أدب الرعب والعام

أوتيل جراند سيوة

بقلم : بائع النرجس – مصر

كاد عقلي أن يطير و رفعت عيناي إلى أعلى و وجدتها تنظر لي

 

التصقت هذه الفتاة ذات الشعر البنى بجوار الحائط وأنفاسها تتلاحق وقد أخذ صدرها يعلو ويهبط من فرط الانفعال واتسعت عيناها و وجهت نظرها إلى الباب وكأنها تنتظر قدوم شخص ، الإضاءة شاحبة تبعث على النفس الرعب والكآبة أخذت ترتعد والخوف يتملكها حاولت أن تكتم أنفاسها بعدما رأت ظل شيئاً ما يتسرب من أسفل الباب ، قلبها يدق بعنف أحست أنها كصوت قرع طبول أفريقية رأت مقبض الباب يدور في صمت اتسعت عيناها أكثر توترها يزداد ، من في الجهة الأخرى حاول فتح الباب ولكنها أغلقته جيداً وتمنت أن يصمد أمام هذه الطرقات القوية وأصبح كل شيء مختلط بالنسبة لها ، الوقت أخذ يمر بسرعة ، توترها يزداد أكثر ، قلبها يكاد ينفجر ويخرج خارج صدرها ، عيناها جاحظتان نحو الباب تحاول كتم صرختها بصعوبة والسيطرة على نفسها وكأنها تخشى أن يُكشف أمرها ، و فجأة توقف الطرق ويختفى الظل وكأن صاحبة ترجل بعيداً عن الباب وهنا تتنفس صاحبتنا الصعداء وتسقط على الأرض وكأنها غير مصدقة أنها نجت من هذا الشخص المجهول ، وعلى حين غرة فُتح الباب على مصراعيه بدفعة قوية وانتفضت صاحبتنا في مكانها وكأنها أصابها مس كهربائي وصرخت صرخة رهيبة تحمل رعب العالم كله وقد هجم عليها ما كانت تخشاه وضاعت صرختها في الفضاء.

– لماذا على الذهاب في هذه المهام الصعبة دائماً ؟.

هكذا حدثت نفسي وأنا أقود سيارتي في هذه الصحراء المترامية الأطراف وأخذت أتذكر مدير الشركة وهو يقول لي :

– مهندس (عنتر) يجب أن تذهب إلى واحة (سيوة) حتى ترى كيف يدور العمل في القرية السياحية الجديدة.

وأنا بكل بساطة أوافق ، لماذا لم أرفض وأبقى في الإسكندرية ؟.

الشمس تكاد تغيب ويأتي فارس الليل ليفرش ردائه الأسود السمر مدى و يفرش دارته الماسية عليه ويضيع مني الطريق ، هنا توقفت قليلاً ، هل ضللت الطريق ؟.

أخذت أنظر إلى الخريطة التي كانت بحوزتي و حاولت أن أحدد مكاني عليها ونظرت إلى ساعتي في راحة يدى و وجدت الساعة تشير إلى الخامسة ، رفعت عيني ونظرت إلى الأفق و وجدت الشمس قد غابت بقرصها الدامي وتركت الوجود في صمت مهيب ما عدا صوت الرياح الذى يأتي من هنا وهناك فتتناثر حبات الرمل في كل مكان ، قلت في حنق وضيق : اكتملت بالرياح ، أولاً أضل الطريق وتأتي الرياح لتقطع عني كل السبل .

أحاول أبحث عن جوالي وما هي إلا ثواني حتى أجده و أنظر إليه لأجده خارج تغطية الشبكة فأتعصب أكثر وأصرخ : ما العمل الآن لقد انقطعت كل السبل ؟.

ومن ثم أصبّر نفسي قائلاً : الصبر ، لا يسعني الآن غير الانتظار.

تمر الدقائق ثقيلة كالدهر أحاول أن أشغل نفسي بالعبث بالجوال و بعدها أمل منه فألقى به جانباً ، أحاول أن أترنم قليلاً بأغاني ما ثم أصمت أحاول النوم وتغفو عيني ، وبعد فترة أستيقظ و أنظر إلى الساعة ، لم يمر الكثير من الوقت ، بعد العاصفة لم تتوقف في الخارج الرؤيا صعبة قليلاً ، أخذت أحملق في زجاج السيارة وأتابع المشهد من حولي والأفكار تعصف بي وتكتسح سكون عقلي ، وفجأة اتسعت عيناي وحاولت أخترق الظلام ببصرى فقد أبصرت بصيص نور من بعيد واتسعت عيناي أكثر وكأني غير مصدق أن هناك شخص ما ، و بسرعة البرق أخذت قرار أن أذهب إلى هناك لعلي أجد من يدلني إلى الطريق أو أقضي معه هذا الليلة ، وبصعوبة شديدة اتجهت بسيارتي ناحية الضوء وكانت فرحتي لا تُوصف ، إنه مبنى كبير نسبياً وقد ميزت لافته كتبت على واجهته بخط كبير (جراند سيوة ) ، بسرعة غادرت سيارتي و دخلت بهو الفندق ، كان مُضاء بالفوانيس والشموع من مختلف الأشكال والأحجام و يبدو أنه شُيد من الصخور المحلية ، نظرت في المكان بسرعة أحاول أن أبحث عن شخص لأحدثه بأمري ولمحت بعيني شخص ما يجلس في الاستقبال وقد رسم ابتسامة عذبة على ثغرة ، تقدمت اليه وأنا واثق الخطوات ودار بيننا الحوار التالي :

–    مساء الخير.

–    مساء النور يا سيدي.

–    ما هذا المكان ؟.

–    إنه (سيوة أوتيل) أشهر فنادق الاستجمام والفندق ، ليس به كهرباء ولا يستخدمها ولا يستخدم الغاز ، كل شيء من البيئة المحيطة حتى الطعام والنار وهناك رحلات سفاري بالصحراء و زيارة الآثار من حولنا ، إنه العودة بالزمن إلى الحياة الطبيعية .

ابتسمت وأنا امسك بيدي كتيب وُضع هناك قد خُط عليه أسم الفندق وقلت له:

-إذا المكان يستحق الزيارة ، ولكني لن أبيت غير الليلة لآني في رحلة عمل هنا .

– تحت أمرك سيدي.

– ممكن غرفة لليلة واحدة ؟.

– طبعاً يا سيدي.

مرت دقائق قليلة وكنت قد وصلت إلى غرفتي بالفندق ، وكانت مُضاءة بواسطة الشموع أيضاً ، قبعت على السرير قليلاً ثم نهضت لأنظر من النافذة عبر الزجاج أراقب العاصفة ، ما زالت مستمرة وأنا في لج أفكاري سمعت طرقاً على الباب فأجبت عليه فسمعت صوتاً من الجانب الآخر يقول :

– العشاء يا سيدى جاهز بالمطعم في الأسفل.

اتجهت إلى الباب سريعاً لأجد الردهة خالية ، نظرت يميناً ويساراً لا أحد ، هناك الصمت يعم المكان وسألت نفسي.

– أين ذهب هذا الشخص سريعاً ؟.

ولم أجد جاوباً يرضيني وقررت أنزل للمطعم فأغلقت غرفتي وترجلت بضع خطوات قليلة ، وقبل أن اتجه ناحية اليمين اصطدمت بشخص ما وسمعت وكأن حبات عقد قد تناثرت على أرضية الردهة فنظرت لمن اصطدمت به لأجد فتاه سبحان الخالق من أجمل ما رأيت في حياتي ! ذات عيون سوداء وكأنها جزء من صخور وشعر أسود فاحم وكأنه ليل بلا نجوم وقد صففته بأناقة الخمسينات ، ذات بشرة خمرية اللون وأنف دقيق وفم يشبه حبات الرومان وقوام ممشوق قد غُطي بفستان ضيق من القطيفة الأحمر فكانت وكأنها عارضة أزياء أو نجمة سينمائية ، فنظرت لها وقد أبهرني جمالها فوجدتني أهيم بها وأغوص في دنياها الوردية و وجدتني أقول لها في تلعثم :

– أنا أسف.

علقت هي وقالت بعذوبة :

– لا عليك.

انحنيت بشكل تلقائي أجمع حبات العقد من على الأرض وكذلك فعلت هي ، و فجأة وبدون مقدمات أمسك شخص ما كفاي وضغط عليهم بشدة وكأنه ظهر من العدم وقد انتفش شعره واتسعت عيناه وقال وخوف الدنيا قد ارتسم على وجهه :

– أهرب من هنا ، لا تجلس ولا دقيقة واحدة ، الموت في كل مكان من حولك.

ارعبني ظهوره المفاجئ وتملكني الخوف من مظهره ومن طريقة حديثة ، وقبل أن أعلق تركني وهرول في الردهة مبتعداً و أنا أتابعه بنظري ، وهنا جذبني حديثاً وهي تطلب منى حبات العقد ، نظرت لها وقلت لها وقد اتسعت عيناي :

– أتعرفين هذا الرجل ؟.

– أي رجل تتحدث عنه ؟.

عقدت حجباي و قلت بانفعال وأنا أشير للردهة :

– هذا الرجل الذي يسير ……

انقطعت باقي الكلمات في حلقي فالردهة خالية تماماً وليس هناك أي منفذ و وجدتني أهتف :

– أين أختفى ؟ لقد كان هنا من ثواني !.

أجابت وهي تبتسم في عذوبة لا مثيل لها :

– سيدي يبدو أن أعصابك متعبة قليلاً .

حاولت أن أقول لها شيئاً ما وأنا غاضب ولكنها أمسكت حبات العقد من كفي بلطف وقالت وهي تجذبني للوقوف :

– لو تسمح لي أن أعزمك على كوب من الشوكولا الساخن فهي أفضل شيء في هذا الطقس السيء ؟.

لم أستطيع رفض عرضها وكأني مسحور بهذا الجمال وكأنى نسيت خوفي و رعبي من هذا الرجل و حديثه المبهم و وجدتني أجلس معها على مائدة واحدة ، و ها هي تنظر لي وتعرّفني بنفسها :

– عبلة رشدي .

و ما إن سمعت اسمها حتى ابتسمت وهتفت :

– يا محاسن الصدف !.

و وجدت السؤال في عينيها فقلت لها :

– أنا (عنتر) ، أُدعى (عنتر عبد الحميد) مهندس معماري.

و ما أن سمعت ذلك حتى علقت قائلة :

– إنها حقاً صدفة ، (عنتر وعبلة).

وعلت محياها بسمة رقيقة و وجدتني أجذب أطراف الحديث وأسألها :

– أأنت نزيلة هنا ؟.

ضحكت بصوت عالي فظهرت نواجدها البيضاء الناصعة ، وقبل أن أسألها عن سبب ضحكها قالت :

– أنا صاحبة الفندق أو بالتحديد ابنة صاحبة الفندق.

وهكذا مر الوقت ونحن نتحدث نضحك حيناً ونصمت حيناً وكأننا نعرف بعض من سنين طويلة ، و في نهاية الليل ودعتني و ودعتها على أمل أن أراها بالغد قبل أن أغادر المكان و دخلت غرفتي لأنام ، وما إن وضعت جنبي على السرير حتى تذكرت حديث الرجل الغامض و وجدت حديثة يتكرر ويتكرر بدون انقطاع ، أخذت أتقلب يميناً ويساراً وأقرأ آيات من القرآن لعل النوم يداعب جفوني وطال الآرق ، وطال أكثر ، و طال ، فجأة وجدت من يمسك قدمي و يضغط عليها بقوة ، رفعت رأسي لأكتشف أنه نفس الرجل الغامض فانتفضت رعباً وصرخت في وجهى قائلاً بصوت خشن :

– ستموووت ، لن ترى الشمس أبداً ، الموت هو مصيرك .

ثم تركني و فر هارباً من الغرفة ، تمالكت من نفسي وأسرعت خلفه فوجدته ينزل الدرج سريعاً ويقطع ردهة الفندق وأنا الحق به ، لاحظت (عبلة) وهي تقف هناك تنادى بإسمي ولكنى لا أبالى بها ،الآن أريد أن اعرف حقيقة هذا الرجل ، خرج من الباب بسرعة السهم ، لحقت به وفتحت الباب فوجدت الصحراء ممتدة ولا أثر للرجل وكأنه اختفى في العدم ، قررت العودة وهنا نظرت خلفي لأجد أن الفندق قد اختفى من الوجود ، تملكني الرعب أكثر و أزادت دقات قلبي ، ركضت في كل مكان ، و فجأة انهارت الأرض بي و وجدتني أسقط في بئر مظلم وأخذت أصرخ بأعلى صوتي وقلبي يدق بعنف ويكاد يخرج من بين ضلوعي ، فجأة استيقظت من النوم و وجدت دقات شخص ما على بابي فذهبت لأرى من هناك ، فوجدت شخص ما هنا يبتسم ويقول :

– سيدتي (عبلة ) تنتظرك بالأسفل .

تركني وغادر فوراً ، وهنا نظرت إلى الساعة وكانت الصاعقة ، الساعة الثامنة مساءً ، وصرخت:

– كيف حدث ؟ أنمت طوال هذا الوقت ؟ لقد ضيعت يوماً آخر !.

وأخذت أتمتم وألعن ، ولكن في النهاية استسلمت إلى الأمر ، وما هي إلا دقائق حتى كنت أجلس أمام (عبلة) و وجدتها تقول بعذوبة :

– أحقا نمت طوال الوقت ؟ لقد خشيت أن تغادر ولا تودعني ، وعندما سألت عنك عرفت أنك بغرفتك فبعثت إليك وانتظرتك.

– رغم حزني أنى ضيعت يوماً أخر ولكني سعيد بهذه الظروف التي جمعتني بك مرة ثانية وكأن القدر له شأن آخر.

ابتسمت وقد تألق قرطها الماسي في أذنها مما زادها جمالاً فوق جمالها الغير عادي ، ونظرت لعيناي وطال نظرها فوجدتني أبادلها نفس النظرات وتمنيت أن يتوقف الزمن هنا إلى الآبد ، وما هي إلا ثواني وقالت وهى تهمس :

– اليوم سأريك الليلة عرضاً لن تراه في أي مكان آخر.

– أنا معكِ في أي شيء.

تجذبني من يدى برفق لنصعد الدرج ، و ما هي إلا دقائق حتى كنا نجلس في شرفة خاصة بالفندق ، كانت واسعة وكأنها منصة ما تطل على الصحراء المظلمة ، فظننت أنها أتت بي إلى هذا المكان لنتحدث سوياً بعيداً عن العيون فهممت لأقول لها شيئاً ما ولكنها قالت :

– العرض سيبدأ الآن.

فجأة ظهرت شعلة بعيدة في ظلام الصحراء وتسألت في نفسي :

– ما هذا العرض الذي سيكون في ظلام الصحراء ؟.

و فجأة ظهرت شعلة أخرى وأخرى وأضاءت الصحراء بالمشاعل و ظهر المشهد ، إنه عرض فرعوني وكأنه حفل تتويج للملك و كانت هناك موسيقى تأتي من مكان ما ، و راقصين و راقصات وشخص ما يتزين كالملوك يجلس على عرش مذهب ، كنت مندهشاً فالعرض كان واقعي لأقصى درجة ، لا بد أن المخرج متقن لأدواته وأنهم تدربوا كثيراً عليه ، و فجأة شاهدته ، نعم ، إنه هو ، هذا الرجل يقف هناك بين الجموع يشاهد العرض ، وقفت بسرعة و أنا أدقق النظر اليه ، ثم قررت أن أنزل إليه ، وصاحت (عبلة) قائلة :

– أين تذهب العرض كاد ينتهي ؟.

مرت دقائق وكنت بالأسفل في مكان العرض ، و لكن كانت هناك مفاجأة من نصيبي ،  لا يوجد أي عرض ، كاد عقلي أن يطير ، و رفعت عيناي إلى أعلى و وجدتها تنظر لي نظره مبهمة فصعدت إليها فوجدتها في الردهة ولا تبالي بي وكأنها غاضبة ، فانطلقت خلفها وناديت عليها فلم تتوقف فلحقت بها بسرعة وأمسكت كفها وهتفت :

– ما الذي يحدث هنا ؟.

هتفت قائلة في حدة :

– كيف تجرء وتنطلق وتتركني ؟ هل هذا من شيم الرجال ؟ أأترك العالم من أجلك وأنت تتركني هكذا ؟ .

أحسست بالخجل من نفسي وحاولت أن أقول شيئاً ما ولكنها أكملت :

– يبدو أنني نسيت نفسي عندما دعوتك سابقاً ،

حاولت أن ابر موقفي ولكني وجدت نفسي أعتذر لها قائلاً :

– لا أبداً ، وها أنا أعتذر ، أرجوكِ أن تقبلي عذري.

ظننت أنها لن تسامحني ، ولكنها نظرت لي قليلاً ثم ابتسمت وقالت :

– لقد سامحتك وسأعزم نفسي لكوب شوكولا على حسابك.

وافقت وحاولت أن اصطنع أني تناسيت ما حدث وأخذنا نتجاذب أطراف الحديث حتى مر الليل كسابقه و زاد قربي منها وأحسست أني لأول مرة أتعلق بأنثى و وجدتني أفكر بها ، بعدما ودعتها وذهبت لغرفتي لأقبع على سريري ، وأثناء ذلك طرق على ذهني منظر الرجل الغامض وانطلقت الهواجس تعصف بي ، وفجأة سمعت صرخة عظيمة تأتي من مكان ما ، خرجت من غرفتي مسرعاً و وجدت الجو هادئ وكأن شيئاً لم يحدث ، تمر ثواني وأنا أقف هناك في صمت رهيب وأسأل نفسي :

– لماذا لا أرحل الآن وأترك المكان بكل ما فيه ؟.

وهنا دق قلبي ، نعم أحسست أنه ينطق باسمها  ، وتسألت :

– ما العمل ؟.

– و قررت أن أبحث عنها وأخبرها بما نويت عليه ، فترجلت في الردهة ثم سمعت نفس الصرخة العظيمة من الغرفة التي أمر من أمامها ، وكرد فعل تلقائي فتحت الغرفة بعنف ظناً منى أن هناك شخص ما يطلب العون ، و وجدت مشهداً مرعباً لأقصى درجة وتجمدت في مكاني ،  إنها فتاة ما قد تمددت على الأرض وهناك مسخ بشع الخلقة يبقر بطنها ويمضغ كبدها ، وما أن فتحت الباب حتى نظر إلي ودارت الدنيا بي وأسود كل شيء و وقعت مغشياً على.

رأسي يدور كل الأفكار مختلطة ، أفتح عيناي بصعوبة ،الرؤيا غير واضحة ، تمر ثواني ويتضح كل شيء لأجد نفسى ممد على سريري في غرفتي أحاول القيام والخروج من الغرفة ، أترجل في الردهة بصعوبة ورأسي يؤلمني وأحاول أن أجمع الأفكار والذكريات وأتذكر الأحداث الماضية و بمجرد التفكير يتملكني الرعب ، أستند قليلاً على الحائط ثم أفكر بسرعة وأقول لنفسي :

– لا بد أن أنقذ (عبلة) من هذا المكان ، سأخبرها بكل ما حدث .

ما هي إلا دقائق و حتى سيطرت على جسدي وكنت أقف لأسأل عن غرفتها قبل أن اتجه إليها ،

ها أنا أقف أمام ولكن ما هذا ؟ يبدو أن هناك حديث ما يدور بالداخل فالصوت يعبر الباب المغلق ، بدافع الفضول وجدتني استرق السمع وقد ميزت صوت (عبلة) وهناك صوت أنثوى أخر ، خمنت أنه صوت أمها ، وبعين الخيال تخيلت أني وسطهما و وجدت الآخرة تقول في غضب :

– ما الذي حدث يا أبنتي ؟ أهذه المرة الأولى ؟.

تنظر (عبلة ) إليها وهناك نظرة حزن بعينيها وتقول :

–    لكن يا أماه !.

لم تكمل حديثها بل ابتعدت حتى وقفت أمام النافذة ونظرت إلى ظلام الصحراء الممتد بلا نهاية ، وانحدرت دمعة ساخنة على خدها الوردي ، اتجهت أمها إليها وأمسكتها ثم أدارتها ونظرت إلى عينيها ، وما إن رأتها حتى انعقد جبينها وهمست لها :

– أتحبينه يا (عبلة ) ؟ .

لم تعلق بل انحدرت دموعها أكثر فهزتها أمها وصرخت فيها :

– أفيقي يا أبنتي ، الحب لا وجود له هنا .

اختلطت كلماتها بدموعها وبصوتها المتهدج :

– ولكن يا أماه ، لم يدق قلبي لأحد أبداً.

– انهمرت دموعها أكثر وكأنها حمم بركانية تحرق خديها وتهدج صوتها أكثر وقالت :

– أرجوكِ يا أماه دعيه لي.

صفعتها أمها على خدها بقوة وقالت لها بغضب هادر:

– استيقظي ، مثله مثل غيره .

لم تقف (عبلة) أكثر من ذلك أمامها بل اتجهت الباب وهنا قالت لها أمها :

– (عبلة) أرجو أن تكوني عاقلة وتكون الليلة هي آخر ليلة له هنا وتنتهي قصته عند هذا الحد .

لم تعلق وأدارت مقبض الباب وتوقفت لثواني وكأنها تفكر وفى هذه اللحظة ، ابتعدت قليلاً عن الباب فخرجت هي دون أن تلاحظني وانطلقت بخطوات مسرعة ، فناديت عليها ، توقفت ولم تستدير ، حاولت أن تمسح دموعها والسيطرة على نفسها ، فاقتربت منها وقلت لها وأنا انظر لعيونها :

– (عبلة) ممكن أعزمك على كوب شوكولا ساخن ؟.

رفضت بإصرار عجيب ، وتعجبت لرفضها ولكني كررت عرضي وجذبتها وجلسنا وكأنيى لأول مرة أراها ، ابتسمت لها برفق وهمست لها :

– لو أخبرتك شيئاً فهل ستصدقينني ؟.

لم تعلق بل طال نظرها لعيوني وأنا أتابع :

– أنا أول مرة بحياتي أحب و يدق قلبي عندما أكون بجوارك وأتمنى أن أقضي باقي العمر بجوارك.

انهمرت دموعها مدرار فتقطع قلبي لذلك ومسحت هذه الدموع بأناملي ، وبين ذلك جاء النادل بكوب الشوكولا فحاولت أن أهدئ من روعها وأقدم لها الشوكولا وجلست أصف مدى حبي لها وعشقي لكحل عينيها ، وكيف أهيم في هواها وكأني مسحور ! وفجأة تذكرت ما حدث وما رأيت من أحداث غريبة وكأنها عاصفة أتت علينا ، توقفت هي عن دموعها وهتفت :

–    يجب أن تغادر الفندق ولا تعود.

–    علقت سريعاً.

– لن أغادر بدونكِ ؟.

أمسكت ذراعي وقالت وهى تقترب مني :

– غادر أنت أولا وسألحق بك ، وأسمعني : يجب أن لا تشرب الشوكولا هذه وأنسى ما رأيت وأذهب إلى غرفتك وانتظر حتى يأتي الصباح وغادر ولا تعود.

حاولت أن أقول شيئاً ما ولكنها افتعلت حركة ما و أوقعت الشوكولا وجذبتني بعيداً عن المائدة واتجهت بنا إلى غرفتي و ودعتني وهي تنظر إلى عيناي وقد عادت الدموع لها ، حاولت أن أتمسك بأناملها ولكنها تملصت في النهاية وقالت قبل أن تتركني :

– ودعاً يا اعز من أحببت في حياتي .

و قبل أن أقول أي شيء كانت قد غادرت المكان بسرعة واختفت ، ودخلت غرفتي والأفكار تعصف بي وأخذ الوقت يمر وأنا أفكر في كل ما مررت به وأحاول تفسير ما يحدث هنا ، وطال تفكيري فأخذت أجلس حيناً وأقف حيناً وأنظر للنافذة حيناً آخر ، وبعد وقت طويل وجدت نور الشمس يتسرب من بعيد في خجل و وجدت النوم يثقل جفني فارتميت على السرير وسقطت في نوم عميق

، بعد فترة لا أعلم مداها استيقظت من النوم لأجد الشمس قد ارتفعت في السماء و الضوء يضايق عيناي ، أرفع ذراعي عليهما حتى أعتاد على نور الشمس ، أحاول أقف وانظر حولي فتصدمني المفاجأة ، أجد نفسى أقف في مكان خرب مجرد أطلال ، أخرج منها وأنا أشعر بصداع برأسي وأسأل نفسي هل أنا كنت أحلم ؟!.

وأتذكر سيارتي و أهرول حيث ركنتها وكنت هناك مفاجأة أخرى ، كانت هناك العشرات من السيارات من مختلف الأشكال والموديلات وكأنها مقبرة للسيارات وقد دفنت الرمال بعضها وكأنها تقبع هنا من سنين طويلة ، هنا أشعر أني بدوامة ، أجلس قليلاً بجوارها أحاول أن أسيطر على نفسي وهناك سؤال يتردد على رأسي :

– أين كنت ؟ وأين ذهب الفندق ؟ وأين ذهبت (عبلة) ؟.

صدقاً لم أجد جواب يرضيني ، وبدون مقدمات لمحت شخص ما من بعيد يخطو بجمله على حبات الرمال ، وبسرعة البرق وجدتني أنادي عليه ، توقف و وجدته يتجه إلي حتى وقف أمامي ، كان رجلاً كبير في السن وقال وهو يتفحصني بنظرة بلهجة أهل الصحراء :

– ما الذى أتى بك هنا يا ولادي ؟.

و وجدتني أقص له ما حدث ، وما انتهيت حتى ربت على كتفي وقال لي :

– تعال معي إلى خيمتي،  كل وأشرب وأرتاح و….

قاطعته قائلاً و أنا غاضب :

– لن أرتاح حتى أعرف حقيقة ما كنت فيه.

ابتسم الشيخ وقال : سأقص عليك كل شيء بعد أن نصل إلى خيمتي .

لم أجادل ولم أعلق و وجدتني أسير معه وكأني مسحور ، و يمر الوقت وأصل الخيمة ويأتي الطعام و يخرج الشيخ ليقضي بعض أموره الخاصة ويتركني انتظره ، يطول الانتظار و تكاد الشمس تغيب ، أتذكر وجه (عبلة) ابتسم وكأني وقعت في حبال هواها ، وأتذكرها ساعة الوداع ، أحس أن هناك من يعتصر قلبي وأجد الدموع تجري بعيني ، لا أعلم ما الذي جعلني أتعلق بها هكذا ،هل هو جمالها الشرقي الساحر الذى يشبه أميرات ألف ليلة وليلة أم صوتها الذى يشبه صوت الكروان ؟ و وجدتني أقول لنفسي :

أبيت ليلتي افكر فيكِ ، منيتي الوصال ورؤية لياليكِ ، يا نور الدجى كأن الوصال بعيد المنال ، ليتني استطيع لآتيتك بالحال ، يا معشوقتي أنا من دونك لا فرح ولا هنا ، فلم أجد يوماً عشقاً مثلنا .

وما انتهت حتى سمعت صوت الشيخ يقول وهو قادم ليجلس بجواري :

– هل عشقتها ؟.

– كيف لا أعشق من تعلق فؤادي بها ؟ وكأني لم اخلق إلا لها ، وقد كتب على جبيني عشقها .

– هوناً يا بنى فكم من عاشق دفع حياته ثمناً لعشقه ، أسمع قصة (عبلة ) وقصة فندقها أولاً .

أبتلع الشيخ ريقه وقال و أنا أسمعه باهتمام :

لقد سمعت أن هذا الفندق قد شُيد في فترة الحرب العالمية الثانية في هذا المكان ، و كانت صاحبة المكان لها أبنة تُدعى (عبلة) ، عاش الجميع بسعادة حتى أتى نزيل سحرها بكلامه المعسول وقال أنه أحبها وأحبته واتفقا على العرس ، و في اليوم الموعود اختفى العريس مع كل المجوهرات الخاصة بعبلة وأمها ولم يكتفى بذلك بل أغلق كل الغرف على النزلاء وعلى صاحبتنا وأمها وأغلق باب الفندق نفسه واشعل في الجميع النيران وأحرق الجميع بدم بارد واختفى وكأنه تلاش ، لم يعرف أحد عنه أي شيء خصوصاً لان كل بينات الفندق قد احترقت ولم ينجو أحد من الحريق ، و مع مرور الوقت نسى الجميع أمر الفندق وسكنت الأطلال الأشباح والجن ، وسمعت أن سيء الحظ هو من يأتي إلى الفندق ليلاً ليجده كسابق عهده وأن من يأكل طعامه لا يخرج أبداً وتقتله (عبلة) انتقاماً منها وكأنها تقتل من قتلها في كل رجل يقوده حظه السيء إلى هذا المكان ، تنهد الشيخ وقال :

– نحمد الله أنك خرجت من المكان فلم يأتي أحد أبداً من الفندق بعد بات فيه و…….

أخذ الشيخ يتحدث وأنا لا أسمعه وكأني ذهبت إلى عالم أخر ،عالم فيه (عبلة ) وأنا فقط ، وعند ذلك فهمت كل شيء ، لقد عشقت روح ، نعم عشقت روح وهذا أسمى أنواع الحب وقد أنقذتني ، نعم انقدت ، إذا هي تحبني ، ثم هتفت وأنا أقاطع الشيخ :

– بل تعشقني .

فزع الشيخ وكأن اصطدم بقطار يسير بسرعة الصاروخ ولم انتظر كثيراً بل نظرت إلى الخارج فوجدت الشمس غابت تماماً فوقفت بسرعة وأطلقت سقاي للريح وأنا أصرخ

– عبلة.

أكاد أجزم أن الشيخ وقف خلفي ينادى علي ويطلب منى الرجوع ، ولكن كيف لي بالرجوع وقد نسيت قلبي هناك أسفل قدميها ، و روحي تهفو لعينيها ، ها أنا أرى نور الفندق كما رأيته قبل سابق ، وقفت لثواني مكاني و تذكرت حياتي الماضية بكل ما فيها من صخب وكآبة و روتين ممل ، ليس لي هناك من يبكى من أجلي ، كم عانيت الوحدة وعدم الاهتمام ؟

أعلم أني لن أعود لهذه الحياة و سأتركها خلف ظهرها و……

وجدتها هناك تقف أمام الفندق بكامل زينتها وهي تبتسم بعذوبة ، أحسست بدموعي ساخنة تنزل من عيني ، إنها دموع الفرح ، دموع السعادة ، ولم أضيع الوقت بل هرولت مسرعاً إليها وأنا أهتفت باسمها وحبات الرمال ، الرمال تتناثر خلفي ، و ما إن دخلنا حتى أغلقنا باب الفندق خلفنا في صمت

– أنت من أضاع الطريق أيها الأحمق.

هكذا هتفت هذه الفتاة التي تجلس بجوار هذا الشاب الأنيق صاحب العضلات المفتولة ، فقال بغضب

–    أرجوك يا (دعاء) لا تتحدثي إلي هكذا سنجد حتماً من يرشدنا .

–    من سنجده في هذه الصحراء الممتدة خصوصاً في هذا الليل المعتم .

حاول أن يقول لها شيئاً ولكنه صمت قليلاً ونظر أمامه وقد اتسعت عيناه وقال وهو يبتسم :

– ألم أقل لكِ أننا سنجد من يرشدنا فهناك ضوء بعيد يبدو أن هناك سكان ما هناك .

تمر دقائق ونجدهم يقفون أمام باب الفندق الذي كُتب عليه بخط لامع أنيق (جراند سيوة)

نعم (جراند سيوة).

 

النهاية ……

تاريخ النشر : 2019-01-15

guest
25 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى