أدب الرعب والعام

اعترافات

بقلم : نوار – سوريا

اعترافات
أسنَدَت رأسها على حافة القبر و استسلمت للبكاء

قاسيـةٌ هي الحيـاة التي تأبى أن تمنحنـا مـا نـريد ، و مرهِقـةٌ تلك الأحـلام الموؤدة في الواقـع .. نعيـش و قلوبنـا معلَّقـةٌ بالأحـلام ، فلا أحلامنـا تحقَّقـت و لا رضينـا بالواقـع .. فأيُّ حيـاةٍ هذه التي عشناهـا !!

                                                                                                                                                  …………………………

حملت زهور السوسن الأصفر التي يحبها و نثرتها على قبره ، جاءت إليه مثقلةً بالهموم و الأحزان ، جاءت لتتكلم معه و هو تحت التراب بعد أن حُرِمَت منه عندما كان يمشي عليه ..

كانت تبحث عن دموعها منذ أن سمعت بالخبر ، هي التي كانت تبكي على أهون سبب وجدت نفسها لا تمتلك دموعاً لتذرفها عليه ، لامت عينيها وصفتهما بالخائنتين ، لكن كيف السبيل إلى البكاء و قد عوَّدت نفسها أن تكتم مشاعرها و ردَّات فعلها في قلبها ، و أن تظهر دائماً بمظهر السعيد القانع بحياته .. 

منذ أن سمعت بالخبر و هي ساهمة ليست في هذه الدنيا ،  يكلِّمها زوجها فلا ترد إلا بعد أن يعيد كلامه ، هاتفها أغلقته و لم تعد ترد على اتصالات أهلها و معارفها ، طفلها أهملته و تركت أموره للخادمة .. حتى نفسها أهملتها بعد أن كان اهتمامها بمظهرها من أولوياتها .

حاول زوجها معرفة السبب وراء انطوائها على نفسها بهذا الشكل ، فعللت الأمر بحالة اكتئابٍ تمرُّ بها و ستزول عما قريب .. لكنَّ حالتها ازدادت سوءاً مع مرور الأيام إلى أن قررت أن تأتي إليه هنا و تبث له أحزانها و تريح قلبها من كلامٍ حبسته داخلها لمدة سبعة سنين ، أرادت البوح لأوَّل و آخر مرة و بعدها تلملم بقايا روحها لتكمل خطَّ حياتها الذي لم تختره بيدها ، بل اختارته الظروف و الأقدار .. 

جلست عند قبره و بدأت بالكلام :

جئتك حبيبي ، جئتك و سأسمح لقلبي بالبوح عما كتمه طيلة هذه السنين .. فهل تسمعني ؟ أنا جمانة حبيبي ، جمانة التي حرموها منك ، جمانة التي لم يسكن قلبها رجل غيرك .. أنا هنا حبيبي .. هنا 

و غصَّ صوتها بسبب سيلٍ من الدموع داهم عينيها لكنَّها تابعت :

لم أكن خائنةً كما اعتقدتني ، لا و لم أبعكَ يوماً ، لكن هي الظروف .. هي الحياة ، أنا كنت ضحيَّة .. و اللهِ كنت ضحيَّة ، كنت كبش الفداء لعائلةٍ قتلتها الحاجة خنقها الفقر ..

عدت ذات يومٍ من الجامعة و كنت وقتها سعيدةً بعد لقائي بك ، و قد أهديتني مقطوعةً شعريَّةً كتبتها بنفسك ، عدت لأجد أمي تستقبلني بالأحضان و أبي يطالعني بنظرةٍ لم أستطع تفسيرها إلا فيما بعد .. سَحَبَتني أمي من ذراعي و دخلت معي غرفتي لتلقي عليَّ خبراً كان وقعه كالصاعقة على قلبي .. قالت لي بأنه جاء إلى والدي في العمل شابٌّ غنيٌّ جداً و قد طلب يدي منه ، و عندما قالت لي من هو عرفت أنه شقيق زميلتي رندة ..

فتحت فمي لأردَّ على أمي .. لأقول لها أني لا أفكَّر بالزواج ، لكنها قالت بسعادةٍ لم أعهدها بها ، هي التي دائماً كانت عنواناً للحزن و الشقاء :

– لا أصدِّق نفسي ، أكاد أطير من الفرح ، ابن المقدسي تلك العائلة الغنيِّة يتقدم لخطبة ابنتي أنا ؟! أيُّ حظٍّ هذا .. أيُّ نعمةٍ أنعمتها علينا يا رب ، هذا الزواج سوف ينقذنا مما نحن فيه ، جمانة سوف تصبحين غنيَّةً و عندها سوف يكون بإمكاننا زرع كليةٍ لوالدك ، فقد تعب المسكين من مرضه و نخاف أن نفقده بأية لحظة .. ثم لكزتني في صدري قائلةً بمزاح .. لن تبخلي علينا أليس كذلك يا ابنتي ؟

و بعدها ضحكت و خرجت من الغرفة .. خرجت دون أن تسألني رأيي في الموضوع .. يبدو أنَّ موافقتي بالنسبة لها كانت من المسلَّمات ، نظرت إليها عندما خرجت و أنا مشدوهة .. أمي تمزح و تضحك ! منذ متى ؟ شعرت أنَّ الدنيا تدور بي فجلست على السرير أحاول استيعاب الأمر ، لكن طُرِق في تلك اللحظة باب الغرفة و كان أخي .. دخل عليَّ و هنَّأني بسرور ، تكلَّم معي كما لو أنني فعلاً أصبحت زوجة رائد مقدسي حيث قال :

– بالتأكيد يا أختي غداً سوف تجعلين زوجكِ يوظِّفني في إحدى شركاته ، فقد سئمت الجلوس بلا عمل ، ثم أنني أريد أن أتزوج و أؤسس عائلة أنا أيضاً ..

و أخذ يضحك هو الآخر كما ضحكت أمي و خرج ..

جلست ألوم نفسي على ذهابي إلى الحفلة التي دعتني إليها رندة بمناسبة ذكرى ميلادها  ، هي لم تكن صديقتي لكني قبلت دعوتها من باب الفضول ، أردت أن أرى كيف يعيش الأغنياء ، لم أكن أعلم أنه بقبولي للدعوة قد حكمت على حبِّنا بالإعدام ، فرائد كان موجوداً ، و هناك تعرَّف عليَّ و بقي ملتصقاً بي إلى أن غادرت .

آه .. كيف ستصدِّق بأنَّني كنت مجبرةً على هذا الزواج ، كيف ستصدق بأنَّني كنت مسلوبة الإرادة ؟ 

نادتني أمي على الغداء و بعد أن انتهينا أخذني أبي جانباً و قال لي بانكسارٍ أدمى قلبي : 
– ابنتي الغالية ، لقد عرفتِ من تقدَّم لكِ ، و أنا لا أجبركِ على شيء ، القرار لك . 
أجل ، لقد قال لي أنَّ القرار بيدي لكن عينيه ، شفتيه ، كل تقطيعٍ في وجهه قال لي أن وافقي يا ابنتي ، وافقي و أريحيني من آلامي .. لذلك أجبته أني أحتاج لبعض الوقت حتى أفكر ..

في تلك الليلة لم أنم ، بدأ الصراع بين قلبي و ضميري ، هل أرفض لأسعد قلبي ، أم أوافق و أمنح حياةً لأبي و أحقِّق أحلام أخي و أزرع الفرح بقلب أمي !! انهمرت دموعي بصمت لأني عرفت قراري .. 

قل لي ما الذي كان بإمكاني فعله و قد وجدت نفسي فجأةً أمثِّل طوق النَّجاة الذي سينقذ العائلة من الغرق ، لو كنت رفضت لبقيت نادمةً طوال عمري لأني كنت سأفقد والدي .. مرض والدي كسر ظهري .

لا أنسى صدمتك عندما سمعت بالخبر ، و لا أنسى الكلام القاسي الذي وجهته لي .. أردتُ إخبارك بنفسي لكنِّي خجلت ، لم أمتلك الشجاعة لأقول لك أني سأتزوَّج بغيرك ، كيف أقول لك ذلك و قد عاهدتكَ أني لن أتزوج سواك !!

جئتَ إليَّ ثائراً هائجاً و نظرات الاحتقار تقطر من عينيك ، قلتَ لي .. ألم تستطيعي انتظار شهرين حتى أتخرَّج و أجد عملاً و أطلب يدكِ ، أم أنك فضلت ابن المقدسي و أمواله علي ؟ وصفتني بالخائنة و الكاذبة ، و بالانتهازية و المادية ، لم تترك صفةً سيِّئةً إلا و ألصقتها بي ، انتظرتَ منِّي أن أدافع عن نفسي ، أن أقول لكَ شيئاً يهدئ من ثورتك ، لكني لم أجد ما أقول ، وقفت أمامك بلا حول و لا قوة و قد شكَّلت الدموع في عينيَّ حاجزاً كثيفاً منعني من رؤيتك بوضوح .. فضّلتُ الصمت ، قلت بنفسي من الأفضل أن تكرهني و تبدأ حياتك مع فتاةٍ غيري ، و من وقتها لم نعد نلتقي ..

كتمت حبَّك بقلبي ، فأهلي لم يكونوا يعلموا شيئاً عن علاقتنا .. و تمَّ زفافي على رائد ، لم يكن رجلاً سيِّئاً ، بل كان يحبُّني و قد عاملني بكلِّ احترامٍ و مودة ، و كان كريماً مع عائلتي ، سعى بعلاج والدي عندما علم بمرضه ، سلَّم أخي مكاناً هامَّاً بإحدى الشركات ، حياتنا انقلبت مائة وثمانون درجة بفضله ، و كل هذا دون أن يعرِّضني لذلِّ الطلب .. لكن مع هذا لم أستطع أن أحبه .. أنت كنت تقف حائلاً بيني و بينه ، لم أستطع اقتلاع حبك من قلبي ، حاولت و لم أستطع و هكذا عشت معه جسداً بلا روح ، ضميري أنَّبني كثيراً تجاهه ، كنت أدعو الله أن ينزع حبَّك من قلبي و يغرس حب رائد مكانه لكن ذلك لم يحدث .. و وجدت نفسي أطلق اسمك على مولودي ، أجل لقد أسميت ابني مجد ، و زرعتُ في حديقة منزلنا زهور السوسن المفضَّلةِ لديك .. و كأنِّي بذلك كنت أعتذر لك و أثبت وفائي لحبنا ! 

كنت أراقبك طيلة هذه السنين و أتقصَّى أخبارك عن بعد ، و كنت أسأل نفسي عن سبب عدم زواجك .. هل ذلك لأنَّك مازلت تحبُّني ؟ هل ذلك يعني أنَّ حبِّي لم يمت في قلبك ؟ هل اعتزلتَ النساء بعدي ؟ … آه حبيبي لو تعلم كم موتك كسر قلبي ، لا أصدِّق بأنَّك الآن تحت التراب ، لا أصدِّق بأنَّك لم تعد موجوداً .. و الشيء الذي يؤلمني أنك رحلت عن هذه الدنيا و مازلتُ بنظركَ خائنة العهود متعدِّدة القلوب ، و أنا و اللهِ لم أملك سوى قلباً واحداً أحبَّك أنت .. أنت فقط

أسنَدَت رأسها على حافة القبر و استسلمت للبكاء إلى أن قاطعها صوت جاءها من الخلف :

– و أخيراً عرفت الإجابة عن تساؤلاتٍ لطالما قضَّت مضجعي 

انتفضت جمانة في مكانها و التفتت للخلف ، لتجد زوجها رائد واقفاً ينظر إليها بأسى .. جفَّت دموعها و شخص بصرها و شُلَّت أطرافها ، أحسَّت بأنَّها عاجزةٌ عن التفكير و عن الحركة و عن الكلام ، لقد كانت في عالمٍ آخر تماماً و لم تشعر بوجوده .. و بالكاد استطاعت أن تسأله بصوتٍ مخذول :

– رائد !! منذ متى أنت هنا ؟؟

أجاب و نظرة الأسى لا تفارق عينيه :

– لقد ارتبت بتصرفاتكِ الأخيرة و قلقت عليكِ ، لذا كنت أراقبك ، و عندما جئتِ إلى هنا لحقت بك ..

أرادت جمانة الكلام لكنه لم يعطها المجال و تابع قائلاً :

– منذ أن ولدت و أنا محاط بأناسٍ مزيفين ، الكلُّ كان يتظاهر بحبي من أجل مصلحته ، في المدرسة ، في الجامعة ، في العمل .. و منذ أن أصبحت شاباً و الفتيات يحمن حولي لكني لم ألتفت لهن ، فقد كنت أعرف أنَّهنَّ يرغبن بي من أجل مالي و ليس شخصي ، لذا وضعت فكرة الزواج و الارتباط جانباً و أغرقت نفسي بالعمل إلى أن رأيتكِ في حفلة أختي ، وجدت فيكِ البساطة و البراءة التي أبحث عنها ، وجدت فيكِ المرأة التي أرغب أن أكمل معها حياتي ، و ما زادني تعلُّقاً بكِ هو أنكِ لم تأبهي لي بل لم تريني من الأساس ، لم يغرَّكِ بأني الشابُّ الغنيُّ الأعزب حلم جميع الفتيات ، و عندها قرَّرت أن أتقدَّم لخطبتك .. لم أكن أعلم و لا أختي أنَّكِ كنتِ تحبِّين رجلاً آخر !

تقدمت لكِ و خشيت بأن ترفضي ، لكنَّك فاجأتني بموافقتك ، فظننت أنكِ تبادليني المشاعر ، لا أعرف لماذا أنتِ الوحيدة التي لم أفكر بأنه قد تكونين قبلتِ بي من أجل أموالي !! رأيتكِ منزَّهة عن هذا .. رأيتكِ ملاك ، لكن مع الأسف تبيَّن لي الآن و الآن فقط بأني أخطأت ، أنتِ مزيَّفةٌ كالآخرين و لو لم أكن غنيَّاً لما قبلتِ بي ، و ليس ذلك و حسب بل عشتِ معي هذه السنين و أنتِ تفكرين برجل آخر .. يا للعار !!

كنت دائماً محتاراً بتعاملكِ معي و تصرفاتكِ تجاهي ، لكن لم أتوقع أن يكون السبب تعلقكِ برجل غيري ، كيف تجرأتِ أن تطلقي اسمه على ابني ، ألم تخجلي من ذلك ؟ ألم يؤنِّبكِ ضميرك ؟! و أزهار السَّوسن التي زرعتها في الحديقة و اهتمامك بها .. كلُّ هذا من أجله ؟ و أنا .. أنا الذي أحببتكِ بصدق و كنت مستعدَّاً لفعل أيِّ شيءٍ يجعلني أرى الابتسامة على وجهك .. أنا أين محلِّي في حياتك ؟ لا شيء .. أنا لا شيء بحياتك .. كنت مخدوعاً بك كلَّ هذه السنين !

نهضت جمانة من مكانها .. أدركت أنَّ كلَّ شيءٍ أصبح مكشوفاً الآن و لا مجال للإنكار بعد كلِّ هذه الاعترافات التي سمعها بأذنيه .. لكنها مع ذلك حاولت أن تتكلم فقالت :
– رائد .. أنا آسفة
ابتسم رائد بسخريةٍ و قال لها :
– آسفة ؟ على ماذا !! 
صمت و نظر مطولاً في عينيها الذابلتين من شدة البكاء ، ثم قال بنبرةٍ هادئةٍ و واضحة :
– جمانة .. أنتِ طالق 

و مضى خارجاً من المقبرة و لم يلتفت أبداً وراءه .. 

أما جمانة فقد ظلَّت واقفة بمكانها تنظر إليه و هو يبتعد ، أرادت الصراخ ، أرادت أن تطلب منه العودة ، أرادت إخباره بأنها كانت قد قرَّرت منذ اليوم أن تنسى مجد و تمنح قلبها و روحها له .. أرادت إخباره بأنها شعرت بعد هذه الاعترافات أنها قد تتحرر من حب مجد ، لكنها بقيت واقفة ولم تفعل شیئاً مما أرادت .. فقد علمت أن لا شيء يمكن أن يعيده .. لا شيء أبداً .. فقد خسرته للأبد  
 

تاريخ النشر : 2017-05-20

نوار

سوريا
guest
34 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى