧﺖ ﺷﺎﺏ ﻗﻮﻱ ، ﻭﺩﺍﻋﺎً ﻳﺎ ولدي .

ﻭﺻﺮﺧﺖ ﺑﻜﻞ ﻣﺎ ﺃوﺗﻴﺖ حنجرتي ﻣﻦ ﻗﻮة " ﺃﻣﻲ ! ﻟﻢ ﺗﺮﺩ ﻋﻠﻲ ، ﻭﻋﻨﺪﻫﺎ ﺗﻴﻘﻨﺖ ﺃﻧﻨﻲ ﻓﻘﺪﺕ ﺃﻏﻠﻰ ﻣﺎ ﺃﻣﻠﻚ ﻓﻲ ﺍﻟﻮﺟﻮﺩ ، ﻓﻘﺪ ﺭﺣﻞ ﻣﻼﻙ ﻛﺎﻥ ﻓﻴﻪ ﻛﻞ ﺃﺳﺮﺗﻲ ، ﻓﻠﻢ ﺃﺭَ ﺃﺑﻲ ﻭﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻟﻲ ﺇﺧﻮﺓ ﻭﻻ أﻗﺎﺭﺏ ، ﻭﻭﺟﺪﺕ اﻣﺮﺃﺓ أتقنت ﻛﻞ ﺍﻷﺩﻭﺍﺭ ، ﻭﺃﻧﺎ ﺍلآﻥ ﺃﻋﺎﻧﻖ ﺟﺴﺪﻫﺎ ﺍﻟﺒﺎﺭﺩ ﻭﺩﻣﻮﻋﻲ ﺗﺴﻘﻲ جسدها ﺍﻟﻄﺎﻫﺮ ، ﻟﻘﺪ اﻧﻘﺴﻢ ﻇﻬﺮﻱ ﻭﺑﺘﺮ ﺳﻴﻒ ﺍﻟﻔﺮﺍﻕ ﻗﻠﺒﻲ ، ﻟﻘﺪ ﻣﺎﺗﺖ ﺃﻣﻲ …

ﻭﻣﺮﺕ ﺍﻷﻳﺎﻡ ﻭمازال ألم الوداع الأبدي يعصر وجداني ، ﻓﻘﺪ ﺭﺣﻠﺖ ﺗﻠﻚ ﺍﻷﺭﻣﻠﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﻃﺎﻟﻤﺎ ﻟﻘﺒﻮﻧﻲ ﺑﺈﺑﻨﻬﺎ ، ﻟﻜﻨﻨﻲ ﻟﻦ ﺃﺑﻜﻲ طويلاً ﻛﻄﻔﻠﺔ ﺻﻐﻴﺮﺓ ﺑﻴﻦ ﺍﻟﺠﺪﺭﺍﻥ ، ﻓﺎﻟﺤﺪﺍﺩ ﻳﻘﺘﺮﺏ ﻣﻦ ﺍﻟﻨﻬﺎﻳﺔ ﻭﺳﺄﻋﻮﺩ ﻷﺣﻤﻞ ﺍﻟﺮﻣﺢ ﻭﺍﻟﺪﺭﻉ ﻓﻲ ﻭﺟﻪ ﻛﻞ ﺍلأﻋﺪﺍﺀ ، ﻭﺳﺄﻋﻮﺩ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻮﻋﺪ ﺍﻟﺬﻱ ﺍﻟﺬﻱ ﻭﻋﺪﺕ ﺑﻪ ﻧﻔﺴﻲ ﻭﺃﻧﺎ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﻬﺪ ،
لن يصل أي شاب غيري إلى سدة الحكم وخصوصاً إتري " منهم .

***

بعد رحيل ﺃﻣﻲ ﻛﺎﻧﺖ ﺃﻭلى ﻣﻌﺎﺭﻛﻲ ﻣﻊ ﺍﻟﻮﺑﺎﺀ ، ﻓﻘﺪ ﻋﺰﻣﺖ ﺃﻥ ﺃﻓﺘﻚ ﺑﻪ ﻛﻤﺎ ﻓﺘﻚ بغاليتي ، ﻭﺑﺪﺃﺕ ﺃﺑﺤﺚ ﻋﻦ ﺍﻷﻋﺸﺎﺏ ﻭﺃﺻﻨﻊ ﻣﻨﻬﺎ ﺃﺩﻭﻳﺔ ﺑﻌﺪ ﺃﺧﺮﻯ ، ﻭﻛﺎﻧﺖ "ﺗﻠﻴﻠﺔ " ﺑﻨﺖ ﺍﻟﻌﺸﺎﺏ ﺭﻓﻴﻘﺘﻲ ﻓﻲ ﺩﺭﺏ ﺍﻟﺼﺮﺍﻉ ، ﻛﺎﻧﺖ تأتني بكل ﺃﻧﻮﻉ ﺍﻷﻋﺸﺎﺏ ، ﻭﻛﻨﺖ ﺃﺳﻬﺮ ﺣﺘﻰ ﺍﻟﺼﺒﺎﺡ ، ﺣﺘﻰ ﻭﺻﻠﺖ ﺇﻟﻰ ﺗﺮﻳﺎﻕ ﻳﻄﺮﺩ ﺍﻟﻮﺑﺎﺀ ﻣﻦ ﺍﻟﺒﻬﺎﺋﻢ ، ﻭﻟﻢ يبقَ ﻟﻲ ﺳﻮﻯ ﺃﻥ ﺃﺟﺮﺑﻪ ﻓﻲ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ .
ﻭﺗﻮﺟﻬﺖ ﺇﻟﻰ ﻗﺼﺮ ﺍﻟﻌﻠﻮﻡ ﻟﻌﺮﺽ ﺩﻭﺍﺋﻲ ﺃﻣﺎﻡ ﺍﻟﺠﻤﻴﻊ ، ﻭﻣﻦ ﺑﻴﻨﻬﻢ ﻛﺎﻥ ﻋﺪﻭﻱ اﻷزلي "ﺇﺗﺮﻱ "
وﺑﻌﺪ ﻋﺮﺽ ﺍﻟﺘﺮﻳﺎﻕ ﺗﺤﻤﺲ ﺃﻫﻞ ﺍﻟﻘﺒﻴﻠﺔ لاﺳﺘﻌﻤﺎﻟﻪ ﻭﺳﻂ معارضة " ﺇﺗﺮﻱ " ﻟﻠﻔﻜﺮﺓ ، ﻭﻓﻲ ﺍﻷﺧﻴﺮ ﻧﺠﺢ ﺍﻟﺪﻭﺍﺀ ﻭﺗﻐﻠﺒﺖ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻮﺑﺎﺀ
ﻛﻢ ﻛﻨﺖ ﺳﻌﻴﺪﺍً ﻟﻨﺠﺎﺡ ﺍﻟﺘﺮﻳﺎﻕ ﻟﻜﻦ ﺳﻌﺎﺩﺗﻲ ﻳﻘﺎﻃﻌﻬﺎ ﺫﻛﺮﻯ ﺃﻣﻲ : ﺃﻩ ﻳﺎ ﺃمي ، ﻟﻤﺎﺫﺍ ﻟﻢ ﺃﺻﻞ ﺇﻟﻰ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺘﺮﻳﺎﻕ ﻭﺃﻧﺖ ﻣﺎﺯﻟﺖ ﺣﻴﺔ ..

ﻭﺃﺻﺒﺢ ﻟﻲ "ﺃﺳﺎﻓﻮ " ﻣﻜﺎﻧﺔ ﺧﺎﺻﺔ ﻓﻲ ﺍﻟﻘﺒﻴﻠﺔ . ﻭأنا أنتظر ﻣﺘﻰ ﻳﻠﺤﻖ ﺍﻟﺤﺎﻛﻢ ﺑﺄﻣﻲ ﺣﺘﻰ يوضع ﺇﻛﻠﻴﻞ ﺍﻟﺤﻜﻤﺔ ﻋﻠﻰ ﺭﺃﺳﻲ ، وأﺻﺒﺢ ﺍﻟﻄﺮﻳﻖ معبداً أمامي ، ﻓﺸﻬﺮﺗﻲ تجاﻮﺯﺕ ﺍﻟﻘﺒﻴﻠﺔ ﻭﺃﺻﺒﺢ ﺩﻭﺍﺋﻲ ﻳﻨﺘﺸﺮ ﻓﻲ ﻛﻞ ﺍﻟﺒﻘﺎﻉ .

ﻭﻓﻲ ﺃﺣﺪ ﺍﻷﻳﺎﻡ اﺯﺩﺍﺩ ﺍﻟﻤﺮﺽ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺤﺎﻛﻢ ﻭاﺟﺘﻤﻊ ﺃﻫﻞ ﺍﻟﻘﺒﻴﻠﺔ ﻓﻲ ﻣﻨﺰﻟﻪ ، ﻭﻭقفنا ﺟﻤﻴﻌﺎً ﻧﺤﻦ ﻃﻼﺏ ﻗﺼﺮ ﺍﻟﻌﻠﻮﻡ ﻭﺍﻟﻤﻌلم ﺟﻨﺐ ﻓﺮﺍﺵ ﺍﻟﺤﺎﻛﻢ . ﻛﺎﻥ ﻳﻠﻔﻆ ﺃﻧﻔﺎﺳﻪ ﺍﻷﺧﻴﺮﺓ ﻟﻜﻦ ﻗﺒﻞ ﺃﻥ ﻳﻤﻮﺕ ﺃلقى ﻋﻠﻴﻨﺎ ﻭﺻﻴﺘﻪ :
ﺃﻧﺎ ﺳﺄﻣﻮﺕ ﻣﺮﺗﺎحاً ﻷﻧﻨﻲ ﺳﺄﺗﺮﻙ ﺣﻜﻤﺎﺀ ﻣﻦ ﺑﻌﺪﻱ ، ﻭﺃﻧﺎ ﺃﻗﺘﺮﺡ ﺃﻥ يوضع ﺇﻛﻠﻴﻞ ﺍﻟﺤﻜﻤﺔ ﻋﻠﻰ ﺭﺃﺱ ﺃﺳﺎﻓﻮ ..
ﻓﻲ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﻠﺤﻈﺔ ﻧﻈﺮﺕ ﺇﻟﻰ "ﺇﺗﺮﻱ " باﺑﺘﺴﺎﻣﺔ ماكرﺓ ﺗﻘﻮﻝ ﻓﻲ ﻭﺣﻴﻬﺎ : ﺳﺄﺻﺒﺢ ﺍﻟﺤﺎﻛﻢ ﻭﺳﺘﺮﻛﻊ ﺃﻣﺎﻣﻲ ﻳﺎ ﻭﻏﺪ .
ﻟﻜﻦ "ﺇﺗﺮﻱ " ﻋﺎﺭﺽ ﺍﻟﻔﻜﺮﺓ ﻛﻌﺎﺩﺗﻪ ﻭﺻﺮﺥ ﻓﻲ ﻭﺟﻪ ﺍﻟﺤﺎﻛﻢ ﺍلمحتضر ﻟﻴﻌﺠﻞ ﺑﻤﻮﺗﻪ : ﻣﺎ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺬﻱ ﺃﺳﻤﻌﻪ ﻳﺎ ﻗﻮﻡ ، ﻛﻴﻒ لإﺑﻦ ﺍﻷﺭﻣﻠﺔ ﺃﻥ ﻳﺼﺒﺢ ﺍﻟﺤﺎﻛﻢ ﻭﻫﻮ ﻟﻴﺲ ﻣﻦ ﺍﻷﺳﻴﺎﺩ ! ﻫﺬﺍ ﺿﺮﺏ لأعراﻓﻨﺎ .

وإبن الأرملة هذا لم يسرها في نفسه، ﻭأبديتها ﻟﻪ ﻗﺒﻞ ﺃﻥ ﻳﺼﻤﺖ :
ماذا صنعت أنت حتى تنتظر أن يوضع إكليل الحكمة على رأسك ، فلم أرى في حياتي حاكماً لا يفقه حتى في أسماء الأعشاب ! .

وفي هذه اللحظة تدخل المعلم بيننا لأحتواء الوضع ؛ في وقت كان فيه الحاكم جسداً بلا روح .

***

رحل الحاكم أخيراً وترك العرش فارغاً ، تصطاده أعين شباب القبيلة ، لكنني كنت واثقاً من نفسي ، فإبن الأرملة جعل من السدة أمراً لا مرد له .
بعد موت الحاكم كان علي الإنتظار حتى مرور الحداد الذي يستمر ستة أشهر قبل أن يجتمع مجلس الشيوخ ليحسم في أمر الحاكم الجديد ، وفي تلك الفترة كان "إتري " يلعب أخر ألعابه ليعثر بخطواتي المتجهة نحوى العرش ، لكنني لم أبالِ به كثيرا ، فقد كنت على ثقة أن وصية الحاكم الراحل لن تسقط على الأرض ، ومسألة حكمي مجرد وقت لا أكثر 

في هذه الأثناء سقطت "تليلة " بنت العشاب في غرام إبن الأملة ، كانت تحاول التقرب إلي بكل الطرق المسموحة والمحظورة ، حتى وصلت بها الجرأة إلى الاعتراف بمشاعرها تجاهي ، وفي تلك اللحظة كان لابد لمكر أسافو " بالظهور ، وأعطيتها الوعد بالزواج قبل أن أصعد إلى عرش القبيلة ، فالحاكم لابد له أن يكون متزوجاً ،ولهذا سقطت بنت العشاب سريعاً متهاوية في أحضاني .

ولم يمر وقت طويل حتى قصت عليَّ خبر حملها مني ، وهي سعيدة بذلك ظناً منها أنني سأستعجل الزواج منها ، لكن غير ذلك حصل ، فقد أخبرتها أنني لست مستعداً بعد بأن أكون الأب ويتوجب عليها إجهاض حملها ، لكنها تعنتت وأصرت بالاحتفاظ به ، وهنا بدأ القلق يتسلل إلي وأنا أتساءل ماذا لو اكتشفت القبيلة الأمر ماذا سيحصل ! كنت متوجساً من حمل "تليلة " فقد ترحل السدة مع الرياح لو خرج الأمر للعلن ، ولهاذا يتوجب علي أن أضع الحد لبطن "تليلة " الذي يكبر مع الوقت ، وأنا الذي تغلبت على الوباء فلن يعظم علي أن أخطف الجنين من أحشاء بنت العشاب قبل أن يخطف مني الإكليل .

فكرت جيدا فلم أجد غير ترياق سيعجل بخروج الجنين من بطن "تليلة " وضعته خفيةً في طعامها ونجح الأمر في الأخير ، وبعد ذلك هجرت بنت العشاب وظننت أنني طويت صفحتها ، لكن تيليلة أخبرت "إتري " بكل شيء وتحالف الاثنان من أجل النيل من إبن الأرملة ، لكن هيهات فـ"أسافو " ليس بسهل المراس ، فمنذ أن كشفت لعبتهما استحضرت كل مكر وفطنة ودهاء أسافو للتصدي لسهوم "إتري " وبنت العشاب ، حتى توقعت الهجوم ، وبذلك أحضرت شخصاً من قبيلة "أولمان " يدعى "أنير " وألقيت عليه خطتي وأغريته بالمال من أجل تنفيذها بحذافيرها رغم المخاطرة الشديدة ، وبعد ذلك جهزت ترياق يشل الألسنة ، وتركت "تليلة" و "إتري " يخططان للهجوم بينما إبن الأرملة انتهى من الدفاع .

لم يمر وقت طويل حتى أخبرت "تيليلة " أهل القبيلة بعلاقتي معها وأنها حملت مني بعدما وعدتها بالزواج ثم قمت بإجهاض جنينها بدس ترياق صنعته في طعامها ، كل هذا بمباركة "إتري " الذي شهد بدوره أنه رآنا معاً في حضرة مجلس الشيوخ في ظل غياب الحاكم الذي لم يتوج بعد .. وبعد ذلك كان علي أن أرفع الدرع لرد السهام ، وأطلق عليهما السموم 

ثم توقفت والجميع ينظر إلي حتى أطلقت العنان لحنجرتي : يا قوم ، إن ما تقوله ابنة العشاب ما هو إلى افتراء وبطلان و وراءه "إتري " من أجل النيل من هذا الـ"أسافو " ، فالحقيقة غير ذلك يا معشر قبيلتي ، فابنة العشاب دقت باب منزلي ذات يوم لتخبرني أنها حامل من رجل يدعى "أنير" وهو من قبيلة "أولمان " وطلبت مني المساعدة حتى تجهض جنينها وأنا رفضت ذلك لكنني ناولتها ترياقاً سيخفف عليها الألم إن هي حاولت الإجهاض ، ولتتأكدو من كلامي أرسلوا أحداً إلى قبيلة "أولمان " ليعودا بالمدعو "أنير " وكل هذا ما هو إلا افتراء من "إتري " الذي استغل سذاجة ابنة العشاب حتى يصل إلى سدة الحكم في قبيلتنا ..

و هنا أنهيت الجزء الأول من خطتي في انتظار "أنير " لكي يكمل الباقي أو يعصف بإبن الأرملة .. وبعد ذلك أرسلوا بعض الرجال ليأتو بأنير من قبيلة " أولمان " وبعد وصوله اجتمع الجميع مرة أخرى في مجلس الشيوخ ليستمعوا إلى شهادة هذا الغريب ، ثم وقف أنير " ليتحدث في المنسوب إليه وقال : 

لقد تعرفت على " تيليلة " بينما أرعى الأغنام قرب قبيلتكم ، ووقعت في عشقها وبادلتني نفس الشعور ، وعندما حملت مني طلبت منها الإجهاض وقالت لي بأن هناك شاب سيساعدها على ذلك بعدما قدمت له المساعدة في السابق حين كان يبحث عن الدواء للوباء .. وأنا أعترف أمامكم بذنبي ومستعد للزواج منها .

لقد قال ما أفتيته عليه ولم ينسَ حرفاً واحداً ، وبعد ذلك أصدروا الحكم عليه بالقتل كونه غريب ؛ وأنا أخبرته سابقاً بذلك لكنني وعدته بإنقاذ رأسه وتسليمه مبلغاً ضخماً رغم أنني شديد الإفلاس ، أما تليلة " ابنة العشاب فقد حكموا عليها بطردها من القبيلة وبذلك لم يبقَ لي سوى الجزء الأخير من الخطة وهي التخلص من "أنير " بالترياق الذي صنعته سابقاً ليشل لسانه حتى لا يتراجع في كلامه قبل أن يقطع رأسه .

كان البليد ينتظر من إبن الأرملة أن ينقذ رأسه ويسلمه الكثير من المال ، وفي الأخير استعنت بصديقي "أيور " حتى يتسلل إلى سجن القبيلة ويدس بالترياق في طعام "أنير " وبذلك سيصعب عليه تحريك لسانه حتى يقطع رأسه .
أما إتري " فقد سقط اسمه بفعلته من لائحة المرشحين للحكم ..

و بعد مرور الأشهر الستة ، اجتمع مجلس الشيوخ للحسم في أمر الحاكم الجديد ، وبعد كل الاجتمعات تقرر الإعلان الرسمي في وليمة كبير في قصر الحكماء ، حيث اجتمعت القبيلة بصغارها وكبارها ، الكل متعطش ليعرف من سيوضع على رأسه إكليل الحكمة ويتبوأ السدة ، وأمام أنظار الجميع توقف شيخ القبيلة ليزيل الستار على الإسم الذي سيرث حكم قبيلة "بانون " وقال في كلمته :
كما سارت الأعراف والتقاليد في قبيلتنا منذ أبعد الأزمان ، فلابد للقبيلة أن يكون لها حاكم ، ولهاذا فقد استقرت آراؤنا على شاب فيه من المواصفات ما يخوله أن يكون سيد قبيلة "بانون " المعروفة بين سائر البقاع بقبيلة الحكماء وأرض العلم الذي خلفه لنا أجدادنا ويجب المحافظة عليه لنسلمه لأحفادنا ، وهذا الشاب هو "أسافو " الذي تغلب على الوباء الذي أصاب أمتنا وهو أشطر طلاب قصر العلوم ، وسيتوج بإكليل الحكمة بعد إكماله شرط العرش في العمر المفروض على حاكم قبيلتنا الذي لا يقل عن الخامسة وعشرين ، أي بعد سنة من الآن ..

لم أتفاجأ من كلام شيخ القبيلة ، فقد كنت على ثقة من حصول الأمر والآن انتهى كل شيء ، فأنا الحاكم ورفع الكلام ، ولهذا يتوجب علي أن أشرب نخب نصري العظيم ، فتوجهت صوب وكر "إيطو" حيت الليالي السكارى وبنات الهوى ، كانت مخاطرة شديدة بسدة العرش ، لكن كنت واثقاً من أن لا أحد سيكتشف الأمر ، وبعد دخول إلى وكر "إيطو " وجدت فيه "إتري " المكسور والمسكور ، يشرب نخب فشله ، ولحسن طالعي لم يرني 

وفي تلك اللحظة كان يتوجب علي أن أطلق عليه السهم الأخير الذي سيفيض بكؤوس العداء حيث كنا نرتشف فيها لدهور ، فعدت أدراجي صوب صديقي "أيور " وأفتيت عليه عمل جديد وطلبت منه تنفيذه قبل أن يتنفس الفجر ، وقمت عائداً أنتظر "أيور " قرب وكر " إيطو " حتى عاد برفقة رجال القبيلة ، ثم دخلت وسط الجموع وأنا أتساءل بدوري :
هل ما تقوله صحيح يا "أيور "

كان "أيور " يدَّعي أنه شهد "إتري " يدخل إلى وكر "إيطو " المحرم على أبناء كبار القوم ، حتى وصلنا إلى هناك ودخل بعض الرجال ليجدوا "إتري " و الخمر لعب بعقله وهو لا يصدق عيناه ، وفي الأثناء فقد أبوه صوابه وبدأ يصرخ في وجهه : لقد أوصلت بكرامتي الأرض ، خسئت وخسئت تربية أمك ، وأي نطفة لعينة خرجت مني لتصنع منك سكيراً يرتاد بيوت البغاء ، وأنا الذي كنت أرى فيك سيداً لقومك ، فلتنظر إلى "أسافو " لم يجد أباه ولم يكن له غير أمه الأرملة ، لكنها صنعت منه شاباً تضرب به الأمثال ، فلتشهدوا يا قوم أنني أتبرأ في حضرتكم من هذا الإبن العاق ، ولم يعد لي إبن إسمه "إتري "، فلترحل من القبيلة من الآن .

كان مشهداً في غاية المذلة لـ "إتري " وهو ينظر إلي وكأنه يتوعدني بالإنتقام ، وهو يعرف جيداً أنا كل ماحصل ماهو إلى من خيوط أفكاري التي حبكتها جيداً حتى دست عليه و بأوسخ الأنعال .
ثم غادر أهل القبيلة المكان ودخل حاكمهم المستقبلي الذي تضرب به الأمثال خفية منهم إلى وكر "إيطو " لأرتشف الخمر وأتلذذ بالأجساد المليحة ، وبعد دخولي رحبت بي صاحبة المكان "إيطو " وقالت بسخرية : مرحباً بسيد "أسافو " حاكم قبيلة بانون المستقبلي عندنا .

لم يرق لي إستقبالها ، فهي تعزف على وتر لم أرتح لألحانه ، وكأنها تهددني لكشف أمري في المستقبل ..

ثم رددت عليها التحية :
مرحباً بالسيدة "إيطو " فاتنة شباب بانون ، وأتمنى أن تعيشي في قبيلة الحكماء أطول زمن ممكن .
وهنا أرسلت لها رسالة مبعثرة فهمت مغزاها في رمشة عين ، وهي أن لا تحاول اللعب معي وإلا سأهدم هذا الوكر على رأسها هي وبناتها الحقيرات وأغسل جثثهن بالخمور .
ثم قضيت ليلة كنت فيها متسكعاً بين كؤوس الخمر والأجساد المليحة ، وأنا حزين لحال "بانون " ، كيف لف عليك الزمان يقبيلة الحكماء الذين غزوا مشارق الأرض ومغاربها بعلمهم ومعرفتهم ، حتى تصبحين في يد شاب خبيث و أهوج !

ثم غادرت الوكر قبل تباشير الصباح حتى لا يفضح أمري ، وهكذا سأنتطر مرور العام حتى أتوج بإكليل الحكمة وأصعد إلى السدة ، وفي الأثناء ظهر مرض يصيب البهائم في قبيلة "أولمان " المجاورة ، وأرسلوا في طلب المساعدة ، توجهت أنا وصديقي "أيور " وشابان آخران إلى هناك لتقديم العون ، و لأنني الحاكم المستقبلي كنت أصدر الأوامر للشباب في جلب مختلف الأعشاب ، وأنا أصنع بهم الأدوية .

ومررت ذات يوم في وسط القبيلة حتى سقطت عيني على ملاك نزل من السماء ليشاركنا الأرض ، وعلى حمامة بيضاء تتكلم لغة البشر ، من تكون هذه الشابة بحق السماء ؟ كنت أتساءل في نفسي وكانت تلك أول مرة تزلزل فيها بنت حواء كيان "أسافو ".
في الأخير وصلت لترياقٍ يطرد المرض من البهائم ، كان ذلك نجاح بعد آخر ، لكنني لم أغادر القبيلة وطلبت من صديقي "أيور " أن يأتني بأي شيء متعلق بتك الفتاة ، وعاد إلي سريعاً بالأخبار :
اسمها "شامة "ابنة "بامو " سيد القبيلة ، وجمالها قاتل فقد أسقط "بامو " بعض الرؤوس في سبيل "شامة "
وختم "أيور " بقوله : كن حذراً يا صديقي ولا تتهور حتى لا يصل سيف "بامو " إلى رأسك .

انتفضت في وجه أيور " : ماذا تقول أيها البليد ؟ وأي سيف هذا سيصل إلى رقبتي ! أنا أسافو الذي بعثر بأوراق قبيلة الحكماء ، ولن يعظم علي الوصول إلى "شامة " ولو على ظهر أبيها ، وسترى كيف سأهوي بقبيلة "أولمان " من أجل عيون ذلك الملاك .
ثم صمت "أيور " قليلاً قبل أن يتكلم : دعني أخيب ظنك أيها الحاكم المستقبلي ، فحتى لو وصلت إلى شامة " فلن تكون زوجتك فهذا من المحال ، هل نسيت أعراف قبيلة "بانون " فلا يحق للحاكم الزواج من غير بنات قبيلته .
أجبته بسرعة : الآن تكلمت أيها الأحمق فهذا ما يشغل بالي .

ثم كتبت رسالة لي "شامة " أرسلتها مع "أيور " وأنا أنتظر ردها الذي لم يتأخر ، حتى بدأت ألتقي معها خفية من الجميع ، ونمت العلاقة بيننا حتى أصبحت لا أرى غيرها في الوجود ، كنت أسرح في الليل وأنا أنظر إلى عينيها الحالمتين حتى يأتي النوم جالباً معه طيف "شامة " لأعيش معه وأنا مغمض العيون .
كنا نلتقي بعيداً عن الأنظار لننغمس في دنيا العشاق ، وأنا أعيش إحساس لم يزرني طيلة هذا العمر ، حتى نسيت اقتراب تتويجي حاكماً لقبيلتي ، وهذا ما بدأ يشغل بالي : كيف لي الزواج من "شامة " ، وأعراف قبيلة "بانون" تتعارض مع هذا الخيار .

و اقتربت اللحظة التي كنت أنتظرها عمراً وفديت فيه السنين من أجل هذا اليوم العظيم ، اليوم الذي يكون فيه "أسافو " حاكم وسيد قبيلة بانون .
وفي آخر الأيام قبل مراسم التتويج ، طلب مني مجلس الشيوخ الإسراع بالزواج قبل الصعود إلى سدة الحكم .
وهنا كان على إبن الأرملة العودة إلى كتب المكر ، حتى أحظى بالسدة و "شامة " معاً ، وقبل شهر من نهاية الأجل ، تلقيت من شامة رسالة ، تدعوني فيها إلى قصر أبيها المسافر كما ذكرت في الرسالة .

طويت الرسالة ولم أفكر في العواقب وتوجت إلى قبيلة "أولمان " لأنفرد بشامتي وفي قصر أبيها ، وبعد الوصول إلى باب القصر لم أجد أحداً من الحراس ، استغربت الأمر ولم أعطيه اهتمام ، فقد كان عقلي مشغول بأحضان شامة الخضراء ، انتظرت حتى أطلت شامة من النافذة وهي تشير إلي بالدخول ، ثم تجرأت و نفذت طلبها ، كان القصر فارغاً تئن فيه الرياح ، وبينما أتساءل في نفسي عن هذا الأمر العجيب حتى قطعت "شامة " أفكاري بظهورها وهي حسناء باهية ، وقادتني إلى غرفتها ، وفي الطريق أخبرتني عن سفر أبيها وزوجاته ومعهم الحراس ، ولا يوجد في القصر سوى بعض الخدم .

بعد الدخول إلى غرفتها ، صرخت شامة بصوت سمعته أذان الموتى ليجتمع الحراس ومعهم أبيها "بامو " سيد القبيلة ليجدوني وأنا منفرد بالشامة في مشهد يعظم وصفه على الأقلام .
فقد "بامو " صوابه وقال للحراس : ماذا تنتظرون ألقوا القبض عليه .

ثم انقض علي الحراس بنواجبهم كما لو كنت فريسة طردت من زمان ، وبعد اقتيادي إلى سجن القبيلة وجدت خارج القصر "إتري " ينظر إلي بابتسامة خبيثة ومعه "تليلة " وشقيق "أنير " وبعض رجال قبيلتي ، الآن فهمت و ياليتني لم أفهم ..

***

لقد زجو بي في السجن بينما حددوا محاكمتي بعد أسبوع ، وبينما أنا هناك كنت أتساءل هل أنا أحلم ، وأين أنا ، هل يعقل أن هذا الذي هنا هو أسافو ، لقد اتضح كل شيء فشامة كانت تلعب بي طيلة هذا الوقت ، وكان وراءها كل أعدائي ، فإتري لم يرحل إلى بعيد بل استقر في قبيلة أولمان ومعه" تليلة " وبعض أهل قبيلتي الذين لم ترق لهم فكرة أن أكون حاكماً عليهم ، لقد وحدوا أفكارهم ومكروا بإبن الأرملة في الأخير . لكنني لم أهتم لأمرهم كثيراً فقد ذاقو من نيراني جميعاً ، وأكثر ما يثير مشاعري وأنا في قيدي كانت شامة كيف استطاعت أن تصل بي إلى هنا ، وأنا أشد الماكرين !!

آه يا "شامة " لو كنت أتيتني بالفطنة والدهاء لهدمت المعابد على رأسك ، لكنك كنت تعزفين على أوتار قلبي الضعيف والأعمى الذي قادني في غفلة إلى هذا ، واطلبي من السماء يا حمامتي أن لا أوفق في تكسير هذا القيد ، وإلا سأشرب من دمك لا محالة ..

***

مر أسبوع وحكموا علي بالإعدام حيث ستقطع رأسي أمام الجميع ، وفي انتظار هذا كان علي أن ألقي بما تبقى من فطنة أسافو قبل أن يصل حد السيف إلى عروقي ، وطلبت زيارة صديقي "أيور " الذي أتى إلي سريعاً وطلبت منه أن يجلب إلي جميع المعلومات عن عائلة "بامو" حاكم القبيلة ، وسرعان ما عاد إلي "أيور " جالباً معه ما وصل إليه من أخبار ، وفي آخر ليلة قبل إعدامي كان علي أن أرمي بالسهم الأخير الذي سيحدد مصير أسافو ، وبذلك طلبت من الحراس أن ألتقي بـ "بامو " .

استجاب "بامو " لطلبي الأخير ، وزارني في السجن وسألني عما أريد منه ، فقلت له : لقد علمت أن إحدى زوجاتك مريضة ولم يتمكن أي طبيب من شفائها ، ماذا لو قمت أنا بشفائها ما هو جزائي ؟

صمت "بامو " قليلاً حتى قال : لم يستطع أي طبيب في كل أصقاع الأرض شفائها ، حتى تأتي أنت وتفعل ذلك .

أسافو : ماذا ستخسر أنت لو جربت الأمر، فقط أخبرني ما هو جزائي لو عادت زوجتك كما أحببتها يوماً ؟

بامو : سيكون جزاؤك تخليصك من الإعدام وسأعفو عنك أمام الجميع .

أسافو : لا لا أيها السيد ، لا أريد العفو ، فأنا اعرف جيدا أن شامة ليست إبنتك فقد قمت بتربيتها وهي صغيرة ، وطلبي هو أن تبرأ ساحتي أمام قومك ، وكي تغسل أنت عارك عليك أن تقطع رأس "شامة " .

"بامو " : وماذا لو لم تستطع شفائها

"أسافو " : حينئذ سيكون رأسي فدائها أيها " البامو "

بامو : إتفقدنا

لقد علمت من صديقي "أيور " أن بامو يحب إحدى زوجاته المريضة حبا جما وقد صرف النفيس من أجل شفائها 

 

كانت زوجته لا تتفوه بشيء وهي طريحة الفراش تفتح عيناها وتغلقهما وهي تتألم بصمت . 
صنعت لها ترياق سيعجل بشفائها ، ثم أعادوني إلى السجن وأنا أنتظر أن يعطي الدواء مفعوله حتى أخرج إليهم أجمعين ، وبينما أنا أنتظر فتح علي "بامو " باب الزنزانة والغضب يتقطر من عينه ، وبدأ يصرخ في وجهي : لقد ازداد الحال على زوجتي وهي الآن تصارع الموت أيها الصعلوك ، فسأقطع رأسك قبل أن تموت زوجتي .
وفي تلك اللحظة أيقنت بأن النهاية قد حلت فربما أحدهم وضع شيئاً بدوائي ، لم يعد هناك أمل للتحرر من جديد ، وفي تلك الليلة الحالكة التي لا يهتك سترها سوى ألسنة اللهب المتراقصة والمضيئة لأرجاء القبيلة أذن مؤذن .. أخرجوه إلى الساحة

وبينما أساق إلى المقصلة ، اجتمع الناس من حولي ليشاهدوا رأس أسافو تتدحرج بين أقدامهم ، كانوا يفترسون ملامحي بنظراتهم ، وكان بين الحضور "إتري و "تليلة " وكل أعداء أسافو الشامتين والمحتفلين بسقوط إبن الأرملة . وبينما يحشر برأسي في المقصلة ظهرت بين الحضور "شامة " وأنا أنظر إليها و أتساءل في خلدي : كيف يسوغ لودك أن يطرح بي في هذا الموقف ، وأنا الذي خاطرت بالسدة في قبيلتي وتخليت عن أغلى ما في وجودي من أجل مملكة هواكِ .

وفي تلك اللحظة ظهر "بامو " كطيف يخترق الصفوف حاملاً معه سيفاً يكاد يعادله في الطول ، حتى وصل إلى جنب رأسي واقفاً كالجبل ، وفي لحظة حرر سيفه من غمده حتى نطح به السحاب مخلفاً صوتاً أيقظ بحدته جفون الليل الساكن .. وأنا مازلت أنظر إلى شامتي وهي ترمقني بنظرات يتلألأ فيهما الغدر في أبهى حلته ، في مشهد لو رآه الشيطان لدس برأسه في التراب من شدة الخزي والمهانة والعار .

ثم أغمضت عيناي للمرة الأخيرة وأنا أنتظر متى سيعانق سيف "بامو " رقبتي ، حتى سمعت صوتاً انسل من كبد السماء ، ونزل على مسامعي كالرحمة

توقف توقف ! يا "بامو " كيف ستقطع رأس من أنقذ زوجتك من الموت .
فلت السيف من على يد بامو ثم ركض لمعانقة زوجته التي شفيت من المرض .

وقال بامو : هيا أطلقوا سراحه

ثم توقف إبن الأرملة من جديد ، وقمت بالتقاط سيفه الملقى على الأرض ، وأنا أنظر إلى "بامو " ، ثم بدأت أصرخ أمام الجميع : من هو المذنب يا "بامو " ، أنا أو بنتك "شامة " .

بامو : أنا أعترف أمامكم يا قوم أنا "شامة " ليست ابنتي وهي المذنبة في كل هذا وسأقطع رأسها أمامكم .
لم يكمل كلامه حتى قطعته قائلاً : أنا من سيقطع رأس ابنتك لأنها مست "أسافو" في شرفه ، ولغسل هذا العار تركني أكون أنا الجلاد ، وهذا هو طلبي لك بعدما كنت سبباً في شفاء زوجتك

بامو : لك ذلك

ثم قادوا "شامة " إلى المقصلة وحشروا برأسها وأنا أقف أتهيأ لأسفك دماء الغدر من عروقها ، حتى هويت برأسها وصار متدحرجاً بين أقدام الحضور ليكون عبرة لكل من يفكر بالمساس بأسافو ، وفي تلك اللحظة خرج "إتري " بين الحضور وهو يحمل السيف متحدياً وقال : لا يا ابن الأرملة لن تنته هكذا ، إما أنا أو أنت .. فتحت السماء لا يتسع لكلينا ، ولهذا فسأكون أنا من سيبقى

كنت أنظر إليه وهو يغازلني بسيفه حتى رددت التحية عليه قائلاً : لطالما جعلتك مسخرة أمام الجميع ، ولهذا سأخلصك منها الآن ، وأقسم بكل المقدسات علي أن سيفي لن يجد غير صدرك حجراً ، وستسبح في دمك وأنا سأرقص على جثمانك اللعين ..
وبعد ذالك انطلق صوت السيوف وهي تعانق بعضها ، حتى سقط السيف من يد "إتري " وأصبح يطلب الرحمة مني ، لكنه لم يجد سوى سيفي وهو يخترق صدره ليهوي معه إلى الأرض .
ثم رحلت من المكان عائداً إلى قبيلة "بانون " بعدما استعدت كرامتي وبراءتي أمام الجميع .

ثم توجهت إلى مجلس الشيوخ لأتنازل عن سدة العرش ، قبل أن تنفر مني غصباً ، ورشحت صديقي أيور " لهذا الشرف ..
وبعد ذلك غادرت القبيلة بعدما عزمت على الرحيل , حتى وصلت إلى جبل يلامس السماء , وأنا أقف فوقه أرمي بنظري إلى قبيلة "بانون " و قصر العلوم وسطها شامخ يصر الناظرين , هنا شرق فجري وهنا غابت شمسي .

و أنا أختلي بنفسي وأجمع شتات ذهني أتساءل أين أصبت وأين أخطأت , حتى تذكرت كلام أمي قبل أن يتحرر الروح من جسدها :

"أسافو " ولدي , أنا أراك حاكماً لقبيلة "بانون" في أحد الأيام !.

لقد خنت عهدك يا أمي , فأنا لن أكون الحاكم , لقد غضبت علي السماء بعدما رمت علي بالفطنة والنباغة , لكنني سلكت به سبيلاً نهايته بحيرة من الدماء , كنت مغروراً وجشعاً ونصبت نفسي فوق الجميع , واعتقدت أن لا أحد سيقف في وجهي قبل الوصول إلى السدة , وكل من تجرأ كان مصيره الهلاك , لقد خنت نفسي قبل الأخرين وأردت أن أحكم قبيلة بانون بالمكر قبل العلم , إذا كيف سيطول بي المقام في عرش قبيلة الحكماء , بل سيأتي من هو أدهى من إبن الأرملة ليرمي برأسه من على السدة , وهكذا تتعاقب نوائب الأزمان , فكل من يحكم بالنيران سيكتوي بها سواء قصر الدهر أو طال ..

وأنا الآن أقف على حافة الجبل و قد انتصرت على الجميع , وانتصر علي الجميع , وصعدت إلى القمة , وهويت إلى القاع , وانتقمت شر انتقام من كل من سولت له نفسه المساس بأسافو , ولم يبقى سوى شخص واحد هو أسافو نفسه , الذي كان يختبئ وراء وجهي الحسن , واستغل علمي ومعرفتي شر استعمال , وأنا أتهيأ الآن لأهوي بعروشه من على السماء .

>>> النهاية 

" أسافو "

بنصالح …
 

 

 

تاريخ النشر : 2018-01-03

guest
44 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى