أدب الرعب والعام

اعترافات أنثى – الجزء الأول

بقلم : اية – سوريا

فجأة و بدون أي سابق إنذار أصاب جدها نوبة قلبية و سقط أرضاً ، كان مريضاً بالقلب
فجأة و بدون أي سابق إنذار أصاب جدها نوبة قلبية و سقط أرضاً ، كان مريضاً بالقلب

 
1999/12/27 م 

الساعة السادسة صباحاً ، صوت المنبه المزعج جعلني أستيقظ ، نهضت متثاقلة من السرير رامية الغطاء جانباً ، نظرت نحو النافذة ، السماء متلبدة اليوم ، بالطبع ستكون كذلك ، نحن في شهر كانون الثاني على أي حال ، شعرت بغصة في قلبي بعد نظري للرزنامة المعلقة على الجدار ، خمسة أيام و ستأتي رأس السنة ، لما تذكرت هذه الحادثة الآن ؟ لما لا أستطيع بدأ صباحي ككل البشر ؟ أعتقد بأنه يجب علي الاعتراف لأحد ، لم أعد استطع تحمل الشعور بالذنب ، إنه قاتل و مؤلم ! لا أجرؤ ، لا أجرؤ لأبوح لأحد بأخطر أسراري ، من أثق بهم خذلوني ، بمن سأتصل ؟ ريتشل ، نعم ستساعدني ، أنا واثقة بذلك ، أنها صديقتي الوحيدة على أي حال ، سأتصل بها ، لن أخسر شيئاً إن جربت ، ها هو يرن.

– صباح الخير ريتشل ، قلت بتعب.
– ما به صوتك ؟ لا تبدين بخير ستيف.
– هل تستطيعين المجيء لمنزلي؟.
– ماذا هناك ؟ هل تشاجرت مع نيكولاس؟.
– هل تكرهيه لتلك الدرجة ؟ ليس له علاقة.
 أرجوك تعالي ، علي إخبارك بشيء.
– مسافة الطريق عزيزتي ، إياك و الأقدام على فعل شيء غبي ريثما آتي.
– حسناً ، أشكرك.
– لا شكر على واجب.

نهضت بتعب للمطبخ ، أشعر كأن الدنيا تدور حولي و السواد يحيط بي من كل الجهات ، الحقد يملأ صدري ، أنه يتغلغل به ، أشعر كأنني أبريق شاي مياهه تغلي ، وضعت القهوة على الغاز منتظرة قدوم ريتشل لنشرب قهوة الصباح معاً ، كنت متوترة ، كيف سأبدأ الحديث معها ؟ لن أتهرب اليوم ! لقد تعبت و شبح الماضي يلاحقني ، أرجوك ريتشل أسرعي قليلاً ! مضت ربع ساعة ، حتى سمعت صوت طرق الباب ، جريت نحوه وفتحته ، أنها ريتشل ، ضممتها بقوة، فصُدمت من هذا العناق المفاجئ ، دعوتها للدخول و جلسنا في المطبخ، سألتني:

– ما بكِ ؟ لا تبدين على ما يرام ؟.
– قهوتك مع سكر؟.
– لا تتهربي ، أخبريني ما بك ؟ هل الأحمق نيكولاس أزعجك ؟.
– سأضع لك ملعقتين.
– ستيف! منذ أسبوع و أنت هكذا ، تتصلين بي و أنتِ خائفة و مرتبكة ثم تتهربين من الحديث ، قولي لي حالاً ، قالت بصراخ و غضب.

ترقرقت الدموع في عيني و ارتميت على الكرسي و أجهشت بالبكاء ، صُدمت ريتشل و نهضت بسرعة و حضنتني ، بدأت تسألني والخوف يزين صوتها الرقيق الحاني ما بي و لما أبكي ؟ حاولت تهدئتي لكني كنت ازداد بكاءً ، اتهمت المسكين نيكولاس بمئات الاتهامات الباطلة ، أنها تكرهه بشدة ، بعد ربع ساعة كنت قد تمالكت أعصابي وتماسكت قليلاً ، قربت كرسيها و وضعته بجانبي ، أمسكت بيدي و قالت :

– قولي كل ما تريدين قوله ستيف ، أقسم بكِ بأن هذا الكلام لن يُسمع أو يصل لأحد
– ريتشل.. أنا.. أنت تعرفين والدي أليس كذلك ؟.
– العم سيمون ؟ أنه طيب القلب كما أخبرتيني .
– قاطعتها: لقد كذبت عليك.
– ماذا ؟.

رسمت ذاكرتي صورة الطفلة البريئة في السابعة من عمرها ، عيناها التي يجب أن تشعان براءة تشعان خوفاً و رهبة ، والدموع كالشلال تنساب من عينيها ، ترى الرجل الذي يُسمى والدها يحمل ذلك الحزام الجلدي ليضرب أمها بدون أي شفقة أو رحمة كأنه الجلاد و والدتها الضحية ، تصرخ أمها صرخة مدوية ينفطر القلب ألماً بسببها ، يأن صوتها من الألم ، كأنها تسلم الروح ، وهو كالحجر لا شفقة ولا رحمة ، و لا سبب سوى أنه كان يتعاطى الكحول والمخدرات ، كان رجلاً سيئاً ، ما ذنب ابنته لتتشوه صورة والدها في عينيها ؟ ما ذنب ابنته لتدمر طفولتها هكذا ؟ لما يجبرها على المشاهدة ؟

لما لا يسمح لها بالذهاب للغرفة وإغلاق الباب ؟ كان يجبرها على الجلوس و مشاهدة ما سيفعله بأمها ، و إن اعترضت أبرحها ضرباً يبكي له الحجر ، تتساءل دائماً لما كرهها و كره والدتها ؟ بسببه كرهت رجال الأرض جميعاً ! شُكل لها عقدة نفسية ، كانت هشة و ضعيفة بسببه ، لم يربيها ، يمضي نهاره كله بالمقامرة والشرب والتعاطي ، يعود في ساعات الليل الأخيرة يضرب أمها و يضربها ثم يعاود الاختفاء ، المسكينة أمها لم يكن بيدها حيلة ، كان تبكي فقط ، تحضن ابنتها و تبكي ،

تعمل عمل لا يستطيع رجل أن يفعله ، كانت عظيمة ، كانت تريد أن تجعل لابنتها هدفاً ، تريد أن تربيها عكس ما تربت هي عليه ، كانت تخرج من المنزل هي وابنتها كل صباح ، توصل الصغيرة لمدرستها ثم تذهب لعملها ، تعددت الوظائف (عمل في البيوت ، جليسة أطفال ، تنظيف منازل مكاتب…) و الكثير غيرها ، لكن الهدف واحد ، أن تكون ابنتها في المستقبل ذات شأن ،

كانت تهتم لأمر ابنتها ، كانت الأم الصالحة القانتة بالنسبة لصغيرتها ، لكن لا أحد يدوم في هذا العالم الموحش ، تركتها و ذهبت ، تركتها وحيدة تصارع الحياة الشائكة لوحدها ، لم يكن عمرها آنذاك سوى عشر سنوات ، رأت ما لم تره من هي في الخمسين ، بكت كثيراً يوم وفاة أمها ، ضربها والدها  وسحبها من عند قبر والدتها ، لم يسمح لها بالكلام إليها حتى عندما أصبحت في القبر ، هو من قتلها ، لقد أُصيبت بجلطة دماغية بسبب كل ما يفعله ! تضع اللوم عليه ، نعم ، أنها مجرم سفاح حقير،  تكرهه إلى حد الموت ، توقعت أن يتغير قليلاً ، فلم يبقى له بالحياة سوى ابنته ، لكنها صُدمت ،

رماها عند جدها ، تخلى عن ابنته الوحيدة ، حتى جدها لقد خذلها ، الشخص الذي يجب أن يكون مصدر أمان لها  كان مصدر رعب و ترهيب ، كان مخيفاً ، كل ليلةٍ يبرحها ضرباً ، أوكل مهام البيت كلها عليها ، و لم تكن سوى في العاشرة من عمرها !  كانت تذهب للمدرسة صباحاً ثم تعود من المدرسة و تبدأ بالتنظيف وغسل الصحون وإعداد الغداء ، تتمنى أحياناً أن تكون جدتها حية ، لم تكن لتسمح بذلك أن يحدث ، كرهت جدها وأباها ، و بدأت شجرة الحقد تنمو في قلب تلك الطفلة.

قاطعت ريتشل كلامي والذكريات المؤلمة متسائلة و متألمة:
– ستيفاني ، أنتِ لم تفعلِ شيئاً خاطئاً ! لما تقولين بأنك نادمة ؟.
– ريتشل ! لما قاطعتي سلسلة أفكاري ؟ قلت وأنا أكاد أبكي.
– أعتذر، أكملي أرجوك ، قالت بخوف.
– حسناً.

أكثر الذكريات ألماً و متعة و حقداً و خوفاً في قلبها ، أكثر الذكريات تناقضاً ، يوم رأس السنة ، كانت تبلغ السادسة عشر من عمرها ، جلست هي و جدها في الصالة ، كان جدها يقلب في محطات الأخبار ، أما هي فكانت جالسة تذاكر دروسها ، فجأة و بدون أي سابق إنذار أصاب جدها نوبة قلبية و سقط أرضاً ، كان مريضاً بالقلب ، بدأ يترجاها و صرخ بها بأن تجلب الدواء له من الخزانة ، نظرت له بلؤم و تذكرت كل أفعاله ، ابتسمت بوجهه وانحنت لمستواه ، قالت له بهدوء : هل تريد دواءك ؟ في أحلامك يا جدي العزيز، إنه جزاءك ، رفضت ذلك رغم توسلاته العديدة ، لم تحاول إنقاذه ! كانت تنظر له بحقد والابتسامة تزين وجهها وهو يلتقط أنفاسه الأخيرة ،

توقف جسمه النحيل عن الحركة والارتعاش ، لقد مات ، حملت كتبها إلى الغرفة  و أخذت علبة دواء جدها و وضعتها في يده ، كان يبدو كأنه توفي وهو يحاول أن يأخذ حبة الدواء لإنقاذ حيات ، اتجهت بعد ذلك نحو الهاتف واتصلت بالإسعاف ، و بدأت بالصراخ والبكاء قائلة بأن جدها توفي ، أعطتهم عنوان المنزل ، عشر دقائق و كان الإسعاف على باب المنزل ، سألها المسعف عن ما حدث ؟ أجابته بأنها كانت في غرفتها تدرس ثم اتجهت للصالة لتنادي جدها لتسأله إن يريد أن يتناول طعام العشاء الآن ، فصدمت به و هو جثة هامدة على الأرض ، و أجهشت بعد ذلك بالبكاء المرير، ربت المسعف على كتفها و قال لها بأن الحياة دار ابتلاء وعليها أن تتحمل وتصبر، و بأن جدها سيكون في مكان أفضل الآن ، أقامت مراسم العزاء ، و كانت من أسعد خلق الله في تلك اللحظات ،

جاءت لحظة وضع جدها أسفل التراب ، قبل أن يردموا الحفرة طلبت منهم أن تلقي نظرة أخيرة ، وقفت أمام الحفرة و تقرفصت ثم ابتسمت بشماته ، لم يلاحظها أحد فالجميع كان منشغلاً بذرف الدموع والمواساة ، وقفت وأشارت لهم بإيماءة من رأسها بأنهم يستطيعون الإكمال ، عادت لتمثل دور الحفيدة منفطرة القلب و بكت بحرقة شديدة مزيفة ، بعد لحظات لاحظت وجود والدها بعيداً متجهاً نحوها ، تمالكت نفسها و وقفت بثبات منتظرة ما سيقول ، وقف قبالتها وقال: ستيفاني ، لقد مات جدك الآن ، أنا لا أريد تحمل مسؤولية مراهقة طائشة الآن ، لذلك أبدئي بحزم أمتعتك ، سوف تسكنين في منزل خالتك ، صُدمت المراهقة هنا ، هي لديها خالة ! منذ متى ؟ انتهت مراسم الدفن ، اتجهت نحو المنزل و بدأت بحزم أمتعتها متأملة حياة أفضل في منزل خالتها :

– ستيف .. أرجوك تماسكي قليلاً.
– لا أصدق بأنني قتلت جدي !.
– الأمر لا يستحق كل هذا.
– ريتشل أنت لا تفهمين ، لقد فعلت ما هو أسوأ بعد.
– تخبريني لاحقاً ، أنتِ الآن منهارة تماماً ، هيا سأوصلك لسريرك ، استلقي ثم سأعد لك بعض الشاي لتهدئي أعصابك.

ساندتني ريتشل بالنهوض و ساعدتني أيضاً بالاستلقاء على السرير، ثم غطتني بالغطاء ، و طبعت قبلة على جبهتي و مسدت شعري بيدها قائلة بأنها لن تتأخر ، ستعد الشاي و ستأتي بسرعة.

ريتشل :

علي أن أقول لكم ، صُدمت كثيراً مما قالته ستيف ، لقد حيرتكم أليس كذلك ؟ اسمها ستيفاني ، لكنني أجده طويلاً فأناديها ستيف ، و هي على كل حال تكره اسم ستيفاني و ترفض أن يناديها أحد به ، ، تركت ستيف في الغرفة و اتجهت للمطبخ لأعد الشاي بالبابونج لها ، كانت منهارة ، بدأت بتقليب القصة التي روتها لي في ذهني ، المسكينة، لقد عانت كثيراً ، هل تُعد مذنبة لأنها لم تعطي جدها الدواء ؟ هل تُعد قاتلة ، هل كان ليموت إن أعطته الدواء في الوقت المناسب ؟ ما الأمر الآخر الذي قامت بفعله ؟ و هل والدها ما زال حياً ؟ كل هذه الأسئلة تجول في خاطري ،

جهز الشاي ، سكبت لها في الكأس واتجهت للغرفة ، ما زالت تبكي و تنوح بشدة ، جلست بجانبها على السرير و جعلتها تشرب الشاي غصباً عنها ، بعد أن ارتاحت قليلاً ، ساعدتها بالنهوض و أخذتها للحمام حتى غسلت لها وجهها و يديها ، ثم قالت لي بتعب بأنها تريد النوم، أعدت مساعدتها في الوصول للسرير ، استلقت باستسلام وغفت فور وضعي لرأسها على الوسادة ، اتجهت نحو الحمام لأغسل وجهي ،

فتحت خزانة الحمام لأخرج لوحاً من الصابون ، لقد أسقطت الصابون ، انحنيت لأجلبه ، وعندما هممت لوضعه فوجئت  ما هذا ! علبة دواء ؟ أنه دواء للاكتئاب! و اللعنة من أي أتى ؟ لحظة ، هناك الكثير منها ! دواء للاكتئاب ، مهدئات ، أدوية للاضطرابات النفسية ؟ ستيف ! يا إلهي ماذا تفعل بكل هذه الأدوية ؟ أهي تعاني من اكتئاب أم ماذا ، كيف أخفت هذا الأمر المهم عني ، كيف لم أنتبه لذلك ، هل شكوكي صحيحة ؟ سوف أستفسر منها عندما تستيقظ ، تنفست بصعوبة بالغة ، كم أنها قوية ، فلتستيقظي بسرعة ستيف.

 
ستيفاني:

لما أشعر بالتعب الممتزج بالراحة ؟ ما هذه المشاعر المتناقضة التي تختلجني؟ لما كل هذا التعقيد ، لما أشعر بأنني سأحلق سبب فرحي لاعترافي بما فعلت ؟ وبالخوف من ردة فعل ريتشل ، وبالتوتر من سرد ما تبقى ، وبالألم عندما أتذكر ، واللذة عندما أتذكر كيف مات أمام عيني ، و الندم بآن الوقت ، لقد جننت ، نعم لقد جننت ، أنني أفقد عقلي تدريجياً ، شعرت بشيء يلمس جبهتي ، فتحت عيني بصعوبة لأرى ريتشل تقول لي بحنان: ستيف، استيقظي صديقتي ، أعدت لك حساء الخضار الذي تحبيه ، ابتسمت بوجهها و أومأت لها بأنني قادمة ، تنهدت وأجبرتني على النهوض بالحال، لما أشعر بأن ريتشل هي أمي الآن ؟ يا لها من صديقة ، أنها رائعة ! ساعدتني بالوصول لطاولة الطعام وجلسنا مرة أخرى في المطبخ ، كان الصمت القاتل ثقيلاً جداً ، حتى قطعته ريتشل قائلة:
– لمن الأدوية التي في الخزانة ؟.
– قلت متلعثمة : أية أدوية ؟.
– لا تتظاهري بالغباء ستيف ، لمن هذه الأدوية ؟.
– أنا لا أتظاهر، لا أعرف ما هي هذه الأدوية حتى!.
– ستيف، أجيبي بصدق ؟.
– أنا لا أعرف ما هي الأدوية التي وجدتيها حتى !.
– رمت المعلقة بعيداً و صرخت: أدوية اكتئاب ومهدئات عصبية و لا أعرف ماذا ايضاً ، لكنها تملئ الخزانة !.

– لا شأن لك.
– حقاً ؟ بل لي شأن بذلك.
– و ماذا ستستفادين إن علمت لمن هي.
– استطيع مساعدتك على الأقل.
– هي.. لنيكولاس.

– أرجوك ستيف ، اكذبي كذبة تُصدق ، ذلك المعتوه لا يحتاج للفيتامينات حتى ، قولي الحقيقية ، ممن خائفة ؟ صرخت بي ريتشل.
– قلت والدموع عادت تترقرق في عيني : أنا من تأخذ هذه الأدوية ، هل ارتحت ؟ أدوية اكتئاب ، اضطراب نفسي ، مهدئات عصبية ، أدوية مضادة للقلق ، أدوية مثبتة للمزاج ، و أدوية منشطة ، لا أعرف إن كان هناك غيرها ، هذا ما أذكره الآن.

– هل أنت مدركة لما تقوليه ستيف ؟ قالت والدهشة تعلو وجهها.
– ارتميت بتعب على الكرسي : ريتشل ، أنت لا تعرفين شيئاً مما يحدث معي.
– صرخت ريتشل : كان علي أن أعرف إن أخبرتني أو إن لم تخبريني ، أنا صديقة سيئة.
– أرجوك لا تبدأي بهذه الدراما ، أنتِ صديقة رائعة ، أنا من أخفي الأمر عن الجميع.
– قالت بصوت عالي والدموع تنساب على خديها: و بالطبع أخبرت نيكولاس ! و هو ساندك واعتبرتني صديقة سيئة .

– ريتشل، لما تكرهيه ؟ إنه لا يعرف و لن يعرف.
– ببكاء : و تحملت كل هذا لوحدك ؟.
– نعم .. قلت بصوت منهك.
ازداد نحيب ريتشل وهي تتهم نفسها بأنها صديقة سيئة و لم تكن جيدة معي ، تحملتها دقيقتان ثم لم استطع أن أتحمل هذا اللوم لنفسها ، فصرخت بها بصوت عالٍ:
– ريتشل ، اصمتي أرجوكِ.
–  حسناً.

– شكراً لتفهمك …. قلت بتعب.
– لكن .. لما تأخذين هذه الأدوية ؟ قالت و هي تجفف دموعها.
– لأنني … أعاني من اكتئاب ، و أرق و قلق ، كل شيء..
– لما لم تخبريني ؟ كنت سأساعدك بالطبع.
– لم أود أن أدخل أحدا في مشاكلي..

– أنا لست أي أحد ستيف ، و منذ متى و أنتِ تعانين من الاكتئاب ؟ أنتِ أكثر الناس التي عرفتها تفاءلاً و إن كان من أجل ظنك بأنك من قتلت جدك فهذا ليس صحيح.
– إنه مجرد تظاهر بأنني سعيدة ، و نعم لموت جدي و تهمي لنفسي بأني سبب له دور ، لكن هناك المزيد.

– ما هو ؟ ما الشيء الذي تخافين منه و جعلتيه يدمرك هكذا ستيف ، أجيبي  ، صرخت ريتشل بشدة.
– الشرح يطول ريتشل.
– كلي أذان صاغية.

– عدلت من جلستي ، و أغمضت عيني وعدت للرابع عشر من شهر كانون الثاني ، رسمت ذاكرتي صورة فتاة في السادسة عشر من عمرها ، تبدو أكبر من عمرها بسبب ما شاهدته و جربته في حياتها ، الخوف يشع من عينيها الزرقاوان كزرقة السماء والبحر ، ليلتها الأولى في منزل خالتها ، جالسة في الصالة وحيدة ، خالتها تحادث والدها ، دقائق معدودة حتى دخلت خالتها و ابتسمت بمكر و قالت:

– ستيفاني أليس كذلك ؟ .
– نعم…
– اسمي هيرلين ، و أكون خالتكِ أخت أمك الغير شقيقة.
– ماذا يعني غير شقيقة ؟.
– يبدو بأن جدك لم يطلعك على شيء ، المهم ، حسناً ، جدك والد أمك  تزوج والدتي ، و بعدها طلقها و تزوج والدة أمك ، أي نحن أخوات من الأب ، هل فهمتِ ؟ قالت بسخرية.
– أعتقد هذا.

– حسناً يا جميلة ، إذاً كما قال والدك عمرك ستة عشر عاماً ؟.
– نعم.
– تبدين في العشرين يا جميلة ، شعرك جسمك
حتى عيناك ، انظري ، لا تتوقعي بأن حياتك ستكون أفضل هنا ، ستسمرين بالذاهب للمدرسة، لكن بعد شروط.
– ما هي ؟.

– لا أعرف إن ستفهمين ما سأقول لكن ، هل تعرفين ما هي المخدرات ؟.
– المخدرات ؟ سمعت عنها من قبل ، والدي يتعاطها و هي أمر سيء.
– أحسنت يا جميلة ! الآن ، أنا أملك بعضاً منها ، و هل تعرفين ما الذي يتوجب عليك فعله؟.

– ماذا ؟.
– انتبهي لما سأقول جيداً ، سأعطيك بعضاً منها ، ضعيها في حقيبتك ، وضعيها في حقائبك زملائك .
– صرخت: لكنها مؤذية !.
– هل ستفعلين ، ما سأقول أم أجرب شيئاً آخر؟.
– من المستحيل أن أفعل هذا ، هذا يعد جرماً .
– ستيفاني ، انظري ، إما أن توافقين ، أو..
– أو ماذا ؟.

– أو استطيع ببساطة طردك من المنزل و إرسالك عند والدك السكير الذي سيقتلك حتماً.
– لست موافقة ، قالت بحزم,
و صفعة مدوية نزلت على خد الصغيرة ، و عادت خالتها لتقول:
– هل أنتِ موافقة الآن ؟.
– نعم ، والدموع تنساب من عينيها.
– كان عليك فعل ذلك من البداية.
– حسناً .. والخوف يكاد يثقب عينيها.

كان يبدو التوتر على وجهها في المدرسة ، تتجول في الرواق متجهة نحو إحدى زميلاتها ، قالت لها بهدوء : بأن المعلمة تريد مقابلتها في الباحة ،  وفور مغادرتها وضعت مجموعة من الحبوب كما أمرتها خالتها في الحقيبة ، و أسرعت باللحاق برفيقتها التي تدعى (ايفلين)، وعندما سألتها ايفلين عن المعلمة ، أجابت : بأنها لا تعرف ، عادت يومها للمنزل وهي تبكي ، سألتها خالتها باهتمام عما حدث ؟

قالت لها والدموع كالشلال على كلا الخدين : بأنها فعلت ما أمرتها به ، ابتسمت خالتها وقالت لها : بأنه أن طلبت رفيقتها المزيد كل ما عليها هو أن تجلبها للمنزل ، و هي ستتكفل بالباقي، و بأنها بعد فترة سوف تعطيها المزيد لتضعه في حقائب أخرى ، لم تستطع أن تنام جيداً تلك الليلتين كانت الكوابيس تلاحقها ، مضى أسبوع على تلك الحادثة ، حتى سحبتها ايفلين من ذراعها عندما كانت تخرج من حقيبتها كتاباً ، قالت لها :

– هل أنت من وضع لي تلك الحبوب البيضاء في حقيبتي ؟ قالت ايفلين بتغيير واضح في سلوكها :

– هل جننت؟! أية حبوب!!
– انظري إن كنت أنت من فعل ذلك ، فأرجوك بأن كنت تملكين المزيد منها بان تعطيني أرجوك.

لمع كلام خالتها في ذهنها ، و تأكدت بأنها لا تحاول الإيقاع بها ، يبدو من شكلها بأنها أخذت الحبوب كلها ، قالت لها بصوت منخفض أن تنتظرها بعد المدرسة ، أشرق وجه ايفلين ، و بعد المدرسة عادت الفتاتان ، إحداهما وجهها أشرقت السعادة عليه ، والأخرى كان التوتر ملكاً لوجهها الجميل ، طرقت الصغيرة الباب ، فتحت هيرلين الباب بملل ، حتى رأت طيف شخص بجانب ابنة أختها الغير الشقيقة ، أدخلت المراهقتين بسعادة ، وأخذت ايفلين على جهة لوحدها ، لمحت ستيفاني ايفلين تخرج من جيبها شيئاً ما وأعطتها خالتها بالمقابل كيساً صغيراً فيه حبوب مخدرات.

 سنة ، سنتان ، ثلاثة ، ازداد عدد زبائن الخالة هيرلين ، و ازداد عد الضحايا والمنتحرين والمتعاطين وتأنيب الضمير ، كانت ستيفاني ترمي نفسها يومياً على السرير و تجهش بالبكاء ، يعلو نحيبها ، حتى تستسلم و تنام متعبة ، منهكة ، مرهقة ، متألمة ، كارهة حياتها ، جاء اليوم الذي سمعت به ستيفاني خبر انتحار ايفلين بجرعة زائدة من المخدرات ! صُدمت و بكت و ضربت نفسها كثيراً ، هي أول شخص خدع بها و بخالتها ، لامت نفسها كثيراً و لامت خالتها ، ثم لمعت في رأسها تلك الفكرة الجهنمية ، اتجهت بهدوء لغرفة خالتها ، فتحت درج خزانتها الثالث و أخرجت كيساً يحوي على حبوب مخدرة ، أمسكتها و وضعتها في جيب كنزتها واتجهت للمطبخ ، على الغداء ، جلست الخالة وابنة أختها يتناولان الغداء ،

قالت الخالة بهدوء : بأنها لا يجب عليها أن تتأثر لموت ايفلين ، لأنها قد حذرتها مسبقاً بأن لا تأخذ جرعاً زائدة ، ابتسمت ستيفاني و صورة ايفلين تدور و تدور في ذهنها ، مضى أسبوع ، و كل يوم تزيد ستيفاني من جرعة المخدرات في أطباق خالتها ، في اليوم السابع كانت الخالة تلفظ أنفاسها الأخيرة ، وابنة أختها تراقب بصمت وابتسامة ، توقف جسد الخالة عن الانتفاض والارتعاش بعد دقائق ، لقد ماتت ، ابتسمت بشماتة شديدة ثم خرجت من المنزل متجهة للحديقة ، و في المساء عادت و رأت الناس مجتمعين أمام المنزل ، و ادعت بأنها مصدومة من خبر وفاة خالتها ، و أجهشت بالبكاء ، وتكرر مشهد موت جدها مرة أخرى ، لكن هذه المرة هي من دست السم في طعام خالتها ، هي قاتلة رسمية الآن ، الآن هي بلا مأوى أو أي أحد ، لم يبقى لها سوى والدها ، و رفضت العيش معه و بشدة ،

بالنهاية لقد أتمت السن القانوني ، فسمحوا لها بالسكن لوحدها ، قررت بدأ حياة جديدة متناسية الماضي في مدينة أخرى ، سافرت بالمال التي كانت خالتها تملكه من بيع المخدرات ، هربت إلى مكان بعيد ، هناك كانت قدمت لجامعة مرموقة ، و قبلت فيها ، سنتان و هي تسكن في السكن الجامعي ، بدون أصدقاء أو أي أحد تشاركه يومها ، وحيدة في مكان جديد عليها ، لا تنكر بأنها كانت خائفة في البداية ، لكن الإنسان يعتاد ، في السنة الثالثة في الجامعة تعرفت على ريتشل ، كان هناك شاب يتعمد إزعاج ريتشل في كل فرصة تسنح له ، لم تكن ريتشل قوية في تلك الفترة ، و في ذات مرة تنبهت ستيفاني للأمر و تدخلت و أوقفته عند حده ، أو لنقل بأنها أرسلته للمشفى تلك الليلة و هي أُرسلت للمخفر، و أصبحت هي و ريتشل صديقتان ، تدريجياً أصبحتا مقربتان جداً من بعضهما البعض.

– لحظة…. هل قتلتِ خالتك ؟ قالت بصدمة.
– نعم….. قلت ببكاء.
– كيف بدأتِ تعانين من الهلوسات والاكتئاب ستيف؟.
– بعد تخرجنا وحصولي على وظيفتي عادت الكوابيس تهاجمني من جديد ، أي منذ خمسة سنوات تقريباً و على هذه الحالة ، أي لنقل تقريباً كان عمري تسع وعشرين عام ، هناك صوت في رأسي دائماً ما يعاتبني و يلومني ، أتعرفين ؟ لولاك و لولا نيكولاس حرفياً كنت قد جننت الآن.

– أرجوك ستيف ، نيكولاس زاد حالتك سوءاً ، كم مرة تشاجرتما منذ تعارفكما إلى الآن ؟.
– مئات المرات ، لكننا كنا نتصالح كل مرة.
– ستيف ، نيكولاس ليس مناسباً لكِ ، قالت ريتشل بتعب.
– لما ؟.
– لأنه… لأنه…
– لا تعرفين لما ، أنت تكرهينه فقط.
– نعم ، أكرهه و أمقته بشدة.
– ريتشل ، لقد أمضيت معه خمس سنوات منذ توظيفي ، و لقد تقاسمنا الكثير معاً.
– أنه لا يحبك.
– أنه يحبني ، أنا واثقة.

– دعينا من نيكولاس ستيف ، دعيني أسألك ، كيف ، كيف استطعت قتل خالتك ؟.
– هل أنا قاتلة ؟ قلت و نبرة صوتي تغيرت.
– كلا ! قالت بمحاولة لتهدئتي.
– كلا ، أنا قاتلة ، مجرمة ، قتلت جدي و خالتي و أيفلين و الكثير بسبب المخدرات التي كنت أدسها لهم ماتوا.
– كانت الظروف ! الظروف هي من أجبرتك على كل ذلك ستيف.

– كلا ! كنت استطيع الممانعة والرفض ، كنت جبانة و خائفة ، أنا أشعر بتأنيب الضمير كل ليلة ، كل ليلة أغرق وسادتي بالدموع ، كل ليلة ذلك الصوت يجعلني أجن ، هل تتذكرين عندما رأيتني ألف يدي بالشاش الطبي و قلت لك بأنني جرحت و أنا أقطع الخضار؟  كنت أكذب ، كنت أحاول الانتحار ، لكني فشلت ، أنا مجرد فاشلة و مجنونة و قاتلة و مريضة نفسية ، أنا حقيرة ، قلت و لم أعد أتمالك أعصابي.

– ستيف أرجوك اهدئي قليلاً ، أنتِ لست قاتلة ، كنتِ صغيرة آنذاك و لم تدركِ الخطأ من الصواب.

– لم أكن صغيرة ، فتاة في السادسة عشر تسطيع تميز الخطأ من الصواب ، أنني أموت كل ليلة من تأنيب الضمير ريتشل ، لا أستطيع النوم بسببه ، قلت بانهيار.
– سنجد حلاً معاً ، لا تخافي ، لقد قمت بالخطوة الأكبر وهي الاعتراف ، لا تخافي ، سأقف بجانبك.

– لن تقولي عني أنني قاتلة ؟ قلت و دموعي تملئ خدي.
– كلا ، أنا أعرف إن الظروف قد أجبرتك.
– حضنتها بقوة و قلت : لا أعرف كيف سأرد لك هذا الجميل.
– لا داعي عزيزتي ، فهذا واجبي.
– هل علي إخبار نيكولاس ؟.
– لما تخبريه ؟.
– عليه أن يعرف.
– انظري ، سأقول ذلك ، لكن إياك والاعتقاد بأن نظرتي تغيرت نحوه ، لكن ه.. قد.. قد يساعدك قليلاً.

– حقاً ؟ .
– نعم…
– كيف ؟.
– انظري ، أنا لا أعرف كيف يستطيع ذلك ، لكنني و بدون أي مجاملة أو كذب ، أنه شخص إيجابي ، و قد يساعدك.
– هل أخبره ؟.

– نعم ، الاعتراف بالذنب فضيلة ، و ستشعرين بتحسن أكبر ، لكن إياك و الخروج عن هذه الدائرة من الأشخاص ، تكفي معرفتي و معرفة نيكولاس.
– حسناً .. قلت بإرهاق.

يُتبع ……

تاريخ النشر : 2021-01-13

اية

سوريا
guest
4 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى