أدب الرعب والعام

أيام بلا ألوان

بقلم : تقي الدين – الجزائر
للتواصل : [email protected]

أدمنتها مع مرور الوقت و عشقت كل ما فيها لأدق تفاصيلها
أدمنتها مع مرور الوقت و عشقت كل ما فيها لأدق تفاصيلها

ما الذي يعطي حياتنا معنى ، هل هو الإيمان؟ الأمل؟ الحب؟  لأنني فقدت كل هذا ، ربما هذا هو السبب الذي يمنعني من الإجابة عن هذا السؤال، إنها صعود و سقطات هكذا هي الحياة و أنا لا أعترض على هذا تماما ، لكن إذا إعترضت سقطاتك صعودك فإعلم أن هناك من يحفر لك متعمدا لتقع.

إنهم ينظرون لي بشكل مختلف، في أعينيهم شفقة مختلطة بالفضول، يتسائلون داخل جدران منازلهم مع أبنائهم و أزواجهم عن مصير ذلك الرجل اليافع الذي فقد زوجته ووالده، ذلك الشخص الصامد، المبتسم من خلف الألم ، النازف من الداخل ، هم يريدون أن يعرفو هل عدل عن فكرة الزواج كما قال دوما في أكثر من محادثة أم أنه يوهمهم بذلك فقط ، هل هو مثل والده الذي رفض إنجاب فتاة أخرى بعد وفاة إبنته، هاه! إنها تساؤلاتهم هذه و تربصاتهم هي ما خلقت في حياتي هذه التجربة التي ستظل كنقطة سوداء أكبر من قريناتها داخل ذاكرتي مهما حييت.

****

بدأ الأمر في أحد أيام سبتمبر الباردة بشكل مفاجئ، داخل قاعة القسم الغدقة التي أدرس فيها، كانت أول حصة لي ذلك اليوم و لن أفتخر حين أقول أنني كنت من ذلك النوع من الناس الذي يحاول البقاء نشطا منذ نسمات الصباح الأولى بالرغم من الهم و الألم الذي يوكز قلبي إلا أنني أبتسم بتفاؤل دوما فالإستسلام للحزن هو بكل بساطة ضعف،

كنت قد رميت بأوراقي على طول مساحة المكتب ووضعت محفظتي بثبات على حافته، صوت الهمهة غير المبالية من التلاميذ كان يزداد تدريجيا فأنا قبل كل الشيئ ذلك الأستاذ اليافع الذي يريد كل تلميذ أن يتعلم تحت جناحه نظرا لتقارب الأعمار بيننا لذا فإنني أتفهم رغبتهم الدائمة في الحديث،

رفعت يدي لأبدأ الدرس لكن الباب فتح و من خلفه دخل مدير المؤسسة الحازم و فاره الطول و الذي يشبهني الجميع به بالرغم من أنني لا أتفق معهم، خلفه كانت تلك الفتاة القصيرة ذات الشعر الأسود الفاحم المنسدل على وجهها و نظارتها تسير ببطئ و خجل لم يسبق لي أن رأيته من قبل في زمن تخلصت فيه معظم المجتمعات من القيود و أصبحت تلك التي نسميها قيودا أشبه بخيوط واهنة تقطع بسهولة ، قدمني المدير لها و غادر و بالرغم من محاولاتي الحثيثة لجعلها تقدم نفسها إلا أنها أبت ذلك و آثرت أن تجد مقعدا تجلس به بأسرع وقت ، قدمت درسي كالمعتاد بكل تركيز و تفان تفاديا لتأنيب الضمير ، أو خوفا من كلام الناس مع أنني أحاول إقناع نفسي كل مرة أنني لا أهتم لهم ، لكن جزءا صغيرا من عقلي ظل يتسائل عن هته الفتاة و قصتها فطوال حصتي التي دامت ساعة لم ترفع رأسها من كراسها المزركش و كنت قد لاحظت أكثر من مرة أنها كانت ترسم أشكالا تنجذب لها العين و ترتاح لها النفس إلا أنني لم أوبخها و قررت أن أدع هذه الواحدة تمر فلربما لم تعتد الأجواء و أنا أكثر من يعلم بذلك فقد ترعرعت في هذه المدينة و لم أبارحها قط و رأيتها تتغير في كل لحظة و شهدت كل أحداثها و لعل أمر تلك الأحداث وفاة والدي و زوجتي في حادث مرور بكت له حتى السماء ، ما زلت أتذكرهما كل يوم،
أرى ملامح أبي الصلبة و الرجولية زيادة في وجهي و أسمع ضحكات زوجتي الراحلة في كل زاوية، و أرى وجهها في كل أنثى تشبهها و لو قليلا.

أنهيت يومي بشكل عادي مع أولى ساعات المساء الدافئة و التي تكون الشمس فيها متوسطة السماء و تختفي حينا و آخر بين القزع، أعشق هذه الدقائق التي يكون فيها الشارع فارغا و الهدوء مخيما حتى يجعلك تستمع لنغمات العصافير الرقيقة و هي تتراقص بسعادة بين الأشجار التي تتوسط أرصفتنا ،
لكن مروري بقاعة الأساتذة و إختلاطي بالناس يجعلني أكرهها تدريجيا فأنا بطبيعتي ذلك الرجل ذا المبدأ الواضح و الذي هو القيام بالعمل دون إختلاط ، ثم كل ما سيتحدثون عنه هو صرامة مدير ذنبه الوحيد أنه يقوم بعمله بشكل مثالي.

أستمتع بمشيتي القصيرة تلك للمنزل قدر الإمكان و أتناسى إنهاكي الخفيف من الوقوف لساعات متواصلة، إلا أنني لا أستطيع أن أرسم ملامح الغبطة على محياي لأن ريشتي إنكسرت، و بين طريقي لمكان عملي و المنزل ألتقي ببعض الوجوه المألوفة و التي تبتسم لي إبتسامات زائفة دون علمهم أنني لست بحاجة لها و الحمد لله أنني أتناسى ذلك لحظة دخولي للمنزل و أضحك ملئ شدقي كل مرة أرى فيها أمي تتجول ذهابا و إيابا داخل مطبخنا الضيق المكدس بالأواني كأنها في صالة أوبرا تغني بأعلى صوتها في خضم طبخها لبعض الكعك ضاربة كل نصائحي و نصائح الطبيب عرض الحائط، إنها زينة منزلنا الفارغ و كل حيويته ربما لهذا لا أتسائل كثيرا عن سبب تفاؤلي الغريب الدائم فهي تضحك دوما، متمسكة واثقة بدينها و تأخذ معها سجادة الصلاة أينما تحركت كأنها إبنتها الثانية و قد أضاءت تلك الثقة بالله وجهها و قلبها،
أنسى خططي ليوم غد عندما أشرع في التحدث معها عن يومي و هي ترد بفكاهتها عن كل ما أقوله و تهدئني كلما إنفعلت،

بعد حكايا طويلة معها إنزويت في غرفتي المرصعة بالأكسسوارات الفخارية و التماثيل الصغيرة التي تعتبر آخر إبداعات أبي قبل وفاته و كل ما يذكرني به، أخذت أحظر ليوم غد و صورة تلك الفتاة لا تفارق ذهني، عجبت لأمري فأنا لست بذلك الشخص الذي يؤمن بالحب و لا بالزواج، ليس بعد كل ما مر علي طبعا، لا بل و أضحيت أعتبرها مجرد هروب مؤقت من واقع حي حقيقي نعيشه و نتحسس جنباته لواقع مزيف ورديء ، عزوت تفكيري المتواصل بها لشبهها الكبير لي في صغري فأنا كنت و مازلت نوعا ما ذلك الرجل الذي لا يثق في أحد سوى تلك القلة القليلة من الناس، تلك الثلة التي تفهم سبب إنطوائي و تقدر نصائحي و تصحح أخطائي بروية و لطف، و أرفض الإختلاط و الإستماع لأناس يعتلون منصات الحكم على الغير دون أن يعرفوهم.

هي فقط أيام و تجارب تمر و ننساها، تغيرت أرقام التقويم دون أن أشعر بها و أخذ الشتاء يستعرض قوته و يرسم لوحات جميلة تزين قريتنا و تغير ملامح تلك المنازل الصغيرة المتراصفة، كنت و مازلت أفكر في تلك الفتاة التي إستولت على عقلي كل ما أعود للمنزل ملطخا بقطرات الودق، لا أحاسبها على عدم إنتباهها و أشكرها شكرا عظيما على نصف إجابة، تغيرت و أصبحت مولعا بذلك القسم تحديدا أكثر من ذي قبل بعدما كان مجرد قسم عادي آخر بتلامذة متوسطي الذكاء، تفكيري أخذ منعطفا آخر لم أتوقع أنني سأحيد بإتجاهه و أخذت أتحدث مع نفسي بين الحين و الآخر في لحظات سوادي و عزلتي حول تلك الأيام بعد أمي، و كيف أنني سأظل وحيدا للأبد، أصارع بين مبدأ أسير عليه و فتاة غريبة أحببتها دون أن أعرفها.

بعد أيام سألت عنها و عن والدها و كنت دائما أقفز له حين يحل موعد زيارة الأولياء و أتجاذب معه أطراف الحديث حول أحوال المجتمع – كما تفعل مع شخص غريب – و بمرور الأيام أصبحت أرمي له بين طيات الحديث كلمات عن الزواج و فكرة فارق العمر إلا أنه لم يبدي أي إعتراض بل وقال أن زوجته الثانية تصغره بعشر سنوات، كان شخصا متفتحا يرى العالم من زاوية أوسع و قد طبق ذلك على أسلوب ملابسه الشبابي، أخذت بطبيعة الحال كلماته كموافقة مبدأية، لم أكن أنوي التقدم لخطبتها بالطريقة التقليدية لأن لدي إعتقاد راسخ أن الخروج عن التقاليد بشكل طفيف لن يضر طالما أنني متمسك بالدين كما أن خطبة فتاة قبل سن الثامنة عشر أمر يتعارض تماما و مبادئي الواضحة،

فما كان لي سوى أن أرمي لها بين الحين و الآخر أرمي لها إطراءات لطيفة حول رسومتها لعلي أوحي لها بنواياي، إطراءات كانت تتقبلها بصدر رحب و إبتسامة على شفتيها، و بمرور الأيام إزدادات محادثاتنا عمقا و أخذت أفضلية أنها كانت فتاة بمثل حالتي النفسية في صغري لصالحي، لكنني لم أستغلها قط بل نصحتها و أرشدتها و قد وجدت ذلك كنوع من الإهتام الحسن من جانبي ، أحسست كأنها خرجت من زنزانة أفكارها السلبية و عزلتها لترى العالم بشكل جديد ، كنت أعاملها كأخت أكثر من شيئ آخر بالرغم من عمق نواياي إلا أنني عرفت معنى الرجولة الحقة بالرغم من إختلاف مفاهيمها لدى الناس فأنا لم أنوي قط أن أتركها – ليس بعمري هذا – و لا أن أجعل منها حبيبة بعمرها الصغير فأنا أدرى من ذلك، أدمنتها مع مرور الوقت و عشقت كل ما فيها لأدق تفاصيلها، و أحببت كل ما يذكرني بها لكنني لم أعترف بذلك قط، و لأول مرة منذ فترة طويلة وجدت البديل الذي سيخفف ثقل كاهل أمي، وجدت كتفا آخر أستند عليه و أشكو له حزني المتواصل و ألقي له بكل مكونات قلبي، و هي بدورها لم تقصر في حبي، كيف ذلك؟ و قد وهبتني فؤادها و لربما ذلك ما جعلني سعيدا – على الأقل لفترة من الزمن – فأنا لم أعرف حقا الغبطة بعد تلك الكبوة التي أصابتني.

****

كلمات الناس كان لها الوقع الأكبر على قصتي هذه و أكاذيبهم المقنعة لعبت دور الجوكر، أصبحت خطواتي في الشارع غير مرغوب بها، إنهم يرونني كوحش بشري، و بطبيعتي هته التي فرضها علي الله كنت أتحسس نظراتهم و أسمع همساتهم، لقد رفضو فكرة زواج رجل بالغ في عمر الثلاثين بفتاة في عمر العشرين أو أقل، فجأة أخذ الجميع يبتعد عني، لا أدخل مكانا سوى و أسمع الكلمات الجارحة تخرج من أفواههم بقرف، ” إنهم يقولون أنها سحرته ” كانوا يرددون هذه الكلمة بكثرة، يقفزون ذهابا و إيابا بين إتهامي بعشق تلميذتي و إتهامها بالسحر ، و أخذت للأسف تلك الإدعاءات بالخروج عن نطاق الهمسات الخفيفة التي تتناقلها الأفواه فبلدتنا الصغيرة لم تكن قط مرتعا للأسرار، بل بالعكس كانت شبيهة بكومة القش التي تشتعل فيها النار بلمح البصر ، مقتت الخروج و فضلت البقاء منعزلا في غرفتي ، متنقلا بين عملي و المنزل و المسجد إلا أنهم أبو إلا أن ينكدو حياتي ، فقط لو علمت من هم لأخبرتهم بحقيقة الأمر ، لكن يبدو أنهم مشتركون جميعا، متحدون لخدمة هدف واحد! تحطيم علاقتي ، فالتلاميذ الذين كانو يتمنون الدراسة على وقع كلماتي يوما نفرو من حصتي و تلك الأيادي التي كنت أصافحها بعد الإنتهاء من الصلاة و الخروج من المسجد قلت بشكل محسوس ، بل و يمكن القول إنعدمت تماما،

كرهت نفسي و لم أعتقد قط أنني سأفعل ذلك فقد ورثت عن أمي عزة النفس و الثقة فلا شيئ كان يزعزني إلا إذا زعزعها، لكن يبدو أنهم زعزعو ثقتها بي قبل زعزعة ثقتها بنفسها لأنها رفضت، بكل بساطة رفضت زواجي بهذه الفتاة و تحججت بقولها أنني أفضل منها بكثير ، لم أفهم سبب رفضها و حطمني قرارها ذلك إذ أنها كانت الجبل الذي أستند عليه، جبل تفتت صخوره في لحظة ضعف كونتها كلمات واهمة خلقها مجتمع لا يدع للفرد مجالا للشرح إلا و أطبق عليه بأحكام جائرة لا يجرأ أن يطبقها على نفسه.

أخذت طرقنا تتباعد تدريجيا فهم كالأفاعي يلتوون على عنق الفرد و لا يتركونه إلا و أقنعوه، محادثاتنا إنعدمت و نظراتنا أصبحت متحاشية، و بطريقة أو بأخرى إفترقنا نهائيا فأنا لم أحاول إطلاقا أن أفرض عليها محبتي و إنما أقنعت نفسي و الله يعلم أنني لا أعني ذلك بأنها إذا أحبتني حقا فإنها كانت لتقوم بالمستحيل لنكون معا.

****

بعدما إخضرت أوراق الربيع و إنقشعت الغيوم عن كل ما كان، عادت تلك الإبتسامات الزائفة و الأحاديث الكاذبة المنمقة ترمى علي مجددا، لكنني إنسحبت، إنسحبت تماما و إنكسرت من الداخل خاصة بعدما إكتشفت و يا ليتني لم أكتشف، أنها لم تكن مسألة فارق عمر و لا إختلاف مستوى، إنما كانت غيرة، مجرد شعور زائف يطفو في لحظة غضب و حسد، فكيف لذلك الشاب الذي رفض كل بناتنا بعد وفاة زوجته أن يقبل بهذه الغريبة الدخيلة عن مجتمعنا، هاهم سعداء الآن بعودتي إلى إنزوائي فلربما أنا من أخطأت لأنني أردت أن أشعر كعريس شاب مجددا.

على كل، لم يتلفت لي الحظ كثيرا بعد ذلك فقد رأيت و مازلت أرى أمي تصارع المرض و قد أصابها الخرف بعد كفاح طويل مع الحياة، أما أنا فإنني أعيش أيام حياتي دون أن أشعر بها، أحساس عميق بداخلي يخبرني أن أتفائل لكنني إنتقلت، إنتقلت لعالم خاص بي ، عالم أبلق لا ألوان فيه.

تاريخ النشر : 2019-10-11

تقي الدين

الجزائر
guest
53 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى