منوعات

افغانستان : حكاية بلد من واحة للسلام الى حرب بلا نهاية

بقلم : اياد العطار
للتواصل : [email protected]

الملك ظاهر شاه وصور من افغانستان في الماضي والحاضر
الملك ظاهر شاه وصور من افغانستان في الماضي والحاضر

 لا أحب التكلم في السياسة ولا أتطرق في موقعي عادة لما يجري على الساحة الدولية من وقائع واحداث تملأ اخبارها المواقع والشاشات .. وحكاياتي اليوم ليست عن السياسة أو ما يجري في افغانستان الآن ، لأني أعلم مسبقا إلى أين ستؤول الأمور، فعندما تكون الولائات الثانوية والفرعية أغلى وأهم من الولاء للوطن ككل .. حينها ستتكرر الحكاية في اافغانستان والعراق وغيرها من بلدان غاب عنها المنطق منذ زمن بعيد .. وعندما يغيب المنطق عزيزي القارئ تغيب معه جميع المناظر الجميلة ولا يبقى سوى ركام ودخان وعض على النواجذ حنينا إلى ماض قد كان ..

blank
فتيات الكشافة في افغانستان خمسينات القرن الماضي

لا أحد يزعم أن افغانستان كانت تنافس باريس ونيويورك في جمالها وازدهارها في الماضي ، ذلك أني أرى احيانا لقطات وصور من ماض بعض البلدان المتعبة حاليا تصورها وكأنها كانت دولا متقدمة ومتحررة ، وذلك يجافي الحقيقة لأنها صور مجتزئة عن واقع عام ، فاخذ لقطة لحي جميل في مدينة ما لا يعني أن كل احيائها وشوارعها بنفس الجمال ، كما ان الحداثة لا تعني نساء تلبس شورت او تنورة قصيرة وتسرح شعرها على أحدث موضة .. التقدم والحداثة هو تيار عام يتمثل في مثقفي وفناني ومبدعي وعلماء بلد ما ، وكلما كانت قاعدة هذا التيار واسعة وعريضة كلما كان البلد يسير في الطريق الصحيح لأن هكذا قاعدة لا تنمو إلا في ظل استقرار سياسي واقتصادي واجتماعي. وما يميز افغانستان الماضي ليس النساء السافرات ولا العمائر الباسقات ، بل هو الاستقرار والرخاء النسبي وحرص الحكومة على نشر التعليم واتخاذ خطوات جادة نحو الحداثة .. طبعا هذا لا يعني بحال من الاحوال ان البلد كان خال من المشاكل والفقر وبعض القلاقل ، فهذه الأمور لا يخلو منها بلد في كل زمان ومكان ، لكن الوضع عموما كان مستقر وسائر نحو الأفضل لكن بتروي وبطء.

blank
كابول في ستينيات القرن الماضي

بالتأكيد لا يمكنك ان تحول بلد في يوم وليلة من دولة نامية الى متطورة ، لا توجد هكذا عصا سحرية ، ولا توجد حكومة خارقة لديها هكذا قدرات .. لأن التغيير يجب أن يكون تدريجي ويبدأ من الشعب وليس عن طريق حكومة تأتي بثورة او انقلاب او تفرضها قوى عالمية.

الحداثة تأتي بالتعليم ، علم شعبك ، اجعله يقرأ ، ضخ فيه روح الثقافة والفن والمحبة والتسامح .. أعلي فيه قيم الوطنية ، علمه ان الوطن أغلى وأبقى من القبيلة والاقليم والطائفة .. أنفخ فيه روح الغرور القومي لكن بدون تعصب ، افتح عينه على تاريخه العريق لكن من دون أن تبيعه الوهم ، لا تقل له نحن أفضل من بقية الأمم بل قل له نحن جزء جميل من انسانية أجمل وأشمل .. واننا ككل الأمم في ماضينا وحاضرنا صفحات بيضاء وسوداء .. نفتخر بالبيضاء ونحاول ان ننميها أما السوداء فلا ننكرها ولا نتبرأ منها ولا نحاول ان نخفيها .. بل نتعلم منها ونأخذ الدروس والعبر ..

blank
صور من الخمسينات والستينات .. في افغانستان لم يتم فرض السفور الاجباري كما حدث في تركيا وايران بل كانت المرأة حرة فيما ترتدي

في افغانستان .. كان يا مكان في قديم الزمان ، كانت هناك مملكة اسمها مملكة افغانستان ، يحكمها ملك اسمه ظاهر شاه ، تعيش في استقرار وسلام يحسدها عليه جميع جيرانها ، لم يكن الناس اغنياء لكن كان بأمكانك ان ترى الابتسامة على وجوههم والامل بالمستقبل يبرق في عيونهم ، الأسواق مليئة بالبضائع والطرقات تغص بخلق الله من جميع الاجناس والاعمار والمشارب .. ها قد اصبحنا واصبح الملك لله .. كل يجري لرزقه .. ذاك يفتح دكانه وهذا ذاهب الى وظيفته وعلى الرصيف تلاميذ يمشون ويتضاحكون في الطريق الى المدرسة .. السماء زرقاء لا يغطيها دخان ، ولا توجد انفجارات ولا مفخخات بل زقزقة عصافير وصخب المارة والباعة المتجولين.

كان ظاهر شاه ملكا حصيفا ، اراد ابعاد بلاده عن المشاكل قدر الامكان ، احتفظ بعلاقات ودية مع الغرب والاتحاد السوفيتي في نفس الوقت ، وبذكاء حصل على مساعدات كبيرة من كلا الطرفين اللذان كانا يريدان ان يكسبانه الى صفهما لكنه حافظ على الحياد.

blank
لم يكن بلدا غنيا لكن كان هناك استقرار والبلد في طريقها للتطور

في الاربعينات بينما كانت باكستان في حرب طاحنة مع الهند من اجل الانفصال ، وايران تم خلع شاهها واحتلالها من قبل روسيا وبريطانيا ، ودول اسيا الوسطى تم ضمها للاتحاد السوفيتي .. لم يكن في المنطقة سوى افغانستان تتمتع بالامن والاستقرار والاستقلال .. وكانت هناك محاولات حثيثة لتحديث وتطوير البلد مع احترام تقاليده وهويته. واستمر هذا النهج خلال الخمسينات والستينات فبنيت الجسور ومدت الطرق وسكك الحديد وبنيت المطارات والفنادق الراقية حتى اصبحت افغانستان قبلة للسياح ..

فجأة وسط هذا السعي المتواصل لتطوير وتحديث البلد ظهر رجل ركبته فكرة متعصبة ستخرج البلد عن حيادها الطويل ، هذا الرجل اسمه محمد داود خان ، ابن عم الملك ورئيس الوزراء منذ عام 1953 ، الذي كان قوميا بشتونيا متعصبا ، كان حلمه في ان يجمع البشتون في دولة واحدة اسمها بشتونستان ، وهذا الطموح تسبب بمشاكل لافغانستان مع جيرانها ، خصوصا باكستان ، وكذلك داخليا بالنسبة للقوميات الاخرى الغير بشتونية مثل الطاجيك والاوزبك والهزاره .. بل ان داود خان ذهبت في سبيل تحقيق حلمه الى ابعد مدى من خلال محاولته غزو باكستان والتي بدورها الحقت هزيمة كبيرة بالجيش الافغاني ثم اغلقت حدودها معه مما اضطر البلاد للالتجاء للاتحاد السوفيتي كشريك تجاري ومصدر للمساعدات والتسليح الامر الذي بالتالي قوى من شوكة الشيوعيين في افغانستان.

blank
كانت افغانستان بلد ذو اهمية كبيرة .. ظاهر شاه مع الرئيس الامريكي كنيدي .. وصورة زعيم الاتحاد السوفيتي خروتشوف في زيارة رسمية لافغانستان

داود خان لم يكن راضيا على سياسات الملك ، خصوصا وضع دستور للبلد وبرلمان ومنع افراد العائلة المالكة من تبؤ المناصب الرئيسية في الدولة كمنصب رئيس الوزراء. كما كان يعاب على الملك انه متسامح ، يقال أنه كان يرفض التوقيع على عقوبات الاعدام وكان يعفو عن الكثير من السجناء حتى اعداءه.

المشاكل التي تسبب بها داود خان لافغانستان دفعت الملك الى اجباره على الاستقالة عام 1963 ، فوافق على مضض وغادر المنصب غاضبا وهو يضمر الشر.

عام 1973 ذهب الملك ظاهر شاه الى المانيا لاجراء عملية جراحية فقام داود خان بانقلاب ابيض بمساعدة الشيوعيين وجنرالات الجيش الذين كان قد عينهم بنفسه وكسبهم الى صفه خلال فترة حكمه كرئيس وزراء .. وبدأت حقبة جديدة من تاريخ افغانستان .

blank
محمد داود خان .. ابن عم الملك ورئيس وزراءه .. استغل سفر الملك فقام بانقالاب عليه

داود خان لم يعلن نفسه ملكا محل ابن عمه بل حول البلاد الى جمهورية ونصب نفسه كأول رئيس لها ، طبعا تم ذلك على طريقة رؤساء الجمهورية في معظم الدول النامية ، أي رئيس الحزب الواحد الذي بيده جميع السلطات ويبقى في الحكم الى ما شاء الله.

 في منتصف السبعينات بدأ داود خان يستشعر خطر الشيوعيين الذين كانوا عصاه الى السلطة ، واخذ يقلق من زيادة نفوذ الاتحاد السوفيتي ، فبدأ بمحاولات تقارب مع دول مثل ايران ومصر والسعودية والتي لم تكن علاقتها وطيدة مع الاتحاد السوفيتي ، خصوصا مصر السادات بعد عام 1974 التي اخذت على عهدتها تدريب الجيش والشرطة الافغانية وهو الامر الذي ازعج الاتحاد السوفيتي كثيرا.

blank
القصر الملكي .. هذا ما تبقى من ايام العز والرخاء

بالنهاية قام الشيوعيون ، بمساندة الاتحاد السوفيتي ، بانقلاب على داود خان ، وهذه المرة لم يكن الانقلاب ابيض بل اسود كالقطران .. حيث تم اعدام داود خان وجميع افراد عائلته.
الحزب الديمقراطي الشعبي الأفغاني (الشيوعي) استولى على السلطة وتم اعلان دولة افغانستان الديمقراطية التي كانت في الحقيقة مجرد دمية بيد الاتحاد السوفيتي ، وفي عام 1979 مع تزايد المعارضة الشعبية للحكم الشيوعي اجتاح الجيش الاحمر السوفيتي افغانستان وبدأت تدور رحى حرب لم تخمد أبدا ..

شخصيا وانا رجل عمري 50 عام لا اذكر عن افغانستان منذ وعيت على الدنيا سوى اخبار الحرب والقتل والدمار.

بأختصار ما اود قوله .. وأؤكد انه رأيي الشخصي وقد اكون على خطأ .. هو ان تغيير السلطة من دون حصول تغيير شعبي حقيقي على مستوى التعليم والثقافة ومؤسسات الدولة لن يكون له اي اثر ايجابي ولن يخلق سوى المزيد من المشاكل ، بصراحة لا احد من الثوار الذين قرأت عنهم طوال حياتي حقق شيئا او انجازا عظيما لبلاده بل اغلبهم اعادها عقودا الى الوراء وتسبب في واقع مرير من بعده ايضا ، والقليل منهم لم يسلك درب الدكتاتورية والحكم التعسفي كما هو الحال مع داود خان الذي بدل ان يحقق حلمه بتأسيس بشتونستان ضيع كل افغانستان!

كما أن الشعوب التي تفتقد للتعليم والوعي العالي حتى لو اتيحت لها فرصة الديمقراطية الحقيقية فستنحاز الى ولائاتها القبيلة والأثنية والعقائدية وستأتي بأسوا الاختيارات.

blank
ضاحية افشار في كابل دمرت بالكامل خلال الحرب الاهلية بالتسعينات

قد يقول قائل بأن الظروف والواقع الدولي احيانا يفرض نفسه على بعض الدول ، كما في فترة الحرب الباردة .. اقول ربما ، لكن اذا كانت هناك حكومة عاقلة وشعب متنور ، وقادة يملكون من الدبلوماسية والحكمة اكثر من العنجهية والعنتريات الفارغة فأن البلدان يمكن أن تنجو بمستقبلها ومستقبل ابنائها من السقوط في هاوية الحروب والاضطرابات.

اعود واكرر انا لا احب التطرق للسياسة في موقعي ، لكن بما ان افغانستان تتصدر الاخبار حاليا فأحببت ان اعطيكم لمحة سريعة ومختصرة جدا عن سبب الحروب والويلات التي يعاني منها هذا البلد وما الذي أوصله الى هذا الحال.

تاريخ النشر : 2021-08-19

guest
65 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى