أدب الرعب والعام

إلى قلب الظلام

بقلم : Nana Hlal – سوريا

لم يشعر الشاب المسكين سوى بالحقنة تخترق ذراعه لتكون بداية عذاب له في مختبر أشبه بالمسلخ البشري
لم يشعر الشاب المسكين سوى بالحقنة تخترق ذراعه لتكون بداية عذاب له في مختبر أشبه بالمسلخ البشري

 
فتح عينيه ببطء شديد ، كان الضوء قوياً بسبب المصباح الكبير المعلّق فوق رأسه ، حاول أن ينهض لكنه لم يستطع ، شعر وكأن رأسه ملتصق ، لكن السبب في عدم نهوضه كان حزاماً مربوطاً حول رقبته ، حاول تحريك يده اليمنى ولكنها كانت مقيدة أيضاً ، كذلك الحال نفسه مع يده اليسرى وقدميه ! نظر حوله فرأى غرفة بيضاء فارغة ، عندها أدرك الحقيقة البشعة و هي أنه مختطف ومقيّد على لوح خشبي ! حاول الصراخ لكن فمه كان مغلقاً بإحكام بكمامة فولاذية مزوّدة بعازل لكتم الصوت ، فمهما حاول الصراخ سيكون صراخه بلا صوت !.

دخل إلى الغرفة ثلاثة أشخاص كانوا رجلين وامرأة يرتدون بدلات بيضاء ونظارات واقية ، وقفوا فوق رأسه و بأيديهم أوراق وأقلام وبدأوا يتناقشون:
– أعطني رقم المتطوع رقمه هو 15.
– منذ متى وهو في هذه الغرفة ؟.
– منذ البارحة ، لقد دعاه الحارس لزيارة المحمية وأعطاه كوباً من الشاي مع منوّم ، و بعد أن بدأ مفعول المنوّم وضعناه في هذه الغرفة.

تذكّر الشاب المسكين كيف طلبه الحارس بدعوى تفقد المحمية فقد كان الشاب يعمل ضمن لجنة حماية الغابات ، فكّر أيضاً كم كان من الغباء أن يلبي الدعوة دون إخبار أحد و دون أن يكون التفقد مهمة رسمية ! وهو الأمر الذي ندم عليه في تلك اللحظة لأنه لو أخبر أحداً لكان مكانه معلوماً واستطاع أحد ما إنقاذه ، ولكن للأسف لم يعد ينفع الندم فقد أصبح بين يدي وحوش على هيئة علماء ينتظر مصيره المجهول.

– أبدئي بإعطائه هذه الحقنة ليتسنى لنا متابعة عملنا بسهولة.
ما إن سمع الشاب حتى حاول تسخير ما بقي من قواه لفك نفسه ، ولكن أين المفر؟ يداه و رجلاه مقيدتان ، و رقبته مسوّرة بطوق يجعله عرضة للاختناق إن رفع رأسه قليلاً ، و فمه مكمم بحيث لا يسمع صراخه مهما كان عالياً ، لم يشعر الشاب المسكين سوى بالحقنة تخترق ذراعه لتكون بداية عذاب له في مختبر أشبه بالمسلخ البشري !.

في مركز شرطة المدينة حيث يتم تلقي منذ بلاغات منذ عدة أيام عن مفقودين ، يتفحص الضابط فراس ملفات المفقودين لعلّه يجد ما يدل على سبب اختفائهم فهو مؤمن بأنهم اختفوا لأسباب مشتركة ، الضابط فراس هو شقيق الشاب المختَطَف وهو لا يعلم بعد بأن أخاه انضم إلى عداد المفقودين .

قال لمساعده بعد أن أغلق آخر ملف بلهجة استسلام:
– حقاً إنه لأمر غريب ، لا توجد صفات مشتركة تجمع بين المفقودين ، إنهم من أعمار وطوائف مختلفة ، حتى أن ظروف الاختفاء ليست متشابهة ، لكنهم اختفوا في أيام متقاربة ، في أسبوع واحد فقط اختفى أربعة عشر شخصاً .

– أنت محق سيدي ، لقد سألنا ذويهم وأخبرونا أنهم كانوا يقضون أعمالهم الاعتيادية ، لم يخبرنا أحدهم إن كان يوجد شخصاً مجهولاً يحاول استدراج أشخاص لخطفهم.
– بسرعة وإلا ازدادت أعداد المفقودين، يمكنك ، الانصراف الآن .
– حاضر سيدي.

خرج المساعد مع الملفات و بقي فراس وحده في مكتبه يحاول التفكير للتوصل لطرف خيط يقوده إلى الحل ، ثم قرر فجأة الاتصال بأخيه الذي لم يكلمه من مساء اليوم السابق ، اتصل إلى هاتفه المحمول لكن الهاتف كان مغلقاً ، فظن أنه قد يكون في مهمة مع لجنة حماية الغابات ، لكن ما إن أغلق الهاتف حتى اتصل به رئيس اللجنة :
– سيد فراس ، إن فادي – اسم الشاب – لم يأتي اليوم من أجل المهمة ، و حاولت الاتصال به لكن هاتفه مغلق ، هل تعرف عنه شيء ؟.

ردّ فراس و قد بدأ يشعر بالقلق :
– _لقد حاولت أنا أيضاً الاتصال به وكانت النتيجة نفسها ، فظننت أنه عندكم.
– كان من المفترض أن يأتي منذ ساعة ، ليس من عادته أن يتأخر ، أخبرني إذا عرفت عنه أي شيء.
– حسناً.
أغلق فراس الخط واتصل بعدها بسرعة بصديق فادي لعلّه يعرف أي شيء عن أخيه ، لكن الآخر قال : أنه لا يعلم عن فادي شيئاً و لم يتواصل معه منذ مساء اليوم السابق ، في تلك اللحظة تأكد فراس من أن أخاه قد فُقِد هو الآخر ، حاول تمالك أعصابه ، لكنه أصيب بنوبة غضب جعلت رأسه يؤلمه إلى حد الانفجار .
دخل عليه بعض العناصر يحاولوا تهدئته ، فوجوده يجلس على الأرض و يمسك رأسه بقوة ويصيح:

– رأسي يكاد ينفجر !.
رد أحد العناصر: لنأخذه إلى المستوصف الذي بجوارنا.
نُقِل فراس إلى المستوصف حيث أُجْريَ له قياس للضغط وكانت النتيجة أن ضغط دمه عالٍ جداً ، سمح الطبيب لمساعد فراس أن يدخل لرؤيته ، فدخل المساعد وسأل فراس عن سبب غضبه المفاجئ :

– سيدي ، أخبرني ما الذي جعل حالتك هكذا ؟.
أجاب فراس وعلامات الصدمة بادية بوضوح على وجهه :
– فادي.. أخي فادي.. إنه مفقود ، لا أحد يعلم أين هو !.
– سيدي ، هل أنت متأكد ؟.
-_ إنه ليس في عمله ولا في المنزل ، حتى صديقه لا يعلم عنه شيء… أكاد أُجن ، لا أعلم ماذا أفعل ؟ أنا السبب ، لم أستطع حمايته.
– أرجوك ، لا تلم نفسك ، سيكون بخير.
– أريد البحث عنه.
– ابق مكانك ، لا زال ضغط دمك مرتفع.
– لست مهتماً لضغط دمي اللعين ! علي البحث عن أخي.
– سنتولى البحث عنه ، لكن أرجوك سيدي ابق في السرير و حاول أن ترتاح.
–  أخبرني كيف سأرتاح ؟ سيصيبني الجنون ، لا أستطيع التحمل أكثر.

دخل الطبيب بعد سماع صوت فراس وطلب من الممرضة إحضار الحقنة المهدئة ، تعاون الطبيب والممرضة والمساعد على تهدئة فراس بصعوبة وإعطائه الحقنة ليغرق بعدها في النوم وهو يهذي باسم أخيه.

قال الطبيب للمساعد محذراً:
– لا زال ضغط دمه مرتفعاً ، إن بقي هكذا سيصبح وضعه أسوأ بكثير ، سنضعه تحت المراقبة حتى صباح الغد .
– حسناً ، شكراً لك.
خرج عناصر الشرطة و عادوا إلى مركز التحقيقات و قرروا منح فراس إجازة صحية ريثما يتحسن قليلاً .

مر أسبوع منذ اختفاء فادي والشرطة لا زالت تحاول العثور على دليل يقود إليه أو لأحد غيره من المفقودين ، بحثوا في جميع أرجاء المدينة كما أرسلوا صور المفقودين و ملفاتهم إلى باقي مراكز الشرطة ، لكنهم لم ينجحوا في مهمتهم بعد ، الأمر الذي كاد أن يصيب عناصر الشرطة بالإحباط لولا أن خطرت ببال رئيس المركز أن يبحثوا في الأماكن الغير مأهولة .

أرسل المركز عدة فرق للبحث في الغابات و طرق السفر ، حتى وصلت إحدى هذه الفرق إلى محمية الحيوانات التي تقع خارج المدينة ، أظهر عناصر الفريق بطاقاتهم لحارس المحمية الذي رفض على نحو مريب دخولهم إلى المحمية ، مما دفع العناصر إلى القبض عليه و مداهمة المحمية، لم يجدوا في البداية سوى حظائر تضم حيوانات نادرة و بعض الأشجار الضخمة ، لكن أحد العناصر شعر بأن الأرض هشة وكأنها حُفَرت و رُدمت مرة أخرى ، الأمر الذي دفع الفريق إلى الحفر، و لم يخطئ إحساس الشرطي فبعد الحفر وجدوا باباً كبيراً من الحديد يقود إلى نفق مظلم.

بعد أن نزلوا إلى النفق وجدوا في آخره غرفاً مضيئة كانت تضم أشخاص محبوسين خلف قضبانها ، وعندما اقتربوا من هذه الغرف وجدوا المحبوسين في حالة مزرية وبسعة للغاية بسبب التجارب التي مورست ضدهم .

عثر العناصر على الأشخاص الذين يرتدون البدلات البيضاء و هم يحقنون مواد سامة لفتاتين تم اختطافهما بعد اختطاف فادي ، فتم اعتقالهما و تحرير المحبوسين وأخدهم إلى مراكز صحية مع عينات من المواد الخطيرة التي تم تجربتها عليهم في مركز الشرطة كان فراس ينتظر بفارغ الصبر ، أما عن سبب عدم مشاركة فراس في هذه المساهمة أو عمليات البحث الأخرى كان أمر من رئيس المركز لأن للرئيس خشي من ردة فعل جنونية قد تصدر من فراس ، فهو كان يعلم تعلّق فراس الشديد بأخيه ، وهو ما ظهر جلياً عندما وصلت أخبار عن نجاح العثور على المفقودين و نقلهم إلى المراكز الصحية ، فما إن سمع فراس بالأخبار حتى سأل الرئيس بسرعة:

– حقاً ؟ متى ؟ أين ؟ في أي مركز وضعوه ؟ هل هو بخير ؟ هل استطيع رؤيته ؟.
– أرجوك أهدأ قليلا ، ستعرف كل شيء ونذهب إلى المركز الصحي لنراه حسناً .
– أريد أن أذهب بسرعة أرجوك.
– حسناً ، و لكن أرجوك أبقى هادئاً.

ذهب فراس مع بعض من العناصر الذين بقوا في مركز الشرطة إلى إحدى المراكز الصحية التي وضع فيها ضحايا التجارب المخبرية البشعة ، بالطبع فراس لا يعلم أين كان أخاه فقد كان همه الوحيد أن يراه و يتأكد أنه بخير ، ما إن دخل فراس من عناصره إلى المركز حتى وجدوا أشخاصاً محتجزين بحالة مأساوية لم يسبق أن رأوها حتى عند المعذّبين بوحشية.
  
ما إن دخل فراس مع عناصره إلى المركز حتى وجدوا أشخاصاً محتجزين بحالة مأساوية لم يسبق أن رأوها حتى عند المعذّبين بوحشية !.
كانوا 10 أشخاص كل واحد منهم وحيداً في غرفة ، وقد ظهرت عليهم جميعاً أعراض غريبة ، أول شخص رأوه كان شاباً ذو جلد محروق وعينان جاحظتان ولا يستطيع فعل شيء سوى الصراخ ، والثاني كانت فتاة تضحك بفك مغلق وتستمع إلى الجدران ، يبدو أن حاسة السمع لديها أصبحت أقوى بكثير من السابق ، والثالث كان طفلاً يحاول حفر البلاط بيديه الصغيرتين و يبكي بكاءً مريراً.

قال الطبيب المرافق للعناصر:
– لم نعلم حتى الآن طبيعة المواد السامة التي تلقوها، أخشى أن تكون هذه الأعراض طفرات لا يمكن علاجها ، هل تريدون رؤية باقي المحتجزين ؟.
ردّ عليه فراس وقد بدت عليه علامات الصدمة:
– أجل ، إنني … إنني أبحث عن أخي هو … كان أيضاً من المخطوفين…
– يا إلهي ! لا أعلم ماذا أقول لك ، جميع المخطوفين الموجودين الآن في المراكز الصحية لديهم أعراض غريبة جداً كالتي رأيتها قبل قليل .

تمنى فراس لو كان كل هذا مجرد كابوس مرعب ، تمنى لو يغلق عينيه للحظة ثم يفتحهما مرة أخرى ليجد أنه كان يعيش الوهم ، لكن أين الوهم وعينيه ترى هذه المظاهر المرعبة ولا يعلم ماذا سترى أيضا ً، لكنه جمع ما بقي من قواه ، و قال للطبيب وهو يتلعثم :
– حسناً س….سنرى الباقين.

أكمل العناصر و الطبيب جولتهم لتفقد باقي المحتجزين الذين لم يكونوا أفضل حال من السابقين ، فكان منهم اثنين كبيرين في السن وثلاثة مراهقين وامرأة ، كانوا أقرب إلى الوحوش في ألوان جلودهم الغريبة ومناظرهم المرعبة وتصرفاتهم التي تشبه الإنسان البدائي ، رآهم فراس ليزيد شعور الخوف لديه من حال أخيه الذي لم يتصوّر في حياته أن يكون بحال سيئة لأي سبب كان.

وصلوا إلى الغرفة التي تضم آخر المحتجزين في المركز، شعر فراس بدمائه وهي تغلي في جسده من رأسه إلى أسفل قدميه ، لم يستطع كتم الشعور البشع بالخوف ، لذا دفع الباب بأقصى قوته واقتحم الغرفة ليجد شاباً ممدداً على السرير، كان الشاب هادئاً ولا يفعل أي شيء على عكس السابقين ، لكن مظهره كان كفيلاً بجعل أكثر الرجال شجاعة يرتعد خوفاً من شكله.

كان الشاب ذو بشرة رمادية كأنه خارج لتوه من الرماد ! وعيناه كانتا تنزفان دماً قاتماً ، أمّا عن سبب هدوئه فالجواب ببساطة كان الضعف الشديد الذي أصاب حواسه الخمس !.
رغم التغير الكبير في شكله ، استطاع فراس أن يتعرف عليه من قميصه ، لقد كان هذا الشاب شقيقه فادي !.

سأل الطبيب فراس إذا تعرف على الشاب ؟ لكن عقدة أصابت لسان فراس ومنعته من الإجابة في تلك اللحظة المؤلمة لدرجة أنه تمنى لو كان فادي ميتاً لكان أفضل من كونه بهذه الحالة !.
أراد فراس الاقتراب من فادي ، لكن العناصر منعوه خشية تعرضه لعدوى فقد اعتقدوا أن الضحايا تعرضوا لأنواع من الفيروسات المعدية .

– لِمَ تمنعوني من الاقتراب من أخي ؟ اتركوني أذهب إليه.
– أرجوك سيدي ابق هادئاً ، ربما تعرض لفيروس خطير، نحن نريد سلامتك.
– لكنه بحاجة إلي ، كيف أتركه بهذه الحالة ؟.
– ليس من الحكمة أن تتصرف بتهور ! أنت لن تفيده بأي شيء بتصرفك.
قال الطبيب مؤيداً لكلام العناصر:
– إنهم على حق ، كما قلت في البداية نحن لا نعلم بعد ما هي المواد التي تعرض لها الضحايا وإن كانت حالاتهم قابلة الشفاء ، يجب أن تكون قوياً فهذا ليس وقت العواطف.
هدأ فراس مرغماُ بكلام الطبيب ، وخرج بسرعة من المركز تاركاً العناصر ، إلا أن مساعده لحق به خشية من أن يلحق الأذى بنفسه.
وجد المساعد فراس جالساً على الأرض ، وعندما اقترب منه نظر إليه فراس و قال له بصوت مخنوق :

– لو كان ميتاً لكان أرحم له ! هو لم يؤذ أو يعتد على أحد ، إنه شاب طيب نقي القلب .
بدأ فراس يجهش بالبكاء واستأنف كلامه :
– لِمَ فعلوا به هذا ؟ لِمَ عذبوه وهو لم يمس ظفر أحدهم حتى ؟  لِمَ دفع ثمن وحشيتهم ؟ لِمَ حصل به ما حصل ….
ضمّه المساعد بين ذراعيه بقوة دون أن يقول له شيئاً لأنه لم يجد كلمة واحدة تخفف من مصاب سيده.

في مركز الشرطة عُرِض من هم من المفترض أن يكونوا علماء إلى التحقيق ، كانوا رجلين وامرأة إضافة إلى رئيسهم الذي يُدعى دياب وهو مختص في الكيمياء الطبيّة وحارس المحمية الذي بُني تحتها المختبر السري.
بدأ الاستجواب مع الحارس لأنه يعرف المحمية جيداً و يعرف كل تفاصيلها ، والسبب الآخر أيضاً كي يعلم المحققون كيف نشأ المختبر.

– منذ متى تم إنشاء المختبر السري ؟.
– منذ شهرين.
– أي منذ أن أغلقتم المحمية بحجة إعادة تنظيمها ؟.
– أجل ، منذ ذلك الحين.
– وأين القائمين على إدارة المحمية ، لماذا لم يوجد أحد غيرك ؟.
– كان هدف الإغلاق في البداية هو إعادة هيكلتها و توسيعها ليجلبوا المزيد من الحيوانات ، ولكن اكتشفت أن الهدف الحقيقي كان بناء مختبر سري تحت الأرض.
– وكيف استطاعوا بناء المختبر في وقت قصير ؟.
– بنوه في قبو قديم كنا نستخدمه لتخزين طعام الحيوانات ، واستغرق بناءه خمسة أيام فقط ، لأننا كنا نعمل 18 ساعة في اليوم !.

– و ماذا حدث بعد أن انتهيتم من البناء ؟.
– بقيت أحرس المحمية وحدي لأن جميع زملائي حصلوا على عطلة ، أنا بقيت على رأس عملي لأحصل على قيمة العمل الإضافي ، و بقوا المخبريين في مختبرهم يقومون بعملهم.
– هل كنت تعلم بطبيعة عملهم ؟.
– قالوا أنهم كانوا يجربون أدوية مضادة للفيروسات على متطوعين ، عرضت نفسي للتطوع لكنهم رفضوا و لم يخبروني سبب رفضهم.
– ألم تشعر بأي شيء مريب متعلق بطبيعة عملهم ؟.

– بلى ، كان مجرد شعور حتى تأكدت تماماً من ريبة عملهم عندما كنت أرى المتطوعون يدخلون إلى المختبر و لا يخرجون منه ! وأيضاً عندما غضبوا مني لأني أردت رؤية المختبر  غضبوا بحجة خوفهم من أن أجرب مواد قد تضر بصحتي.
– منذ حوالي عشرة أيام أتى إليك شاب من لجنة حماية الغابات ، أنت من استدعيته ؟.
– أجل.
– لماذا ؟.
– هم من طلبوا مني.
– وأنت من وضع المنوم في كوب الشاي الذي قُدِم له ؟.
– لا ، لست أنا ، كانت المرأة معي هي من أعدته.
– هل علمت بطبيعة عملهم ؟.
– أجل ، لقد أردت أخباركم ، لكنهم هددوني بإجراء تجاربهم على أفراد أسرتي … لم يكن عندي خياراً سوى الصمت.
– ألهذا السبب أيضاً حاولت منع فريق المداهمة من دخول المحمية ؟.
– نعم ، لهذا السبب .

– لديك سبب قوي جداً لتسكت عن هذه الجريمة ، لكن هل تعلم ما هي نتيجة سكوتك ؟.
بلع الحارس ريقه بصعوبة ثم أجاب وهو يرتجف:
– لا ، لا أعلم.
ما إن أجاب الحارس حتى وُضعت أمامه صور الضحايا ، بمجرد أن رأى أول صورة أغلق عيناه بيديه وهو يصرخ.
– يا إلهي !.
– هذه الصورة التي أفزعتك هي صورة الشاب الذي سألتك عنه تواً.
– صدقتي يا سيدي …. صدقني لم أرغب بحدوث هذا … لقد حصل كل شيء … كل شيء حصل رغماً عني ، لقد كنت مجبراً صدقني .
– سنتأكد إن كنت مجبراً.

في الغرفة الأخرى كان يتم استجواب المرأة الوحيدة بين المخبريين ، كانت علامات الندم والتحسّر واضحة عليها على الرغم من أنها ساهمت بشكل كبير في تلك التجارب وكانت تعلم مسبقاً مدى فظاعتها .
– تبدين نادمة .
ردّت وهي تبكي:
– نادمة…. نادمة جداً.
– أخبرينا كيف شاركت في هذه التجارب ، و ما هي طبيعة المواد التي استخدمتموها ؟.
– أخبرني البروفيسور دياب أنه سيدرّبني بعد أن تخرجت ، وافقت وعندما ذهبت إليه لنتفاوض ، أخبرني أنه سيتم بناء مختبراً في محمية الحيوانات ، سألته في البداية عن سبب اختيار المحمية ؟ قال لي : أنه سيكون مكان قبو قديم تحت الأرض لكي يتم العمل بهدوء ، بعد الانتهاء من البناء وتجهيز المعدات بدأنا العمل مع مخبريين آخرين على تركيبات من أدوية ومواد كيميائية ، كان الهدف منها تغيير التركيب الجيني للكائنات الحية.

– لماذا لم تجربوا التركيبات على الحيوانات ؟.
– لم نستطع لأنه كما تعلمون الحيوانات في المحمية يجب أن تظل في الأمان..
– يا له من عذر سخيف ! أردتم حماية الحيوانات لذا قررتم إجراء تجاربكم القذرة على البشر!.
أصبحت المرأة تبكي بمرارة و لم تستطع الإجابة.

– من أجل ماذا ؟ من أجل الشهرة أو للحصول على جائزة ؟ ماذا عن براءة اختراع لأدوية تحول الإنسان إلى وحش ؟ تخيلي لو أحد من أحبائك تلقى هذه السموم التي صنعتها بيديك ؟ ألا تشعرين بالعار؟.

لم ترد بأي كلمة ولم تفعل شيئاً سوى البكاء والضرب على رأسها !.
أُكْمِلتِ التحقيقات مع الرجلين الآخرين و البروفيسور دياب ، و على عكس الحارس والمرأة فهؤلاء لم يبدو أي ندم أو ردّة فعل توحي أنهم أدركوا بشاعة فعلتهم ، فقد كانت الرغبة العنيفة واضحة من كلامهم ، الأمر الذي جعل
أحد المحققين يخرج من غرفة التحقيقات لأنه شعر بالاشمئزاز من حديثهم بكل ثقة عن جرائمهم !.

بدأت رحلة الدراسات الطبية لمحاولة علاج الضحايا ، البداية كانت بتحليل المواد السامة لمحاولة إيجاد مضادات ، و رغم تأكد الأطباء أن الضحايا لم يتعرضوا لأي نوع من الفيروسات إلا أنهم منعوا ذوي الضحايا من زيارتهم تجنباً للآثار النفسية السلبية ، كان فراس يتواصل مع الطبيب المشرف على علاج فادي للاطمئنان عليه ، تمنى لو استطاع سماع صوته ، لكن فادي فقد قدرته على الكلام ، أخبره الطبيب كما أخبر أهالي باقي المرضى الذين يشرف عليهم أن محاولة التوصل إلى علاج لا زالت قائمة .

مضى شهرين على المحاولات حتى بدأت الأمور بالانفراج ، فقد أكتشف الأطباء أن المواد السامة التي تلقوها الضحايا لم تغير من جيناتهم و يمكن بسهولة إيجاد علاج مضاد ، تم التوصل إلى عدة علاجات أدت إلى نتائج إيجابية ، فالفتاة التي اكتسبت حاسة سمع قوية بدأت تبتعد تدريجياً عن الجدران لأن سمعها بدأ يعود إلى حالته الطبيعية و تمكنت من فتح فمها ، والشاب ذو العينان الجاحظتان بدأت عيناه تصغران لتعودا إلى حجمهما الطبيعي وخفت حدّة صراخه بشكل ملحوظ وعاد جلده المحترق إلى التجدد ، أما فادي فبدأت حواسه تعود تدريجياً واستطاع استعادة حاسة اللمس ، لكنه لا زال غير قادر على الكلام بعد ، وبخصوص نزيف عيناه فقد كانت دموعاً تغير لونها بفعل السموم إلى اللون الأحمر القاتم !.

رغم التحسن الكبير الذي سببه العلاج لكن للأسف الشديد هناك من لم ينجو ، فالطفل الذي كان يبكي ويحفر البلاط مات بعد ثلاثة أيام فقط من وجوده في المركز الصحي ! وهذا الأمر قد يتسبب بإقرار أقصى العقوبات على الجُناة.

استمرت رحلة العلاج عاماً كاملاً حتى تعافى الضحايا بشكل كامل ! الأمر الذي لم يتوقعه المجرمون لأنهم ظنوا أنهم استطاعوا تغييرهم بشكل دائم ، ها هو فراس ينتظر أخاه الذي بقي بعيداً عنه لمدة عام كان يعتبر أطول عام مرّ عليه ، وها هو فادي خارج من باب المركز الصحي يتوجه نحو فراس الذي ما إن عانقه حتى بدأت دموعه تنسكب بغزارة:
– لا داعي للبكاء ، أنا بخير.
– كيف لا أبكي وأنت كنت تتعذب وأنا لم أستطع حمايتك ؟.
– ولكني الآن أمامك أقف وأتكلم وصحتي ممتازة ، من أجلي كفاك بكاءً .
– اشتقت إليك كثيراً ، لا تبتعد عني مرة أخرى.
– و أنا لا أريد الابتعاد عنك مهما حدث .

أتى اليوم الموعود الذي انتظره الضحايا و ذويهم بفارغ الصبر وهو يوم محاكمة من تسببوا بمعاناتهم ، وقف المتهمين وهم الحارس بملابسه المهترئة وشعره الأشعث ، والبروفيسور دياب و مساعديه بنظراتهم الخبيثة و وجوههم التي تعكس أفعالهم الحقيرة ، أما عن المرأة فلم تكن معهم لأنها ماتت منتحرة بعد استجوابها للمرة الأولى ! استمع القاضي إلى شهادات الضحايا الذين حضروا المحاكمة و منهم بالطبع فادي ، وبعد ساعتين من الجلسة تقرر الحكم النهائي وهو إعدام البروفيسور دياب ومعاونيه بتهمة استغلال مهنتهم لممارسة أعمال مهددة لحياة البشر والتسبب بوفاة طفل جراء هذه الأعمال اللاأخلاقية ، و حوكم الحارس بالحبس لمدة ثلاثة أشهر بتهمة التكتم على جريمة .

تم إعادة فتح المحمية بعد إزالة المختبر وإعادته إلى قبو لتخزين الطعام واستقطاب حيوانات جديدة ، وعُين فادي مديراً للمحمية ليكمل عمله في مجال حماية الغابات .
 
النهاية ……

تاريخ النشر : 2020-10-17

Nana Hlal

سوريا
guest
23 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى