أدب الرعب والعام

ابن الشجرة

بقلم : مصطفي جمال – مصر
للتواصل : https://www.facebook.com/profile.php?id=100012779294789

ابن الشجرة
شجرة زيتون تشابكت أغصانها و فروعها مشكلة تمثالاً لامرأةٍ تحمل طفلاً 

الولادة ..

صوت بكاء طفل يكسر سكون و هدوء هذا الليل وسط مدينة يشوبها الصمت مهجورة من أصحابها بل قد هجرتها أرواح أهلها تاركةً أجسامها للدود تأكله و للغربان تنهش لحمها و لأمطار الشتاء تغسل دماءهم .
قد تهدمت بعض جدران المباني تاركةً ما كان يوماً منازل ..

صوت البكاء ظل يدوي و صداه يمر ببقايا المباني و الجثث ، وسط المدينة شجرة على شاكلة تمثال لامرأة تحتها بركة من الدماء تحمل طفلاً صغيراً يبكي و يصرخ ، يقف على التمثال ثلاثة غربان سوداء قاتمة اللون كلما اقترب أحد الكيانات النورية تنقض عليه الغربان مبعدةً إياه عن الطفل

********

مرت أسابيع لم تشرق فيها الشمس على المدينة و لم يرىَ الطفل النور قط ، منذ ولادته لم يذق الطعام أو يشرب و لو بضع رشفاتٍ من الماء

********

عقدين بعد الولادة ..

أمطرت السماء كما العادة ، و لكن صوت الرعد ظل يدوي وقتاً طويلاً ، و البرق في السماء ينير ظلمتها و يحيل لون سحبها القاتم إلى نور البرق الباهر و لو لثوانٍ معدودات تحطم ما تبقى من نوافذ ، و صار حطاماً محترقة ما تبقى من أبواب ..

مسافر تعيس أوقعه القدر في شباك المدينة ، يحاول العثور على طريق و لكن كيف و ظلام المدينة لا ينيره إلا البرق لبضع ثواني لا تكفي لحفظ معالم المدينة الكئيبة ، لم يرَ إلا جثثاً و عظاماً ، يدخل أحد الابنية التي بقي سقفها قائماً و لم تمسه أيدي الدهر الغاشمة المدمرة ، تلمس جدران المنزل حتى وجد بابه ..
لم يسلم من المطر فالسقف لو ظل قائماً لكنه سمح لبضع قطرات للدخول محدثةً صوت القطرات المقلق و لكنه أفضل مما تبقى من بيوت .. ظل ينتظر بزوغ الشمس التي ستحيل الظلام نوراً و سيجتاز المدينة المهجورة و سيصل إلى العاصمة بنجاح ، رأى نور البرق ينير المنزل الصغير ليرى جثة طفل مقتول بوحشية مقطوع العنق بدون يدين ، مشقوق البطن ، بدأ بالتحلل .. بجانبه رجل يمسك بسكين ، مات جوعاً بعد أكله للطفل

خرج بطلنا في الحال من المنزل هارباً من منظر سيظل متشبثاً في عقله حتى مماته .. ظل يمشي حتى بدأت قدماه تدميان ، لا يعرف كم مشى و لكن عقله يخبره أنه ليس بالقليل ، و شكل السماء يخبره أنه ليس بالكثير .. على مرمى بصره امرأة تحمل طفلاً صغيراً يبكي ، اتجه إليها آملاً أن تساعده ، و لكن وقف شارداً عندما أدر أن المرأة عبارة عن شجرة زيتون تشابكت أغصانها و فروعها مشكلة تمثالاً لامرأةٍ تحمل طفلاً يبكي ، واقفة على كتف التمثال ثلاثة غربان ساكنة و مكتوب على التمثال :

” املك ما يبحث عنه الانسان منذ الأزل ، المال الشهرة المجد الخلود و أرضاء الشهوات الحقيرة ، كل ذلك لك لو اعتنيت بالطفل … و لو ذهبت تاركاً إياه يبكي حتى يختفي صوته خارجاً من المدينة فسيكون مصيرك الهلاك “

أخرج الرجل ما تبقى معه من طعام و بدأ بإطعام الطفل ، فتوقف عن صراخه و بدأ يأكل ، انتهى الرجل و الطفل من الطعام و لكن لهيب الجوع محرق و القحط شديد ، رأى ثمار الشجرة و بدأ بعصرها للطفل و أطعمه إياها و أكل منها أيضاً ..

مضى أسبوعان ..

الطفل توقف عن البكاء ، و جسد الرجل كالعظام فوقه جلد شارد الملامح مستند على شجرة ، حوله العديد من الثمار ، تركته الروح لكن ليس إلى السماء بل إلى جسد الطفل .. كان هذا هو الرجل الخامس الذي أكل من الشجرة بعد كارثة المدينة و أطعم الطفل .. غير مائة لم يطعموه و ماتوا جوعاً و جنوناً من لعنته

الشجرة تقف شامخة وسط المدينة يعمها الضباب ، ساكنة لا تسمع صدى صوت من حولها ، شجرة زيتون تشكلت أغصانها و تداخلت و ترابطت حتى شكلت ما يبدو من بعيد تمثال لامرأة تضم يديها مشكلة مهداً ، كان رضيعا نائماً فيه يوماً ما ، لكنه اليوم فارغ و فيه ريش غراب

********

أربعة عقود بعد الولادة ..

شاب عشريني العمر ذو شعر داكن و عينين رماديتين شاردتين لم تذوقا النوم منذ ولدتا ، يستند بظهره على شجرة الزيتون و على كتفه ثلاثة غربان ، لم يتبقَ الكثير من الوقت حتى يعود إلى المهد

********

ستة عقود بعد الولادة ..

تجري بسرعة وسط الأبنية المتهدمة و بقايا العظام التي تركتها أرواحها منذ دهر من الزمان ، منذ زرعت الشجرة وسط المدينة الطيبة التي قبلها أهلها بحسن نية من عابر سبيل لم يعرفوا أنه الشيطان

تجري من خراب قد حل بقريتها بفعل نيران حرب قد أشعلت ، كان ضحيتها أهلها و جيرانها .. تهرب من سموم تقتل أهل مدينتها كل يوم ، هربت من الهلاك إلى هلاك قد حل سابقاً .. تذكرت قريتها و ما يصير بعد هروبها ، أُخبِرت أن جنة قد وجدت هنا من قبل و أنها قد صارت كما تراها الآن ، قيل لها ابتعدي عن الشجرة وسط المدينة و بعدها ستجدين العاصمة حيث الأسرة الحاكمة و جيش للحماية ، تبكي كلما رأت هيكلاً صغيراً لطفلٍ أو رجل أو شيخ ، كلما رأت ألعاباً في المنازل تمسكها يد لهيكل مقطوع لطفل

********

المدينة لا تنتهي و الليل معها يخلد

********

مسكينة و هي تجري وسط الحطام و الدمار و الموت ترى على مرمى البصر طفلاً يكسوه ثوب أسود عتيق ، ذهبت لتلقي نظرة قد يكون تائهاً مثلها أو ربما يعرف طريق الخروج من المدينة

– “هل تريدين شيئاً ؟ “
أتى الصوت من خلفها ، صوت بارد صداه عميق ، التفتت لتجد الطفل يقف خلفها ، كان في العاشرة شاحب الوجه شارد العينين داكن الشعر رمادي العينين

– “كيف أتيت إلى هنا” …قالتها و هي ترتجف
– “ماذا تبغين من القدوم إلى هنا ؟ “
– “أريد الوصول إلى العاصمة”
– “و ما الذي أتى بك إلى تلك القرية ؟ “
– “أليست العاصمة بعد هذه القرية”
– “لقد دمرت العاصمة”
– “ماذا ؟ متى حدث ذلك لقد كانت العاصمة تنعم بالحماية عندما خرجت البارحة فقط من قريتي ! “
– “لقد دمرت منذ شهرين ، هذا ما قاله لي كارون”
– “كيف حدث ذلك ؟ لقد كانت المكان الوحيد الآمن البارحة فقط ، و لماذا لم تشرق الشمس بعد ؟ لقد مضى الكثير من الوقت”
– “الشمس تخلت عنا و لم تعد تشرق .. لماذا تريدين منها الإشراق ؟ “
– “لم أفهم ما قلت ! كيف تخلت الشمـ….” لم تكد تكمل حديثها حتى قاطعها الطفل
– “سأمت من أسئلتك لماذا تريدين الشمس”
– “أحتاج إلى النور لأنه قد يساعدني على الخروج”
– “غريب أمرك ! أتحتاجين ضوء الشمس التعيس و أنتِ مع ابن حامل الضوء “

ثم أكمل يقول بعد وقفة فخر :
– “دائماً ما كانت تقول لي أمي أن أبي حامل الضوء المقدس ، هو من حمل ضياء المعرفة و الحكمة و ساد الملائكة و بات سيدهم قبل أن يهزمه التراب و يدنيه إلى أدنى المنازل ، أنا أنبت على يدي أبي حامل الضوء و سيد الملائكة فضوءه الجليل لا يساويه ضوء”
– “لا تقل لي أن أباك هو….”
– “الشيطان”
صدى الكلمة انتشر في المكان و أضيئت المدينة ، لكن السحب ما تزال موجودة معلنة عصيان الشمس عن إضاءة المدينة ، ستظل في ظلام يملأ جوها ذرات الغبار ، غبار تحلل الجثث
– “الآن أظن أن ملامح المدينة أصبحت أكثر وضوحاً صحيح ؟ ” .. قالها الطفل
– “لم أرَ اختلافاً فقط ظهرت السحب مكان ظلام السماء ، المكان مازال مظلماً “
– “أتشككين في ضياء أبي لوسيفار ؟!! فلتحل عليك لعنته ، اخرجي من المدينة ، لقد مللنا من مشاهدتك تتجولين و تدورين حول المدينة لشهرين”
– “شهرين !! و لكنني أتيت هنا اليوم فقط”
– “بل أنتِ هنا منذ شهرين ، دمرت فيهما البلاد و سقطت العاصمة و قتلت العائلة الحاكمة و الآن يوجد حاكم مستبد يحكمها “

وقعت على الأرض المسكينة من هول الصدمات المتتالية ، لم تستطع بطلتنا القيام و هي تحاول تمالك نفسها ، المسكينة حاولت أن تمثل دور اللامبالية لكنها وقعت دون أن تلحظ هذا

********

يعيش على أرواح الغير و يموت من يتركه وحيداً و هو في المهد

********

– “استيقظي أيتها الفانية ” .. قالها الطفل باستهزاء ثم أكمل :
– “أيغمى عليك بسبب تهديد ؟ ماذا كان سيحصل لك لو غضبت إذاً !”
– “أتريدني أن أهدأ و أمامي ابن الشيطان ؟ “
– “أنا لست ابن الشيطان حرفياً لكنني جئت بسببه”
و قبل أن ترد عليه أكمل يقول :

– “قبل أن تسألي أي سؤال من أسئلتك التافهة ، و قبل أن تقومي بأي تصرف غبي ، يجب عليكِ أن تقابلي أمي و بدون أن تنطقي بحرف ، سوف ترينها عاجلاً أو آجلاً فلامجال للخروج من هذه المدينة ، فلم يخرج أحد منها إلا و مات جوعاً أو عطشاً ، و إن تابعتِ المسير ستجدينها أمامك”

ذهبت معه الفتاة مجبرة خائفة من مصيرٍ مجهول ، تراودها عدة أسئلة و خواطر .. هل دمرت العاصمة حقاً ؟ و إذا كان هذا حقيقة فإلى اأين ستذهب ، و هل ستستطيع الخروج من الأساس ؟ هل الطفل ابن الشيطان حقاً ؟ و من أين جاء .. هل هي الوحيدة التي جاىت إلى هنا و كيف تخرج ؟؟ كلها أسئلة ظلت تدور في ذهنها المشتت ..

ظلت تتبعه حتى وصلت إلى ساحة كبيرة مليئة بأشجار عارية متفحمة ، تتوسطها شجرة زيتون على شاكلة امرأة تضم يديها كأنها كانت يوماً ما تحمل طفلاً ، حولها بركة من الدماء و الكثير من الجثث المتحللة و العظام المستندة عليه و كتب على التمثال :

“املك ما يبحث عنه الانسان منذ الأزل .. المال الشهرة المجد الخلود و إرضاء الشهوات الحقيرة ، كل ذلك لك لو اعتنيت بالطفل ، و لو ذهبت تاركاً إياه يبكي حتى يختفي صوته خارجاً من المدينة فسيكون مصيرك الهلاك “

– “هذه هي أمي” قالها الفتى
ثم أكمل :
– “ما كتب عليها صحيح ، و ما ترينه من جثث و عظام أسفلها هم بقايا لعنتها ، هذا غير الآلاف ممن لم يطعموني أو يعتنوا بي”

خافت من ثمار الشجرة القرمزية القاتمة ، خافت أن يتبعها مصير من سبقوها حيث يرقد جسدها فارغاً من الروح مستنداً على شجرة العذراء كما سمتها ..

“لا تحاولي لن تجدي ما تأكليه غير ثمار الشجرة ، و حينها ستوفين بالوعد و هو إطعامي عندما تأكلين من الثمار سآكل منها أيضاً ، و حينها لن تشبعي أبداً و ستموتين جوعاً و عطشاً حتى تصبحي جسماً بلا لحم ، و ستصبح روحك لي تضيف ما تبقى من عمرها مزيداً إلى عمري لأخلد سنوات أخرى ، و إن هربتِ تاركةً إياي بلاعناية أواجه الحياة لن تستطيعي الخروج من المدينة ، و ستدورين حولها نتيجة اللعنة لتموتي عطشاً و جوعاً لتذهب روحك إلي أيضاً ، فعندما تدخل الأقدام إلى المدينة سيكون مصير الروح إلي مهما طالت مدة بقائها .. و هذا في حالة أكلك من الثمار فقط ، و لكنك للأسف لن تجدي غيرها لأكله ، و إن خرجت من المدينة دون الأكل منها ستموتين حالاً بموجب اللعنة “”

ثم بدأ بالضحك بصوتٍ عالٍ

– “عن أي وعدٍ تتكلم ! أنا لم أوافق على هذا ، و لم أعطك أي وعد “
– “في اللحظة التي نظرت فيها إلى عيني التمثال تكونين قد وقّعتِ عقداً و هو المكتوب على التمثال”
– “لكن كل هذا ليس مكتوباً على التمثال”
– “انا من وضعت كل هذا لأبقى حياً و كتبته على ظهر التمثال ، إن كل ما أكتبه على أمي يحصل”

جلست بجانب الشجرة تتأمل الثمار القرمزية و تفكر ماذا يمكنها أن تفعل لتنجو و لتجد ثغرة أو تناقض في العقد

********

الخطايا تقضي على من يأكل الثمار و تقاد إلى الإثم أرواحهم

********

بدأت تستكشف المدينة بمبانيها المهدمة و هي تندب حظها الذي أرسلها إلى هذا الجحيم ، تشعر بالجوع السقم و الظمأ ، شاردة العينين يائسة كل اليأس ، حتى رأت أحد المباني الذي ظل متماسكاً و دخلته كي ترتاح قليلاً ، و ربما تجد بعض الطعام .. وجدت فيه هيكلاً عظميا اتخذت العناكب منه بيتاً و مأوى ، أمامه كتاب عتيق اصفرت صفحاته و تآكلت بفعل الزمن

فتحته ، كان معظمه فارغ إلا من عدة صفحات و التي كتب فيها التالي :

********

ربما اخطأنا ربما اذنبنا فتخلت عنا الشمس عقابا لما اقترفت ايدينا

********

(“ربما أخطأنا ربما أذنبنا فتخلت الشمس عنا عقاباً لما اقترفت أيادينا ، لم يكن أحد ليعرف أن الأمور قد تسوء إلى هذا الحد ، سنة واحدة حالت بين هدوء قريتنا و بؤسها ، حدائقها و صحرائها ، حيويتها و موتها .. سنة واحدة حالت بين النعيم و الجحيم ، اليوتوبيا و الديستوبيا .. منذ أتى الغريب تاركاً وراءه الجحيم ، مخلفاً الدمار و الموت و الجفاف و ابنه اللعين .. رحل الغريب تاركاً لنا شجرة وسط المدينة ، كانت شجرة زيتون عادية ، فروعها كبرت و تشابكت مكونة تمثال لامرأة تطوي يديها مكونة مهداً فارغاً ، كانت تبكي دماً كلما اقترب منها أحد المسافرين ، قدّسها الكثيرون و عبدوها ، و ظهرت طائفة الشجرة يقدمون لها القرابين و يعنفون و ينهرون كل من يتعرض لها أو لتربتها بسوء ، مر شهر و بدأت أراضينا الزراعية الشاسعة خارج القرية تموت و انتشر الجفاف في النهر ، و عم القحط ، و تحولت المدينة و ما حولها إلى صحراء و رمال ..

جثث و دماء في كل مكان مقتولة و مشوهة ، قاتلنا أنفسنا على الغذاء ، أرادوا أن نقدم لها قرابيناً و أردنا نحن أن نعيش .. كيف لأرض خصبة منبتة و حية أن تتحول إلى صحراء قاحلة و خالية في شهرين فقط !! لا نعرف شيئاً عن الشجرة و لكنها هي السبب بالتأكيد ..

تبدأ بالغناء ليلاً ، صوتها هاديء و شعرها أسود منسدل على كتفيها ، رغم كل ما كانت تعانيه كانت تجلس قريباً من الساحة و تغني ، لكنها قُتِلت .
كانت فتاةً في ريعان شبابها و في ربيع عمرها ، ماتت فقط لتقدم قربان لذلك الجماد .

عدنا للقتال من جديد حتى نسينا لمَ كنا نتقاتل ، أطفال أبرياء صاروا ضحايا لحمقنا و غبائنا ، و كدست جثثهم أسفل الشجرة و شربوا من دمائها ، قالوا قرابين ، قالوا ستعود قريتنا ، لكنهم فنوا .. 
استيقظوا في يوم و جلسوا حولها مكونين دائرة ، كان هذا صباحاً ، و تجمهر أهل المدينة لمشاهدة ما هم فاعلين ، أخرجوا الخناجر و…

انتشرت دمائهم حول الشجرة ، كان انتحاراً بشعاً لم تشهد المدينة انتحاراً جماعياً بمثل بشاعته .. حناجرهم قطعت و بطونهم شقت خارجةً منها الأحشاء ، تجمعت الدماء التي كانت تخرج من الجثث حول الشجرة ، حتى وصلت الى التمثال و دخلت كلها إلى المهد الفارغ مكونة رضيعاً لم تمضي ساعة حتى أصبح في الـ 15 من عمره ، حينها قال :

– “لم يعد هناك طعام ، يا لكم من مساكين ، و لكنني وجدت حلين ؛ إما أن تأكلوا أنفسكم أو اأن تأكلوا ثمار الشجرة ، حينها ستقدمون لي معروفاً”

هرع الكثيرون إلى الشجرة و صاروا يأكلون من ثمارها القرمزية ، لكن الثمار لا تنتهي و الجوع معه يبقى ..

– “أغبياء لن تشبعوا أبداً مادامت الثمار باقية ، و الثمار باقية ما دامت الآثام باقية “

لم يتوقفوا عن الأكل ، شحبت جلودهم و شردت عيونهم و اختفى اللحم من أجسامهم … جفت أجسادهم لم يستطيعوا حتى التعرق ، و ماتوا جوعاً .
حاول الكثير تحاشيه و لكنه ظل يهتف قائلاً :

– “الخطايا تقضي على من يأكل الثمار و تقاد إلى الإثم أرواحهم”
– “أرواحكم آتية آتية و حينها تضاف أعماركم على عمري و تضيف إلى سنواتي سنواتاً  “
– “لا مهرب من المدينة لا تحاولوا ، فسيموت من يتركني وحيداً من الجوع ، و ستظل أرواحهم تطوف القرية حتى تعود إلي و تضيف إلى عمري المزيد”
– “أتظنون أن حقيقة رجوعي طفلاً بعد أسبوع تعني فنائي حينها ؟ حمقى .. فسيموت من يتركني وحيداً و أنا في المهد ، و سيموت من يعتني بي ، و سأظل خالداً بأعماركم”

لقد نشر الفتنة و وقف هو في مركزها يتلقى الأرواح التي تموت هنا و التي تذبح و تنتحر هناك ..

أكتب تلك الكلمات و أنا أنتظر الموت ، ربما ارتكبت إثماً عندما أكلت من لحم المنتحرين ، ربما ارتكبت إثماً عند انهاكي لحرمات الموتى ، ربما ارتكبت إثماً لتخطي راحة الجثث ، لكن الجوع مؤلم و الهروب مستحيل منه .. 
بسبب أكلي للجثث اكتشفت الكثير حول الطفل ، و عن ما في أسفل جذور الشجرة ، لم يسعفني الوقت لأكتب بتفصيل و وضوح لأن الموت الآن سيداهمني ، لكنني حزين أن الطفل سيعيش ثمانون عاماً اخرى بسبب موتي ، ربما لم يكن علينا العيش كل ذلك” )

هذا كان مضمون الكتاب ، فكرت إن انتظرت أسبوعاً آخر قد تستطيع الاستفادة بعجزه كرضيع ، و لكن كيف تعيش لأسبوع دون أن تموت جوعاً أو حتى عطشاً !

********

– “أظن أن قراءتك لتلك الرسالة ذات الأسلوب الركيك المكتوبة من قبل عجوز خرف لم توضح لك شيئاً ، فالرجل بالكاد يعرف أساسيات الكتابة ، غريب أنك لم تموتي و قد مرت خمسة أيام ، و طعامك نفذ في الصحراء عندما كنت تتجولين و أنت تظنين أنك خارج حدود المدينة “
قالها ابن الشجرة و بدأ يضحك .. 

كان يقف خلفها ، لم تستدر له ، لم تكن تريد أن تنظر إليه و إلى عينيه المخيفتان

– “طعمها مر” قالتها الفتاة
– “من قال أن فاكهة أمي مرة بل إنها…”
– “أتحدث عن الجثث طعمها مر”
أكملت تقول :
– “تبقى لك يومان و ستعود إلى سن المهد”
– ” كـ .. كيف عرفتِ ؟! العجوز لم يوضح هذا في رسالته”
– “هو من أخبرني ، يقولون أن طعم الجثث يجعل باستطاعتك التكلم مع الموتى ، لقد فعلت كما فعل هو .. بالمناسبة غرابك أين ذهب ؟”
– “أيتها اللعينة لا تقولي أنك…”
– “أجل ، و كان مراً أيضاً ، و الريش يصعب بصقه ، المسكين كان مفيداً يسهل استخراج المعلومات من الغربان”

و أكملت قائلة :
– “لا يمكنك التعرض لي بموجب العقد”
– “لكن..”
– “موتي سيكون إما جوعاً أو بأكل الفاكهة ، هذا هو موجب العقد ، و ربما سيكون من الظريف الراحة من إزعاجك و ثرثرتك المستمرة ، لكننا لن نرتاح من بكائك العاجز .. أما عابري السبيل فأظن أن بعد سقوط العاصمة سيتجه المهاجرون إلى الجهة الأخرى”

قبل أن يتكلم أكملت :
– “قال لي العجوز أنك مخلوق من دماء الآثمين ، دماء عابدي الشجرة ، صحيح لا يوجد من هم آثم منهم في المدينة ، و لكنهم أغبياء بدلاً من تقديم أطهار النفوس من أطفال المدينة قدمو فتاةً عذراء نقية ، لذا لم تكتمل الخطة و روحها تسكن التمثال و تبكي دماً ..
تعيش شهران واعياً و قادراً و لكنك بعدهما ستكون في المهد حتى يأتيك أمثالي من المسافرين ليعطفوا عليك و لتكبر و تعيش بأعمارهم ، لكنك في النهاية تعود لسن المهد بعد الكبر و لن تصل أبداً لسن الشيب .. أوه نسيت ، هل تريد أن ترسل رسالة أخيرة لأبيك أم أنك بالكاد تعرفه .. أنت لعنة غير كاملة”
– “لكنك ستموتين قبل هذا”
– “اعتدت طعم الموتى ، إنه سيئ لكن يوجد منه الكثير”
ثم استدركت قائلةً :
– “أوه نسيت ، قال لي غرابك اللطيف أن الشيطان تخلى عنك ، لا تظنن أنك بفائز ، روح الفتاة العذراء ما تزال في التمثال ، إن تحرَّرت فنيت أنت ، و حينما تعود إلى المهد و تبدأ في الصراخ ، ستظل تنكمش حتى تعود نطفة ثم تتلاشى و تعود إلى الفراغ من حيث جئت ، سأقطع الشجرة و لن تعود لأخذ أعمارنا ثانية”

– “هل أخبرك عن الفتاة العذراء ؟ ” قال الطفل بصوت منخفض
– “أخبرني بكل شيء عنك ، أنت مجرد حثالة ، قدمت العذراء قرباناً لأنها كانت تغني بجوار تربة والدتك ، قالوا أنها تزعج الشجرة ، أغبياء لم يعرفوا أنهم سيضروك ، لكن ما يوجد أسفل التمثال أثمن منك”

– “توقفي توقفي لا تكملي أرجوك”

– “الطائفة لم تكن تقدسك ، لم تكن حتى تهتم لأمر والدتك ، كانوا ستراً لما يوجد تحت التراب ، قرابين الأطفال كانت لكتم ما رأوه ، قتلت الفتاة لأنها رأت و غنت عما رأته ، و سمعها أهل القرية .. هل تتذكر الأغنية ؟ “

– “توقفي توقفي”

– “افتعلوا حروباً كي يخفوا ما يوجد أسفل تراب الشجرة ، لقد كنت فقط ستاراً و حجة لما كانوا يفعلون ، و كنت أنت السبب المكشوف للقتل و التدمير و التخريب ، دُمِّرت القرية فقط لإخفاء ما يوجد أسفل الشجرة ، وجِدت اللعنة لمنع أي شخص من معرفة ما يوجد أسفل الشجرة ، قالوا أن الشيطان هو من زرعها لكنهم مخطئين ، لقد زرعوا اللعنة فقط لإخفاء السر ، و كان السبيل الوحيد لإخفاء أي أثر هو قتل الجميع بأبشع الصور كي يوقظوا ابن الشجرة الذي هو أنت .. مجرد حارس لما يوجد تحتها ، لكي لا يجدها أحد .. الكثير رأى و مات بسبب ذلك ، و السبيل الوحيد للمعرفة كان عن طريق أكل الجثث ، كانوا يخافون أن تحفر أنت تحت الشجرة فجعلوك لا تستقر في العمر عن طريق زرع روح تلك العذراء في جسد الشجرة “

– “اصمتي اصمتي”و بدأ في الانهيار

– “أظن أن هذا يكفيك الآن ، كان بودي أن أعرف ماذا يوجد لكنني لن أتركك حتى تفعل شيئاً “

أمسكت فأساً وجدته في أحد البيوت و ذهبت إلى الشجرة ، بدأت بضربها و تقطيعها و هي تملؤها مشاعر الحقد ، الكراهية و الحزن ، تقطع و تقطع و الدموع تمليء عينيها و تنهمر على خديها المتسخان ، تنظف الدموع أوساخ وجهها بالتواءات و أشكال قد تكون ذات معاني أو قد لا تكون .. كتعبير عن مشاعرها الكامنة في أعماق نفسها ، تقطع و تقطع وسط صرخات الطفل و هي تنخفض تدريجياً حتى حيلت إلى بكاء رضيع .. قطعت كل أفرعها و اقتلعت كل جذورها تاركةً إياها أخشاباً جامدة ساكنة تقطر منها بعض الدماء …

رحلت و هي تسمع بكاء الصغير الذي بدأ يتلاشى حتى اختفى كلياً و كأنه لم يكن موجوداً .

إنها تشرق .. لقد اشرقت الشمس و بدأت السحب القاتمة بالانحلال و التلاشى ، وأصبحت السماء صافية ، ابتسمت الفتاة و هي ترى بعض الكيانات الضبابية ترتفع إلى السماء ، ابتسمت و هي تسمع صوت جميل يتغنى بألحان ملائكية فرحة ..

انتهت اللعنة و خرجت من المدينة تاركة جثث الموتى بسلام كي تتحلل و تندثر ، لكن الصحراء واسعنة و المناخ حار و نور الشمس شديد ، وقعت على ركبتيها بسبب الحرارة ، سقطت على وجهها من الجوع ، و تأوهت من العطش ..
أيام بدون ماء أو طعام و تحت أشعة الشمس التى أحرقتها و أرهقتها و زادت من عطشها بعد البقاء في الظلام لأسابيع كفيل بأن يجعلها جثة وسط رمال الصحراء تدفن ذكراها و ذكرى كل ما رأته و ما يمكن أن يرى ..

في النهاية لم ترَ ما مات الناس من أجل حمايته ، في النهاية لم تعرف السر الذي ماتت القرية بأكملها و أنشأت اللعنة خصيصاً له كي يظل سراً ، و الذي دفعت ثمنه هي و آلاف المسافرين ، لكنها ماتت بضمير مرتاح بعد أن أنهت اللعنة مبتدئة بذلك لعنة أخرى .. ماتت تاركةً وراءها سراً يقبع تحت الجذور ، لم تعرفه المسكينة لكنه سر خلق ليكون سراً لذا مات من أجله الكثيرون …………….النـــــهاية
 

تاريخ النشر : 2017-06-02

guest
29 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى