أدب الرعب والعام

أعداء النور

بقلم : أيلول و عُلا النصراب – الأردن _ مصر

أعداء النور
لحظات ثقيلة مرت وإذ بجسد يهوي من السماء نحونا إلى الفناء ..

في إحدى الصباحات تحديداً عند تمام السابعة استيقظت مفزوعة إثر سماعي صيحة أختي ألين بالهاتف ..
– احترق..!!
-كيف ذلك..؟!
-سآتي إليكم حالاً لن أتأخر .. !

قفزت من سريري متوجهه نحو غرفتها وأنا أسألها بلهفة :
– ماذا ، ما الذي احترق..؟!
التفتت ألين إلي وهي تحزم حقيبتها في عجله وقالت بنبره مهزوزة :
– احترق المكتب فجر اليوم ..سأذهب الآن إليه .

أمسكت ساعدها .. فاستوقفت الكلمات قبل أن تخرج من فمي .. ثم قالت بعينين حازمتين :
_أماليا لا بأس سأخبرك بكل التفاصيل لاحقاً .. أتركيني الآن سأشرح لكِ كل شيء حينما أعود .

راودني شعور غريب شعور لا يوصف بالكلمات ، أشعر أن شيء ما بقلبي يعزف وتراً غير مألوفٍ .. وكأنني أضخ ناراً لجسدي لا دماً ، أشعر بأن المخدرات بدأت ترسم طريق نهايتي المنشود ها هي ذا تسلمني للموت البطيء ..

***

عند مغيب الشمس عدت إلى البيت باكره علي غير عادتي ، لم أثقل من شرب الكحول .. كنت قلقه على ألين فهي لم تتصل ولم أعرف أي شيء حيال مصابها .. ترجلت من سيارتي وما هي إلا بضع ثوانٍ حتى لمحت أبصار الناس مُحدقة في السماء.. توجهت بناظري بالتفاتة سريعة للأعلى أقلب بصري ها هناك فلمحت امرأة تسقط من أعلى سطح بنايتنا .. لا أستطيع أن أرى أية تفاصيل ، الصورة ضبابية جداً ، والارتفاع شاهق شوش الرؤية على الناظرين قبضت بيدي على صدري راودني شعور مفاجئ بالخوف لا أدري ما كنهه…لحظات ثقيلة مرت وإذ بجسد يهوي من السماء نحونا إلى الفناء .. اخترقت الزحام بقسوة لتلجمني الفاجعة .. إنها ألين !

***

يقولون أن المجرم دائما يعود لمسرح جريمته .. لا أدري عن صدق هذه العبارة ، ولا أدري أين المجرم في هذه الحكاية ، ربما نحن جميعاً مُجرمون بحق أنفُسِنا ، ألين فضلت أن تقتل نفسها وهذا ما لا أصدقه حتى الآن .. وأنا أجرمتُ بحق نفسي منذ زمن أبعد .. حينما غرقتُ بعالم الإدمان .. حكمتُ على نفسي بالغياب عن الحياة ، ومع ذلك فمازلتُ لا أستطيع الإفلات من قبضتها ، كلما استيقظت من صدمة الكف الأول .. تُعطيني الحياة كفاً آخر ، ولذلك .. بدا لي تعاطي المخدرات والكحول حلاً مُناسباً ..

لا أدري لمَ لا أوفر فرصة للحديث عن إدماني المُخجل ! ليس هذا ما أردتُ قوله على أي حال ، عدتُ لمسرح الجريمة .. ذهبتُ للشقة .. وهذه المرة الأولى التي أدخل بها شقة ألين بعد انتحارها ، مازال كل شيء على حاله ، الشقة نظيفة وأنيقة كما عهدتها ، لمحتُ في المطبخ بقايا لفنجان قهوة .. يبدو أن ألين استمتعت بمساء الانتحار المشؤوم ذلك ، أستطيع تخيلها تجلس هنا في المطبخ .. تحدق بقهوتها المُرّة .. تُسند يديها على الطاولة .. تخلع نظارتها .. تقترب من نافذتها .. تبتسم للقمر .. تلوح للقمر .. ولسبب لا أعلمه تُقرر القفز من النافذة ، كما لو أنه شيء عادي تماماً .. تفعله كل مساء ، كأن الموت ليس نتيجة حتمية للقفز من الطابق التاسع !

وأنا أقف هنا وأفكر بهذا اعتراني خوف غير مفهوم .. ماذا لو فعلتُ مثلها الآن ؟! لا .. لا أريد أن أموت ، ركضتُ لغرفة نومها وبدأت بمهمتي ، فتحت الخزائن وبدأت أُخرج ملابس ألين وأغراضها ، وأرتبها بصناديق كبيرة حتى أتبرع بها .. هكذا أتخلص من الذكريات لعلي أنسى .. وأحقق عملاً خيريّاً لروح ألين علّها تجد السلام الذي لم تجدهُ هنا ، انتهيتُ من وضع الملابس وأثار فضولي صندوق كبير في أسفل الخزانة .. حسناً .. التطفل على خصوصيات الأموات ليس شيئاً جيداً ، لكن كان لدي ذلك الحدس الغريب ، ولا أستطيع مقاومته ، فتحت الصندوق .. وأنا أحاول أن أمنع نفسي من الاسترسال في الذكريات .. لأنني أعلم جيدا نتيجة غرقي في الحزن وما تؤول إليه الأمور دائماً .

وجدتُ مغلفات مليئة بالصور ، ألين في طفولتها .. صورة تُظهر شقاوتي معها ، ألين في المدرسة مع صديقاتها .. ألين أيام الجامعة ، في زفافها .. في عيادتها .. صورة في المطبخ مع زوجها .. صورة وهي حامل .. أول يوم لولادتها طفلها ، يضيق بي الكون من جديد ، أحاول منع نفسي من هذا .. لكن الغرق في الحزن يُشبه غرق قطعة شوكولاتة في كوب قهوة ساخن ، أتصفح الصور مجدداً ، صور حفلات لمعارفها وأصدقائها .. صور أعياد ميلاد مع زوجها وطفلها ، صورة مع طفلها في أول يوم دراسي له ، ولم أقوَ على رؤية المزيد بعد ، وضعتُ الأغلفة جانباً ، وجلستُ على سريرها .. احتضنتُ وسادتها المُشبعة بعطرها ، ورحتُ أبكي فقداً .. و وحدة .. حتى تعبت ونمت .

استيقضتُ في الصباح بعد أن أزعجتني أشعة الشمس المُنبعثة من النافذة ، عدّلتُ جلستي وحدقتُ بالغرفة .. أهاا .. الآن بدأت أتذكر .. نهضت مُسرعة وبدأت أجمع الصور حتى لا أتعثر بها وتُفسد مزاجي اليوم ، لكنني تنبهتُ وأنا أعيدها للصندوق أن ثمة أشياء أخرى ، كان هُناك دفتر مُزركش أجزم أنه دفتر مذكرات ألين .. إنها لا تكُف عن هذه العادة الطفولية ! وهناك ملف يبدو مثل ملفات المرضى كُتِبَ عليه ” عامر النصايري” .. اسم مُثير للريبة حقاً ! وهُناك بعض أشرطة التسجيل ، إذن .. عرفتُ ما سأفعله اليوم .. اختراق خصوصية أختي المتوفاة وشرب الكحول .. بطبيعة الحال لن يكون يومي أفضل من هذا .. أعني ما الذي ينتظرني خلف باب هذه الشقة الملعونة ؟ لا شيء طبعاً .. سأمضي حياتي وأنا ثملة ، لكن الآن أريد قهوة لعلها تُسعفني من هذا الصُداع ، نهضتُ للمطبخ أعددتُ فنجان قهوة ومضيتُ للغرفة مُسرعة ، وأنا أتحاشى النظر إلى تلك الشُرفة .. أجل .. لا أريد أن أستسلم لهذا الإغراء .

كما توقعت .. لا شيء يُذكر ، جزء كبير من مُذكرات ألين يتلخص بسعادتها العارمة مع زوجها .. ثم انضمام ابنهما لنادي السعادة هذا ! لو اختصرت الأمر لقلت أنها مذكرات زوجة سعيدة تقليدية .. كما كنتُ أصفها دائماً ، لكن بدأت الأمور تتهاوى عند موت زوجها وطفلها قبل أشهر .. كتبت :

” المشكلة الكامنة في السعادة هي أنها تجعلك مُخدراً .. غارقاً .. تنظر للحياة كما لو أنها عشيقتُك ، وتغفو على بساطها مُغمض العَينين .. آمنا على كُل شيء ، وفي اللحظة التي لا تتوقعها .. تسحب الحياة بساطها من تحتك وتُبقيكَ هناك .. عارياً في المطر .. ملطخاً بالوحل .. مشدوهاً ، وقد تأخذ وقتاً طويلاً حتى تستوعب ما حدث ..
جلستُ هناك في بيت أهل زوجي ، محاطة بثرثرة النساء من كل صوب ، الجميع يرتدي الأسود ، و أم زوجي مازالت تنوح وتلطم على وجهها رغم مرور ثلاثة أيام على الحادثة والتي اختصرتها جريدة ذلك الصباح بخبر هامشي (وفاة ثلاثيني وابنه ذو الخمسة أعوام إثر حادث مروري) .. حقاً ! هل هذا هو الأمر فقط ؟! .. لم أبكِ .. لم أصرخ ، لم أفعل أي شيء من الطقوس المعتادة ، كنتُ أجلس هناك بصمت .. وبجانبي أماليا ، والتي على غير عادتها كانت بوعيها رغم أنها غائبة عن الحياة بشكل شبه دائم .. الآن استطعت أن أفهم لماذا تثمل هذه الفتاة ! “

كتبت بعد أشهر قليلة :

” كل شيء مزيف .. حتى أنا ، حياتي عبارة عن غفوات مطولة ، ومع كل يقظة كنتُ أشهق بفزع مريب ، كنتُ أستيقظ وأجد الموسيقى البالية ذاتها .. اللوحات المُفزعة مازالت مُعلقة ، وخاتم زوجي مُعلق بسلسلة هناك .. يسخر مني في كل وقت ، العيادة .. المرضى .. مشاكلهم .. همومهم ، أماليا التي تأتي في آخر المساء ثملة .. تطقطق بكعبها و تبكي غياب أمي وأبي كما لو أنها علقت عند ذلك الزمن ، كل هذه التفاصيل باتت تقتلني حرفياً ، هذا إن لم يقتلني الخفاش قبلا ” .

أهوي بالدفتر اللعين إلى الجدار ، لا أستطيع احتمال كل هذا .. لقد كانت تُعاني فوق مقدرتها وأكثر من الذي تخيلتهُ بكثير .. كانت مكتئبة حقاً ، لكن بطريقتها هي .. لطالما كانت ألين قوية .. مثابرة .. ولا تعرف الهزيمة ولا الاستسلام ، لكن موت طفلها وزوجها بعد كل تلك السعادة الغامرة .. حطمها من الداخل ، على الرغم من كل هذا .. أنا أتساءل فقط .. لمَ لم تنتحر فور الفاجعة تلك ؟! لماذا عذبت نفسها كل تلك الشهور ؟! أم أنها لم تنتحر أصلاً ! .. أجل .. ألين لا تتخلى عن نفسها ولا عنيّ ، إنها أكثر شخص يعرف كيف يتابع حياته حتى وهو ينزف !

ما زلتُ أفكر بتلك الجملة ( هذا إن لم يقتلني الخفاش قبلاً) ! يا الله .. هل هذا لغز ؟ ما الذي يعنيه الخفاش بالنسبة لها ؟ هل هو مجرد تشبيه لحزنها أم أنه شخص حقيقي ؟!
لا أشعر بنفسي .. أشعر أنني أراقب جسدي من زاوية أخرى .. الشراب لعنتي .. عقلي لا يُسعفني للوصول لشيء ! لكنني أملك حدساً قوياً ، قلبي لم يُخطئ القراءة ولا مرة واحدة ، أعرف أن ألين لم تنتحر .. الشك ينخر رأسي ، أمسك بدفتر الملاحظات لأدون كل ما يخطر ببالي ، لأنني أعلم أنني سأعود للشرب مجدداً .. وسأنسى الكثير من الأشياء وسأضطر للبدء من الصفر تماماً !

انتهيت من تدوين كل شيء ، الآن وجدتُ شيئاً أشغل نفسي به .. شيئاً أتطلع إليه حين أستيقظ غير زجاجة الخمر !

***

المشكلة المرعبة في الهدوء هو أن أخفض الأصوات يمكن أن تفزعك على نحو مضحك ! وهذا بالضبط ما حدث الآن ، أطلق هاتف ألين _الموجود على سطح طاولتها_ صوتاً هادئاً مُعلنا وصول رسالة .. لكنني وكما قلت _ فزعتُ حقاً _ !
أتساءل مَن هذا الذي يرسل رسالة لهاتف شخص أصبح ميتاً ؟ أمسكت بالهاتف بأصابع مرتجفة ، فتحت الرسالة وتنفست الصعداء .. لقد كانت مجرد رسالة إعلانية لمنتج ما ، لكنني لا أستطيع _ كبح وقاحتي وتطفلي _ من أن أمنع نفسي من تصفح الرسائل القديمة .. هناك رسائل باسم الخفاش ! هذا يعني أن الخفاش شخصٌ حقيقيٌّ وليس مجرد رمزٍ أدبي ، تفقدتُ الرسائل جميعها .. هناك ثلاثة رسائل منه تعود لتواريخ مختلفة .. أولها قبل ثلاثة أشهر ” القبو المظلم مثار للمتاعب دائماً ” الخفاش .
والثانية قبل شهرين ” أنا زاوية مظلمة في هذا الكون .. لكنني أملك بصيرة يا دكتورة .. وعليكِ الخوف من الصدى “الخفاش.
والأخيرة في ذات اليوم الذي احترق به المكتب وانتحرت به ألين ! “صباح مُعبق بالرماد” الخفاش .

جلست على الأرض وأمسكت دفتر الملاحظات .. دونتُ نصوص الرسائل والآن الصورة أصبحت كاملة ، ألين آخر شخص يمكن أن يفكر بالانتحار ! والآن يظهر هذا الخفاش ويهددها بالقتل .. هذا يعني أنهُ هو مَن أحرق المكتب ، ودفع ألين من الشرفة تلك الليلة .. أنا لم أكُن موجودة في المنزل .. أذكر ذلك جيداً .. كيف احتضنتُ جثتها الدامية ورحتُ أبكي وأشهق وأصرخ على المتجمهرون حولي .. إذن .. بينما كانت تحصل تلك الدراما بالشارع .. كان الخفاش/ القاتل يهرب بعيداً !

الآن علي أن أفكر بكل هذا الجنون .. علي أن أضع خططاً واضحة لِأصل للحقيقة ، أولها لن أشرب هذه الليلة ، علي أن أُبقي ذهني صافياً .. علي أن أصل للخفاش حتماً ، وقبل ذلك علي أن أعرف هويته الحقيقية ، أنهض مسرعة وأمسك بهاتفي .. أبحث عن اسم واحد فقط .. ها هو .. الهاتف يرن ويأتي صوتها البهيج كما تعودت عليه :
_ مرحبا .. مَن معي !
_ فاتن عزيزتي .. أنا أماليا .. كنا زميلتان في الجامعة .. تذكرينني ؟ !
هذه أحد الأشياء التي أمقتها على الاطلاق ، التعريف عن ذاتي .. بل الأسوأ .. محاولة تذكير أحدهم بي ، وبالطبع .. كان علي أن أقدم تقريراً لحالتي منذ التخرج ، أقول لها : أنني عاطلة عن العمل ـ لكن لا بأس لأنني ثرية ـ أتابع أنني مازلتُ أشرب ـ لا أخجل من قول هذا لأنها تعرف أصلاً ـ وأحدثها عن موت ألين وما إلى ذلك .. وأخيراً الموضوع الرئيسي حتماً .. أطلب مساعدتها في معرفة هوية رقم الخفاش .. فاتن شخصية مدهشة وساحرة حقاً .. إنها من الأشخاص اللذين يعطون بلا مقابل .. وبحكم عملها في شركة الاتصالات .. استطاعت أن تخترق القوانين ـ وبخفة ـ لِـأجلي !

***

” عامر النصايري” هو ذاته الخفاش ! أتذكر فوراً الملف الذي وجدته في صندوق ألين .. أفتح الملف وأقرأهُ قراءة سريعة .. ثم أسمع التسجيلات الموجودة مع الملف ، إذن عامر هذا مُخيف بقدر اسمه ! تحدثّ باستفاضة عن مشاكله مع زوجته وعن تأثير عُقمه في حياته معها ، تحدث كأنه عاشق إسطوري لزوجته على الرغم من نكدها وضيق خُلقها ، ثم بدأت تأخذ التسجيلات مستوى آخر .. أشعر كما لو أنه منوم مغناطيسياً لِيتحدث عن فساده بالبلد .. إنه رجل أعمال حقير ! ومتورط بجرائم قتل .. ويعمل بالتهريب ويروج للمخدرات .. حياة مثيرة للدهشة والشفقة معاً ! الآن فهمت لمَ ألين تخفي هذا الملف دوناً عن غيره .. كل هذه الأدلة تُدينه .. إذن هو مَن أحرق المكتب .. وهو مَن قتلها ! عقلي مشوش .. مَن سيصدقني الآن ؟! .. علي أن أخبر الشرطة فوراً .. لكن لا .. ربما لا يصدقونني ، مَن الغبي الذي سيصدق فتاة مدمنة ؟! وأنا لم أتأكد بعد من أمر عامر هذا .. لكن إذا كان هناك شخصاً يمكن أن يؤكد لي ذلك .. فهو بلا شك ” كارلا” لقد كانت سكرتيرة ألين .. وهذا يعني أنها تعرف شيئاً عن عامر هذا وأين يمكن أن أجده .

الوقت تأخر ولا أعتقد أنها في المكتب .. أوه نسيت ! المكتب احترق .. لا بُد أنها وجدت عملاً آخر .. أبحث عن رقمها في هاتف ألين .. أتصل بها لكن الهاتف مُغلق .. للمرة الثالثة أيضاً مغلق ، أبحث عن بريدها الالكتروني .. أكتب لها وأسألها عن عامر .. أنتظر ساعة لكنها لا ترد .. أقرر أن أنام الآن ، الوحدة تقضم فرادين حياتي وأشتاق لوجود ألين .. لكنني أشعر بسعادة طفيفة .. لقد أمضيت يوماً كاملاً بدون أن أشرب .. وهذا يعد إنجازاً بالنسبة لي .. علي أن أبقى يقظة لأي دليل وأي فكرة .. سأمسك بقاتل ألين مهما كلفني الأمر .

أستيقظ على صوت عصفور ينقر على النافذة ، أنهض بدون ثقل ولا كسل .. أنظر للمرآة .. لم أعد شاحبة ! أبتسم لهذا وأشجع نفسي على الاستمرار دون شراب .. أتوجه للمطبخ و أعد لنفسي فنجان قهوة وأشيح بوجهي عن زجاجة الخمر .. أعود للغرفة وأستجمع أفكاري وأخطط لما علي فعله .. أتفقد بريدي الالكتروني .. لقد ردت “كلارا” على رسالتي تقول:

“عزيزتي أماليا ..
أقدم تعازيّ مجدداً .. أنا بخير ، اضطررت للسفر إلى لبنان لظرفٍ عائلي ، بالنسبة لعامر النصايري .. فهو رجل أعمال وله نفوذ واسعة إياكِ والاقتراب منه .. كما أنه رجل خطير جداً ، لقد كان يتعالج لدى ألين منذ أشهر .. وقد خضع لجلسات تنويم مغناطيسي ، لكنه توقف عن الجلسات في آخر فترة ـ أقصد قبل موت ألين ـ وجاء آخر مرة وكان يصرخ ويهدد ألين بإغلاق عيادتها ، لكنه اختفى بعد ذلك ولا أعرف عنه شيئاً آخر ، اعلمي أنني أشارككِ الشك حول عامر ، فألين صارحتني بخوفها منه ، لكننا لا نستطيع فعل شيء متى كان للعدالة اسما في وجود هؤلاء ؟! أرجو أن تكونِي حذرة مهما كان قراركِ ، وبالمناسبة .. هناك أمانة من ألين تركتها عندي لكِ ، وأنا أعتذر جداً منكِ كما قلتُ سابقاً .. حصل ظرف طارئ واضطررت للسفر .. لكنني سأكون في عمان في أقرب وقت ..
دمتِ بخير ” .

أعود لقراءة الرسالة أكثر من مرة .. اذن لستُ الوحيدة التي أشك بهذا الأمر ، لستُ واهمة ، أنا على الطريق الصحيح لدرجة أنني لم أعطِ نفسي وقتاً للتفكير ومضيت بسرعة جنونية لمكتب الشرطة .. وهناك سألت رجل الأمن عن المحقق “مراد ” :

_ آخر غرفة في الطابق الثاني سيدتي .

أمشي بخطى مسرعة كما لو أنني أحمل خبر قنبلة الموسم .. مراد قريبي وكان يحترم ألين جداً وعرض مساعدته أثناء جنازتها .. هو الشخص المناسب بلا شك ، قبل أن أمد يدي للطرق على الباب .. يفتح الباب ويخرج مراد بطلته المهنية .. يتفاجأ بي ويُدخلني المكتب .. لم أود أن أشعر بأنني مُتهمة أو في جلسة تحقيق .. لكن مراد شخص دافئ حقاً .. رحب بي بلباقة ، وبينما كان يعد لي قهوة سريعة في مكتبه .. بقيت أتفحص الغرفة .. إنه شخص مرتب ومتفاني ، لديه كل ما يحتاج ، لديه عالمه الخاص في هذا الحيز الضيق .. لكنه وعلى نحو مغاير .. مكان مُريح !

بعد الكثير من المقدمات المعهودة ، قدم لي القهوة وجلس في كرسيه ـ مُقابلاً لي ـ يضع يديه في حجره ويُنصت لي كما لو أنني الصوت الوحيد بالعالم .. أخبره بكل ما وجدته وبشكوكي تجاه رجل الأعمال الغامض .. وحين أفرغ من حديثي ـ غير المرتب ـ يبتسم لي ويطمئنني قال أنه سيتخذ الاجراءات اللازمة ويتأكد من صحة الأمر ، بل وبدا مُتحمساً جداً للقضية ، هذا يريحني أيضاً !

عدت للمنزل منشقة الى نصفين .. نصف يرغب بالشراب والنسيان ، ونصف آخر يقول لا .. أنا في الطريق الصحيح وعلي أن أستمر به .. أمسك بالمفتاح لكنني أتفاجأ بأن الباب مفتوح ! أدخل بخطى هادئة وبتوجس .. لا شيء في المطبخ ولا في غرفتي .. أدخل غرفة ألين ويفزعني منظرها .. كل شيء مُتناثر هنا وهناك .. والأهم .. أن الملف والتسجيلات قد تمت سرقتهم !
ينتابني خوف ـ مبرر ـ وتتسارع أنفاسي .. الأمر في غاية الجدية إذن .. يخطر في بالي مراد ، ألتقط هاتفي وأتصل به .. أخبره باختفاء الأدلة ويحاول طمأنتي .. ويتابع :
_ حسناً .. المهم أنكِ بخير الآن ، أخبريني ألم تحتفظي بنسج احتياطية ؟!
أجيب بكلمات متقطعة :
_ لا .. لم أحسب لهذا أبداً ، لا يوجد شيء الآن ، الأدلة اختفت ولن نستطيع الإيقاع به ..
أصمت قليلاً .. وأتابع بصوت مكسور ومختنق بالبكاء :
_ ألين لن تسامحني .. ولن تجد روحها السلام .
_ لا .. لا تقولي ذلك ، أعدكِ أن الأمر لن ينتهي هنا ، سنحصل على أدلة أخرى وسأتابع التحقيق بالقضية ، إنه يفعل ذلك لإخافتكِ .. لكنني أريدكِ ألا تستسلمي الآن لِأجل ألين .. اتفقنا ؟!
_ أجل .
_ دعينا نلتقي غداً ، وسأفكر بخطة بديلة .. تصبحين على خير .

***

– الآن يا مراد بعد أن سرق الملف من البيت كيف سنوقع بعامر ؟! لم أتخيل أنه بتلك الخطورة .

تراجع مراد بكرسيه إلي الخلف مغمضاً الجفن .. يطرق بأطراف أصابعه على سطح المكتب المكتظ بالأوراق والملفات الخاصة بألين .. ظل هكذا برهة من الزمن حتى اعتدلت جلسته فجأه وهو يشير لي بالانتباه ..
وأردف يقول :
_صديقي طارق رجل أعمال كبير علاقتنا وطيدة سأستعين به في حبك مصيده القرن ..
اسمعيني أماليا ، عامر رجل فاسد جشعه هو نقطه ضعفه صحيح أن نفوذه واسع لكن أمثاله أعرفهم جيداً يركضون كالجراء خلف كل فرصه ذهبية .. لا يشبعون أبداً ..لذلك سنجره للمصيدة جراً .. صحيح أنها طريقة بوليسية قديمة .. لكن لطالما كانت ناجحة .. سأقص عليكِ الآن الخطة ..

مرت ساعات .. و انتصف عقرب الساعة مشيراً إلى انتصاف الليل ، أنهى مراد سرد خطته ثم وقف مسلماً وهو يقول بحماس :
الآن عداد الوقت يحسب الساعات الباقية على نهاية عامر .. طاب مساؤك أماليا ، سأنصرف الآن اهتمي بنفسك..

**

إنصرف مراد تاركاً إياي ألاطم أمواج أفكاري .. والحياة تلاطمني .. تائهه نفسي لا تعرف إلى متى ستمضي في سبل لطالما أجبرت عليها وأين الملاذ من كل هذا .. الظلام يحف الطرقات شبح الهدوء سائد ، تنطلق سيارة مراد فتخلف بعض الضجيج سرعان ما يهدأ بعد اختفائها .. أغلق الشرفة وأمسك بزجاجه الكحول لأسكن ما بقي من عقلي .

في تمام التاسعة صباحاً أستيقظ فزعة حيث تكرر بمنامي مشهد وفاة ألين .. يا لها من لحظات قاسية ما أثقل تكرارها ..أتنفس الصعداء وأجفف عرقي .. كادت عيناي أن تنهمر بالدموع لكني كبحت حزني لا أريد أن أستسلم للبكاء .. إذا بدأت الآن لن أنتهي أبداً.. فتحت الشرفة أتأمل الطريق وأتأمل السماء لأنثر فيها دعواتي ..ألمح كارلا تترجل من سيارتها ..

في الصالة حيث أجلس مع كارلا أتامل الرسالة بذهول .. اهتزت الورقة بيدي .. ضاقت حدقتا عيني وانحصرتا فوق الحقيقة .. التفت لكارلا الماثلة أمامي أخاطبها بحيرة :
_كارلا .. ألين انتحرت فعلاً ..!!
توقظني من الدهشة طرقات خفيفة على الباب فأفتحه وإذ بمراد أمامي .. يوجه التحية للآنسة كارلا التي بدورها تستأذن الذهاب ..

يتوجه مراد نحو أقرب كرسي يسحبه ليرتكز عليه واضعاً ساقاً فوق أخرى ، قائلاً بحماسته المعهودة
_أماليا أنتِ مستعدة ؟! .. كنتُ سأتصل بك للاطمئنان على سير الأمور وفق مخططاتنا .. لكن ارتأيت أن آتي بنفسي لأطمئن خاصة بعد أن أخبرتيني برسالة ألين التي تحتفظ بها كارلا , صحيح ماذا وجدتِ بها ؟!
أماليا .. أماليا أنا اسألكِ .. !

رفعتُ بصري نحوه لأبث له الحقيقة العالقة بذهني و تقذف بي في متاهات أفكاري ..
_ألين انتحرت مراد .. ألين لم تُقتل كما خُيل لي ..وكما خيل لك .. وللجميع ..!
اعترته المفاجأة .. فسكت برهة من الزمن ثم رفع رأسه مخاطبا إياي قائلاً :
_ والآن بماذا تفكرين؟
تفاجأت من سؤاله فوقفت مرتبكة أنظر إليه كمن لا يريد أن ينساق في ورطة
_ مراد أنا لا أفكر بشيء .. ألين انتحرت وانتهت القصة ، الحقيقة باتت بيدي لم يعد يؤرقني أو يهمني شيء .. لنوقف تلك المهزلة إلى هنا وكفى .. أريد أن انأى بما تبقي لي من حياتي و ..

قاطعني مراد مصفقاً ، أحسنتِ أماليا .. أحسنتِ .. لكن أليس من حق ألين أن ننتقم لها من كل لحظات الخوف والقلق التي عاشتها بفضل عامر ؟! أليس من حق كل الأبرياء اللذين احتال عليهم أن ننتقم لهم ؟! أم أن الجرائم عندك فقط منحصرة في موت ألين ! أم تريدين الانسحاب لتنغمسي في عالمك المضني ترتشفين بضع كؤوس أخرى تغيبين عن الوعي بها لترددي أناشيدك الناقمة على الحياة .. في الحقيقة أنتِ تريدين الانسحاب من اللحظة الأولى .. لربما شعوركِ بالمسؤولية هو ما كان يوقظك لكن بتلك الرسالة وجدتِ لنفسك دافعاً قوياً لتنسحبي باطمئنان .. أليس ما أقوله صحيحاً ..؟!

لا أستطيع الرد عليه .. إنه يقول الحقيقة ولا شيء غيرها .. تهزمني كلماته وتضعفني ..

يُتابع بصوت دافئ ..
_ أماليا افعلي شيئاً صحيحاً لأجلكِ أنتِ ، ربما قصة ألين انتهت .. لكن قصتك لتوها بدأت .. إنها فرصتك لتقدمي للحياة شيئاً بدلاً من كل لحظات التيه التي تضيعينها في الحانات .. فرصتك لتخلصي العالقين في شباك عامر.. إنهم يستنجدون بكِ بأصوات مكلومة .. كل الأبرياء وكل الضحايا أنتِ أصبحت جزءاً من خلاصهم ..

***

العاشرة مساء في الحانة مع هشام صديقي نشرب ونصدم الكأسات ببعضها فنضحك على رنينها تحت وطأة الموسيقى الصاخبة والأضواء اللامعة ..

وعلى الجهة الأخرى عامر يستقبل طارق في مكتبه بعد مقابلات وتمهيدات سابقة يتفقان على صفقه تهريب كبيرة ، النادل يقدم كوب القهوة للسيد طارق حسام .. رجل الأعمال الذائع الصيت المعروف بالنزاهة ..
عامر يشعر بالانتشاء عندما يكتشف أن وسطه الفاسد لا يحويه هو وجماعته وحدهم .. بل ممتد امتداد الكون حتى وصل إلى مَن بيد أنهم شرفاء .. !

***

في اليوم التالي تم القبض على رجال عامر بالجريمة المنشودة وتم اختراق مكتبه في نفس اللحظة .. كان محاطاً بمراد وبعض رجال الشرطة .. دلجت إلى المكتب خلفهم أتابع المشهد .. مراد يوجه الكلام إلى عامر:
_ وقعتَ يا عامر أخيراً حيث لا مفر .. قبضنا على رجالك الآن هم في طريقهم لقسم الشرطة للتحقيق معهم .
وقف عامر كالطود بشموخ وجنون العظماء وهو يقول بخيلاء ..
_ هه .. هل تعتقد أن سقوطي بتلك السهولة أيها الشرطي الغر.. ألا تعرف من أنا !أنا عامر النصايري كل قرية ومدينة في الأردن تطالها يدي .. اسمي نافذ أكثر من أشعة الشمس على زجاج نافذة مكتبك الصغير..

قاطعه مراد قائلاً :
_كف عن الثرثرة يا عزيزي .. قل ما تشاء عند امتثالك أمام المحاكم القضائية .. أما الآن فدوري أن أقبض عليك ، بالمناسبة أيها المحنك الفاسد لست مقبوضاً عليك بتهمة واحدة أنت غارق بالتهم ، أضحت بحوزتنا أدلة دامغة على كل جرائمك بالتفصيل .. هل نسيت ذاك الملف الذي سرقته من شقه الطبيبة … حصلنا عليه أيضاً وقد عاوننا على ذلك أحد أفراد أسرتك كان يحفظ مكان قبو أسرارك وأنت على جهل .. !

تصبب عامر عرقاً وهو يقول بشفاه مرتعشة :
_جوليا .. هل زوجتي جوليا من دلتكم على الملفات ؟!
هنا سمعنا صوت ضحكات هشام وهو يردد :
_ “القبو المظلم مثار للمتاعب دائماً يا عمي” .. !
دلف هشام إلى المكتب مبتسماً محياه بتحدي ، يرمق عامر بنظرات تترجم الكثير من النفور والغضب ..استدار نحوي بهدوء قائلاً بلطف :
_ ما زلت ممتناً لكِ أماليا .. لولا أن أنرت بصيرتي على الحقيقة لعشت في كنف القاتل الذي حرمني أسرتي فخوراً به ، جاهلاً عنه ، مغيباً عن المكائد .. !

***

في تلك الليلةِ الخرساء أنهيت كلامي مع مراد واعدةً إياه أن أمضي فيما بدأناه ..عزمت على إكمال الخطة .. كنا مسبقاً قد جمعنا كل المعلومات المتعلقة بهشام النصايري .. ذلك الشاب العشريني الذي ذكره عامر في إحدى تسجيلاته الصوتية عندما كان مغيباً بين يدي ألين .. وعن قتله لأخيه و زوجته في حادث مرتب ليستولي على كل الأملاك .. وفوق ذلك إقصاءه لهشام في تلك الليلة المرتبة بحجج واهية لكي ينشأ بقيه حياته في كنفه كابن تعويضاً عن عقمه فيستحوذ من أخيه على المال والبنون .. وكل تلك التفاصيل الدقيقة الخاصة بجرائمه النكراء .

كان هشام عنصراً هاماً جداً بالنسبة لنا .. هو الخدعة التي استطعنا بها نبش عرين الأسد وما كان مني في تلك الليلة إلا أن اذهب للحانة التي يسهر بها يومياً ، لم يكن الأمر صعباً بحكم أني معتادة على مثل هذا الوسط بسهولة .. تعرفت عليه ثم أطلعته على الحقيقة .. كان استيعابه لها صعباً كما توقعت ،لكن مع الوقت .. و بالنهاية أقنعته بأنه لا ضير من التأكد ..

اتفقنا أن يزرع إحدى الكاميرات الدقيقة بغرفة المكتب .. كنت علي يقين بأن ملفات هامة كتلك لن توضع على سطح المكتب أو في أحد الأدراج أو بين الأرفف .. أوراق هامة كتلك حتى القبر لن يسعها .. وبشكل آخر أؤمن بأنه مازال محتفظاً بالملف والتسجيلات ، حالته كانت متأخرة و انعكست على صحته بشكل سلبي لاشك أنه كان سيبحث عن طبيب خارج الأردن ليعرض عليه نفسه بأريحية واطمئنان .. وذلك يفسر عزمه على السفر إلى مصر كما قال هشام ، بعد أن أيقنا أن الملفات بمكان ما في قصره .. تحديداً في غرفة مكتبه حيث – الخصوصية المطلقة – و من باب البحث عن الحقيقة وافقني هشام وزرع الكاميرات بكل ركن من أركان الغرفة ، كانت النتائج سريعة فخلف مكتبه الحائط العتيقة التي رصت أعلى رفوفها الكتب بانتظام .. وجدنا ضالتنا .. !

أخيراً .. المشهد الذي انتظرته طويلاً .. حيث عامر مقيداً بالأصفاد يتوعدني أشد الوعيد .. لحظات رتيبة ثقيلة على قلبي .. لربما يستمتع الشامتين بشماتتهم لكن الأمر يختلف معي ، ربما أنا أشفق عليه وأشفق على نفسي وأشفق على كل الحمقى أمثالنا ، كنت قد اتخذت قراراً حاسماً بالإقلاع عن إدماني المخجل والعودة لممارسة الكتابة من جديد ،
اليوم أنا أعرف ما سينحته قلمي ..

****

بعد مرور عام و نصف ..

ذلك المشهد المهيب جمهورك يطوقك ، يباركك ، يمجدك ، مشهد ممتع وسعيد بكل ما في كلمه سعادة من معنى هو لحظة مثالية ليست متاحة للجميع .. نوع من الأفراح الفريدة تزورنا تكليلاً لمساعينا .. تنويراً لدروبنا ، اليوم تشهد روايتي الوحيدة قريحة أفكاري “دروب المهالك ” تتويجاً بأكثر الكتب مبيعاً ، الأدرينالين يسكب قوته في عروقي حقاً لنعم إنتشاء الناجحين .. !

_تمت_

ملاحظة : الشخصيات والأسماء والأحداث غير حقيقية ، ومستوحاة من عقول الكاتبتين لا أكثر .. أي تشابه مع الواقع فهو غير مقصود .

تاريخ النشر : 2018-09-18

guest
32 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى