كشكول

التجارة الالكترونية وفن بيع الوهم

بقلم : اياد العطار

أنهى عادل دراسته الجامعية منذ عامان ، أحلامه العريضة سرعان ما اصطدمت بواقع مر حيث لا تعيينات ولا وظائف ، فالبلد برمته يعيش أزمة اقتصادية. وباستثناء بعض الوظائف المؤقتة لم يجد عادل ما يرضي طموحاته ، ومازال بعد 3 أعوام من التخرج يأخذ مصروفه من والده ، وهو أمر يشق عليه كثيرا ويجعله يعيش في دوامة كبيرة من التعاسة والإحباط، إذ بدلا من أن يكون عونا وسندا لعائلته أصبح هو عالة عليهم ، وبالتدريج تحول الأمر لديه إلى كآبة ، فأنعزل في حجرته مهملا نفسه ولم يعد راغبا بالتواصل مع أي أحد.

ذات ليلة بينما عادل مستلقي على سريره يتصفح النت على جواله كعادته ، لمجرد قتل الوقت ، لمح إعلانا كبيرا براقا على أحد المواقع :

“الفوركس : تداول العملات الآن من منزلك وأربح آلاف الدولارات!”.

أنجذب عادل بسرعة لهذا الإعلان وظن إن طاقة القدر قد فتحت له على مصراعيها، فبدأ بحثا محموما عن هذا الشيء الغامض المسمى : فوركس ، أو سوق تداول العملات الأجنبية ، حيث يضارب ملايين الناس والشركات والبنوك وحتى الدول بأموالهم على أمل الحصول على أرباح سريعة.

الأمر بسيط جدا ، بعملية حسابية بسيطة ، لو اشتريت 10000 دولار مقابل اليورو بـ 97 سنت ، وأرتفع السعر لاحقا إلى 99 سنت فتكون قد ربحت 200 دولار بلمح البصر! علما أن هذا الهبوط والارتفاع في السعر روتيني ويحدث يوميا على مدار الساعة. بالطبع عادل لا يمتلك 10000 دولار.. لكن هذه ليست بمشكلة! فشركات المضاربة ستقوم بتمويله بالمبلغ ، كل ما عليه فعله هو فتح حساب بمبلغ بسيط ، هناك شركات تقبل حتى بـ  100 دولار ، وستتاح له فرصة المضاربة فورا بآلاف الدولارات!!.

أشترك عادل في إحدى الشركات بحساب مجاني من أجل التعلم، وبدأ يقرأ بنهم عن الشموع اليابانية والمؤشرات والترند والتحليل الأساسي لأزواج العملات وبعض المفاهيم الاقتصادية عن السوق الخ حتى ظن نفسه أصبح ضليعا في المتاجرة خصوصا وقد حقق بعض الصفقات الوهمية الناجحة عبر منصة المضاربة التدريبية.

كبرت المسألة في عقل عادل ، وقرر أنه أصبح جاهزا للتحول إلى المضاربة الحقيقية ، فاستدان مبلغ 200 دولار من والده الكادح على أمل أن يعيدها له آلافا خلال أيام معدودات ، وبلمح البصر بدأ صفقته الحقيقية الأولى ، وفيما هو يراقب السعر يتأرجح هبوطا وصعودا سرح بخياله بعيدا وداعبت الأحلام الوردية أعصابه المفعمة بالأمل ، فرأى نفسه في مرآة الخيال وقد غدا مليونيرا أنيقا يشار إليه بالبنان والاحترام ، يعيش في فيلا فاخرة ويمتلك جميع وسائل الرفاهية والسعادة ، لا بل بدأ يفكر في كيف سيساعد ويوزع الأموال والهبات والسعادة على عائلته وأصدقائه .. سأجعل أبي يتقاعد عن العمل ويرتاح ، وسأرسل أمي إلى الحج ، سأشتري ذهبا وسيارات وشققا لأشقائي وشقيقاتي ، صديقي أحمد سأعينه مدير مكتبي وانتشله من الفقر والحرمان وووو …

وفيما هو غارق بأحلامه إذ بصوت مزعج كالجرس ينطلق عن منصة المضاربة الالكترونية ليخرجه من عالم الأحلام ويعيده إلى الواقع المر فيصطدم بإنذار توقف الصفقة وخسارة كل أمواله خلال دقائق معدودة .. فالسعر لم يرتفع كما توقع، بل هبط ، وطبعا شركة المضاربة ستوقف صفقة عادل فورا متى ما بلغت الخسارة 200 دولار ، أي مجموع رأس ماله ، فهي لن تدفع له من جيبها ، وهكذا طارت جميع أحلام عادل وتبخرت بسرعة البرق وعاد مفلسا من جديد .. لا بل ومدينا لوالده بمائتي دولار.

قصة عادل ليست من وحي الخيال ، بل هي واقع ذهب ضحيته ملايين الرجال والنساء حول العالم على أمل تحقيق الغنى السريع وبشكل مريح من داخل منازلهم ، في الحقيقة النت مليء بهذه الوعود المغرية من قبيل :

– أفتح موقعا الكترونيا وأربح الآلاف عن طريق الإعلانات.

– أفتح قناة يوتيوب وحقق ربحا سريعا أيضا عن طريق الإعلانات.

– افتح صفحة تواصل اجتماعي وحقق الشهرة واكسب المال.

– أشترك في موقع لتقديم الخدمات الالكترونية المصغرة وحقق دخلا ثابتا.

– تعلم البرمجة وقم بتطوير ألعاب وتطبيقات موبايل وحقق ملايين الدولارات.

– قم بالترويج لشركات أو منتجات معينة وحقق مكسبا كبيرا.

– أستثمر أموالك في شركة مضاربة وحقق أرباحا مضاعفة خلال شهر.

– أربح المال من خلال تصفح بعض المواقع أو المشاركة في بعض الاستبيانات.

– أربح المال سريعا عن طريق الاستثمار والمضاربة في سوق النفط او الذهب او الأسهم.

… الخ من الهراء الذي يملأ صفحات الانترنت ..

لكن لماذا هراء؟ .. أليس هناك أناس بالفعل يكسبون دخلا محترما عن طريق الانترنت.

نعم بالتأكيد ، لكن لا يوجد شيء أسمه ربح سريع ودخل ثابت وأنت جالس مرتاح في منزلك تكاد لا تفعل شيء، لكي تنجح على النت يجب أن تكون متفوقا ومتميزا ، لا بل عبقريا في مجال معين، لأن المنافسة شديدة في جميع المجالات ، يجب أن تكون بارعا جدا في البرمجة أو التصميم أو المونتاج أو التسويق والتجارة الالكترونية أو الكتابة الخ .. لديك أسلوب محبب وبراعة خاصة في جذب الآخرين وإقناعهم ، لغة انجليزية جيدة ، معلومات عامة لا بأس بها ، والأهم أن تكون صبورا .. فالنجاح يتطلب وقتا طويلا – ربما سنوات – وعملا مثابرا أشبه بالقتال.

لهذا السبب معظم الناس فاشلون الكترونيا ، وهذا النت أمامكم يغص بملايين المواقع والقنوات والتطبيقات والصفحات المليئة بالفشل وخيبات الأمل ، ذلك أنه لا يوجد نجاح من دون تعب وجد ومثابرة وتفكير وسهر الليالي ، تماما كما في الحياة الواقعية حيث أن السماء لا تمطر ذهبا ولا ينزل رزقك بزنبيل ما لم تسعى أنت إليه بالكد والتعب.

ومعظم من يروجون للثراء السريع على النت هم فئتين ، الأولى الفاشلون أنفسهم!، الذي حاولوا تطبيق ما يروجون إليه وفشلوا ، لأنهم لو كانوا ناجحين فعلا في أعمالهم فلن يهدروا الوقت طبعا ، لا بل لن يجدوا الوقت ، لعمل مواقع وقنوات وكتابة مقالات ومونتاج مقاطع مصورة لكي يرشدوا الآخرين إلى دروب السعادة والغنى! .. لا بل من المعروف أن الناجحين والمتميزين في أي عمل يحالون جاهدين أخفاء أسرار نجاحهم لتجنب المنافسة .. وربما الحسد.

وهناك فئة أو فرقة ثانية أشد خطرا هم المحتالون ، أولئك الذين يحاولون الظهور بمظهر الساعي لخير الآخرين بلا مقابل عن طريق نصائح وإرشادات تقودهم مباشرة إلى الثراء أو تحقيق دخل معقول يكفيهم عناء العمل خارج المنزل. هؤلاء للأسف غرضهم الوحيد هو الحصول على عمولة عن طريق وضع روابط أو أرقام هواتف يأخذونها من شركات معينة تعطي نسبة ربح عن كل شخص يتم الإيقاع به في مصيدة الأوهام.

طيب طبقا لهذا الكلام فالتجارة الالكترونية برمتها مجرد وهم ونصب وأحتيال؟!

لا طبعا ، النت مليء بالفرص ، لكن لمن لديه مؤهلات النجاح ، من لديه استعداد وإمكانية وخبرة وذكاء وصبر .. هناك مواقع وقنوات وشركات وتطبيقات ناجحة ، وهناك مدراء صفحات وتطبيقات تواصل اجتماعي أصبحوا نجوما ويكسبون آلافا وملايين من خلال الترويج لسلع معينة .. لكن أسألوا أصحاب هذه الأعمال كم من الوقت والجهد أنفقوه – ومازالوا ينفقوه – حتى وصلوا للنجاح. كم من الوقت ، والمال أيضا ، يتطلبه التخطيط والتعلم لإنشاء مشروع ناجح على النت؟ .. حتما وقت طويل وجهد جهيد وأحيانا حتى بعد النجاح وبعد كل الكد والتعب قد تجد أن ما تحققه من دخل لا يتناسب مع ما تنفقه من وقت وجهد.

خلاصة القول والغرض من مقالي هذا أن الثراء السريع عبر الانترنت مجرد كذبة وسراب سرعان ما يتبدد عند الممارسة الحقيقية فاحذروا أن تقعوا في مصيدة الأوهام وأعلموا أنه لا يوجد نجاح سواء في عالم الواقع أو الافتراض إلا بالجهد والمثابرة والتعب والصبر.

هذا المقال كتبته من خلال تجربتي المتواضعة في مجال التجارة الالكترونية ولا أزعم أني خبير ، لذلك أكون سعيدا بسماع آرائكم وتجاربكم : هل حققتم ربحا يوما عبر النت ، هل مررتم بقصص نجاح أو فشل حقيقية ، هل لديكم طموحات أو مشاريع في هذا المجال؟

guest
37 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى