تجارب ومواقف غريبة

الاستبصار بالحلم

بقلم : محمد عبد الرزاق ابراهيم – سوريا

تأخذنا أحلامنا إلى عوالم خيالية
تأخذنا أحلامنا إلى عوالم خيالية

هل صدف أن قابلت شخصاً لأول مرة ، وشعرت أن وجهه مألوف لك؟

لاريب أن كثيرين منا خضعوا لمثل هذه التجارب الفريدة في لقاء أشخاص وجوههم مألوفة كأنهم يعرفونهم منذ زمن ، وأحياناً قد يعطيهم هذا الإحساس بالألفة بعض الجرأة في التعامل معهم فيرفعون معهم الكلفة وينطلقون في أحاديثهم، كأنهم أصدقاء قدامى..

ولكن ماذا لو حلمت بأنك قابلت شخصاً لأول مرة، وجهاً تراه في حلمك وقد تعايشه في أحداث ماتجري في الحلم ، ثم تقابله بعد أيام بشحمه ولحمه ولأول مرة في حياتك؟ ماذا عن قوة الإستبصار بالحلم ، هل هي حقاً موجودة؟ وماعلاقتها بالحاسة السادسة ؟

بعض الناس يحلمون كثيراً وربما تكون أحلامهم مهرباً لهم من متاعب حياتهم اليومية ومنغصاتهم ، ولكن بعضهم أيضاً قد يلذ له أن يحلم وينقله خياله المجنّح إلى ممالك خرافية يقابل فيها أناساً ، ويلتقي بغرباء تجري معهم الحوادث المثيرة وربما المدهشة..

فالظامئ للحب في حياته ، يحلم بالحب ويقابل حبيبة مجهولة ينبض قلبه للقياها وترتسم صورتها لساعات في ذهنه بعد أن يستيقظ.. والمنشغل بالفلك تنقله أحلامه الخصبة إلى الفضاء في رحلات إلى كواكب بعيدة ، ويعيش بعضاً من الحوادث المليئة بالدهشة والخوف عبر فضاء يقطعه بسفينته الخرافية.. والسجين يحلم بالحرية والحدائق الوارفة والطيور المغردة والهواء النقي كما يحلم بالحب الذي يفتقده فتخفف عنه هذه الأحلام هول عزلته ورعبها..

كلنا نحلم ، البعض يتذكر أحلامه والبعض ينساها فور استيقاظه ، البعض يهتم بها ويستذكرها والبعض الآخر لايبالي إن حلم بمدينة فاضلة أو بسجن ذي أقبية معتمة ، ولكن ماذا عن الإستبصار بالحلم؟ هل يمكن أن يكون الحلم منفذ لرؤية أحداث مقبلة ؟

لقد أكّد العلماء وجود مثل هذا الإستبصار وسجل بعضهم أحلاماً كثيرة لأشخاص مشهورين بالإستبصار بواسطة الأحلام ، تحققت غالبيتها ..

كثيرون منا قد يملكون مثل هذه القوة ولكنهم يهملونها أو لا ينتبهون لها ، أما تفسيرها فيشبه ما يسمى بإختراق حاجز الزمن وهو موضوع يحتاج لبحث طويل.

لقد حدثت لي مثل هذه الحوادث في الإستبصار بالأحلام عدة مرات في حياتي لا أزال أذكرها جيداً، فحينما كنت في الثامنة من عمري ، حلمت أنني التقيت رجلاً كبيراً بلحية بيضاء ، أعطاني قلماً رصاصياً مذهباً ودربني على رسم الطيور وبعد أيام من ذلك دخل بيتنا ابن خالة والدي ويعيش في قطر عربي آخر ، كان رجلاً كبيراً بلحية بيضاء أعطاني قلماً مذهباً من الرصاص وحكى لي حكايات ممتعة ، وإبان إقامته معنا دربني على الرسم وكان شكله مطابقاً لشكل الرجل في الحلم..

ولعل أبرز الحوادث ماجرى معي إبان إقامتي في الهند ، ففي الخامس من كانون الثاني عام 1981 كنت أزور مدينة ( أندور ) في أواسط الهند لأول مرة ، كان الشارع الذي يسكن فيه أصدقائي مألوفاً لدي ، ربما لشبهه الغريب بأحد شوارع المدينة التي نشأت فيها ، وقد حلمت في تلك الليلة بأنني أتمشى في شارع مدينتي البعيدة ثم رأيت جمعاً غفيراً ونساء بثياب هندية ، وحين اقتربت منه رأيت داخل الحشد كهلاً بثياب خفيفة يعزف على المزمار وتتراقص حوله الأفاعي ، استيقظت مرعوباً وبقيت لدقائق أحاول أن أنسى منظر الأفاعي المخيفة وهي تتراقص على أنغام المزمار.

وفي اليوم التالي وإبان عودتنا وأصدقائي من جولة في المدينة شاهدنا عن بعد حشداً ذكرني بالحشد الذي رأيته في الحلم فقلت لأصدقائي دون أن أعي: ( إنهم يجتمعون حول رجل يجعل الأفاعي ترقص بمزماره ) نظروا لي مستغربين ثم سمعنا ونحن نقترب فعلاً صوت المزمار وكان نفس المنظر الذي رأيته في الحلم ، الكهل ذو الثياب الخفيفة وهو يعزف على المزمار والأفاعي الكريهة حوله تتراقص.

وقبل نهاية زيارتي لأندور حلمت أنني التقيت في محطة القطار في مدينة بوبال التي تبعد عن أندور نحو خمس ساعات في السيارة صبية وأخاها ، كانت جميلة الوجه بسمرة خفيفة ترتدي بنطلوناً أخضر ، بينما كان أخوها يضع على عينيه نظارات سميكة وقد شربنا الشاي بالحليب ونحن ننتظر القطار..

وحين صحوت في اليوم التالي ظلت صور الحلم تلحّ عليّ لعدة ساعات في النهار وأنا أجهز نفسي للرحيل ، حيث انطلقت نحو بوبال في نحو السادسة بسيارة أجرة وقد همست لأحد أصدقائي: ( لن أنسى هذه الأيام التي عشتها هنا ) وكنت أتذكر حلمي بالرجل الكهل وهو يعزف على مزماره وحوله الثعابين المتراقصة.

وقد نما عندي إحساس خاص بأنني سألتقي بالفتاة التي رأيتها في الحلم ولست أدري مادفعني لأفكر بهذا الاتجاه؟.. إلا أنني بعد ساعات نسيت الحلم الذي كنت أسترجعه وانشغلت بعد وصولي لبوبال، وهي نفس المدينة التي حدثت فيها كارثة تسرب الغازات السامة من مصنع كيماوي واهلكت وشوهت عدداً كبيراً من الضحايا.

كانت الساعة تقارب الحادية عشرة والنصف وموعد وصول القطار المتجه إلى اغرا المدينة التي أقصدها هو بعد نصف ساعة ولم تكن المسافة بين الكراج والمحطة قصيرة ، أبلغني موظف الإستعلامات عند وصولي بأن القطار المتجه لأغرا سيتأخر حتى الواحدة والنصف ، وكانت قاعات المحطة تغص بالمسافرين الذين افترشوا الأرض ولذلك انزويت على أحد أرصفة المحطة أقرأ كتاباً منتظراً وصول القطار المتأخر.
بعد نحو ساعة انتبهت على خطوات مختلطة تقترب مني، والرصيف الذي أجلس على أحد مقاعده شبه خال من الركاب ، وما أن رفعت رأسي أرمق بفضول القادمين حتى فوجئت بالوجه الأسمر الجميل لفتاة ترتدي البنطلون الأخضر وإلى جانبها رجل يضع عوينات سميكة ويحمل حقيبة ضخمة..

احسست بقلبي يكاد ينخلع من صدري ولم أع كيف بادرت لتحيتهما وقد فوجئا بي ، ولما رأيا سحنتي الغريبة التي تدل أنني لست من أهل البلاد، ابتسم الشاب في وجهي فدعوتهما للجلوس على المقعد الخشبي قربي..

وكما في الحلم تماماً شربنا الشاي معاً وقد امتدت صداقتي لراكيش- وهو اسم الشاب- طوال مدة إقامتي في الهند ، أما أخته الشابة فبعد أقل من عام من لقائنا ذاك أصابها المرض وتوفيت وألقيت عليها وهي فوق المحرقة النظرة الأخيرة في مدينة ( بنارس ) على ضفاف نهر الغانج.. وأنا أشعر بحزن لا يوصف..

حتى الآن لاتزال تلك الأحداث تعيش في الذاكرة بكل تفاصيلها ، ألم يكن ما رأيته فعلاً نوعاً من الإستبصار بالمستقبل عن طريق الحلم؟ وهل يمكن أن نفسر ذلك بإختراق حاجز الزمن؟

تاريخ النشر : 2019-08-27

guest
30 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى