أدب الرعب والعام

إمرأة من نار

بقلم : وفاء سليمان – الجزائر

استفاق وليد على ضرباتٍ وصفعات كانت تنهال على وجهه

 

كانت عدة ثوان هي الحد الفاصل بين حياته و موته ، مر شريط حياته أمام عينيه و كأنه يشاهد فيلماً سينمائياً قصيراً ، تراءت له سنوات عمره الماضية وكأنها لمحات خاطفة ، اخترق بصره حاجز الرؤية ليرى طيور الموت المفترسة محلقة من فوقه و تتربص به ، تتحين اللحظة المناسبة للانقضاض عليه ، دب الرعب في قلبه وارتعشت أوصاله وجلاً ، فلم يتمالك نفسه و صاح ببضع كلمات كانت هي طوق نجاته الوحيد.

* * *

-1-

– أهلاً أمي ، أرى أنك قد عدتِ ، لقد تأخرتِ كثيراً هذه الليلة.

نظرت إلى الساعة في معصمها ثم أجابت بلهجة لا تخلو من مرح :

– يا إلهي ! لقد تجاوزت الساعة منتصف الليل ، أتصدقين لم أشعر بمرور الوقت لشدة ما استمتعت بالسهرة ! وأنتِ لماذا لم تنامي بعد ؟ لديكِ دوام في الصباح.

– لم أستطع ، لقد جافاني النوم فقررت أن أنتظرك لنتحدث قليلاً.

جلست على الأريكة بجانب أبنتها ، نزعت حذائها ذا الكعب العالي ، ثم سترتها ومشبك شعرها الطويل الذي أسدلته على كتفيها ، تنفست في أريحية ثم التفتت إلى أبنتها و قالت :

– ما الأمر؟.

أجابت بقلق:

– إنه “وليد”.

-تشاجرتما كالعادة ! هذا لا يفاجئني ، أخبرتكِ مراراً أن تتركيه ، أنا لم أكن موافقة عليه أصلاً لولا تمسكك به.

ردت الفتاة مقاطعةً أمها:

-لا ، ليس الأمر كذلك ، إنه مختف منذ ثلاثة أيام ، لا أحد يعرف عنه شيئاً ، سكتت قليلاً ثم أضافت بصوت خافت :

– كان هذا بعد جدال بسيط نشب بيننا.

– أوه كنت متأكدة من ذلك ، لا تخافي ، لعله سافر لزيارة والديه ، أراد معاقبتك فلم يخبركِ.

– لم يأخذ إجازة من العمل ، لقد تأكدت من ذلك ، جواله مغلق ، هاتفت منزله فأجابتني الخادمة بأنها لم تره منذ أيام ، و فوق هذا يستحيل أن يفعلها دون أن يخبرني ، ليست هذه عاداته ، كنت سأتصل بوالديه ولكني عدلت عن ذلك ، سيجزعون و ربما جاؤوا بحثاً عنه ، أنا أشك أن مكروهاً أصابه ، أفكر بإبلاغ الشرطة.

– شرطة ! و ماذا ستقولين ؟ أني تشاجرت و خطيبي فاختفى ! ستثيرين بلبلة لأجل لا شيء ، أنصحك أن تتريثي قليلاً ، إذا لم يظهر خلال اليومين القادمين سنذهب سوياً للإبلاغ عن اختفائه.

رغم أنها لم تقتنع كثيراً لكلام والدتها ، إلا أنها وافقت على مضض و قامت من جلستها قائلة:

– سأنام الآن ، تصبحين على خير.

– وأنت بخير يا عزيزتي ، نامي ولا تقلقي ، سيكون بخير ، إنه كالقطط يمتلك سبعة أرواح.

– أمي !

– حسناً ، حسناً أذهبي الآن.

* * *

في أحد الأحياء الراقية تقع الفيلا الخاصة بالسيدة “أروى” التي تحيط بها العديد من الفلل الفاخرة والقصور الخاصة بعدة شخصيات مرموقة و لها وزنها بالمجتمع ، مسؤولين ، فنانين ، مشاهير إعلام ، و رجال أعمال ، لم تكن تتصور يوماً أن تلك الفتاة البسيطة المنحدرة من حي شعبي فقير ستحجز مكاناً هاماً بين هؤلاء حيث تنال المكانة ، السطوة والرقي الاجتماعي.

كانت شمس الخريف تلقي ضوءً جميلاً وساحراً ، عندما انتهت من رياضتها الصباحية دخلت لمنزلها و استحمت بسرعة وارتدت ثيابها ، أخذت تفاحة من المطبخ ، قضمت شطرها قبل أن تخرج للفناء الأمامي حيث أمرت السائق أن يترك السيارة لتقودها بنفسها ، عدلت نظاراتها الشمسية وبخفة ورشاقة فتاة بالعشرين ولجت إليها وأقلعت بسرعة البرق.

* * *

في الحديقة الخلفية لأحد أكبر مستشفيات المدينة ، و داخل أحد زواياها المخفية بين الشجيرات وقفت تدخن سيجارة سريعة وتتفحص المكان بعينيها خوفاً من أن يلمحها أحد ، و فجأة جاء الصوت من خلفها:

– دكتورة “ريم”..

تسارعت دقات قلبها لوهلة ثم نظرت خلفها وسرعان ما هدأت و قالت بنبرة معاتبة:

– عم جلال ، لقد أفزعتني.

تقدم نحوها ورد ضاحكاً:

– طبيبة تدخن ! ، ماذا لو رآكِ أحد؟

سحبت آخر نفس من السيجارة ثم ألقت بها على الأرض و داستها بقدمها ثم أجابت:

– تعرفني ، أقاوم القلق المستبد بي بسيجارة وإلا انفجرت.

– ألم يعد بعد؟.

– ولا يوجد أي خبر عنه ، فكرت في إبلاغ الشرطة.

– و ما رأي والدتك؟.

– كما تعلم ، هي لا تحبه و مع ذلك ارتأت أن ننتظر قليلاً بدلاً من إحداث ضجة ، لا تريد زعزعة صورتها الاجتماعية.

تنهد تنهيدة عميقة تحمل الكثير في طياتها وقال:

– لم تكن هكذا من قبل ، الحياة غيّرتها.

حدّقت مباشرة في عينيه:

– ومع هذا لا زلتَ تكن لها المشاعر ، أعرف هذا.

تلاقت نظراتهما فكسرها ورد:

– لا بد لعمك العجوز أن يكمل عمله ، اذهبي الآن فمرضاكِ بانتظاركِ ، وإذا وردك أي خبر عن الدكتور وليد اتصلي بي.

– تتهرب كعادتك ، حسناً إلى اللقاء.

قرب البوابة الرئيسية انزوى فوق مقعده الذي لزمه منذ أكثر من ثلاثين سنة عمل فيها حارساً للمستشفى ، أمعن النظر بيديه و راح يقلبهما ليتلمس أثار التقدم بالعمر الواضحة عليهما ، ثم سرح بخياله بعيداً حيث طفت ذكريات تلك الأيام على السطح ، أصبحت فجأة الأرض غير الأرض والسماء غير السماء ، حل ضباب كثيف حجب عنه الرؤية لبرهة ثم انقشع لتظهر كالملاك من وسطه وتمثل أمامه مشعة بجمال وجهها وزرقة واتساع عينيها ، مدت يدها من ذلك الماضي الغابر لتمسك بيده وتصافحه قائلة:

– شكراً على مساعدتك حقاً يا جلال ، نلت الوظيفة بفضلك ، لا تصدق كم كنت محتاجة إليها.

– كانت وظيفة شاغرة لم أفعل شيئاً سوى أنني كلمت أحد الأطباء من معارفي وهو تكفل بكل شيء.

– أشكره نيابة عني ، سأذهب الآن لأباشر عملي ، يوماً سعيداً.

– إلى اللقاء يا آنسة أروى.

-أروى فقط دون ألقاب ، تشرفت بمعرفتك يا جلال.

نظر إليها بفرحة عارمة تطل من عينيه ، لم يشعر بها يوما في حياته.

مرت سنتان بعد ذلك ، كان يُخيل إليه فيها أنه أسعد إنسان على وجه الأرض ، حبيبة جميلة و عمل ثابت و أحلام كبيرة ، حتى أفاق ذات يوم على واقع أنه ضحية حب من طرف واحد.

– آسفة حقاً يا جلال ولكنني لا أريد أن أتزوج.

رد وتعابير الصدمة بادية عليه:

– لا بد أنكِ تمزحين ، وماذا تسمين ما كان بيننا طيلة السنتين الماضيتين؟.

أجابت بنبرة لامبالية:

-سمّه ما شئت ، في البداية كنت معجبة بك و ربما أحببتك ، ولكن الآن طموحاتي أكبر من مجرد عاملة تنظيف و زوجة لحارس ، لقد قدمت استقالتي للمشفى وسأغادر المدينة قريباً ، أتتني فرصة عمل لا تُعوض.

-حقا أنتِ تفاجئينني ! كل هذا حدث دون علمي؟ ، أحسست أنكِ تغيرتِ بالآونة الأخيرة ولكنني تجاهلت الأمر عنوةً ، صارحيني يا أروى هل أنتِ على علاقة بآخر؟

بهتت قليلاً ثم أجابت:

– أخبرتك ، لا أريد الزواج ، لا منك ولا من غيرك ، لننهي علاقتنا دون ضوضاء أو مشاكل ، سعيدة أنك كنت جزءً من حياتي ذات يوم ، والآن وداعاً يا جلال.

أخذت حقيبتها واندفعت مسرعة خارج المقهى ، ظل للحظة غير مصدق ما سمعه ثم انطلق راكضاً وراءها:

– انتظري ، أروى..أروى..

لكنها كانت قد ركبت سيارة الأجرة و رحلت.

بحث عنها كثيراً في كل الأماكن التي يمكن أن يجدها فيها لكنه لم يعثر لها على أي أثر ، وكأن الأرض انشقت وابتلعتها ، التهمه الحزن و انطفأت داخله الرغبة في الحياة ، توقف به الزمن فظل يعيش على ذكرى السنتين اللتين قضاهما معها ، و لم يفعل شيئاً آخر سوى أن يترقب ظهورها ثانية ، بقي رابضاً عند بوابة المشفى يبحث عنها وسط الوجوه وداخل السيارات و بين الأروقة ، بل أحياناً داخل الغرف فعل وعسى..

و تتوالى الأيام ، عام .. عامان .. أربعة وعشرون عاماً.

ذات صباح و في زحام السيارات التي تدخل تباعاً إلى المشفى ، و فجأة و دون سابق إنذار توقفت بمحاذاته سيارة فارهة ، تجلس بمقدمتها سيدتان ، أنزلت السائقة زجاج النافذة ، تأملته قليلاً ثم صاحت مخاطبة إياه:

– جلال ، أقسم لك كنت واثقة من أنني سأجدك هنا.

صدح صوت جرس سيارة الإسعاف قادماً من أمام البوابة ، قطع حبل ذكرياته فنهض واقفاً و مضى نحوها ليبدد ما تبقى من أيام عمره.

* * *

فيما كانت الشمس ترسل آخر خيوط أشعتها الخافتة ، ركضت “ريم” خارج المشفى بردائها الطبي وهاتفها على أذنها:

-أنا قادمة الآن.

اتجهت نحو جلال وقالت وهي تكاد تطير من الفرح:

– لقد عاد وليد يا عماه ، أخبرتني خادمته الآن ، سأذهب لرؤيته فوراً.

– خبر سار يا عزيزتي ، سعدت لأجلك ، ولكن .. بهذا المنظر؟.

تأملت نفسها ثم أطلقت ضحكة طويلة وقالت:

– لا بأس ، إنه متعود عليه.

ركبت نحو سيارتها ولوحت له مودعة ثم انطلقت.

سارعت إلى داخل شقة وليد بعد أن فتحت لها الخادمة الباب وأشارت لها برأسها باتجاه الصالة ، اتجهت “ريم” نحوها حيث وجدته جالساً في انتظارها ، ارتاعت لمظهره و صاحت:

– يا إلهي ! وليد ما الذي حل بك ؟ ، و ما به وجهك؟.

كان رأسه ملفوفاً بضماد ، إضافة لوجود العديد من الكدمات والخدوش على وجهه ، فتحت فاها تعجباً وهي تلاحظ حاله وملابسه الممزقة التي تحمل آثار الدماء ، كان يبدو كالنّاجي من معركة.

أجابها مطمئناً:

-لا شيء مهم يا عزيزتي ، لا داعي للقلق ، تعرضت لحادث بسيط بالسيارة و انتهى على خير.

قاطعته:

– ألم تدرك أنني كدت أموت قلقاً عليك ؟ لماذا لم تتصل بي ، أين كنت؟.

– آسف حقاً ، ولكنني أردت الانفراد بنفسي قليلاً ، حتى أستطيع التوصل لاتخاذ قرار.

جلست بجانبه سألته بحيرة:

– قرار؟ بأي شأن؟.

أحضرت الخادمة كوبي عصير ، وضعتهما على الطاولة ثم انصرفت ، أخذ وليد كوب العصير خاصته و سار بضع خطوات نحو النافذة الزجاجية ، حدَق في اللاشيء لفترة فيما لا زلت ريم تراقبه ، التفت نحوها وأجاب:

– بشأن علاقتنا يا ريم.

مجاهدة نفسها أن تسيطر على عواطفها عادت ريم إلى المنزل ، كانت بأمس الحاجة لأن تخلو بنفسها قليلاً ، فمضت مسرعة نحو الدرج المؤدي لغرفتها و قبل أن تصل إليه علا صوت والدتها:

– ريم ، أين كنتِ ؟ لقد تأخرتِ كثيراً !.

استدارت وأجابت ببرود :

– كنت مع وليد ، الحمد للّه عاد بالسلامة.

– حقاً ؟ ، و أين كان مختفياً ؟.

– قصة طويلة سأرويها لكِ لاحقاً يا أمي فلست بمزاج ملائم لسرد القصص الآن ، أنا متعبة وأود النوم هلا سمحتِ لي؟

أجابت بنبرة تهكمية:

– كما تريدين ، لا تنسي بلغي تحياتي لوليد هذا ، وأخبريه أنني أحمد الله على سلامته.

صعدت ريم بضع درجات قبل أن توقفها ثانية:

– انتظري ، اتصل بي والدكِ مساءً ، قال أنكِ لا تردي على مكالماته ، ما الخطب ؟

– كان هاتفي على الوضع الصامت ، سأكلمه غداً ، والآن عمتِ مساءً يا أمي.

* * *

عاد جلال منهكاً تعباً بعد يوم عمل شاق شأنه كشأن بقية أيامه الرتيبة إلى بيته الصغير المتهالك الواقع بأحد الأحياء العشوائية بضواحي المدينة ، أعد لنفسه وجبة سريعة تناولها مكرهاً ، ثم ألقى بجسده الذي صيرته السنين هُزالاً على السرير ، و راح يتقلب يميناً و شمالاً، لم يستطع النوم فشطح بخياله إلى ما تبقى من ذكرياته ، يوم عادت أروى و رآها جنباً لجنب مع أبنتها الدكتورة ريم ، تلك الفتاة التي اكتشف بعدها أنها كانت إنساناً آخر تماماً عن والدتها ، بساطتها ، مرحها ، لم ترث منها شيئاً حتى جمالها كان مختلفاً و مميزاً.

– جلال ، أقسم لك كنت واثقة من أنني سأجدك هنا.

اهتز كيانه و شعر برجفة تسري بكامل جسده ، إنها هي كما عرفها تماماً ، و كأن الزمن تخطاها دون أن يترك أي علامات عليها ، سرح قليلاً قبل أن يستعيد رشده و يهتف متعجباً:

– أروى !.

– لدي بعض الأعمال المهمة داخل المشفى ، انتظرني في المقهى المجاور سأكون هناك بعد ساعتين.

بعد ساعتين حضرت مع أبنتها ، جلست أمامه بكل ثقة و كأنها أمام صديق قديم ثم قالت معرِّفة:

– ريم أو الدكتورة ريم ، أبنتي الوحيدة ، جرى تعيينها بالمشفى.

متمالكاً نفسه قدر المستطاع رد بهدوء و كياسة :

– تشرفت بمعرفتكِ يا أبنتي.

– و أنا أيضاً يا عم جلال ، لقد حكت لي أمي قبل قليل عنك ، وكم كنت شهماً ونبيلاً معها ثم..

حدقت بها أمها بنظرة حادة فأدركت نفسها وقالت على عجل:

– سُعدت بلقائك يا عم ، سأرحل الآن عندي موعد مهم ، بيننا لقاءات كثيرة مستقبلاً.

تتبعها بنظراته الخجولة حتى اختفت عن الأنظار ثم توجه لأروى قائلاً بلهجة ساخرة:

– قلت أنكِ لن تتزوجي ، لأن طموحاتكِ أهم.

ابتسمت و أجابت :

-كان الزواج هو الباب الوحيد لتنفيذها ، عموماً لم يستمر طويلاً ، كان أجنبياً لم تجمعنا سوى المصالح و سرعان ما افترقنا.

– أين كنتِ ؟.

– أخبرتك ، تركت المدينة وتنقلت كثيراً بين المدن ، ثم عدت وأنشأت شركتي الخاصة وها أنا ذا ، و أنت ما أخبارك؟.

-ليست بذي أهمية ، قالها بلامبالاة ثم تأهب للرحيل معللاً:

يجب أن أعود للعمل قبل أن يكتشفوا غيابي ، سرّتني رؤيتك ثانية بعد كل هذه السنين ، إلى اللقاء يا…..سيدة أروى.

ثم ترك كلماته معلقة في الهواء و مضى.

أحس بالنوم يداعب أجفانه ، فحاول طرد كل تلك البقايا العالقة بذهنه ، نظر إلى الساعة و كانت قد تخطت منتصف الليل ، سار مثقلاً إلى المطبخ ليتجرع بعض الماء قبل أن ينام ، و فيما هو كذلك تناهى إلى أسماعه وقع دقات خفيفة على الباب ، خيم عليه الجزع لوهلة ، ثم فكر أن لا شيء يخاف من خسرانه فتقدم نحوه وفتحه……

* * *

الثانية فجراً..

وسط الظلمة الحالكة حيث صوت نباح الكلاب المتوالي و المخيف ، و تحت وطأة ضجيج الرياح القوي ، تابعت الركض بسرعة ، تسقط ثم تستجمع قواها لتنهض من جديد ، حتى وصلت للضواحي ، حيث أرض خالية سوى من بعض الأبنية والمستودعات المهجورة المتفرقة هنا و هناك ، نأت بنفسها داخل أحدها وتوغلت لأعمق نقطة فيه ، ثم كتمت صوت أنفاسها وانكمشت على نفسها محاولة التشبث بحياتها ما أمكن.

في مكان آخر ..

– آسف حقاً ، لقد باغتتنا و هربت ، حاولنا اللحاق بها ، لكن…

– لا تهمني أعذارك يا غبي ، عليك إيجادها قبل أن تفلت زمام الأمور من أيدينا ، الوضع خطر ، إذا تسربت أي معلومات سنهلك جميعاً.

* * *

صباح اليوم التالي ..

كان جالساً مستنداً على ظهر كرسيه و شارداً بأفكاره بعيداً ، حتى أنه لم يستمع إليها إلا حين صاحت:

– عم جـــلال !.

– ريم ! ، صباح الخير يا أبنتي.

– صباح الخير يا عمي ، أين كنت شارداً ؟.

– لا أبداً ، مجرد خواطر.

– حقاً ؟ لا تبدو كذلك ، أنت تقلقني.

أكد قائلاً:

– صدقيني لا شيء مهم.

-هلّا التقينا أثناء استراحة الغداء ؟ ، أحتاج إلى من يسمعني ولا أحد غيرك يفعل ذلك.

– بالطبع يا ابنتي ، أراكِ لاحقاً.

– بالمناسبة ، عند قدومي إلى هنا شاهدت العديد من سيارات الشرطة على الطريق في حالة استنفار ، ما الذي يحدث ؟.

رد و تجليات الحزن بادية على وجهه:

-ألم تتابعي الأخبار ؟، حدثت جريمة قتل البارحة والضحية شابة بعمر الزهور ، تم إيجادها ملقاة على الرصيف عند مدخل المدينة.

* * *

على بُعد كيلومترات .

مع بزوغِ شمس الصباح خرجت من مخبأها ببطء ، أطلت من باب المستودع و جالت ببصرها من حولها ، لا أثر لأحد والهدوء يعم المكان ، لم تستشعر أي خطر يتهددها ، فتحسّست جيبها وأخرجت البطاقة التي أعطاها إياها ، أخبرها أنها في حال نجحت في الفرار فلتمضِ

 مباشرة إلى هذا العنوان ، حفظته جيداً ثم مزقت البطاقة و رمتها تحسباً لأي مفاجآت غير متوقعة ، ثم أسرعت إلى الطريق العام مقررة خوض غِمار المعركة حتى النّهاية.

* * *

تحت مِرش الحمام وقف وليد  مستسلماً لانهمار المياه الدافئة على جسمه ، كان غير مصدق أنه نجا من الموت في اللحظة الأخيرة ، و لكن ذلك كلفه ثمناً غالياً ، أدرك وقتها كم كان هشاً و ضعيفاً ، سخر من نفسه و احتقرها ، قبل أن يستجمع شجاعته و يقرر مواصلة ما بدأه قبل ساعات ، سمع صوت جرس هاتفه قادماً من غرفته ، فلف المنشفة حول جسده وأسرع ليلتقطه وأجاب:

– ألو .

– ……..

– حقاً ! .. متى؟.

– ……….

– لا تبرح مكانك ، أنا قادم فوراً.

أرتدى ملابسه على عجل ، و رغم حال رأسه المتضرر ، لم يكترث لتبديل الضِماد فالوقت لا يسمح.

إن القدر لن يكون كريماً هكذا في كل مرة.

* * *

داخل المشفى ( الكافيتيريا )

بلهجة يشوبها الألم قالت والدموع تلتمع في عينيها:

– يريد أن ننفصل لفترة حتى يستطيع تحديد ما إذا كان قادراً على المواصلة معي أم لا ، أظنه لم يعد يحبني كالسابق.

أجاب بلهجة لا تخلو من حكمة :

– لا تظلميه يا أبنتي ، منذ قليل قلتِ أنه كان بحال يرثى لها ، القرارات المصيرية لا تُتخذ على عجل ، ابتعدي عنه و لا تقلقي ، وليد رجل واعٍ ويدرك ما يفعل.

ردت بانفعال:

– أتعلم أن سبب شجارانا الرئيسي بالأشهر الفارطة هي أمي ؟ ، أنهما يكرهان بعضهما كثيراً ، هو لا يطيقها و يقول أنها كالأفعى تتحين الفرصة المناسبة لتبث سمومها.

صمت و لم يجبها ، فتفرست في وجهه قليلاً وأكملت : أتعلم ، لأول مرة لا أرى بريق عينيك وأنا أحدّثك عن أمي.

لجزء من الثانية شعر أن بإمكانه فتح قلبه لها ومصارحتها بما يدور في خلده ، و لكنه تراجع عن ذلك تخوفاً من العواقب ، فأجابها بلهجة حانية:

– أكمِلي غداءكِ يا أبنتي ، قريباً سينتهي وقت الاستراحة.

* * *

-2-

بأحد الشوارعِ الرئيسية بالمدينة ، انتصب برج ضخم كان من أهم الأبراج التي أنشأت هناك ، فهو يُعد مقراً مهماً للعديد من الشركات الكبيرة بالبلاد ،

منذ ما يزيد عن الأربع سنوات اتخذت إحدى سيدات الأعمال أحد طوابقه كشركة لاستيراد المعدات الطبية ، و ها هي ذي الآن تستقل المصعد نحوها وتحاول أن تداري علامات الاضطراب الواضحة على محياها ، و بخطوات سريعة دلفت إلى غرفة مكتبها بعد أن طلبت فنجان قهوة من السكرتيرة ، و أغلقت الباب ثم أجرت إتصالاً ، و تحدثت باللغة الإنجلِيزية قائلة:

– آلو .. جورج ، اسمعني جيداً ، الوضع لا يطمئن ، الفتاة اختفت تماماً ولا أثر لها ، المشكلة أنها تعلم الكثير و رأت وجهي أيضاً ، إنها مسألة وقت قبل أن تفضح كل شيء ، هذا عدا عن ذلك الشاب المتعجرف والذي بسبب عواطفك الغبية و حساسيتك الزائدة تجاه ابنتك أطلقت سراحه ، كان ينبغي أن أقتله و أتخلص منه ، حتى لو لم يكن يمتلك أدلة تديننا يكفي علمه بالأمر ، إنه قنبلة موقوتة ، تهديدنا له لن ينفع ، أعرف جيداً هذه النوعية من البشر.

-………….

– ليس ذنبي أنني أتعامل مع زمرة أغبياء ، أنت من وظفهم ، هل تذكر ؟ ، ثم إن مخبرينا منتبهون داخل مراكز الشرطة ، إذا فكرت باللجوء إليهم سنعرف على الفور ، نحن بمأمن لوقت قصير على الأقل ، سأجهز نفسي و سأسافر إليك خلال أسبوع ، لن أجازف بالمكوث هنا.

-………….

– حسناً ، حسناً ، لا تنسَ أن تقنع ابنتك بالموافقة على السفر ، وإلا سأتركها بمفردها.

طرق باب المكتب ، فأنهت المكالمة و قالت:

– تفضلي.

– قهوتكِ جاهزة يا سيدة أروى.

* * *

قبل عدة أيام.

أنهى الدكتور وليد مناوبته بالمشفى حيث كان يعمل بقسم الأمراض النسائية والتوليد ، كانت الساعة تشير إلى الواحدة ظهراً حين هم بالخروج منه والتوجه إلى عيادته الخاصة ، حيث يعمل بدوام ثانٍ.

– دكتور وليد.

صاح صوت أنثوي من خلفه.

التفت فوجد إحدى الممرضات تناديه ، فتوقف وأشار إلى ساعته قائلاً:

– آنسة ليلى ، لقد انتهى دوامي مع الأسف.

بصوت أشبه بالهمس أجابته:

– لا يتعلق الأمر بأحد المرضى ، سكتت قليلاً و نظرت حولها لتتأكد من خلو المكان ثم استطردت قائلة:

– يجب أن أحدثك على انفراد ، الأمر خطير.

– خطير!.

– بل أخطر مما تتصور.

نظر إليها وليد متعجباً ثم قال:

– لدي مواعيد مهمة بالعيادة الآن ، هناك زبائن بانتظاري.

– الساعة السادسة مساءً سأتي للعيادة إذن ، على الأقل الوضع آمن هناك.

– حسناً ، سوف أنتظرك.

أومأت له برأسها ، فدلف خارج المشفى وأسئلة كثيرة تتزاحم داخل عقله.

مع تواري الشمس خلف الأفق حضرت الممرضة ليلى إلى عيادته فوجدته بانتظارها ، جلست فوق المقعد المقابل لمكتبه قبل أن يسألها وليد:

– كنت بانتظارك ، ما الأمر؟

– مصيبة يا دكتور ، مصيبة ، اكتشفت أن أعمالاً غير قانونية و قذرة تدور بين جدران المشفى.

– لم أفهم ؟.

– سأروي لك بالتفصيل ما رأيت ، لكن عليك أن تعدني ، أن لا دخل لي من قريب ولا من بعيد ، و لا أريد أن يُذكر أسمي بتاتاً ، أنا أثق بك ، لذلك اخترتك لأفضي لك بما يثقل علي منذ أشهر.

و قد زاد اضطرابه رد :

– حسناً ، أعدك ، وأقسم على ذلك.

اطمأنت ليلى لوعده ثم أنشأت تتحدث:

– حدث ذلك منذ بضعة أشهر ، كنت يومها أحد طاقم المناوبة الليلية ، أكملت جولة تفقد المرضى ثم ارتأيت أن أنزل إلى الكافتيريا لتناول كوب قهوة يزيل عني ألم رأسي الحاد  ، و في طريقي إلى الطابق الأرضي سمعت وشوشة آتية من الغرفة الخاصة بمعدات التنظيف ، تملكني الفضول وتوجهت نحوها ، كان الباب موارباً فاختلستُ نظرة سريعة ، وتفاجأت بما رأيت.

العم سمير عامل النظافة و الممرضة نهلة والدكتور عدنان.

– و ماذا كانوا يفعلون ؟.

– كانوا واقفين حول أشياء بدت لي وقتها وكأنها صناديق معدنية ، خالجني شعور سيء ، فاختبأت خلف الباب وأنصت إليهم.

قال الدكتور عدنان لنهلة:

– اتصلي حالاً وأخبريهم أن يسرعوا ، تأخر الوقت ، أخشى أن يكتشفنا أحد.

نهلة : لن يكتشف أحد شيئاً ، في كل مرة تزعجني بنفس الكلام ، اصبر قليلاً إنهم على الطريق.

ثم توجهت للعم سمير: اذهب و تفقد المخرج وعند وصول السيارة أتصل بي فوراً.

أسرعت وابتعدت واختبأت بالغرفة المقابلة ثم نظرت من فتحة الباب ، خرج العم سمير ونزل من درج الطوارئ.

ظهرت ملامح الدهشة على وجه وليد وقال:

– أكملي.

بقيت أراقب لنصف ساعة وبعدها فُتح الباب و خرج كل من نهلة والدكتور عدنان يحملون صندوقاً و ينزلون به الدرج ، أغلقت نهلة الباب دون مفتاح ، اغتنمت الفرصة و ركضت بسرعة و فتحته ثم توجهت نحو صندوق أخر و فتحته.

كان صندوقاً داخله مبرد ، صمتت قليلاً وأضافت:

يحوي أعضاء بشرية ، فزعت و لم أعلم ما الذي علي فعله ، كنت قد سمعت بهذه النشاطات من قبل ، ولكن لم أتوقع أن أشهدها تحدث بأم عيني ، أسرعت وخرجت على عجل قبل أن يعرفوا بأمري و تكون نهايتي ، ومنذ ذلك اليوم صِرت أراقبهم دون أن ألفت الانتباه.

تمالك الدكتور وليد نفسه و سأل:

– وما الذي اكتشفتِه؟

أجابت بحسرة:

-اكتشفت أشياء فظيعة ، إن مصدر الأعضاء هو جثث الموتى ، من ماتوا بحوادث أو أثناء الجراحة ، و خاصة مجهولِي الهوية ، ذهبت بنفسي إلى مشرحةِ المشفى ، أثار الغُرز غير واضحة كثيراً على أجسامهم لأن الجروح خِيطت بعناية فائقة حتى إنها تكاد لا تُرى ، إنها إحدى مواهب الدكتور عدنان.

– لماذا لم تخبري مدير المشفى ، كان سيبلغ الشرطة ويوقع بهم ؟ .

– للأسف لا أستطيع.

– لماذا؟

– أشك أنه متورط معهم.

وقف وليد عن كرسيه مفزوعاً وقال :

– هل أنت واعية لما تتحدثين به ؟!.

وقفت هي الأخرى وأجابت بحزم:

– دكتور وليد ، أنا لم أتفوه بأي كلمة إلا بعد أشهر من المراقبة والتحري ، صحيح أنني لست متأكدة تماماً ، لكن السهولة واليسر اللذان يكتنفانِ نشاطاتهم يجعلانني أشك به ، هذا بالإضافة إلى تردد الدكتور عدنان كثيراً على مكتبه.

– أود أن أتأكد بنفسي مما يحدث.

بلهجة تحدي أجابت:

– ليلة غداً سأثبت لك ذلك.

مرت الساعات الأربع وعشرون القادمة كأنها دهر على وليد ، كان يفكر بمدى البشاعة التي يمكن أن يصل إليها البعض من أجل المال ، لا بد أن يدفعوا ثمن جرائمهم ، لذلك قرر الذهاب لأحد ضباط الشرطة من معارفه ليخبره بكل ما يجري فور أن يتأكد بنفسه.

حلت الليلة التالية ، اتصلت به ليلى وأعلمته أن التسليم بعد منتصف الليل كالعادة ، وأن عليه الانتظار والترقب من خلف باب المبنى الذي وراء المشفى كي لا يراه أحد ، ركن سيارته خلف المبنى المذكور ثم وقف لدقائق ينتظر ، لحسن الحظ كان مصباح الشارع يضيء المكان نوعاً ما ، و فجأة لاحت له سيارة رباعية الدفع تركن أمام المدخل الخلفي للمستشفى ، وأبصر شخصين ينزلان منها ، فتحا الصندوق الخلفي للسيارة ليخرج إليهما شخصان أخران ، هما فِعلاً نهلة وعدنان ، يحملان صندوقاً كبيراً ، أدرك أن كل ما قالته ليلى صحيح ، فجأة أحس باهتزاز جواله داخل سترته ، كانت هي..

رد بصوت خافت:

– ليلى ، سأستقل سيارتي وأتبعهم بها ، أود أن أكتشف إلى أين سيأخذون البضاعة.

– لا ، أنت تعرض نفسك للخطر ، إذا أمسكوا بك سيقتلونك فوراً.

– لا عليك ، سأنتبه جيداً ، أما أنتِ فراقِبي الوضع من الداخل ، سأتصل بكِ لاحقاً ، إلى اللقاء.

بسرعة توجه نحو سيارته ، وانتظر بضعة دقائق ، سيطرت عليه رغبة جامحة أثناها بالاتصال بـريم بعد الشجار الذي دار بينهما يومها ، أقر بداخله أن مزاجه المعكر هو السبب فيه ، أمسك الهاتف ليتصل ، و لكن السيارة الأخرى انطلقت فعدل عن ذلك ولحق بها.

كانت الساعة تتجاوز الواحدة بعد منتصف الليل، أنطلق وليد بهدوء خلفها ، لاحظ أنها أخذت منعطفاً جانبياً بعيداً عن الطريق العام ، و رغم الظلام الدامس لم يشعل الأضواء واعتمد في سيره على الأضواء المنبعثة من الأخرى ، سارت لأكثر من نصف ساعة ، التفت خلالها عدة التفافات على طرق ترابية ومتعرجة تحيط بالمدينة ، و هذا ما زاد مهمة وليد صعوبة ، خاصة وأنه كان يحافظ على مسافة أمان بينهما.

توقفت السيارة فجأة بمكان ناءٍ بدأ وكأنه بقايا مدينة صناعية قديمة ، و ترجل الرجلان ثم وقفا وكأنهما ينتظران أحداً ، عكس وليد مسار السيارة و قادها قليلاً ثم أوقفها بمكان لاتصل أعينهم إليه ، و خرج منها ثم مشى ببطء شديد واقترب منهم ثم اختبأ وراء أحد أعمدة الكهرباء المنتصبة هناك ، لم تمض لحظات حتى سمع صوت هدير محرك قوي آت من بعيد ، وسرعان ما توقفت سيارة فخمة تتبعها شاحنة ضخمة من ذلك النوع الذي يحمل براداً كبيراً بمؤخرته.

نزل رجلان من مقدمة السيارة ، سارع أحدهم لمساعدة سائق الشاحنة على فتح باب البراد ، أما الآخر فكان رجلاً ذا بنية قوية و ضخمة ، اتجه مباشرة إلى باب السيارة الخلفي و فتحه لتنزل منه أمرأة لم يتبين وليد ملامحها جيداً تحت الضوء الخافت ، و لكن نبرة صوتها الحادة وهي تطلب رؤية الصناديق فاجأته ، كان متأكداً من أنها مألوفة لديه ، أثناء ذلك سمع صوت اهتزاز هاتفه ، كانت ليلى تريد الاطمئنان عليه ، أغلقه وهم بوضعه في سترته من جديد ، لم ينتبه فسقط منه ، انحنى و حاول إيجاده ، فداس عليه وانكسر.

– اللعنة .

هتف مستاءً ثم حاول تغيير مكانه إلى آخر أقرب حتى يستطيع رؤية تلك المرأة التي أثارت فضوله ، تحرك خطواتٍ قليلة إلى الأمام و توارى خلف إحدى الخزانات الحديدية الكبيرة المنتشرة هناك ، كانت عملية التسليم تسير بسلاسة ، أمعن النظر بالمرأة أكثر ، دقق بملامحها ، طريقة مشيتها ، كانت هي دون أدنى شك.

اتسعت حدقتا عينيه من الدهشة ، و كظم صرخة كادت تنطلق مرغمة من حلقه ، تراجع عدة خطوات إلى الوراء ، و فجأة سمع وقع خطى من خلفه ، وما كاد يلتفت حتى أحس بضربة قوية على رأسه و غاب عن الوعي.

* * *

استفاق وليد على ضرباتٍ وصفعات كانت تنهال على وجهه ، كان الرجل ذو البنية الضخمة يصفعه و يصرخ به :

-أفق أيها السافل.

شعر بألم فظيع يخترق جمجمته ، كان سيتحسس رأسه ولكنه وجد أن كلاً من يديه و رجليه مقيدتين إلى مقعد بإحكام ، جاب بنظره في المكان ، كان عبارة عن غرفة بسيطة مضاءة بإنارة خافتة ، خاليةٍ إلا من طاولة تتوسطها مع كرسيين و بعض الصناديق الملقاة بزاويتها ، سأل:

– أين أنا ؟.

بصوت أجش وغاضب أجابه :

– في ضيافة الموت يا صديقي.

ثم تركه و خرج من الغرفة ، لم يحتج وليد للكثير من الذكاء ليدرك أنه وقع بين يديها.

– صهري العزيز ، مرحباً بك بيننا.

هتفت أروى بعد أن دلفت وعلى محياها ترتسِم ابتسامة خبيثة ، جلست على الكرسي المقابل له و وضعت رجلاً على الأخرى ، تناولت سيجارة من جيب سروالها و أشعلتها و راحت تدخن وترمقه بنظرات ساخرة.

نظر إليها باشمئزاز وقال :

– لم أرتح أبداً لكِ ، لكن لم أتصور يوماً أنك مجرمة لعينة.

نفثت دخان السيجارة بقوة ، وظلت صامتة تحدق به دون أن تنبس ببنت شفة ، فاسترسل:

– تجارة أعضاء بشرية غير مشروعة !، تنكيل بجثث الموتى ، أي نوع من البشر أنتِ ؟! إنك وحش ، لا أصدق أن شيطاناً مثلك ينجب ملاكاً كـ”ريم”..

أطفأت عقب السيجارة فوق الطاولة التي أمامها ، ثم انتصبت واقفة ، تقدمت نحوه و هو يراقبها بثبات ، مدت يدها وشدت شعره بقوة ، فأطلق صرخة مكتومة ، انحنت وهمست بأذنه:

– كرهتك منذ لقائي الأول بك ، لم أستسغ وجودك مطلقاً ، لولا حب “ريم” المعتوهة لك وإصرارها عليك لما رحبت بك أبداً في حياتنا.

رغم الألم الواضح عليه رد بتهكم:

– صدقيني الشعور متبادل ، وأعلم أنكِ لن تتركي فرصة وأتتك للقضاء علي ، لكن أود حقاً أن أعرف متى بدأ كل هذا وكيف ؟، حسب علمي كنتِ عاملة بسيطة ، من الذي قادك نحو هذا الطريق؟.

أفلتت شعره ثم راحت تدور حوله وتتكلم بصوت تملؤه المرارة:

– فتاة فقيرة ، يتيمة ، وحيدة و يائسة ، ترعرعت لدى عمها لسنوات ، تعرضت للكثير من القسوة والعنف ، فلم تتحمل ، فرت بليلة ظلماء وهي لم تتجاوز العشرين من عمرها لتبحث عن مستقبلٍ دون ملامح محددة ، ترصدتها أعين الذئاب الغادرة ، كان يمكن أن ترضخ و تستغل جمالها لتعيش ، ولكنها قاومت ، استأجرت غرفة صغيرة ثم بحثت عن عمل و وجدته بعد طول عناء ، تلك كانت أنا  و تلك كانت بداية الحكاية.

انتبهت أن “وليد” كان مشدوداً لقصتها ، فضحكت وقالت:

– أتعلم ؟ لأول مرة أبوح بكل هذا ، لا أدري لماذا؟، ربما لأنني أحتاج أخيراً أن أفتح قلبي لأحد ، خاصة وأنه يُعتبر في عِداد الأموات.

رمقها وليد بنظرة ازدراء ، فعاودت الجلوس على الكرسي و راحت تقص عليه ذكريات ماضيها الأسود:

– في الأشهر الأولى كنت أعمل دون أن ألقي بالاً لأحد ، كانت أقصى طموحاتي مرتب آخر الشهر ، حتى أكفل لنفسي عيشةً لا ذل فيها ، لحين قدوم موعد زواجي المنتظر.

– من العم جلال.

قاطعها وليد بثقة.

ابتسمت بطرف فمها قائلة:

– يبدو أن لِسان ابنتِي يحتاج إلى تقصير ، أجل من جلال ، رجل طيب و مسالم ، ماذا تحتاج فتاة مثلي لأكثر من ذلك ؟ ، ولكني أدركت لاحقاً أن أحلامي تافهة مقارنةً بالكثيرين حولي! ، تعرفت هناك على إحدى الممرضات وصرنا صديقتين مع مرور الوقت ، كانت آثار النعمة والترف واضحة عليها ، قالت إنها تعمل عملاً جانبياً يدر عليها مبلغاً محترماً ، رجوتها كثيراً أن تشركني معها فأبت في البداية و لكنها رضخت مع تكرار محاولاتي وأفشت لي بسرها الذي غير حياتي للأبد..

– سرقة الأعضاء والتجارة بها.

قالها وليد بغضب.

نفت بجدية:

– أبداً ، في حينها لم تكن قد توسعت كثيراً مثلما هو حالها الآن ، فاليوم الطلب يزداد كثيراً عليها بفعل التطور الطبي الهائل في مجال زرعها ، مع أنني أرجح أنها و قريباً ستنتهي لتحل محلها…..

قطعت كلامها ثم صمتت قليلاً و أردفت باسمةً:

نسيت أني أحادث طبيباً ، كانت نهلة تعمل ببيع الأطفال الرضع..

رفع وليد حاجبيه تعجباً ، فاستطردت:

– لا تتعجب ، كانوا منجم ذهب بالفعل ، الأزواج الأثرياء الذين لم يرزقوا بأطفال ، العصابات الكبرى ، المتسولات ، الغجر ، و حتى حراس المقابر ، كانوا بحاجة لرضعٍ خارج طائلةِ المسؤولية القانونية ، لا تسألني ما حاجتهم بهم لأنّ الأمر ليس ضمن اهتماماتي عموماً ، من أنسب مِن أبناءِ الأمهات العازبات ؟ ، نهلة كانت مجرد وسيط وفرد من شبكة فروعها منتشرة بكل مكان و تتقاضى عمولة على ذلك ، أعجبتني الفكرة رغم اعتراضي عليها في البداية ، لأضرر لأيّ طرف بالعكس ، من يبعن أطفالهن سيتخلصن من العارِ و في نفس الوقت يكسِبن مالاً جراء ذلك ، سيستفيد الجميع ، أتصدق أنني عرفت بعض العاهراتِ اللواتي كن يحملن عن قصد لأجل الحصول على المال !.

و قد تزايد حنق وليد صاح بها:

-هذا إجرام.

تجاهلته وأكملت:

– أخفيت الأمر عن “جلال” بالطبع ، وأصبحت شريكةً لنهلة وأصبح لدي دخل جيد ،و بعد أكثر من سنة تعرفت على جورج ، يومها رافقت نهلة إلى حفلة أقامها أحد معارفها الأثرياء ، كان ضيفاً هناك ، رآني فأعجب بي ، في البداية لم أهتم به ، ليس لأنني مرتبطة ، بل لأنه يكبرني نسبياً ، ولكن الهدايا الثمينة التي كان يرسلها لي و المستقبل الرائع الذي وعدني به ، جعلني أرمي كل شيء وراء ظهري وأرحل معه ، تزوجته و لم يدم زواجنا لأكثر من سنوات قليلة.

اكتشفت بعدها أنه عضو بأحد أكبر جماعات المافيا بأوروبا ، و ما صفة رجل الأعمال إلا غطاء وهمي لنشاطات أكبر ، و منها تجارة الأعضاء البشرية ، شاركته و أصبحنا نعمل سوياً ، لكنه كان زير نساء وهذا ما عجزت عن تحمله ، لأن كبريائي يعلو فوق كل شيء ، فطلبت الفراق و وافق بشرط أن تبقى “ريم” معي لأنه ليس مستقراً بمكان واحد و يسافر كثيراً ، إلا أن شراكتنا بقيت كما هي ، كان يدعوني بالعبقرية و بسببي ربح أموالاً طائلة.

رد بسخرية :

– و لماذا عدتِ إذاً ؟

– تستطيع أن تقول أنني عثرتُ على كنز لا ينضب هنا ، الموضوع يطول شرحه ، و وقتكَ بهذه الحياة انتهى ، اعذرني الآن يا صهرِي العزيز ، سأذهب لأحرص على أن أجهّز لك ميتة مشرفة.

* * *

ولجت والشرر يتطاير من عينيها بعد أكثر من يومين ذاق فيهما “وليد” الويلات من رجلها الضخم حيث كان يعاملِه بقسوة مفرطة ، نظرت إليه بشزر و قالت:

– فقط لو كان القرار يعود لي بمفردي لما تركت لك الخيار مطلقاً.

حدق إليها مستغرباً ، فتوجهت إلى ذلك الضخم وصاحت به:

– فك قيده واتبعني به.

مشى الثلاثة داخل رواق طويل ، اصطفت على طول جانبيه عدة أبواب قديمة الطراز ، انتابه إحساس أنّ الكثير من العيون تراقبه فيما كان الحارس يدفعه دفعاً إلى الأمام ويصرخ به : تحرك.

، انتهى الرواق عند بوابة حديدية ضخمة ، صعدوا إلى الدرج الذي كان المخرج الوحيدَ من الطابق الأرضي ، و سرعان ما وصلوا إلى صالة واسعة يغلب على منظرها اللون الأبيض ، تأملها قليلاً قبل أن يدرك بأنه طوال الوقت كان يقبع تحت…..

-عيادة ؟! ،همس متعجباً

دلفوا إلى إحدى الغرف ، كانت تحوي على سريرين ومجهزة بعتاد طبي ثقيل.

صرخت بقوة:

– أحضروهن.

سألها:

-ماذا تريدين مني ، و لماذا نحن هنا؟

لم تعر لسؤاله أي اهتمام ، و بعد لحظات جاء رجلان يجران شابتين بدأ عليهما علامات الشحوب والتعب الشديد.

أشارت “أروى” برأسها لهما ليستلقيا على السريرين ، فأذعنتا مرغمتين ، ثم توجهت لوليد ، أخرجت مسدساً من الجيب الخلفي لبنطالها وبحركة خاطفة و ضعته على صدغه وقالت:

-لديك خياران : إما الموت أو الموافقة على ما سأمرك به.

– ماذا؟!.

جرت عادتي أن أغير الأطباء الذين يعملون لصالحي كل فترة ، كإجراءٍ أمني ، لحسن حظك ستكون الليلة بديلاً عن آخر ترقد روحه بسلام الآن ، تستطيع القول أني أريد رؤية بصمة لكَ على أعمالي .

– و ما الذي علي فعله؟

-أن تجهض الفتاتين.

اتسع فاهه دهشة ، و عصفت الكثير من الأفكار برأسه قبل أن يستفيق من الصدمة:

-أنتِ تحلمين !.

– لن تفعل الكثير ، أقصد أن تحرص فقط على خروج الأجنة مع المشيمة الخاصة بها بحالةٍ سليمة ، فقد تناولتا دواءِ يفي بالغرض.

ضيقت عينيها بمكر ثم أكملت:

– بالمناسبة اتصلت مساءً بوالديك ، و سعدا كثيراً باتصالي.

ارتسمت على وجهه علامات الفزع فأردفت:

– لاتقلق ، إذا تعاونت معنا وخرجت من هنا و لم تنطق بكلمة سيكوننا بخير ، أما إذا رفضت…

و بدأت تضغط على الزناد تدريجياً.

* * *

-3-

الوقت الحاضر..

 

قاد وليد سيارته بسرعة متوجهاً إلى عيادته بعد أن تأكد أن لا أحد يلاحقه ، أتخذ طريقاً مختلفاً هذه المرة ، دخل إليها من الباب الخلفي ثم إلى مكتبه على الفور ، حيث كان مساعده ينتظره و بجواره فتاة ، صاحت فور أن رأته بعينيها المحمرتين من أثر النحِيب:

– لقد قتلوها ، قتلوا فادية أمامي و حاولوا قتلي ، لكنني هربت في أخر لحظة.

وسيطرت عليها نوبة بكاء طويلة.

اغرورقت عينا وليد بالدموع تأثراً بما سمعه ، ربت على كتفها ليهدأها قائلاً :

– اطمئني ، أنتِ بأمان الآن.

ثم توجّه لمساعده الذي بدت أمارات التعجب على محياه:

– أحضِر كوب ماءٍ و مهدئاً ، ثم أذهب وآتي ببعض الطعام.

غادر الأخير لجلب ما طلب منه ، توجه وليد للمكتب وجلس خلفه ، نظر إلى الفتاة وابتسم لها مطمئناً ، ثم تردد قليلاً قبل أن يلتقط هاتف العيادة و يُجري اتصالاً ، كان يدرك أنه يراهن على حياته وحياة والديه ، وبالمقابل فإن ضميره لن يسمح له أن يلوذ بالصمت.

كان بين خيارينِ أحلاهما مر.

* * *

بخوف كبير كان ينمو داخلها ومشاعر ممزوجة بين الحب والرِيبة ، استلقت ريم على سريرها بنفسية متعبة ، فهي قد عادت من المشفى باكراً بعد أن قدمت طلب إجازة لأسبوعين ، تريد أن تستريح قليلاً وتعيد ترتيب حساباتها ، هل أخطأت فعلاً بأنها أحبت وليد ؟

ما زالت تذكر أجمل أيام حياتها عندما ألتقيا بالمستشفى وأُعجب كلاهما بالآخر وسرعان ما تحول إعجابهما إلى حب تكلل بعد عامين بالخطبة ، كان وليد ذو طبع حاد وأعصاب متشنجة وقت الغضب  ،ولكنه يكون رومانسياً وطيباً إذا كان مزاجه معتدلاً ، تساءلت لماذا عاد بتلك الحال البارحة ؟ ولماذا يريد الابتعاد عنها فجأة ؟ ، لم تكن من النوع الشكّاك ولكنها لم تهضم قصة الحادث المزعوم ،  إنها طبيبة وتدرك أن ما رأته على وجهه كان أثار ضرب واضح.

نزلت من السرير واتجهت للنافذة و فتحتها ، هبت ريح قوية تحمل زخات مطر باردة ، نظرت للسماء الملبدة بالغيوم الداكنة ، أحست برعشة قوية تجتاح أطرافها ، فالتقطت بطانية وضعتها على كتفها ، ثم جلست على حافة النافذة تراقب حال الطقس السيء الذي بعث شعوراً مقيتاً داخله ، تمتمت بخوف:

– تُرى بما أنت متورط يا وليد ؟.

* * *

في المساء..

كانت أروى بمكتبها تفكر في حجم المصيبة التي وقعت فيها ، فانتهاء أعمالها بالبلاد يعني خسارة فادحة ، رتبت أفكارها وحاولت إيجاد حل يضمن بقاءها والحيلولة دون السفر ، و فجأةً تبادرت إلى ذهنها فكرة ما ، فأخذت هاتفها ، رن قليلاً ثم فُتح الخط:

– اذهب وتأكد مما سأخبرك به الآن ، إذا صدقت شكوكي فاتصل بي وسأعطيكَ بقية التعليمات.

على بُعد بضعة أمتار.

و على أحد مقاعد الحديقة المحاذية للشركة ، جلسَ أحدهم يراقب البوابة بحرصٍ شديد ، التوجيهات التي أعطيت له واضحة “من الآن فصاعداً لا يجب أن تغيب عن ناظريه إطلاقاً “.

* * *

ظل  الدّكتور وليد طيلة اليوم داخل العيادة بعد أن سمح لمساعده بالمغادرة وأغلقها ، يراقب “فاتن” النائمة بين الحين والآخر من جهة ويسترسل في البحث على شبكة الإنترنت عن معلوماتٍ تخص تجارة الأجنة البشرية ، كان كل ما توقعه صحيحاً ، فالكثير من المواقع الإلكترونية تحدثت عن كونها أهم من تجارة الأعضاء ، هذا ما قصدته أروى حين قالت أنها ستنتهي قريباً ، المتاجرة بالأجنة المجهضة والمشيمة الخاصة بها يسهل الكثير على المجتمع الطبي ، حيث أن بصمتها الوراثية لم تتخصص وبهذا يمكن زرعها بالجسم لتتخصص داخله ولا يرفضها جهازه المناعي ، أما المشيمة فتستعمل لإنشاء الخلايا الجذعية والتي لها فوائد عظيمة ، استعمالها لإنشاء أعضاء بشرية أو كمادة لعدة مستحضرات لتجديد البشرة والتخلص من آثار الشيخوخة.

أغلق حاسوبه المحمول ثم زفر طويلاً ، و ردد:

– تلك الـ “أروى” لا تترك شيئاً يفوتها.

ألقى نظرة أسفٍ على فاتن و تذكر كيف قصت له عن يوميات الفتيات التي ألقت بهن الظروف السيئة في الشارع لتلتقطهن شباك “أروى” وأمثالها ، و ينتهين أشلاءً تنهشها الكلاب الضارية .

إن ما اكتشفه خلال الأيام الأخيرة يتعدى حدود مخيلته ، لا بد أن يفعل شيئاً ، فحتى محاولته مكالمة صديقه الضابط فشلت لأنه لا يرد على هاتفه.

أسند ظهره على كرسيه ليغفو قليلاً فقد كان متعباً و ذهنه مشوشاً من كثرة الأحداث التي حصلت بالفترة الأخيرة ، لمح صورة ريم تمثل أمامه ، أحس بوجع يجثم على صدره وهو يتذكر حزنها بالأمس ، لم يكن ابتعاده عنها إلا ليحميها ، فهو لا يعلم إلى أين ستؤول الأمور.

* * *

الحادية عشرة ليلاً.

أفاق على وقع دقات متتالية على الباب ، انتفض من مكانه والتفت صوب فاتن التي استفاقت هي الأخرى والرعب يرتسم على ملامحها..

-اختبئي الآن بالحمام.

أومأت موافقة ثم أسرعت إليه في حين خطى هو ببطء ناحية الباب ، أرهف السمع فإذا بصوت يصرخ:

– وليد ، افتح الباب الآن ، أعلم أنك هنا.

– ريم !.

لم يستجب في البداية ولكن وقع الضربات ازداد وصار أعنف، فما كان منه إلا أن فتحه قائلا:

– ريم ، هل جننتِ ؟

تجاهلته و دلفت مباشرة إلى العيادة و منها إلى مكتبه ، فتبعها مسرعاً و نسي الباب مفتوحاً.

نقلت بصرها حولها ، لاحظت اللحاف الموضوع فوق الأريكة و بقايا الطعام المتناثرة على الطاولة المقابلة لها ، والفوضى التي يغرق بها المكتب.

نظرت إليه بنظرات تشككية و سألت :

– ما هذا ؟ ، ولما أنت هنا ؟.

محاولاً الإفلات من الإجابة:

– كيف علمتِ بمكاني ؟.

– لم أجدك بالمنزل فارتأيت أن أجرب حظي علّي أعثر عليك هنا ، وتأكدت من ذلك لأن الضوء بارز من زجاج النافذة.

– ريم ، عودي للمنزل حالاً وسنتكلم لاحقاً.

– ليس قبل أن تجيبني عن أسئلتي ، الشك يقتلني يا وليد ، أظنك متورط في مشكلة ما أو….

علاَ صوت ارتطام آتٍ من جهة الحمام ، جفل وليد و تزايدت دقات قلبه ، إذا رأتها ستكون كارثة.

أسرعت ريم  نحو الحمام لفتحه ، و ما كاد وليد يلحق بها حتى أحس بيد قوية تطبق على فمه ، ثم أبصر شخصاً يتجه نحو ريم و يمسكها ، تحاول الصراخ و لكنه كمم فمها بيده ، حاول المقاومة لنجدتها ، لم يستطع ، وأخيراً انتهى الاثنان بمؤخرة سيارة والأسلحة مصوبة نحوهما.

* * *

دلفت أروى  إلى نفس الغرفة التي قِيّد بها وليد سابقاً ، وقع نظرها عليه و ابتسمت ثم قالت:

– صهري العزيز ، مرحباً بك ثانيةً.

ثم نقلت بصرها إلى الفتاة المقيدة جانبه ، والتي جحظت عيناها من هول المفاجأة ، إنها والدتها ! ، كانت ستصرخ و لكن اللاّصق على فمها منعها من ذلك.

جمدت أروى مكانها وشلتها الصدمة للحظة عن الحركة ، ركزت بصرها على ريم ، ابتلعت لسانها ولم تدر بماذا تنطق ، فجرت رجليها متثاقلة خارج الغرفة.

وجدت الرجلين أمامها ، قال أحدهما بكل فخر:

– سيدتي مثلما توقعتِ تماماً ، وجدت الفتاة لديه ، لقد ضربنا عصفورين بحجر واحد.

لم تستطِع تمالك نفسها من الغضب وبسرعة هوت على وجهه بصفعة قوية و صرخت فيه:

-أيها الغبي ، لماذا تصرفت دون الرجوع إلي ؟.

أمسك بخده و قال مندهشاً:

– ولكن ما الذي حدث؟.

– إنها أبنتي يا أحمق.

صرفتهما ثم ظلت تتأمل باب الغرفة بحيرة ، لطالما أبعدت ريم عن كل ما يمت لأعمالها بصلة ، كيف ستتصرف الآن؟.

في تلك الأثناء.

خارج المبنى مكث أحدهم يراقب الوضع بريبة ، ساورته العديد من الشكوك ، لقد اختفت أروى داخله منذ فترة طويلة و لم تخرج ، شيء ما لا يطمئن ، و ذلك الاتصال المتفق عليه تأخر كثيراً.

تقدم نحو المبنى قليلاً ليلقي نظرة عن كثب ، سمع صوت قعقعة معدن ، اتجه صوب الصوت ، فإذا به يلمح ظل شخص يخرج ببطء من وراء سيارة مركونة بالقرب منه ، كان سيختبئ قبل أن يدرك أنها فتاة !.

ظلت تلتفت يمنة و يسرة ،لاحظ حركاتها المتوترة وهي تبحث عن مكان تتوارى فيه بعد أن تعثرت بعلبة معدنية ، اقترب منها وأمسك بذراعها ، كادت تطلق صرخة عالية لولا أنه كتم صوتها وسحبها بعيداً.

* * *

قبل طلوع الفجر.

بعد التشاور مع جورج قررت أروى أخيراً ما الذي عليها فعله ، صحيح أنه يصعب عليها فعل ذلك ولكن ما باليد حيلة ، نزلت السلم المؤدي لغرفة الحجز بعد أن صعدت للأعلى لتأخذ شيئاً مهماً.

دلفت الغرفة واتجهت مباشرة صوب ريم ، أمسكت بذراعها و رغم المقاومة المستميتة للأخيرة غير أنها تغلبت عليها و ثبتتها بقوة ، حقنتها بسرعة ثم أفلتتها ، تطلع إليها وليد بعجز ، لا فائدة لأي نوع من المقاومة فنهايته باتت وشيكة.

كانت الدموع تنساب من مقلتي ريم و هي تحدّق بوالدتها التي أشاحت بوجهها عنها بنظرات ملؤها الغضب ، السخط ، خيبة الأمل ، شيئاً فشيئاً بدأت تغمض جفنيها و سرعان ما فقدت الوعي.

جست أروى نبضها و تأكدت أنها بخير ، ثم أزالت اللاصق عن فم  وليد ، صاح بحرقة:

– أيتها المتوحشة إنها ابنتك.

استلت مسدسها من الجيب الخلفي ثم زودته وصوبته باتجاه رأسه وقالت بحدة ممزوجة بالسخرية:

– في المرة الماضية تركتك بسبب جورج أما الآن موتك محتوم ، ودّعها أولاً فهي ستعيش طويلاً لتدركَ أن كل ما مرت به كان مجرد كابوس عابر ، فلدينا أساليبنا الخاصة لا تقلق.

في نفس التوقيت سمعت تحركات مريبة آتية من جهة الرواق الخارجي ، اتجهت صوب الباب لتنادي على أحد الحراس لتتفاجأ بوجوده أمامها..

-جـ……جلال!!!

لم ينتظر ليجيبها سارع لسحب المسدس من يدها و لكنها كانت أخف حركة منه ، بضربة مباغتة أوقعته أرضاً وسددت ركلة لرجله ، صاح من الألم ، التفتت لوليد لتكمل ما بدأته و….خرّت صريعة على الأرض.

فـ”جلال” كان قد التقط أحد الصناديق الفارغة الموجودة بالزاوية وهوى على رأسها بضربة كانت هي القاضية.

ولجَ العديد من الرجال المسلحين للداخل ، كانت الشرطة التي استدعاها “جلال” بعد أن التقى بـ” فاتن” خارجاً أثناء مراقبته لأروى كما كلفه “وليد” و أخبرهم بكل شيء ، ثم وُضعت خطة للتخلص من الحرّاس أولاً ثم التأكد من سلامة المختطفين.

فك رجال الشرطة وثاق “وليد” و”ريم” ، وطلبوا سيارة الإسعاف لنقل “ريم” و” أروى” للمستشفى ، ثم اقتحموا بقية الأبواب التي أشار إليها “وليد” وأطلقوا سراح الكثير من الفتيات المسجونات.

* * *

أصبحت القضية حديث الصحف والرأي العام لأشهر طويلة ، بعد سيل من التحقيقات كُشفت شبكة المافيا التي يرأسها “جورج ” من الخارج ، و تعذر القبض عليه من طرف الشرطة الدولية بسبب هروبه و اختفائه ، كما ألقي القبض على كل من سمير ونهلة والدكتور عدنان الذي كان ترخيص العيادة الخاصة بأروى مسجلاً باسمه ، و أُقيل مدير المشفى وخضع للتحقيق ، كما تمت إقامة العديد من حملات تفتيش لعدة مستشفيات مشكوك بأمرها.

* * *

خاتمة..

داخل إحدى المنتجعات الصحية للأمراض النفسية المطلة على البحر ، و بعد رحلة طويلة من العلاج النفسي المكثف والمستمر إثر صدمة عصبية ألمت بها ، حملت “ريم” حقيبتها ثم ألقت نظرة أخيرة على الغرفة التي كانت قد قاسمتها ليالي الدموع والأسى ، ودلفت خارجها لتجد “وليد” ينتظرها بابتسامته المعهودة ، تلك التي تبث الطمأنينة والسلام إلى قلبها كلما رأتها ترتسم على ملامحه ، أخذ الحقيبة منها بيد ثم أمسك بيدها الأخرى ومضى الاثنان إلى حيث يبدأن حياة جديدة ، و يطويان صفحات قديمة ما عادت تعني لهما شيئاً.

و هناك على مشارف المدينة و بالمقبرة تحديداً ، انتصب واقفاً أمام قبرها ، وبقلب يعتصره الألم وضع إكليلاً من الزهور عليه ، رغم اقتناعه أن ما فعله هو الصواب إلا أنه لم يستطع تقبل موتها على يديه ، هي التي كانت حية لعقودٍ داخله ، انهمرت دمعة مرة على خده ، تأمل مرقدها لفترة ثم لوح لها مودعاً ، وغادر إلى حيث سيارة أجرة تحمل حقيبة سفر كبيرة فوقها تنتظره خارج المقبرة ، لقد نفض يديه أخيرا من هذه المدينة ، آن له أن يكمل ما تبقى من حياته في سلام.

النهاية…..

 

 

تاريخ النشر : 2018-09-20

وفاء

الجزائر
guest
49 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى