عجائب و غرائب

أغاني العبقري الحزين

بقلم : د.بلال عبدالله – اوكرانيا
للتواصل : [email protected]

قصة غريبة لرجل غريب الاطوار
قصة غريبة لرجل غريب الاطوار

” الكائن الإنساني ليس إلا شعور بالوحدة, وحيد يحيط به وحيدون “
ميلان كونديرا

إنه مُفكر, خبير حقيقي, متذوق و عبقري, متواضع بشكل لا يصدق إلا إنه وحيد جدا و حزين, بهذه الكلمات وصف بعض الأساتذة و الصحفيين زميلهم “أناتولي موسكفين”.

منتصف عام 2000م

غرفة صغيرة في منزل العائلة في مدينة نيجني نوفغورود بين أكوام من الملفات, الكتب وأشرطة فيديو الرسوم المتحركة كان “أناتولي موسكفين” يراجع بإرتباك شديد أغاني الأطفال التي تمرن على حفظها وأدائها طوال الأشهر الثلاثة الماضية, كان يغني بصوت مرتعش ويتحرك راقصا في أرجاء الغرفة ينسى الكلمات أحيانا و يهرب منه اللحن أحيانا أخرى وهو على هذه الحالة لاحظ ان والده العجوز ينظر إليه من خلف الباب بعين واحدة, أوقف “أناتولي” الموسيقى و أخذ ينظر الى والده منتظرا الكلام ذاته الذي يسمعه كل مرة, تغيرت ملامح “اناتولي” وخرج من حالة البهجة عائدا إلى الواقع المحبط حتى بدأ العجوز بالتذمر : (لا زلتَ متمسكا بالفكرة ذاتها؟ أنظر الى نفسك.. شاهد أين وكيف تعيش, لا يمكن لطفلة أن تعيش معك, حتى أمك مقتنعة بكلامي, لن نسمح لك بتبني طفلة!).

blank
كان يتمنى ان يتبنى طفله ليمنحها كل حبه وحنانه

أغلق “اناتولي” الباب على نفسه و عاد يستمع الى أغاني الرسوم المتحركة محاولا حفظها و ترديدها إلا أن فكره كان لا يزال يتلقى كلمات والده كالضربات المتتالية, رغبة لا تعرف اليأس دفعته الى إرتداء ثياب جميلة و وَضْع إبتسامة عريضة فوق الكثير من ملامح الحزن و القلق , سار على أقدامه وصولا إلى ملجأ الأطفال حيث الأيتام الصغار و أولئك الذين تم التخلي عنهم بإعتبارهم ناتج عرضي لليلة صاخبة تحت تأثير الكحول أو حبوب منع حمل فاسدة, سار “أناتولي” ذهابا و إيابا في ساحة صغيرة أمام ملجأ الاطفال ليتأكد من حفظه للأغاني و لتجميع أفكاره و ترتيب الكلام الذي سيقوله أمام اللجنة في الملجأ, مسبقا كان قد قرر إن اليوم الذي يتبنى فيه طفلة سيجعله يوم ميلادها وكان قد فكر بأكثر من طريقة للإحتفال به, ربما هذا ما جعله يسير ذهابا و إيابا أمام الملجأ عابرا أحيانا برك الماء التي تركها المطر و مارا فيها مبللا أطراف بنطاله أحيانا اخرى مرددا أغنية أطفال من الرسوم المتحركة:

” فليركض المارة بشكل متعرج عابرين برك الماء
والماء يجري كنهر على أسفلت الطريق
لا يعلم المارة أن هذا اليوم مميز!
ولماذا أنا سعيد هكذا
وأنا أعزف على الاكورديون على مرأى من المارة
يا للأسف.. إن عيد الميلاد يكون مرة واحدة في السنة

سوف يأتي الساحر
في طائرة مروحية زرقاء
سيجعلنا نشاهد السينما مجانا!
سيهنئني بعيد ميلادي
وربما..سيهديني 500 قطعة بوظة

وأنا أعزف على الاكورديون على مرأى من المارة
يا للاسف.. إن عيد الميلاد يكون مرة واحدة في السنة. “

كان يغمره شعور رائع حينها, ولم يهتم للمارة الذين ينظرون إليه بإستغراب, أخذ نفسا عميقا و دخل من باب الملجأ الخارجي.

في الممر الداخلي كان بعض الاطفال يلعبون ثم توقفوا فجأة مع دخول “أناتولي” حيث أخذت كل تلك العيون الصغيرة الحزينة تنظر إليه كفرصة للخروج من الملجأ, كان لابد من المرور على شباك صغير يجلس خلفه بعض الموظفين, و يعتبر موظف الشباك هو مفتاح مقابلة اللجنة بعد أن يتاكد من الاوراق الثبوتية و إتمام بعض الاجراءات الضرورية ثم يعطي ورقة مختومة تؤهل حاملها لمقابلة اللجنة, قدّم “أناتولي” كل الاوراق الثبوتية أمام موظفة بدينة غير سعيدة خلف الشباك, وبدأ بتعريف نفسه:

– إسمي اناتولي موسكفين, 37 عام.. أعزب, أعيش في منزل العائلة مع أبي و أمي, ليس عَليّ أحكام, لستُ مدخنا ولا أشرب الكحول , أرغب بتقديم طلب لتبني طفلة

– ماذا تعمل؟

– انا مؤرخ!,لغوي و مترجم, صحفي, مؤلف قواميس مدرسية, أتقن 13 لغة, خبير مقابر أثرية, خبير في الوثنيات, أعمل كذلك أستاذا محاضرا في جامعة نيجني نوفغورود.

طلبت الموظفة تأييدا من العمل و كشف الدخل الشهري, ثم إنفجرت ضاحكة بعد أن أعطاها “أناتولي” الكشف و التأييد, و أعطته لموظف يجلس خلفها فضحك هو أيضا, ختمت ورقة صغيرة امامها و أعطتها لـ” أناتولي” واغلقت الشباك. في الورقة كانت عبارة غير مؤهل بسبب الدخل الشهري القليل وعليها ختم, ثلاثة أشهر من الاحلام و الترتيبات و التدريب على أغاني الاطفال إنتهت بمقابلة من خلف شباك مدتها ثلاث دقائق!.

ظل “أناتولي” واقفا امام الشباك ينظر الى الورقة الصغيرة و الأطفال ينظرون إليه, بدأت عيناه ترمش بسرعة ثم إندفع فجأة إلى غرفة اللجنة, دخل و أخذ يتوسل أن ينصتوا إليه, أصاب اللجنة الذعر من حالته مما دفعهم الى مناداة حراس الملجأ الذين أمسكوا به بقوة و أخذوا يجروه وهو يطلب فرصة من اللجنة بأن تستمع إليه ثم بدأ يصرخ بأنه حفظ العديد من الأغاني بينما الحراس يجروه أمام انظار اللجنة وهو يصرخ بصوت عالي مرددا بعض كلمات الأغنية التي تدرب عليها مرارا أمام ساحة الملجأ:

” سوف يأتي الساحر
في طائرة مروحية زرقاء…
أأأأأ….
أأأأ…
يا للأسف. ان عيد الميلاد
يكون مرة في السنة. “

حتى قام الحراس برميه في بركة طين صغيرة أمام الملجأ مهددين بالإتصال بالشرطة في حال دخوله الملجأ مرة أخرى.

blank
كان عشق حياته هو المقابر

في طريق عودته الى المنزل وكعادته التي لم ينقطع عنها مذ كان صبيا في المدرسة مَرَّ “أناتولي” على جميع مقابر الطريق بذهن شارد يقرأ تواريخ الميلاد والوفاة, الاسماء و مقاطع الشعر التي تركها البعض على شواهد قبور أحبائهم, هذا هو ولعه الأول مذ كان صبيا حيث كان يتجول في المقابر حاملا دفتر ملاحظات صغير و قلم رصاص, كان “أناتولي” قد إستكشف 752 مقبرة في مدينته نيجني نوفغورود وفي روسيا كلها, وكان قد دون 900 قصيدة من على شواهد القبور حيث يبدأ موسم إستكشافه للمقابر من أول سقوط للثلج وحتى يغطي الثلج شواهد القبور وكان يتعب في رحلاته هذه فينام في مداخل العمارات و أحيانا كثيرة كان ينام في التوابيت الفارغة أو القبور المفتوحة بسبب البرد, نومه في التوابيت و القبور جعل شعره يشيب ويتساقط بسرعة خلال فترة زمنية قصيرة.

عند عودته الى المنزل مرَّ “أناتولي” حاملا حلمه البائس على إبتسامات سخيفة من أبيه وأمه, إبتسامات إنتصار الواقع الكئيب على الأحلام المشروعة الأمر الذي دفعه إلى الخروج من المنزل فورا لكن إلى أين؟ حيث لم يكن لديه أصحاب خارج علاقات العمل, ولم يكن لديه حبيبة لانه يرى ان الجنس هو أكثر العلاقات إثارة للإشمئزاز, ولم يكن لديه أماكن مفضلة سوى المقابر. أخذ يسير حتى شاهد إنعكاس وجهه في زجاج متسخ, ناظرا إلى بؤس عينيه الزرقاء و الشعر الابيض الذي يغطي لحيته كما تغطي الثلوج مقابره المفضلة , كل تلك الصورة الكئيبة لم تكن سوى إنعكاس وجه “أناتولي” على زجاج قسم الوفيات في أرشيف مبنى مستشفى أطفال مدينة نيجني نوفغورود, في هذا الوقت البارد من السنة لم يجلس حارس بناية الأرشيف في مكانه مما أتاح لـ”أناتولي” التسلل بسهولة إلى قسم الوفيات, أخذ يتفحص ملفات الوفيات خصوصا الإناث من 3-12 سنة وأصابه الذهول متسائلا من أين للإنسان كل هذا الغضب و الكبت؟ فتيات بهذه الأعمار تعرضن للإغتصاب ثم القتل بوحشية, فتاة صغيرة ماتت تحت الثلوج بعد إنتظارها أمام المنزل حيث كانت أمها في منزل عشيقها بينما الأب مع عشيقته في مدينة أخرى كما هو موضح في محضر الشرطة المرفق مع التحقيق في حالة الوفاة. وهكذا عشرات من الإناث بأعمار أقل من 12 سنة أختبأن مبكرا في القبور هربا من قسوة الإنسان الحي, حيث إن الكائن الإنساني يكون مسالما بعد موته, إحتضن “أناتولي” الأوراق وجلس يبكي ويرتجف و أصبح يتنفس بصعوبة قبل أن ينطلق هاربا من هذا المكان الذي سيبقى شاهدا على القبح الإنساني مهما تم طلاء جدرانه أو حرق أرشيفه, وصل “أناتولي” إلى المقبرة الجديدة راكضا باحثا عن قبور الفتيات الصغيرات حتى وجد بعضها وبدأ يسقط فوق القبور ويقوم باكيا لا يعرف ماذا يفعل وكأنه المسؤول الوحيد عن مأساتهن حتى أغلق الحزن عينيه نائما على أحد القبور, كان يرتعش حين شاهد نفسه نائما على قبر بدأت تربته تتحرك و ازاحته لبضعة خطوات عن شاهدة القبر, ثم أنفجر القبر وتصاعدت نافورات من الطين أصبح بعدها القبر مفتوحا, سار “أناتولي” بخطوات ثقيلة ونظر ليشاهد داخل الحفرة تابوت مفتوح وبداخله طفلة صغيرة شقراء تنظر الى الأسفل وتقول : (أريد الذهاب الى المنزل) حتى رفعت رأسها فجأة وصرخت في وجه “أناتولي” بقوة (أخرجني من هنا).

مع الصرخة إستيقظ “أناتولي” غير قادر على التنفس ليجد نفسه لا يزال مستلقيا فوق القبر!, لم يفكر بالحلم كثيرا أسرع إلى خرابة قريبة وعاد ومعه إزميل وذراع خردة حديدية وبدء يحفر حتى ظهر التابوت أمامه, صنع شقا في التابوت ثم حطمه و سحب بحذر شديد جثة طفلة صغيرة كان يغطي وجهها ذباب اللحم , تملك البرد من جسمه ولم يتمكن من التنفس بشكل طبيعي, إحتظنها وهو يبكي ويكرر ( أنا آسف.. أنا آسف حقا), حملها وأخذ يجري في المقبرة حتى وصل لقبر مهجور يحتوي سرداب, إحتفظ بالجثة هناك وعاد إلى المنزل ولم يعلم إن هذا اليوم ليس كباقي أيامه التي مرت, و إن هذه البداية لن تنتهي أبدا حيث إن الإنسان – العاطفة يقتصر وجوده في مجتمع الكائن الإنساني على شكلين, أما مكتئب يصفونه بالجنون أو مكتئب إتخذ قرار إرتقاء الكرسي و التدلي من طرف الحبل.

في اليوم التالي عاد “أناتولي” ليلا الى السرداب الذي أخفى فيه جثة الفتاة الصغيرة حاملا الكثير من أكياس الملح و الصودا لمعرفته من كتب قدماء المصريين المختصة بالتحنيط أن لهذه المواد قدرة عالية على إمتصاص الرطوبة و المحافظة على الأجسام. صنع خليطا من الملح و الصودا ووضعها في كيس من القماش كان قد جهزه من جوارب نسائية جمعها من القمامة, وضع الأكياس على جسم الطفلة وربطها ثم غلف الجثة و الأكياس معا بالسيلوفان. كان يغير الأكياس مرة كل أسبوع, اما الأكياس القديمة فكان يضعها في المقبرة في أماكن مهجورة تحت أشعة الشمس لتجف, عندما إنتهى “أناتولي” من عملية التحنيط لف المومياء الصغيرة بقماط وحملها الى المنزل.كان يقوم بهذه العملية في المدة من أبريل حتى اكتوبر حيث يكون والداه العجوزان في المزرعة خارج المدينة, في المنزل قام “أناتولي” بصنع دمية بالحجم الطبيعي من مومياء الطفلة, حيث كان يحشي المومياء ببعض الخرق ثم يضع لها فوطة صحية نسائية (فوطة حيض), وفي داخل القفص الصدري كان يثبت صندوق موسيقى فيه بعض أغاني الأطفال أو كلمات مثل ماما و بابا كذلك داخل المومياء وضع فروة رأس بشرية قديمة كان قد وجدها في المقبرة, ثم يخيط الجسد بخيط سميك ثم يضع قناع من الشمع على الوجه فوقه طبقة رقيقة من الوارنيش ثم يغلف الدمية بجوارب نسائية رقيقة مطاطة لكي تبقى متماسكة وبعدها يلبسها ثياب عادية.

blank
اولغا .. كانت في طرقها لبيت جدتها عندما خطفها مدمن مخدرات طمعا بالقطع النقدية المعدنية في حقيبتها الصغيرة .. بعد دفنها سحبها اناتولي من القبر وحولها الى هذه الدمية

إستمر “اناتولي” بالنوم على القبور وتلقي الإشارات من الصغيرات لإنقاذهن, وأحيانا كان يدفعه الفضول حين لا يتلقى إشارة من صاحبة القبر فيستخرجها كذلك لمعرفة الأسباب. ربما مسألة التواصل مع الموتى إستمدها “أناتولي” من ثقافات أقوام مثل (الكيلت) و (ياقوتا) بإعتباره واحد من أفضل المؤرخين في روسيا.

الكيلت أو (السيلت) قبائل هندو-أوروبية كثيرة الإقتتال لم يوثقوا شيئا من حضارتهم حيث لم يعرفوا الكتابة ولا الرسم أو أي شكل من أشكال الفنون وكل المعلومات التي وصلت عنهم جاءت من حضارات إحتكت بهم وعاصرتهم مثل الرومان, عاش الكيلتيون في العصر الحديدي ويقال إن الكيلت هي نفسها بلاد الغال وما تبقى من اللغة الكيلتية هي بعض كلمات في اللغة الويلزية, الاسكتلندية و الايرلندية القديمة.
أما ياقوتا أو جمهورية ساخا كما تعرف الان فهي تقع في الشرق الاقصى من منطقة فيدرالية روسية ولغتهم تركية – سيبيرية.

أصبح لدى “أناتولي” في غرفته الكثير من الدمى التي كان يعاملها معاملة الأطفال حيث يجلسها أمام التلفاز لمشاهدة الرسوم المتحركة ويجلسون معا على مائدة الطعام, يرقصون ويغني لهن أغاني الأطفال, كان لديه 30 دمية حيث أن اعياد ميلاد الدمى موزعة على تسلسل أيام الشهر, كل يوم كان لدى “أناتولي” وصغيراته عيد ميلاد. أصبح “أناتولي” أكثر عزلة حيث إن لديه عالمه الخاص الذي قد لا يكون حقيقيا بالنسبة للآخرين إلا أنه عالم لا مكان للمتصنعين فيه, وإزدادت تصرفاته غرابة ففي إحدى المناسبات إجتمعت العائلة في منزل “موسكفين” و جلس “أناتولي” وأجلس بالقرب منه على الطاولة دمية وقدمها لتتعرف إلى العائلة الكبيرة مناديا إياها بـ “ماشا” مما أثار إستغراب العائلة.
كذلك بدت تصرفات “أناتولي” غريبة بعض الشيء في عمله في الصحافة حيث كتب عدة مقالات صريحة وصادمة معتمدا على معلوماته كمؤرخ خصوصا فيما يتعلق بسلسلة مقالات عن عصر السطوة التتار- مغولية حيث كتب “أناتولي” عن إغتصاب التتار للفتيات الروسيات مما أدى إلى إختلاط الأنساب مهاجما التتار الذين يمتلكون امتداد قوي في روسيا و أوروبا الشرقية عموما.

بعد هذه المقالات أخذت حالة من العدائية تطفو على صفحات الجرائد , مناوشات وتبادل الإتهامات بين ” أناتولي” ومؤيدين له من جهة و بين جهات قانونية معترضة على هذا الطرح حتى وصل الحال في عام 2010 لوضع مراقبة على “أناتولي” من قبل شرطة مركز مكافحة التطرف. بعد إستمرار التصعيد فيما يتعلق بمقالاته وكنوع من الإنتقام قام “أناتولي” بتشويه قبور بعض التتار عن طريق رش الأصباغ على صور شواهد القبور أو لصق جرائد قديمة لحجب صورهم و أسمائهم حينها تقدم عدد من النشطاء بدعوى الى مركز مكافحة التطرف يتهمون “أناتولي” بهذا العمل التخريبي كونه مهاجم دائم وناقد لاذع للتتار وكانت هذه بداية أخرى لبداية “اناتولي” الاولى تلك الليلة حين حفر القبر الأول معلنا عن بداية غير منتهية.

في يوم 2 نوفمبر من عام 2011 زار أفراد من مركز التطرف منزل “أناتولي” لسؤاله و التحقيق معه بخصوص الإتهامات, وأثناء حديث أحد الأفراد مع “أناتولي” كان زميله يتجول في الغرفة حيث لامس إحدى الدمى لتبدأ بالغناء, كانت الدمية تنظر مباشرة في عينيه, حملها وجدها ثقيلة وتبدو حقيقية أكثر من اللازم. بدأ يهزها بقوة حتى سقطت من الدمية فروة رأس وبعض الخرق حينها انضم إليه زميله وبدأوا بفحص الدمى كلها حتى تأكدوا أن هذه الدمى الجميلة التي تغني ما هي إلا مومياوات لجثث فتيات صغيرات. بعد ساعة كانت الشرطة و الصحافة في المنزل و أفراد من الطب العدلي قاموا بإستخراج 30 مومياء من غرفة “أناتولي”.

المحاكمة: الجلسة الأولى

blank
كانت هناك عشرات الدمى البشرية في منزله

في البداية سمح القاضي للصحفيين بإجراء حوارات سريعة مع “أناتولي” إلا أنه لم يجيب على الاسئلة بعد طرح أحد الصحفيين سؤالا غريبا قابله موسكفين بإجابة اغرب عندما سأله الصحفي:

– هل تؤمن بـ لوسيفير؟ – ابليس –

– أسمه ما شئت أنت لا تحتاج إلى رؤية مصدر الرائحة الكريهة!!

بعد هذه الإجابة إمتنع “أناتولي” عن الحديث الى الصحفيين لتبدأ الجلسة بطرح القاضي بعض الأسئلة:

– متى إكتشفت شغفك بأماكن الدفن؟ ما الذي دفعك إلى ذلك؟

– أتذكر جيدا .. 4 مارس 1979 قاموا بجمع التبرعات في مدرستنا, أخبرونا إنها لطالبة في المدرسة المجاورة قد توفيت, “ناتاشا بيتروفا” صاحبة الـ 11 عام كانت تستحم عندما بدأت الأضواء بالإنطفاء و الإشتعال مرارا وتكرارا نتيجة هبوط في التيار الكهربائي, الفتاة الصغيرة خرجت من حوض الإستحمام وأمسكت سلكا عاريا بطرف منشفة مبللة وماتت على الفور نتيجة صعقة كهربائية شديدة, لم يكن لـ “ناتاشا” أب و امها كانت تنتمي لطائفة عقائدية مبهمة.
بعد إنتهاء الدوام يومها كنت واقفا مع بعض أصدقائي عند مدخل العمارة حيث تسكن “ناتاشا”, شاهدنا كيف يخرج التابوت محمولا بينما يقف عشرات الرجال و النساء امام المدخل يرتدون ملابس سوداء يحملون الشموع ويرنمون بلغة لم نفهمها, أحد الرجال إنتبه لوجودنا ووضع يده على كتفي وسحبني بالقرب من التجمع حول التابوت حيث تقف والدة “ناتاشا” التي أعطتني تفاحة كبيرة وقبّلت جبيني ثم أحضرتني امام التابوت مباشرة ووعدتني بالكثير من
الحلوى وكذلك النقود إن قمت بتقبيل “ناتاشا” داخل التابوت, إنفجرت حينها بالبكاء وكنت أرتجف خوفا واتوسل أن يتركوني لكن الأم وأعضاء الطائفة أصروا على ذلك ووقفوا يرنمون مجددا صلوات بلغة اجنبية غير مفهومة ، عندها قام أحد أعضاء الطائفة بحني رأسي داخل التابوت ولم يكن امامي سوى تقبيل جبين الفتاة الميتة, قاموا بهذه العملية أكثر من مرة ثم طلبوا مني أن أقرأ تعويذة ما باللغة الروسية القديمة (السلافية الشرقية). بعد إنتهاء الصلوات طلبوا مني أن أمسك شمعة لتسقط قطرات منها على صدر فستان “ناتاشا” ثم أحضروا حلقتين من النحاس وطلبوا مني أن أضع واحدة في أصبعي و الاخرى في إصبع “ناتاشا” ثم أخذوا حقيبتي المدرسية وذهبنا جميعا إلى باصات كانت تستعد للذهاب إلى المقبرة.
في الطريق والدة “ناتاشا” طلبت مني أن لا أخبر أحدا بخصوص هذا اليوم حتى إنتهاء مدة 40 يوم, في المقبرة الحفنة الاولى من التراب ألقتها الأم على التابوت داخل القبر وجعلوني ألقي الحفنة الثانية. بعد إنتهاءالمراسيم عدنا امام مدخل العمارة حيث اعادوا لي حقيبتي بعد أن
ملؤوها بملابس “ناتاشا” وبعض الخرق ثم ملؤوا جيوبي بالحلوى واعطوني سلة من الفواكه بالاضافة الى ورقة نقدية فئة 10 روبل, خلال عودتي الى المنزل وبعد المنعطف الأول قمت بتفريغ الحقيبة من الملابس ورميت الحلقة النحاسية في كومة ثلج معتقدا بأني قد تخلصت
من هذا اليوم الى الأبد…
صمت “أناتولي” قليلا وبدا شارد الذهن حتى سأله القاضي:

– ما الذي حصل بعد ذلك؟

– “ناتاشا”.. كانت تزورني في المنام كل ليلة وهي تغني أغاني غريبة , في أحد الكوابيس طلبت مني أن اتعلم بعض الطقوس السحرية, عندما كنت اغادر مع العائلة خارج المدينة كانت كل هذه الكوابيس تختفي, لكنها تعود مع أول يوم أعود فيه إلى المنزل, لم تكن مجرد كوابيس, بدأت أشاهدها كخيال أو طيف دخاني.. كنت أشعر ببرد شديد كل مرة أشاهدها أمامي, بعدها أصبت بالهلوسة,كنت أهذي ليلا
طبيب العائلة أخبرنا بأنها أعراض إنسحاب هرموني. وافقت لاحقا على تعلم بعض المراسيم السحرية, قامت “ناتاشا” بتعليمي كيفية نقل الكوابيس الى زميل دراسة كانت بيننا مشاكل مستمرة, وعن طريق تلك المراسيم ودعت “ناتاشا” الى الابد وبدلا عن ذلك أصبحت علاقتي بزميل الدراسة جيدة جدا!
رغم ذلك كنت دائما أذهب لزيارة قبرها, لم يكن أحد يعتني بالقبر بعد موت جدتها وذهاب أمها بعيدا, إعتنيت بالقبر لمدة 14 سنة.

blank
خلال محاكمته

لم يستطع القاضي إخفاء دهشته من قصص “أناتولي”, لذلك حاول إعادة الجلسة الى صلبها وسياقها:

– لكنك تعلم إن ما قمت به من حفر للقبور و إخراج للجثث هو مخالف للقوانين؟

– نعم اعرف إن هذا غير قانوني.. لكن مع ذلك عندما كان عالمنا “نيكولاي دوبينين” ( عالم أحياء واكاديمي) يجري التجارب على ذبابة الفاكهة بشكل سري في المخزن هو كذلك كان يعرف ان ما يقوم به مخالف للقانون! الفارق الوحيد إن وقتها كان “علم الوراثة” محظور أما الآن فالتخطيط و التفكير هو المحظور!!

– هل تقصد بأنك لم تقم بإخراج الجثث لأنك أردت طفلا ولم تنجح في التبني؟

– نعم.. أردت بشدة أن يكون لدي طفلة أعطيها معرفتي وتجربتي في الحياة, تم رفض طلب التبني أكثر من مرة بحجة الدخل القليل, حقا أنا لم انظر الى النقود.. كنت دائما مهتم بأشياء أخرى تعطي اهمية للاخرين, اشياء ممتعة, وهذا ليس السبب الوحيد, بماذا تفسر المحكمة المواد الجينية التي احتفظت بها من كل طفلة اخرجتها من القبر؟
كنت اعقتد ان يوما من الأيام سيتمكن العلم من إحياء تلك الصغيرات, كنت اتعامل معهن على إن هذه الفتيات ميتات مؤقتا و سيعدن للعيش مجددا وسأقوم بتعويضهن عن كل الاهمال و القسوة.

– ماذا فعلت مع الأطفال في المنزل؟

– كنا نتحدث, كان لدينا فريق, تشكيل هرمي للفريق يتكون من قائد و معارض و أفراد وأصدقاء, لدينا لغتنا الخاصة, اعيادنا الخاصة كان لدينا عالم داخل العالم! كنت أغني لهم اغاني الاطفال والرسوم المتحركة.

تم إعتبار “أناتولي” مذنبا وفق المادة 244 من القانون الروسي وتم توجيه تهم مثل الاساءة الى أجسام الموتى , الاساءة وتخريب أماكن الدفن.

في عام 2012 تم إعتبار “اناتولي” مجنونا من قبل المحكمة وتم تحويله للمراقبة و التقييم النفسي الاجباري في مركز صحي مغلق.

بعد عام من المراقبة قدمت لجنة التقييم النفسي تقريرها الى المحكمة والتي أقرت فيه بأن “أناتولي موسكفين” مريض نفسي وإن الفحوصات تشير الى الشيزوفرينيا و جنون العظمة وطلبت اللجنة من “أناتولي” أن يعلن ندمه عن هذه الافعال امام المحكمة بالاضافة الى الاعتراف بمرضه.

في تلك الفترة شنت الصحافة هجوما على “أناتولي” واصفة إياه بأوصاف مثل ( رب عالم المومياوات, عالم المقابر المحلي المجنون, سفاح المدينة, عالم الاثار الاسود, صاحب العرائس وغيرها من الاوصاف).

أقارب بعض الفتيات طالبوا بتعويضات مالية قدرها نصف مليون روبل وإنضم اليهم عدد من الانتهازيين و النفعيين وقرروا أن يحضروا الجلسة القادمة!.

المحاكمة: الجلسة الثانية

دخل ” اناتولي” قاعة المحكمة وشاهد أقارب بعض الفتيات يتمتمون فصرخ بهم : ( أين كنتم!! عندما تعرضت الفتيات الصغيرات للاغتصاب و القتل! أين كنتم عندما تجمدت بناتكم وهي تنتظركم امام المنزل بينما انتم تلهون في أماكن بعيدة!! لن أسامحكم مطلقا! هذا القفص لكم وليس لي! عار عليكم).

بعد أن زال التوتر من القاعة وعند بدء الجلسة طالبت والدة إحدى الفتيات بالتعويضات وبينما هي تتكلم ببرود قاطعها زوجها قائلا : ( حتى وان كانت زوجتي تريد ذلك.. أنا ارفض التعويض.. ليس على “أناتولي” أن يدفع.. حيث انه عامل طفلتي بعد وفاتها افضل مما عاملتها انا في حياتها, كان يلبسها ملابس جميلة, يضعها في سريرها, يحكي لها حكايا ما قبل النوم, يغني لها ويجلسها امام التلفاز لمشاهدة الرسوم المتحركة).

أما ” أناتولي” فقد إعترف بكل الاشياء التي طلبت منه لجنة التقييم النفسي الاعتراف بها امام المحكمة وبعدها تكلم قليلا عن وحدته:

-عانيت كثيرا من الوحدة … خصوصا في فصل الصيف عندما كانت عائلتي تغادر الى المزرعة خارج المدينة, كانوا ياخذون حتى القطط معهم..

– بإعتقادك ..ما سبب إصابتك بكل هذه الازمات النفسية؟

– سؤالا واحدا كان هو السبب في إصابتي بالشيزوفرينيا: ( كيف من الممكن أن يكون لينين هو أكثر حياة من كل الاحياء بينما في ضريحه هنالك دمية فقط؟!!.

لم يعلق أحدا بعد هذا التعليق من “أناتولي” وانتهت الجلسة على ذلك بينما “أناتولي” إبتسم إتسامة غريبة بعد هذه الجملة.

blank
قابعا وحيدا في مصحته النفسية .. يا ترى بماذا يفكر؟

الى يومنا هذا لا يزال “اناتولي موسكفين” في مصحة نفسية مغلقة شديدة الحراسة تخضع لقوانين صارمة فلا وجود للمصابيح الكهربائية فيها حيث من الافضل أن يعيش النزلاء على الضوء الطبيعي فقط و أن يناموا عند غروب الشمس! ولم يسمح لهم بالمشي كثيرا حيث يقضون أغلب الاوقات داخل غرفهم, يقال من خلف سياج هذه المصحة من الخارج لا يمكنك سماع شيء ليلا إلا من مكان واحد في غرفة معزولة تحتضنها زاوية الشارع وبعد منتصف الليل أحيانا يمكن سماع بعض اغاني الرسوم المتحركة بصوت متعب وحزين :

سوف يأتي الساحر
في طائرة مروحية زرقاء
سيجعلنا نشاهد السينما مجانا!!
سيهنئني بعيد ميلادي
وربما يهديني 500 قطعة بوضة!!

كلمات مفتاحية :

– Anatoly Moskvin

تاريخ النشر : 2021-05-14

guest
31 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى