أدب الرعب والعام

إن الورد يخدع

في عصر ليس بعصرنا، وزمان ما هو بزماننا. عاش طفل صغير وحيدا في غابة خضراء يانعة. بيته كوخ حقير من قش القمح، وغطائه منسوخ من لحاء الشجر. لم يعرف هذا الصغير أبا أو أما، ومنذ وعت عيناه الدنيا وأبصرتها لم يكن هنالك من رقيب أو حسيب يعلوه. يُقدم له الطعام من اللامكان، ساخنا، شهيا ولا يقاوم.

في صباه، لطالما كان يجلس قرب فتحة الكوخ الوحيدة، يحدق مسحورا في شجرة البلوط الضخمة التي تغطي أغصانها سقف الكوخ وتحتضنه. كان يُخيل له أحيانا أنها تضيء وتشع كجوهرة متلألئة في كبد الظلمة، وفي أحايين أخرى يراها قطعة حلوى ضخمة.

عندما بلغ الصبي الهادئ الحالم، الغُلم. جلس مرة أخرى أمام نافذة كوخه الصغيرة، يحدق بنفس الانبهار في شجرة البلوط. يتأمل جذعها القوي، وأغصانها التي تمتد قاسية صلبة حتى تنتهي بعود صغير إذا ما وقف عليه الطير انكسر. أوراقها لم تسقط أبدا مهما توالت عليها الفصول وهزتها العواصف.

لقد كانت شجرة عجوزا، لكنها قوية، شامخة، لا تنحني أبدا.

إقرأ أيضا : نزلاء الصمت

ومع بداية فصل جديد، وسنة جديدة هاجت جوارح الغلام الذي ماعاد صبيا، وتاقت نفسه للخروج من كوخه القشي. أراد أن يلمس شجرة البلوط ، وأراد أن يتسلق أغصانها العالية. أراد أن يكتشف العالم الواسع، ويلمس أعشاب الحديقة النابتة.

لكنه لم يستطع فعل ذلك؛ فلطالما كان هناك صوت خافت يهمس له : «لا تخرج، لا تخرج…إن الأشجار قد تصبح عفاريتا، وإن الأرض قد تنهار، وإن الأعشاب قد تصبح أفاعٍ سامة، وإن الرياح قد تشتعل نارا، وإن المطر قد يصبح حجرا من الجحيم…لا تخرج. إن القلب قد يُسحر، وإن البراءة قد تُعدم».

لم يفهم يوما مغزى هذه الكلمات، ولم يكن قادرا على الفهم. لم ير أحدا ليشرح له ماهي العفاريت، وماهي النار. لم يكن يعرف شيئا، ولم يكن هناك من يعلمه. كان أحيانا يتكلم إلى انعكاسه الذي يظهر فوق كوب الماء الذهبي، أو معلقته الفضية. لكنه لم يفعل ذلك دوما؛ كان ذلك الانعكاس المشوه لوجهه يخيفه فسرعان ما يشيح بصره بعيدا عنه. لم يتقبل يوما أن ذلك التشويه هو نفسه، ولم يصرح بذلك يوما، لا أحد يتقبل حقيقته المشوهة.

طفل، مجرد طفل بريء القلب، نقيُّه، بلا أفكار سوداوية، لا يقول كذبا، لا يغار ولا شيء يشعره بالجشع. لم يفكر يوما باقتلاع الجوهرة الحمراء التي تزين كوبه. ولم يعرف أنها قد تكون قيّمة أكثر من لحاف الشجر الأخضر الذي يتغطى به كل ليلة، أو من سقف القش الذي -بطريقة سحرية غريبة- لا يسرّب الماء قطّ. كان مجرد طفل صغير لم يتعلم فن الخداع.

رغم جسده الطويل الممشوق، وعيونه البنية الفاتحة، شعره الفضي المائل للشقرة، بشرته البيضاء الناصعة، أصابعه النحيلة، وغمازتيه العميقتين. رغم كل مظاهر الشباب التي أظهرها جسده مثل أي شاب مثله، إلا أنه في داخله كان مجرد طفل ساذج وصغير.

لكن أنّى للحال أن يدوم، وحتّام؟ حتى بداخل أعماق البحار يوجد شر، وفي قلب الأرض يوجد شر، وفي أعالي السماء يوجد شر، وفي قلوب البشر جميعهم يوجد شر. فهل لطفل مثله أن يصمد في وجه هذا الشر بينما يختبئ في كوخ صغير!

إقرأ أيضا : خدعة الحب

ذات نهار مشمس، وبينما يجلس الطفل الكبير أمام نافذة الكوخ الصغيرة، يصارع رغبته بالخروج. لمح شيئا بين الأعشاب الطويلة؛ له بتلات بيضاء جميلة وقلب أصفر بهي. طويل الساق وتتدلى منه أوراق خضراء يانعة. بُهر الفتى أيّما انبهار بهذا المخلوق الغريب الذي لم يره يوما في حديقته التي اعتاد رؤيتها يوما تلو يوم، لم تغب عن عينيه لهنية ويحفظ كل شبر منها. لكن هل يصمد أحد قط أمام جمال الورد؟

_1) لا تخرج!_

وقف كمن لدغته عقرب ومد عنقه مشرئبًّا خارج النافذة يحاول تبيّن ذاك الشيء الصغير الذي يتمايل مع الريح برقة وهدوء، مد ذراعيه وجذعه بأكمله خارج النافذة واشرأبّ أكثر فأكثر. فجأة دارت الدنيا من حوله وانقلب على وجهه ساقطا على الأرض، وهنا كانت بداية كل شيء.

ذعر الفتى وتيبست يداه فوق العشب الندي. شعر بقطرات الندى الصغيرة تتسرب بين أصابعه وصفع ريح بارد وجهه حتى احمر أنفه. مرت عدة دقائق حتى استوعب أنه خارج الكوخ، أدار رأسه ببطء فلم يجد شيئا سوى أرضا واسعة تملأها الأعشاب. لقد اختفى الكوخ الصغير كأنه لم يكن !

ارتجف جسده بردا، ووقع قلبه من شدة الرّوع. ثم أخيرا نهض متباطئا ينظر حوله دونما أي فكرة عما قد يفعله تاليا، حتى رأى الوردة الصغيرة فأسرع نحوها ركضا لعله فيها يجد الجواب.

_2) لا تخرج!_

لم يستوعب عقله الصغير أن تلك الوردة التي كانت في قلب الحديقة صارت خارجها، تجاوز شجرة البلوط، تناسى حلمه بتسلقها وتركها وراءه، يركض مغيّبا نحو تلك الوردة الصغيرة الجذابة.

إقرأ أيضا : ثمن الخلود

_3)إن الأشجار قد تصبح عفاريتا، وإن الأرض قد تنهار، وإن الأعشاب قد تصبح أفاعٍ سامة، وإن الرياح قد تشتعل نارا، وإن المطر قد يصبح حجرا من الجحيم_

جثى قرب الوردة الصغيرة، يتأملها بدهشة عارمة جمّة. مد يده في تردد واضح ولمس ببطء بتلاتها الرقيقة، ففوجئ بنعومتها، ووقف مشدوها ينظر لذلك الغبار الأبيض الناعم الذي علق باصبعه بعد لمسها، قرب أصبعه من فمه ولعق ببطء الغبار عن اصبعه، فانتشرت حلاوته فوق براعم لسانه.

أعاد يده نحوه الوردة مرة أخرى، بشجاعة أقوى من سابقتها، وببسالة لم يعهدها في نفسه. مرر يده فوق نقوش أوراقها الخضراء وتمعن في صفرة قلبها الفاقعة. قرب أنفه متمليا، مستمتعا بريحها الذكية، وبملمس بتلاتها فوق أرنبة أنفه.

لكن ذلك لم يكن كافيا؛ مد يده من جديد ناويا قطفها بعزيمة واصرار لكن الأرض اهتزت من أسفله قبل أن تصلها يديه، وانهارت لتصبح هوة عظيمة ابتعلت الوردة وكل ما حولها. نظر مذعورا خلفه ليجد شجرة البلوط الضخمة قد أصبح لها قدمان دمرتا الأرض تدميرا وغارتا فيها، و لها عينان تقدحان شررا.

بينما الأعشاب الطويلة، واحدة تلو الأخرى، تحولت أمام عينيه إلى أفاع خضراء زاحفة، اقتربت منه وأحاطته بينما تهسهس في وجهه بألسنتها المشقوقة.

صرخت شجرة البلوط في وجهه بصوت زلزل كيانه، فشحب وجهه الأبيض حتى اصفرّ ذابلا. ودقّ قلبه بنبضات صمّت أذنيه عن صوت الرياح التي هبّت أمامه فاشتعل كل شيء بنار زرقاء حارقة.

رعدت السماء، وأظلمت سحبها البيضاء، ثم تجمعت فسقطت منها أحجار شفافة لا لون لها قاسية، لم يجد الفتى مكانا ليختبأ منها، رفع يديه يائسا ليحمي وجهه، متجمدا في مكانه لا يعرف أيجب أن يهرب، وإلى أين؟ رأى لأول مرة دمائه الحمراء وأحس بالألم حتى خارت قواه وتيبست جوارحه. تضاربت مشاعره بين غضب ولوم وقهر، ويأس، وسقطت من عينيه دموع مالحة لم يذقها يوما، ثم خرّ بعدها مغشيا عليه.

إقرأ أيضا : أصحاب الأحلام

_4)لا تخرج!_

تناهى له صوت غناء رقيق لم يسمع له مثيلا قط، وفتح عينيه متباطئا لعله يعرف مصدر هذا الصوت الشجي الذي وقر في قلبه. كل شيء كان أبيضا، مثل الحليب الذي كان يقدم له في كأس الذهب. كل شيء كان هادئا، مثل كوخه الخشبي. وكل شيء كان دافئا، مثل لحاف الشجر.

توقف صوت الغناء، ورنّت في المكان ضحكة موسيقة غنّاء، كأنها نغمة حرّة، بل كأنها تغريد بلبل… بل كأنها صوت ناي…بل إنها أجمل وأعذب منهم جميعا، كعذوبة الماء لقاطع الفيافي.

_5)إن القلب قد يُسحر_

اتسعت عيناه وتحفزت أذناه تصخ السمع، أصغى بشدة حتى أنه كان ليسمع صوت الدم يجري في عروقه. ثم ظهرت له حسناء يانعة الجمال: شعرها ذهبي كأنه قلب الوردة، وثوبها أبيض ناصع كأنه بتلات الوردة، وعيونها خضراء يانعة كأنها ساق الوردة، وريجها مُسكر كأنه عبير الوردة.

وتتمايل في مشيتها برقة وهدوء.. كأنها الوردة.

اقتربت منه برشاقة حتى ما تبقى بينه وبينها سوى عشرون خطوة. تجلت له الرؤية فلاح له من خلفها حقل ورد أبيض بلا نهاية، شمسه مشرقة، وسماءه زرقاء صافية ونسيمه هادئ لطيف.

رفعت الحسناء يدا طويلة بيضاء ورفعت بأصبعها النحيل خصله عن عنقها الغض، ثم همست له بصوتها الرنان فتردد همسها في عقله يتكرر دونما هوادة : تعال!

عالمه الأبيض الواسع، مثل كوخه. وعالمها المليء بالورد: لم يكن هنالك مجال للاختيار؛ بل لم يكن هنالك وقت ليفكر بالاختيار، لقد وقعت الفتاة بكل حسنها في قلبه، وانساق وراءها متخليا عن كل شيء، في تلك اللحظة لم يكن يهمّه شيء.

_6)وإن البراءة قد تعدم_

ضحكت له مجددا ومدّت يدها لتمسكه بينما يقطع منطقته البيضاء نحو نعيمها المشبع بالورد. وبينما كانت تمرر يديها على وجهه الرقيق كررت : تعال!

فانفجرت بقلبه نار الشهوة، وتعلم الطفل الصغير لأول مرة معنى الخطيئة فانقضّ عليها كوحش كاسر، بين قرقرت هي تضحك.

إقرأ أيضا :

حين انتهى منها وانتهت منه، حين غرست في قلبه خنجرا لماعا تزينه جوهرة حمراء: تعلم الطفل معنى الخيانة والخديعة.

وحين تلونت ورود الحقل بحمرة دمائه، وهمست له الحسناء بحبها: تعلم معنى الكذب. وحين لم يعد يرى الضوء قط من حوله: عرف الظلام وعرف الموت.. وعرف الشر. وحين أغلق عينيه، اختفى كل شيء.

داخل كوخ حقير، وبينما يداها تغزل من خيوط الشجر لحافا يسقط فوق بطنها المنتفخة أخذت فتاة حسناء كالوردة تردد:

بهمس خافت مغري: «لا تخرج، لا تخرج…إن الأشجار قد تصبح عفاريتا، وإن الأرض قد تنهار، وإن الأعشاب قد تصبح أفاعٍ سامة، وإن الرياح قد تشتعل نارا، وإن المطر قد يصبح حجرا من الجحيم…لاتخرج. إن القلب قد يُسحر، وإن البراءة قد تعدم .. وإن الورد يَخدع.»

انتهت بفضل الله.

المزيد من المواضيع المرعبة والمثيرة؟ أنقر هنا

رنا رشاد

المغرب
guest
8 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى