أدب الرعب والعام

الخوف

بقلم : Shebsut Omar – Egypt
للتواصل : [email protected]

الخوف
وقد ألتفت أنشوطة على رقبة ذلك الجسد المتدلي

 كان دائماً ما يجلس على ذلك المقهى الصغير في الحارة الخلفية الملاصقة لمكان عمله ، وكثيراً ما كان يأخذ وقت استراحته ليسرق بعد أنفاس الشيشة مع كوب الشاي الذي كان يعده صبي المقهى خصيصاً له كلما رآه قادماً من على مدخل الزقاق ، كان أحد الزبائن المميزين لما يتركه ورائه من بقشيش محترم ، المقهى لم يكن يميزه شيء سوى ذلك البيت المتهالك الرابض أمام المقهى تماماً ، كان دائماً ما يتأمله ويتخيل الحكايات والأسرار خلف شبابيكه القاتمة المعتمة بفعل الأتربة وزيت قلي الباذنجان من عربة الفول تحتها.

كان دائماً ما يراقب تلك الشبابيك وكم من مرة تهيأ له أنه يرى خيالات لأشخاص خلف ستائرها المهترئة ، ولكن أبداً لم يلمح أي شخص يدخل أو يخرج من مدخل البيت كما لم يرى أبداً أي شخص يطل من شبابيكه.

بطبعه لم يكن شخص اجتماعي أو فضولي، هو في منتصف الثلاثينات يعيش وحيداً في شقته القديمة التي ورثها عن أبيه من بعد وفاة والديه ولم يكن له أي أخوة أو أخوات أو أقارب ، فعاش وحيداً يملأ وقت فراغه بين جلوسه على القهوة أو تصفح أحد تلك الكتب التي تملأ مكتبته حيث أنه كان يعشق القراءة ويفضلها على مصاحبة البشر، كان يجد في القراءة متعته الوحيدة إلى جانب جلوسه على القهوة يتأمل ذلك البيت ، حتى جاء ذلك اليوم الذي رأى فيه تلك الفتاة تطل من أحد شبابيك البيت وهو جالس سارح في تخيلاته

كانت ذات ملامح هادئة وعيون واسعة بنية اللون حزينة النظرة ، تلاقت نظراته الفضولية مع تلك العيون الواسعة الحزينة ولثواني تهيأ له شبح ابتسامة على محيا الفتاة وسرعان ما تلاشت وراء ستارة الشباك المهترئة داخل البيت ، تمنى لو أنها بقيت لبعض الدقائق فقط ليتأملها جيدا، لقد أُخذ بنظرتها وابتسامتها.

عندما عاد إلى منزله كان ما زال يفكر في تلك الفتاة ويحاول أن يتخيل تفاصيل يومها وما تفعله خلف تلك الجدران التي زال عنها طلائها ويتخيل قوامها وحتى مشيتها ، تخيل نفسه جالساً هناك في صالة بيتها يتبادل معها النظرات المتأملة ويحكي لها تفاصيل عاداته وأيامه وأحلامه ، بدون أي كلمة تنطق ، فقط كلمات تتناقلها نظراتهم المتريثة المتأملة.

كان متلهفاً في اليوم التالي ليذهب إلى مكانه في المقهى وينتظرها لتطل عليه بوجهها الهادئ ونظراتها الحزينة ، ظل نظره متعلقاً بذلك الشباك الذي أطلت منه المرة السابقة ، ظل منتظراً لا يشيح بوجهه ، مر عليه وقت لم يحسبه ، حتى أطلت وتلاقت نظراتهما وأحس أنها أطالت في وقفتها ونظراتها هذه المرة أحس أن سحراً ما يربطه بعينيها ، لم يستطع أن يشيح بنظره عنها ، ظل مأخوذاً كالمسحور حتى منحته تلك الابتسامة الخفيفة ولكنها ملحوظة هذه المرة ، نعم كانت تبتسم له إذاً هو لم يكن يحلم أو يتخيل، أنها تبتسم له وربما أيضاً تعلم مواعيد تردده على القهوة وتطل عليه خصيصاً ليتبادلا هذه اللحظات المسروقة من عمره الخالي من أي أحداث جديرة بالذكر.

ظل يومياً يجلس جلسته المعهودة شاخصاً بصره مسمراً نظراته على ذاك الشباك حتى تطل هي منه ثم تختفي ويرحل هو إلى جدران منزله الباردة التي لا يدفئه بينها إلا ذكرى شبح ابتسامتها ونظراتها الحزينة ، مرت عليه أسابيع وهو على هذه الحال حتى في أيام أجازته.

حتى جاء ذلك اليوم الذي جلس فيه جلسته المعهودة على المقهى شاخصاً بصره مسمراً عينيه على ذاك الشباك ولكنها لم تظهر، ظل كذلك ولم يشعر بالوقت حتى بدأ الظلام يخيم وهو لا يشعر بالوقت الذي مر عليه وهو في حالة الانتظار تلك ، حتى أحس بنظرات صبي القهوة المستغربة المتسائلة، فلملم نظراته ونهض مسرعاً قبل أن يترك له فرصة للسؤال ، فهو لا يريد أن يثير الشكوك حوله خاصةً أن معظم الحواري لا زالت تحتفظ بتقاليدها القديمة المحافظة ضد أي غريب و دخيل يحاول أن يستلب نظرات حريمها دون استئذان.

عاد إلى منزله متسائلاً وأحس بالضياع وكأنه كان على موعد لم يتم مع حبيبته، أحس بالفراغ والضياع واستغرب ذلك الشعور و هو الذي لم يدق قلبه بالحب ولا حتى بالإعجاب تجاه أي فتاة من قبل ! ، كيف استلبته تلك الفتاة عقله وتفكيره بهذا الشكل فقط بنظراتها الصامتة التي لا تعده فيها بأي شيء ، ولكن ابتسامتها التي تتراقص على طرف شفتيها التي تمنحها له هو فقط ، تلك الابتسامة تعده بالكثير من الدفء.

عاد في اليوم التالي إلى المقهى متلهفاً ، ولكن متحفظاً هذه المرة حتى لا يمسك به أحدهم بالجرم المشهود مسترقاً النظر إلى شبابيك حريم الحارة ، ومر اليوم ولم تظهر أيضاً ، بدأ يشعر بالقلق ، هل أمسك بها أحد أهل البيت وهي تسترق النظر إليه؟ ربما أحد أخوتها؟ حسناً سوف يكون أكثر حذراً الآن هو لا يريد المشاكل له أو لها ، لن يتحمل أن يمسسها أحد بسوء وبسببه هو.

طالت فترات جلوسه في المقهى حتى أنقطع عن الذهاب إلى عمله ، علها غيرت مواعيد خروجها إلى الشباك لوقت أبكر، ولكن لا شيء ، هي لا تظهر ولا يوجد أي دليل عنها خلف تلك الجدران ، حتى قرر أن يكتشف السبب بنفسه.

في اليوم التالي أتخذ مجلسه المعتاد في القهوة، حتى خفت القدم على الحارة وتبقى على القهوة زبائن قلائل وانشغل صبي القهوة في بعض أعمال التنظيف، فنهض من مكانه بخفة وانسل إلى مدخل البيت بدون أن يلاحظه أحد.

حين تخطى مدخل العمارة لم يقابله سوى ظلام معتم وكأن أشعة الشمس ترفض أن تدق أبواب البيت ، لمح السلالم المتهالكة التي تقود إلى الدور الذي تطل منه الفتاة ، صعد السلالم في حذر حتى لا تنهار تحت أقدامه ، حتى وصل إلى باب البيت الذي لم يكن هناك غيره في الدور ، طرق الباب بخفة وهدوء، وبدأت دقات قلبه في التصاعد فامسك بصدره يحاول أن يهدئ من روعه وقرر أن يتعلل بأي حجة إذا ما خرج إليه أي أحد من رجال المنزل ، لم يرد أحد على طرقاته الخفيفة ، فطرق بشكل أقوى فانفتح الباب تحت ثقل طرقاته ، تعجب من ذلك ودلف إلى داخل البيت

 كان البيت مؤثث بشكل بسيط ونظيف ، ووجد الأثاث القليل الموجود مغطى بملاءات بيضاء، ووجد صورة كبيرة على الجدار لعائلة مكونة من رجل وامرأة وفتاة جميلة هادئة ذات عيون حزينة ، أنها فتاته بكل تفاصيلها الرقيقة ، أقترب أكثر فابتسمت له فجأة فأجفل ورجع بخطواته إلى الوراء في حركة مفاجئة فاصطدمت قدمه بطاولة صغيرة لم يعلم بوجودها فوقع على ظهره

حين هم بالنهوض في ألم نظر أمامه فوجدها واقفة أمام عينيه مباشرة ، كاد أن يصرخ بذعر ثم تذكر سبب وجوده في هذا المكان، أنه هنا من أجلها، وها هي أمامه مباشرة، واقفة بعينيها الواسعة الحزينة وابتسامتها الخفيفة، وقف سريعاً وهو يتمتم بسيل من كلمات الاعتذار عن سبب دخوله بغير استئذان ، ثم تفاجأ بها تبتسم له ابتسامة واسعة وتتركه لتدخل إلى غرفة وعند بابها نظرت إليه وكأنها تنتظر منه أن يتبعها ، كانت دهشته عظيمة ولكنها لم تطل ، فأسرع خلفها كالمسحور إلى داخل الغرفة ، هناك وجدها جالسه تنظر إليه ولكن تلك المرة نظرات كلها لهفة ورغبة ، لم يشعر بنفسه إلا وهو في أحضانها يروي ظمأه لتلك اللحظة التي لطالما حلم بها وتخيلها في منزله وحيداً.

ظل يقبل وجهها ويحضنها بين ذراعيه وكأنه يخشى عليها أن تختفي مرة أخرى ، حتى سمع صوت خطوات خارج الغرفة ، ثم تفاجأ بها تتملص منه في ذعر وتقف بعيداً مرتعشة خائفة في جانب الغرفة وعينيها مسمرة على الباب ، فنظر خلفه وإذ بباب الغرفة ينفتح بقوة ويدخل رجل ضخم الجثة غليظ الملامح ، ولكنه لم يكن ذات الرجل في الصورة المعلقة على الجدار، قام مسرعاً متخبطاً مذعوراً بينما تخطاه الرجل وكأنما لم يره وانقض على الفتاة المذعورة في ركن الغرفة، لم يشعر بنفسه إلا وهو يجري إلى خارج البيت في ذعر قبل أن ينفضح أمره ويلحقه الرجل.

حين وصل إلى الشارع وجد نفسه واقفاً يرتجف أمام القهوة ، لم يلاحظه أحد يخرج من باب البيت وبالتالي لم يعره أي أحد الاهتمام وهو واقفاً هناك يفكر في العودة وإنقاذ الفتاة أم الهروب وإنقاذ سمعته، فقرر أن يجلس على القهوة في ركن بعيد عن البيت فإذا صادف وقرر هذا الضخم أن يخرج له ولى الفرار ولن يعود إلى هنا مرة أخرى.

جلس وهو يشعر أن كل من في الشارع يسمع صوت دقات قلبه الذي كاد أن يقفز من بين أضلعه، مرت دقائق ولم يحدث شيء، أحس بهدوء أنفاسه وانتظامها، لم يسمع أي صوت آت من داخل البيت ولم يرى أي إشارة على أحداث العنف التي كانت في سبيلها إلى الوقوع ، ظل جالساً يفكر في العودة، أو على الأقل استراق السمع من خلف الباب ، ربما استطاعت الفتاة أن تقنع أخيها أو أياً كان ذلك الوحش بأن لا شيء حدث.

قرر أخيرا أن يصعد متسللاً مرة أخرى ، وصل أمام الباب ودقات قلبه تتصاعد مرة أخرى ، دخل متلهفاً ومتردداً في الوقت ذاته ، كان البيت خالياً وعلى حالته كما رآه أول مرة ، اتجه إلى الغرفة التي شهدت هروبه أول مرة ، أقترب ودفع الباب بحرص ، وهاله ما رآه ، كانت هي واقفة ووجهها مواجه للحائط في ركن الغرفة تماماً كما تركها أخرة مرة، التفتت ونظرت إليه ، وابتسمت وكان الدم يسيل من رقبتها على ملابسها ملوثاً ملاءات السرير مكوناً بركة من الدماء على الأرض حولها

 هاله هذا المشهد أنها تقف أمامه منحورة وتقريباً و قد نزفت كل دمها ، اقترب منها ولكنه ما أن وصل إليها فجأة وجد نفس الرجل الضخم يظهر من خلفها وفي يده سكين وضعه على رقبتها وبدأ في نحر رقبتها وجز رأسها ببطء وهو يضحك بجنون وهي مازالت بنفس النظرات الحزينة والابتسامة على طرف شفتيها ، لم تصرخ ولم تمت أيضاً

كان هو واقفاً يشاهد ما يحدث وكأنه في حلم ولا يستطيع منه فكاك ولا حراك ، فجأة تحرك كلاً من الفتاة والرجل الغليظ نحوه ..

في هذه اللحظات على القهوة كان هذا الحديث يدور بين صبي القهوة وأحد الزبائن حين سأل الزبون : لقد رأيت بنفسي ذلك الرجل يخرج من ذلك البيت المهجور ثم يجلس هنا جانبي ثم صعد إلى هناك مرة أخرة كالمأخوذ ، فضحك صبي القهوة و قال : لا تشغل بالك ، نحن جميعاً نعرفه هنا ، له حكاية قديمة مع هذا البيت ..

هو من سكان المنطقة وكان على علاقة حب بفتاة كانت تسكن في ذلك البيت ، وكثيراً ما كان يتردد عليها حتى بدأت حكايتهم تنتشر بين سكان الحارة وعرف بلطجي المنطقة بتلك العلاقة وكان يسعى للزواج منها للفوز بها وبالبيت أيضاً ، حيث كانت تسكن وحدها بعد وفاة والديها ، وظل يراقب البيت ويراقبها حتى رآه وهو صاعد  إليها تحت جنح الظلام ، فانتظر قليلاً ثم اتبعه إلى فوق وكسر باب البيت ودخل فوجدهم في وضع حميمي بغرفتها فجرى كالمجنون إلى المطبخ واستل سكيناً وقام بنحرها حتى فصل رأسها عن جسدها كل ذلك أمام العاشق المسكين الذي شلته المفاجأة ولم يستطع الحراك أو حتى الدفاع عنها ولم يفق إلا وقد رمى البلطجي برأسها في حجره وكان يهم بقتله أيضاً ولم ينقذه سوى أن سمع بعض أهل الحارة ورواد القهوة صوت الصراخ فصعدوا سريعاً وقبضوا على البلطجي وتم إعدامه

وقد سمعنا أن العاشق قد أصابته لوثة عقلية منذ تلك اللحظة ودخل مصحة نفسية للعلاج في حين أن البيت ظل قابعاً هنا و لا يستطيع أحد الاقتراب منه حيث تدور حوله الكثير من الخرافات عن كونه مسكون وأن كثيراً ممن حاولوا الصعود إليه واستكشافه شاهدوا الفتاة المقتولة وهي تطل من خلف باب غرفتها وتنظر اليهم وتبتسم وكأنها تدعوهم للدخول وحاول الكثيرون دخول تلك الغرفة التي تمت فيها جريمة القتل ولكن لم يستطع أحد فتحها

 ومنذ حوالي سنة ظهر العاشق مرة أخرى وكان قد مر على تلك الحادثة أكثر من سنة وظل يتردد على القهوة ويجلس عليها بالساعات شاخصاً بصره إلى بيت حبيبته المقتولة حتى قرر الصعود اليوم ، أغلب الظن أنه قد أشتاق إليها أو قد يكون شاعر بالذنب لأنه كان السبب في قتلها بهذا الشكل ولم يحرك ساكناً .

في أثناء هذا الحديث وفي الدور الأول من البيت وفي نفس الغرفة التي حدثت بها جريمة قتل بشعة كانت هناك ملاءة تم عقدها في حلقة معدنية بالسقف وفي أخرها أنشوطة وقد التفت على رقبة ذلك الجسد المتدلي لرجل في منتصف الثلاثينات وقد جحظت عيناه وأمامه تقف فتاة ذات عيون حزينة وابتسامة خفيفة على طرف شفتيها تمد له يدها، ثم اختفت.

تاريخ النشر : 2018-05-20

guest
17 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى