اساطير وخرافات

أليفة بنت حلب – أسطورة من التراث الحلبي

بقلم : امرأة من هذا الزمان – سوريا

انتصر الحق و زهق الباطل وأنصفت الدنيا ابنة حلب بعد أن أرتها العجب
انتصر الحق و زهق الباطل وأنصفت الدنيا ابنة حلب بعد أن أرتها العجب

 

أليفة من تراث حلب أهل الأدب والطرب.

يُحكى أنه في قديم الزمان و في قرية جميلة من قرى حلب الشهباء كان هناك رجل كريم الخلق لطيف المعشر عادل صادق أمين وكان الله قد أعطاه من الخير والمال والأملاك ما جعل أهل القرية يحبونه و يقدرونه ويعينونه آغا عليهم.

كان الآغا ذو خلق ومال وجمال واثنتي عشر من الزوجات الجميلات الحسان ، ولكن كعادة الأحوال فلا تكتمل السعادة لأحد فقد كان الآغا عقيماً لا ينجب ، و قد رزقه الله المال من زينة الحياة الدنيا وحرمه الزينة الأخرى وكان هذا الأمر يحزنه و يقض مضجعه.

و في يوم من الأيام جلس الآغا على فسحة أحد منازله يتأمل جمال الأرض الخضراء والسماء الزرقاء وإذا به يرى طيراً على شجرة يطعم صغاره في العش ، ثم نظر أمامه ليرى دجاجة من دجاجاته تمشي و ورائها فراخها الصغار،  و راح يتأمل ف هنا نعجة ترضع حملها و هناك بقرة ترعى مع عجلها ، و في مكان آخر فرس مع مهرها ، و أطفال القرية يلعبون و تتعالى ضحكاتهم ، أينما نظر كانت الكائنات كلها سعيدة تحمي وترعى صغارها إلا هو ، رغم كل ما يملك لم يستطع أن يكون له صغير أو صغيرة تفرحه وتؤنس قلبه ، اغرورقت عيناه بالدمع وخرج من المنزل هائماً على وجهه حتى لا يراه أحد يبكي ، لم يكن يعلم إلى أين يتجه ، ترك قدميه تقودانه حيث تريدان ، لم يشعر بنفسه إلا واقفاً أمام عين الماء في الغابة التي على الجبل المجاور لقريتهم ، جلس أمام العين و راح يبكي و يبكي و يصرخ بحرقة.

و فجأة اهتزت الأرض تحته هزة و كأن زلزالاً عنيفاً أصاب الدنيا ، أراد الوقوف و لكنه وقع أرضاً من هول الهزة و ما راى ، انشقت عين الماء التي أمامه من المنتصف و راح يغور مائها حتى فرغت وصار يسطع ضوء أزرق مائل للخضرة كلون ماء النبع تماماً ، و ظهر من الشق رجل مسن ، كان شيخاً كبيراً بشعر أبيض و ذقن بيضاء طويلة حتى خصره و حاجبين عريضين وطويلين يكادان يغطيان عينيه ، و كان وجهه أبيض محمر ويرتدي ثوباً أزرقاً فاتحاً ، نظر إليه الآغا بخوف ممزوج بفضول ، و ما زاد فضوله عندما رأى أن عيني ذلك المسن كانتا مشقوقتين بالطول ولونهما أزرق صافي بلا بياض ولا سواد ، تهيأ الآغا للهروب ، و لكن صوت الشيخ أوقفه : توقف يا فلان لا تهرب.

blank
انشقت عين الماء التي أمامه و ظهر رجل مسن بشعر أبيض

تجمد الآغا في مكانه وتجمد الدم في عروقه ، من أين عرف الرجل اسمه ؟ .

– أنا سيد هذه العين يا آغا و قد سمعت صوت بكائك و رغبتك الشديدة بإنجاب طفل من صلبك و سأساعدك لأنني أعرف أنك رجل خلوق وكريم وطيب.

– و كيف عرفت بأني رجل طيب و كيف ستساعدني ؟

قاطعه الرجل قائلاً :

– يا ابني أنا سيد العين والمياه التي تراها وكل نسمة هواء وكل قطرة ماء وكل ورقة شجر حولك تحدثني وتخبرني عن أحوال الناس ، و أما كيف سأساعدك ؟.

أخرج الرجل من كم ثوبه الأزرق تفاحة نضرة شديدة اللمعان و الصفرة حتى ليظن الرائي أنها مصنوعة من الذهب.

– هذه تفاحة زينة الحياة يا آغا ، يكفي أن تأكل منها و تطعم كل من زوجاتك قضمة منها وأما ما يزيد منها فقسمه قسمين ادفن أول قسم في أرض من أراضيك وأخلط القسم الآخر بعلف دوابك وعندها ستتمتع بكل ما في هذه الحياة من زينة ، مال وبنون و رزق و بركة في كل ما يأتيك.

blank
أعطاه العجوز تفاحة ذهبية عجيبة سوف تغير حياته 

اقترب الآغا من ضفة العين بلهفة ليلتقط التفاحة من الرجل ، ولكن الرجل أمسكها وأكمل كلامه.

– ولكن عندي شرط واحد.

– اشرط أي شيء أعطيك ما تريد ، حتى روحي أعطيك إياها ، بعد أن أرى ولداً من صلبي.

– لا أريد روحك ، و لكن سيولد لك الكثير من الأولاد والبنات ، وشرطي هو أن تعطيني أول بنت تُرزق بها ، فأنا كما ترى شيخ كبير وأعيش وحدي في قصري لا أحد يؤنسني ولا يقوم بخدمتي ، وأعدك أنني سأعتبرها كأبنتي.

فكر الآغا ملياً و لشدة يأسه حدثته نفسه قائلة وما الضرر هي بنت واحدة ، و ما واحدة أمام عشرات الأولاد الذين سيحملون إسمي و يحققون حلمي ، وافق الآغا و أخذ التفاحة وانطلق إلى القرية مسرعاً.

نفذ الآغا ما أملاه عليه سيد العين ، و فعلاً وبعد مرور فترة بشرته نسائه كلهن بحملهن و حتى دوابه كلهن حملن للمرة الثانية تلك السنة ، و أما الأشجار فقد ثقلت بالثمار والأرض ازدانت بالخيرات.

و راحت دوابه تلد الواحدة تلو الأخرى ، و ولدت نسائه ، و في سنة واحدة رُزق الآغا ب ١١ ولداً ومئات الدواب ، حتى بلغ عدد ما ولد له من أبناء و دواب ما يزيد عن الألف..

و بقت فقط زوجته الصغرى فقد كانت حاملاً بشهرها الأخير و رُزقت بمولودة أنثى أسماها أبوها أليفة ، أي الواحدة بين ألوف ، فرح الآغا بأليفة أشد الفرح فكانت أنيسة قلبه و حنونته ، و لشدة سعادته نسي الشيخ و وعده للشيخ فقد أنساه أولاده وأرزاقه أي شيء آخر ، مرت السنون والزوجات ينجبن الولد تلو الآخر ولم تلد ولا واحدة منهن بنتاً ، فكانت أليفة وحيدته إبنه التاسعة شديدة الجمال والذكاء والأدب بالرغم من صغر سنها.

و في تلك السنة قرر أبوها إرسالها لتتعلم أسس الكتابة والقراءة والحساب ، و كان ذلك ممنوعاً على البنات ، و لكن وحيدة قلبه أليفة لم تكن كباقي البنات.

في يوم من الأيام خرجت أليفة من حلقة العلم متجهة للمنزل ، وإذا بشيخ مسن يقف أمام دار المعلم ، صاح لها الشيخ بالاسم : أليفة ، أليفة تعالي يا ابنتي ، تفاجأت اليفة من هذا الغريب كيف يعرف اسمها ! اتجهت إليه بخجل و قالت له : ماذا تريد يا جدي ؟.

أجابها :- سلمي لي على أبيكِ يا إبنتي وأنشديه :

أليفة يا ألف ألوف سلمي لي على أبوكِ الزين.

قولي له يا آغا شوف وعد الحر عليه دين.

مشى الشيخ ببطء وأليفة تنظر إليه بغرابة فهي لم تفهم شيئاً ، عادت إلى المنزل و ما إن رأت أمها وأخوتها ينتظرونها على الطعام حتى نسيت الشيخ و شعره الغريب.

في اليوم التالي تكرر نفس الموقف ، أوفقها الشيخ وأستفسر عن والدها و لكنها اعتذرت منه وأخبرته بأنها نسيت إيصال الرسالة لأبيها ، فأنشدها بيت آخر قال فيه:

يا آغا أدي الأمانة الأمانة حمل رجال.

لما عرضها رب العرش رفضتها حتى الجبال.

أعطيني حقي يا آغا..أليفة رزقي الحلال.

و نفس المرة الأولى نسيت طفلتنا إيصال المرسال لأبيها الآغا .

و في اليوم الثالث جاء الرجل غاضباً وقال لها : ماذا قال لكِ أبوكِ ؟ فأخبرته أنها نسيت ، وهنا قال لها : حسناً ، سأعطيكِ هذه التفاحة الصفراء ، أعطيها لأبيكِ وأخبريه : سيد العين ينتظرك بعلامة هي التفاحة.

وصلت أليفة إلى المنزل و راحت تبحث عن أبيها وكأن كلام الشيخ السهل سهل عليها المهمة ، و ما إن لمحت الآغا في بيت خالتها الكبيرة حتى فتح يديه ليستقبلها في حضنه فركضت إليه وضمته وهمست بأذنه.

– يابي سيد العين ينتظرك بعلامة هي التفاحة ، وأخرجت التفاحة من جيبها.

جحظت عينا الآغا و وقع على ركبتيه ولم يعد قادراً على النطق بحرف و كأن صاعقة أصابته. هرعت إليه زوجته وأولاده وأجلسوه في مجلسه ، و راحت زوجته تستفسر منه عن حاله هل هو مريض أو متعب ؟.

انفجر الآغا بالبكاء و راح يهذي ويقول : انخرب بيتي يا مرة ).

خافت زوجته وسألته عن سبب هلعه وحزنه ؟ فقص عليها القصة التي حدثت منذ ١٠ سنوات والوعد الذي وعده لسيد العين ، وأن السيد يريد أمانته التي هي أبنته الوحيدة الغالية .

ولكن الزوجة قالت له : بأنه لا يستطيع التملص من وعده وأنها تخاف إن هو أخلف وعده بأن ينتقم الشيخ فيضر باقي أبنائه ، و كان سهلاً عليها القول بتنفيذ الوعد فالفتاة و إن كانت غالية عليها فهي ليست ابنتها ، وأبنائها أهم من كل شيء عندها.

رضخ الآغا للأمر الواقع فلا مفر من وعده ، قال لأليفة : يا ابنتي اذهبي إلى أمك فلتحممك وتهيئ لك لباساً وأغراضاً ، سأخذك إلى قرية عمتك غداً لتزوريها عدة أيام ، فرحت الفتاة الصغيرة وطلبت من أمها تهيئتها غير عارفة بمصيرها.

في صباح ذلك اليوم كانت أليفة بفستانها الزهري وجدائل شعرها الأسود وحذائها الأبيض كقمر ، وكانت شديدة السعادة ، و ما إن رأت أبوها حتى ودعت أمها بقبلة وحملت حقيبة لباسها وخرجت إليه ، ركب الاثنان حصان أبيها وصار يمشي الحصان في الغابة حتى وصلاً إلى العين ، نزل الأب وأنزل الصغيرة التي كانت مستغربة تسأله : هذا ليس بيت عمتي يا أبي ؟.

أخبرها أبوها وهو يبكي : يا ابنتي أنا سأعطيك للشيخ الذي رايتيه ، وهذا وعد قطعته على نفسي ، نظرت إليه الصغيرة ومسحت دموعه ، و لأنها طفلة ذكية قالت لأبيها : لا تخف علي يا أبي ، سأكون بخير.

اهتزت الأرض وانشق العين وظهر سيدها ، ارتعدت الطفلة خوفاً من شكله فقد اختلفت عيناه وملابسه عن شكله عندما كان ينتظرها أمام دار المعلم ، و زاد خوفها عندما أمسك بيدها بقوة وقال لأبيها : لا تخف ، إنها في الحفظ والصون.

حمل الرجل أليفة على ظهره وسط بكاء الأب وبكاء الطفلة و قال له : هيا اذهب حتى لا تؤلم فؤاد الصغيرة ، وقال لها : تمسكي جيداً يا ابنتي ، و نزل تحت العين وأغلقت الأرض ثانية ، صار سيد العين يطير إلى الأسفل بسرعة كبيرة و أخبر أليفة بعد فترة من طيرانه : انظري إلى أعلى يا ابنتي ، كم حجم الأرض فوقك ، فقالت له : هي بحجم سفرة الطعام المستديرة في بيتنا ، فقال : إذاً لم نصل بعد ، طار الرجل وطار و طار ، وسألها : والآن يا ابنتي ؟ قالت له : هي بحجم رغيف الخبز الذي تصنعه أمي ، فقال : إذاً لم نصل بعد ، و عاد الشيخ إلى الطيران بسرعة ، وسألها : والآن يا أبنتي ؟ قالت : أصبحت بحجم البيضة التي تضعها دجاجتنا ، فقال لها : إذاً وصلنا الآن.

blank
اخذ العجوز اليفة و انطلق بها الى اعماق المياة 

حط السيد رحاله على أرض غريبة لا تشبه قرية أليفة التي مرت سنين وهي على ظهر سيد العين ، فها هي قد أصبحت شابة شديدة الجمال في العشرينات من عمرها وكأن الزمن في عالم السيد يختلف عن الزمن على أرض حلب.

وقف السيد وأليفة أمام قصر كبير وموحش أكبر من قرية أليفة كاملة ، تحيط به الأشواك والأشجار اليابسة ، وقال لها : تفضلي يا ابنتي ، هذا بيتك الجديد.

دخلت أليفة وإذا بقصر مهيب أمام عينيها مليء بأثاث وستائر جميلة ، راحت تتأمل بإعجاب شديد القصر فقاطع ذهولها السيد المسن قائلاً : يا أبنتي أنتِ ملكة هذا القصر وكل القصر في خدمتك ، ستجدين في الأعلى ٢١غرفة عشرون منها تحتوي على كل ما تحتاجينه من طعام وشراب وتسالي ولباس وأحذية و زينة ، وأما الواحدة والعشرون فهي غرفتي و محرم عليكِ دخولها ، والويل ثم الويل لكي إن أنتِ دخلتيها ، أما أنا فأنام شهور الصيف والربيع وأستيقظ شهور الشتاء والخريف ، وكما تعلمين فنحن في بداية أيلول و حان وقت نومي يا بنتي ، اعتبري نفسك في منزلك و سأراك في بداية الربيع.

blank
دخلت أليفة وإذا بقصر مهيب أمام عينيها مليء بأثاث وستائر جميلة

ذهب الشيخ و بقيت الشابة وحدها ، فقررت اكتشاف القصر ، دخلت الغرفة الأولى فكانت كجنة أطعمة كل ما تشتهيه النفس من طعام لحوم ودجاج وخضار مسلوقة ومقلية ومشوية وأرز وحنطة ولبن وجبن وبيض وخبز ساخن وكل ما لذ وطاب ، تناولت أليفة الطعام حتى أحست بالتخمة و وضعت رأسها ونامت من شدة التعب ، استيقظت بعد فترة وخرجت من الغرفة لتدخل التي تليها وإذا بها مليئة بالحلويات من كل الأشكال والألوان ، وبعدها غرفة مليئة بالفاكهة و بعدها غرفة مليئة بأنهار مما لذ وطاب من أشربة وعصير وحليب وعسل ولباس وأحذية و مجوهرات و زينة للوجه وللشعر وألعاب و دمى وحيوانات اليفة و و و و….كل ما تشتهيه الأنفس ، و في الغرفة العشرين رأت عيني ماء واحدة من الذهب والآخر من الفضة ، صارت تغتسل بعين الفضة فأصبح جسمها و وجهها أبيض مثل الثلج و يلمع بشدة كالفضة ، وتغسل شعرها بعين الذهب فتحول من الأسود للأشقر.

بقيت أليفة على هذا الحال تتنقل بين الغرف تأكل وتشرب وتتزين وتتسلى بالألعاب والحيوانات الجميلة ، ولكن الملل بدأ يتسلل إليها والفضول القاتل أعماها ، فخرجت يوماً من إحدى غرفها لتقف عند باب الغرفة المحرمة ، كان باباً خشبياً أسود ضخماً ، وقفت أمامه والفضول يأكلها تريد أن تعرف هل السيد فعلاً نائم ، لماذا حرّم عليها الغرفة ؟ هل يُعقل أن يكون ما فيها أفضل وأجمل من باقي الغرف ؟ أسئلة كثيرة دفعتها لتفتح الباب غير آبهة بتهديد السيد و وعيده.

غرفة خالية تماماً إلا من سلم طويل على جدارها المقابل للباب يسودها الظلام الدامس و رائحة الغبار والعفن ، دخل الضوء من الخارج إلى الغرفة ، نظرت أليفة حولها ، أين السيد ؟ ليس نائماً في الغرفة ، لا بد أنه السلم ، أكيد أنه يقود لمكان آخر ، صعدت أليفة على السلم الخشبي درجة درجة لا تعرف ما ينتظرها في الأعلى ، وصل بها السلم إلى أرض واسعة مليئة ب….. يا إلهي ! ما هذا ؟ إنها قبور ..عشرات بل مئات من القبور ،

blank
صعدت أليفة على السلم الخشبي درجة درجة 

خافت أليفة خوفاً شديداً ، ولكن الخوف لم يكن كافياً ليردعها ، وضعت قدمها على أرض المقبرة و راحت تمشي بهدوء ، تفاجأت ببعض القبور مفتوحة وخالية ، فجأة سمعت صوتاً غريباً ، التفتت لترى ما هو ؟ وهي مختبئة وراء شاهدة أحد القبور ، توقف قلبها و جمد الدم في عروقها من هول المنظر الذي رأته ! كان السيد عارياً تماماً ، منحني الظهر يقف على أربع كحيوان ضاري وي صدر أصوات زمجرة مرعبة ، وما هذا ، يا إلهي ! إنها يد آدمي في فمه وهو ينهشها بوحشية ،

blank
رأت السيد في هيئة بشعة و هو عاري تماماً

ارتعبت الفتاة و صرخت صرخة لفتت نظر السيد إليها ، نظر إليها بعينيه اللامعتين و راح يركض باتجاهها و هي تركض إلى السلم ، نزلت عنه بسرعة وأوقعته أرضاً على أمل أن يؤخر ذلك نزول الوحش إليها ، ركضت في أنحاء القصر إلى مدخله حتى وصلت للباب و راحت تدفعه بقوة ليفتح ، صارت تسمع صوت زمجرة السيد في الطابق العلوي ، و بكل ما أعطيت من قوة دفعت الباب وخرجت وصارت تركض في المجهول ، تركض وتركض بين أشجار و صخور ضخمة والوحش السيد يلاحقها ، يا إلهي ! لم تعلم إلى أين و من تلجأ.

و فجأة لم تعد تسمع صوته ، فجلست و أسندت ظهرها إلى صخرة و راحت تنظر حولها إلى هذا العالم الغريب وصارت تبكي و تندب حظها وتلوم أباها على فعلته.

و من شدة تعبها غرقت في نوم عميق ، و بعد نوم طويل استيقظت على صوت كائنات غريبة تسمعها أول مرة ، تتبعت الصوت فرأت نفسها أمام قصر منيف مغطى بالسواد و تعلوه رايات سوداء ، و كانت الأصوات تأتي من حظيرة ذلك القصر ، دخلت الشابة الخائفة الجائعة إلى الحظيرة و رأت حيوانات غريبة تشبه قليلاً ما كان في قريتها ، كانت طيورا كبيرة الحجم كحجم النعجة وبيوضها بحجم الشمام ، و كانت الخيول برأسين و٦ أرجل ألوانها زرقاء وخضراء ، كانت الأبقار ضخمة جداً و أثدائهن الكبيرة تسيل سائلاً ذهبي اللون ، ولشدة جوع الفتاة قربت فمها من ثدي إحدى البقرات بنية الشرب وعندما لم تبدي البقرة أي ردة فعل راحت الفتاة تشرب وتشرب ، كان السائل حلوا كالعسل و فيه قليل من الحموضة ،

blank
رأت نفسها أمام قصر منيف مغطى بالسواد و تعلوه رايات سوداء

شربت حتى ارتوت ، و لكن فجأة دخلت إلى الحظيرة امرأة ضخمة سوداء البشرة طويلة الجسم بأنف أفطس كبير وعينين صفراوتين وشفاه غليظة وكانت تتشح بالسواد من رأسها لأخمص قدميها ، صرخت بصوت عال كأنه دق طبل وقالت : من أنتي….ما الذي جاء بك إلى هنا ؟ أمسكت بيد الشابة التي كانت كالطفلة أمامها ، أمسكتها بقوة و جرتها ورائها إلى القصر ، كانت خائفة مذعورة تنظر حولها وتبكي تارة و تتوسلها تارة أخرى ، كان كل شيء في القصر متشحاً بالسواد ، الأرض بساطها أسود ، الأثاث أسود ،

blank
دخلت إلى الحظيرة امرأة ضخمة
سوداء البشرة طويلة الجسم 

الستائر لباس الخدم لباس النبلاء ، أدوات المائدة كل شيء أسود ، الوجوه كالحة حزينة ، الجو كئيب ، و كانت كلما مرت من أمام الخدم ألقوا التحية خائفين على المرأة الضخمة ، وصلت المرأة وأليفة إلى غرفة كبيرة واسعة وكان فيها رجل وقور جميل الهيئة يجلس على كرسي مرصع بجواهر سوداء ، كان يبدو عليه الحزن الشديد ، و دار الحوار بينه وبين المرأة كالتالي :

– العفو سموك ، أعتذر لإزعاجك ، ولكنني رأيت هذه السارقة في الإسطبل و كانت تسرق حليب البقر لتشربه ، يبدو أنها من الإنس يا مولاي.

– و كيف وصلت إنسية إلى هنا يا كبيرة الخدم ؟.

– لا أدري يا سيدي ، فأنا لم استجوبها وأحضرتها إليك سريعاً ، وأظن يا سيدي أنها وراء مصيبتنا .

أسكتها الملك بإشارة منه وكأنه لم يرد أن يسمع بأسم المصيبة ، كل هذا وأليفة في خوف وذهول تام ،نبهها صوت الملك :

– من أنتي يا فتاة ، ومن أحضرك إلى عالمنا ؟.

نظرت إليه أليفة وتلعثمت بكلماتها ثم ما لبثت أن استجمعت قواها وقالت:

– يا سيدي أنا أليفة من مدينة حلب ولا أدري كيف وصلت إلى هذا العالم ، وأقسم أنني لا أريد بكم الأذى و لا دخل لي بأي مصيبة ، قالتها وهي تنظر لكبيرة الخدم التي امتعضت من كلماتها ، أنا لا أريد منكم شيئاً سوى المأوى وطعاماً أسد به رمقي ، و مستعدة أن أكون لكم خادمة مطيعة.

– حسناً يا أبنتي ، يمكنك البقاء ، ولكن بشرط أن تلبسي الأسود مثلنا.

أشار إلى كبيرة الخدم أن أكرميها.

خاطبت المرأة اليفة بعصبية : هيا أمشي أمامي ، وإياك أن لا تطيعي الكلام ، أنا هنا الكل بالكل وكلامي بعد كلام مليكي ، مهما كانت طلباتي ستقولين لي أمرك يا ست الكل.

blank
كان الملك حزين جداً و يجلس في الظلام

ألبست بعض الخادمات أليفة ثياباً سوداء وارينها واجباتها في المطبخ ، وهناك قابلت صديقة شابة مثلها كانت تعمل هي وأمها في المطبخ ، كانت الفتاتان تستغلان أي فرصة لتتهامسا وتضحكا ، ولكن ما أن تدخل الكبيرة حتى يعم الصمت خوفاً ، و بعد عدة أيام سألت أليفة صديقتها عن سر حزن سكان هذا القصر و اتشاحهم بالأسود ، وأين ملكة القصر والأمراء ، لماذا لم ترى أحداً منهم ؟ فأجابتها صديقتها : بأن أمير هذا القصر الوحيد أبن الملك كان شاباً شديد الوسامة و رجيح العقل وقرر والداه أن يزوجاه ليف رحا به و بدأوا بالتخطيط للتقدم لإبنه أحد الملوك ،

ولكن صباح يوم الخطبة أختفى الأمير من القصر ، قلب والده المملكة رأساً على عقب ولكنه لم يجده ، و مرضت أمه لفراقه وماتت حزناً على ولدها الوحيد ، و منذ شهور والحزن مخيم على حياتنا حزناً على أمير مفقود و حزن على أب مفجوع و حزن على ملكة ماتت قهراً ، قاطع حديث الفتاتين صراخ الكبيرة و نهرها لهن لانشغالهن عن العمل.

عاشت أليفة في القصر كخادمة ، و لكن خوفها من معرفة السيد لمكانها لم يفارقها ، وعلى الرغم من هذا الرعب الذي كان يسكنها و جهلها بأي أرض ومع أي ناس هي ، إلا أن ذلك لم يمنعها من ملاحظة شيء غريب ، فالكبيرة كانت كل صباح تجمع خبزاً يابساً وماء سلق البطاطا والبيض المالح و بقايا اللحم المتعفن و تضعها في خرج وترميه خارج النافذة ، و لم يكن أحد يتجرأ بسؤالها عن السبب ؟

والشيء الآخر أنها كانت دائماً تصر على تحضير عشاء أهل القصر كلهم من خدم وأسياد لوحدها دون أن تسمح لأحد بدخول المطبخ معها ، على الرغم من أنها لم تكن تقوم بأي عمل سوى الأوامر والتوبيخ والصراخ طوال اليوم ولم تشارك بإعداد أي شيء ، فلماذا تأخذ مسؤولية كل خادمات المطبخ فقط وقت العشاء ؟ كان كل الخدم والعبيد والجواري يخافون أن يطرحوا ذلك التساؤل على الرغم من مروره بخواطرهم.

و في ليلة من الليالي قررت أليفة أن لا تتناول العشاء فرمته خلسة أمام حيوان أليف يتجول في القصر لم تعرف ماهيته حتى هل هو هر أم كلب أم طائر ، انهى الكل عشائهم و بدأوا بالتثاؤب واتجهوا لمقصورات نومهم ، و لم تمر ثوان حتى غط الجميع بنوم عميق إلا أليفة التي تظاهرت بالنوم فقط.

لم تمض دقائق حتى دخلت الكبيرة مقصورة الخادمات وكانت تمر على كل سرير على حدة وكأنها تتأكد من نومهم ، وعندما وصلت لسرير أليفة إذا بها تحمل دبوساً و وخزت به قدم الشابة التي كتمت صرخة ألمها لتظنها الكبيرة نائمة مثل الباقي ، وما أن تأكدت من نوم الجميع حتى خرجت من القصر على جناح الظلمة.

لحقت بها شابتنا الفضولية خلسة وإذا بها تتجه إلى نافذة المطبخ من الخارج لتحمل خرج الطعام العفن والماء المالح الآسن وتتجه نحو غابة كبيرة ، استمرت أليفة بملاحقتها لتراها تدخل إلى كهف مغطى بأشجار كثيفة وما إن دخلت حتى علا الصراخ والأنين طلباً للرحمة والنجدة ، كان صوتاً ذكورياً متعباً ، اختبأت أليفة خارج الكهف وانتظرت الكبيرة لتخرج و صارت تمشي ورائها لتضع علامات تميز بها الطريق حتى تعود وتتأكد من هوية الشخص في الكهف ، خرجت الكبيرة و كان الخرج فارغاً ، لحقتها أليفة بخفة و دخلت ورائها إلى القصر واتجهت مباشرة إلى سريرها حتى لا تحس تلك الغولة باختفائها.

و في صباح اليوم التالي أدعت أليفة أنها مريضة و راحت تبكي و يعلو صراخها و أنينها ، نادت بعض الخادمات للكبيرة التي مرت عليها الحيلة ، فقالت لها : حسناً اليوم إجازة ، ابقي في سريرك ، و لكن غداً ستعملين لو كنتي تحتضرين ، فرحت أليفة وانتظرتهن حتى يتجهن لأعمالهن الكثيرة وينشغلن عنها ، ولمعرفتها باستحالة عودتهن إلى المقصورات قبل وقت العشاء خرجت من نافذة المقصورة خلسة و راحت تبحث عن العلامات التي حفظتها و تتبعها إلى أن وصلت إلى الكهف ،

blank
في الكهف وجدت شاب مقيد
بالاصفاد احتجزته الشريرة

أزاحت الأغصان التي كانت تغطي مدخل الكهف و دخلت لتشاهد منظراً يكسر القلب ، لقد كان شاباً نحيلاً لباسه ممزق و وجهه مغطى بجروح وكدمات ودماء متخثرة ، كان مقيد اليدين والقدمين ، اقتربت منه فشعر بوجودها و نادى لا شعورياً : الرحمة يا كبيرة ، ولكنه لم يرى تلك الغولة بل رأى شابة جميلة و راح يترجاها أن تسقيه الماء ، سقته بعض الماء من قارورة كانت تحملها و راحت تسأله : من أنت و لم هذا حالك؟.

– أنا الأمير الهمام ، أمير القصر و ابن ملك الجان الأزرق ، و قد حاولت خادمة أبي هذه أن تجبرني على الزواج منها لتصبح ملكة ، و عندما رفضت ونهرتها خطفتني ليلة خطبتي و راحت تضع عشبة منومة لسكان القصر حتى تستطيع القدوم إلى كل ليلة دون أن تنكشف جريمتها ، و قد وعدتني بأن لا أرى الحرية و ضوء الشمس حتى أتخذها زوجة لي ، وأنا هنا منذ شهور ، أرجوكِ أنقذيني ، أخبري أمي وأبي بحالي.

صُدمت أليفة وحزنت لحال الشاب ، ولكنها خافت من أن لا يصدقها أحد أو تشعر بها الكبيرة وعندها ستقتلها دون أي تفكير ، وهنا خطر في بالها فكرة ذكية ، طلبت من الأمير قطعة من لباسه الممزق وعلامة يعرفه بها أبوه ، أخذت الخرقة وخرجت مسرعة وأعادت مخرج الكهف إلى حاله.

أسرعت الخُطى لتصل إلى القصر وهي مرتعدة من فكرة انكشاف كذبتها ، ولكن الحمد لله كان الوضع في المقصورة كما تركتها ، دخلت فراشها بسرعة.

في صباح اليوم التالي أيقظتهم الكبيرة ليقمن بأعمالهن اليومية وتفاجأت بأليفة تطلب منها السماح بمقابلة الملك ، غضبت منها الكبيرة و راحت تستفسر منها عن السبب تارة و تسخر منها تارة أخرى ، فقالت لها أليفة : كما تعرفين أنا انسية وقد اشتقت لأهلي و أرغب بزيارتهم ، و سأهديكِ هذه الأقراط الذهبية إذا وافقتي ، و لو قابلت الملك لك عقد أجمل من القرطين حتى ، انبهرت الكبيرة بالقرطين و وافقت حالاً واتجهت إلى غرفة الملك تنشده طلب أليفة مقابلته ، وافق الملك و ذهبت أليفة إليه ، سألها الملك عن حاجتها ؟ فأخبرته أنها ترغب في الحديث معه على انفراد ، وافق الملك وأخرج الجميع من حرس وخدم ونبلاء وسألها : ما حاجتك يا ابنتي ؟ .

اقتربت منه وهمست قائلة : سيدي أنا أعلم مكان همام و قد أرسل معي هذه الخرقة من لباسه و بعلامة الحصان العربي الذي أحضرته له من بوادي الإنس ، استبشر الملك و أراد الكلام فطلبت منه الهدوء وإلا قد تقوم الكبيرة بالهرب وإخفاء الأمير إلى الأبد لو هي سمعت حديثهما ، و راحت تحدثه عن خطة كشف حقيقة هذه المجرمة بالجرم المشهود ، طلبت منه أن لا يتناول طعام عشاء الليلة هو وبعض فرسانه الأقوياء الموثوقين ، و بعد خروجها يخرج هو و أليفة والفرسان ورائها لينقذوا همام ، أُعجب الملك برجاحة عقلها و وافق على الخطة ، و فعلاً حل المساء و قدمت الخادمة العشاء ،

تخلص الملك و٥ من فرسانه و أليفة من طعامهم في القمامة و غطوها ببعض الأوراق حتى لا يُكشف أمرهم ، و مشت الخطة بالتمام والكمال و لحقوا بالشريرة واعتقلوها بالجرم المشهود وعاد الأمير إلى قصر أبيه وسط الزغاريد والأغاني والزهور وعم الفرح المملكة ، وأعلن الهمام امتنانه لأليفة وأعلن حبه و رغبته بالزواج منها ، و ما إن تعافى من تدهور صحته حتى قام الزفاف والأفراح والليالي الملاح ، أصبحت أليفة الملكة و حملت بولي عهد صغير أنجبته بعد ٩ شهور ، و لأن الماضي يستحيل أن يترك الإنسان فقد لاحقها ماضيها يوماً.

في قمة سعادتها هي وزوجها الهمام وابنهما الجميل مر بائع متجول ينادي على بضائع متنوعة من بلاد الإنس وسائر بلاد الجن ، صاح له الأمير وطلب رؤية بضاعته ، و كان من جملتها سرير مهاد شديد الروعة مصنوع من الذهب وعاج الفيلة ، اشتراه همام لإبنه ، و لكنه لم يعلم أن هلاك الطفل سيكون بهذا المهاد ، فالبائع لم يكن إلا سيد العين والسرير لم يكن إلا سريراً مسحوراً مصنوعاً من الأفاعي والعقارب ، وما إن يدخل إليه الطفل حتى تلدغه تلك الأفاعي وتقتله دون أن يدرك أحد بسبب التعويذة التي عليه ، وهذا ما حدث ، وضعت الأم المسكينة طفلها في السرير وخرجت لأمر ما ،

تعالت صرخات الصغير ولم يصل إليه أحد إلا وقد انتهى أمره ، حزنت المملكة حزناً شديداً ،  ولكن حمل أليفة الثاني هدأ من هذا الحزن وإنجابها لصغيرة كالقمر أنساهم همهم ، ولكن هيهات أن يتركها النذل تعيش بسلام بعد أن أعياه بحثه عنها لسنوات ومعرفته عن طريق بعض المسافرين بأن الأمير الهمام تزوج بإنسية تدعى أليفة بنت حلب. أتى هذه المرة و مثل أول مرة عرض البضاعة فاختار الأب مشطاً جميلاً وردي اللون عطر الرائحة لشعر طفلته الجميل ، وهنا لمحت أليفة وجه الرجل وأثار شكوكها ، ولكنها قالت في نفسها : بعد كل هذه السنين مستحيل أن يكون هو ، وما إن مشطت شعر الطفلة حتى وقعت الصغيرة ودخلت في غيبوبة ، فقد كان المشط مسموماً. .

وهنا صاحت الأم وبكت وقالت : أقسم أنه هو و لا احد غيره ، وقصت قصتها من الألف إلى الياء لزوجها الأمير ، فأمر بإحضار سيد العين وحقق معه واعترف بكل شيء وايقظ الصغيرة بترياق وأمر بسجنه إلى جانب الكبيرة .

blank
أصبحت أليفة الملكة و انصفتها الحياة بعد أن أرتها العجب

أخبر الأمير أليفة بأنهم مملكة الجن الأزرق وبأن سيد العين منفي من المملكة لأنه ساحر شرير يخدم سحرة الإنس وشياطين الجان ، وأن أباه لو علم بقصة أبيها الآغا لأعدم سيد العين ولم يسمح لأبيكِ بأخذ التفاحة منه ، و لما أحضر إنسية إلى المملكة من مخاطر ، ولكن ربما هذا تخطيط الله لهم لتكشف سجنه وسجانته و يحبها وتصبح ملكته ، أمر الأمير بعض خدامه بأخذ أليفة لزيارة أهلها وقريتها في حلب وأخبرها بضرورة عودتها بعد٣  أيام و إلا لن تتمكن من العودة إليه ، وهكذا عادت لأهلها لتخبرهم عن العجائب التي مرت بها و انتصر الحق و زهق الباطل وأنصفت الدنيا ابنة حلب بعد أن أرتها العجب.

 

وتوتة توتة خلصت الحدوتة.

أتمتى أن تنال القصة إعجابكم و إلى اللقاء في مقال قادم .

تحياتي…

تاريخ النشر : 2020-09-24

guest
28 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى