أدب الرعب والعام

الدكتور روبن هود

بقلم : أحمد العراقي – العراق
للتواصل : [email protected]

أخرجت مسدسي وصوبت على جبهته لأخر مرة
أخرجت مسدسي وصوبت على جبهته لأخر مرة

 
“الغول ، دكتور روبين هود ، هانيبال الطيب”.

ألقاب كثيرة لرجل واحد ، لا أحد يعرف أسمه و لا شكله ، للبعض هو الكابوس الذي يؤرق لياليهم و أيامهم ، بالنسبة لأخرين فهو البطل المنقذ ، رجال الشرطة يرونه القاتل المتسلسل الذي أرهقهم لعشرة سنوات ، أما بالنسبة لي : فهو طبق الانتقام الذي برد وحان موعد تقدمه.
هو قاتل متسلسل ، بدء منذ حادثة مشفى المنصور المشهورة ، وفشلت كل المحاولات في القبض عليه ، يبدو كشبح لا تستطيع الإمساك به ، يقتل ضحاياه ثم يستخلص أعضائهم و يرسلها إلى المستشفيات أو أهالي المرضى الذين يحتاجون إلى عمليات زراعة أعضاء ، بينما
يرجع الجثة أو ما تبقى منها مشوهة إلى أصحابها ، أو يتركها في الشوارع أو على أبواب المساجد والكنائس.
 
كل ضحاياه من المصابين بأمراض عقلية أو اللصوص والقتلة الذين افلتوا من العقاب ، بل في الأونة الأخيرة استطاع اختطاف وقتل رجل سياسي مهم كان متهماً في فضائح سرقة واختلاس.
 
طريقة عمله توضح أنه طبيب بارع ، وتطور أساليبه في القتل ، حيث بدأ بطرق متوحشة كالسحق والذبح  و أنتهى الأن باستعمال سم
خاص يحافظ على أعضاء ضحاياه سليمة قدر المستطاع.
 
الليلة مظلمة ، ممطرة ، باردة ، الجو شاعري و مناسب لإنهاء لعبة القط والفأر التي دامت عشر سنوات ، يبدو أنني اقتربت منه كثيراً.
لدرجة أنه قرر الاتصال بي ، واتفقنا على موعد لإنهاء القصة مرة واحدة و إلى الأبد.
 
إنه فخ ، أعلم ذلك علم اليقين ، ولكنني اقتربت جداً كي أتركه يفلت مني مرة أخرى ، انتهت 60 سنة من حياتي بالفعل ، لا أضمن أن أعيش ما
يكفي لأراه خلف القضبان ، يجب أن أحقق العدالة بيدي هذه المرة.
 
وصلت أخيراً إلى المنزل الموعود ، منزل جدير بأفلام الرعب ، قصر ضخم يذكرك بقصور دراكيولا ، في منطقة معزولة ، المكان مناسب
لتصفية الحسابات.
 
أتحسس مسدسي تحت المعطف ، بينما أنزل من سيارتي التي ركنتها أمام الباب ، فُتح الباب لي قبل أن اطرقه ، لم أرى أحداً خلفه.
 
إنه فخ ، أرى ذلك و أسمعه و أشمه ، لا يمكن أن يكون هذا السيناريو إلا فخاً نُصب للتخلص مني. لا بأس ، هذا الغول يظن أنه سينال مني بسهولة ، قد أكون ضابطاً متقاعداً ، لكنني ما زلت محققاً وفي كامل لياقتي ، خبرتي في التعامل مع هذه المواقف تفوق أي فخ يمكن أن يكون قد نصب لي.

ممسكاً بمسدسي وبأقصى درجات الحذر أتسلل إلى المنزل ، أسمع صوت موسيقى كلاسيكية قادمة من مكان ما داخل البيت.
كاميرات المراقبة في كل مكان ، المنزل مظلم ، وكل الأبواب مغلقة ما عدا باباً واحداً يقود إلى غرفة لا تزال مضيئة ، الموسيقى تنبعث من هناك.
من تلك الغرفة ، ينبعث صوت بكاء و صراخ طفل ، وأصوات معدنية  سكاكين و أدوات حادة تدق ببعضها ، لا بد أن هذا الطفل هو أخر من المفقودين.
اقتربت بهدوء حتى أصبحت عند الباب ثم ركلته واقتحمت الغرفة شاهراً مسدسي ، وعندها أخيراً رأيته.

رأيت الوجه الذي ظللت ألاحقه لعشر سنوات ، رأيت الوجه الذي أرهق منامي و أحتل كوابيسي لعشر سنوات ، رأيت الوجه الذي خدع رجال الشرطة حتى أعتقد الناس أنه شبح أو أسطورة ، رجل أشيب ، قصير ، في الستينات من عمره ، وسيم ، يلبس معطفا أبيض ونظارة طبية ، بينما يمسك بإبرة في يده اليسرى.

في الغرفة نفسها كانت هناك طاولة معدنية مقيد عليها طفل يبدو في العاشرة من عمره ، جسمه مربوط بأجهزة قياس نبضات القلب جراحية ، وأنابيب كبيرة وأدوات طبية لا أعرف دورها.
 
“توقف، إياك أن تتحرك ! ” صرخت في وجهه بينما المسدس مصوب على رأسه ، “إذن ، أنت المحقق الذي كنث تريد لقائي ؟ أكمل بصوت هادئ بينما يخلط مكونات الإبرة بأصبعه الأمن متجاهلاً المسدس المصوب.
” أتحتاج نظارة أحسن ؟ لا تنحرك وإلا أطلقت عليك”.
 
” أهدأ ، أنه مجرد منوم ، الطفل سيزعجنا لو تركته يبكي هكذا ، ألا تريد أن أخبرك ما لذي حصل لأبنك قبل عشر سنوات ؟ ” قالها دون أن
يتوقف عن الحركة مقترباً من الطفل المقيد على طاولة معدنية وهو يتلوى ويصيح.
 
ثقته بنفسه وعدم اعتداده بالمسدس ،  ورغبتي في معرفة خبره فاقت قدرتي على الإطلاق ، قررت أن أنتظر لأرى ماذا سيفعل.
 
حقن الطفل بالسائل إياه ، ولم تمضي ثوان حتى استكان الطفل و سكت ، استمرت نبضات قلبه طبيعية مما جعلني أهدأ و أعيد نظري اليه مرة أخرى.
 
“أنت المحقق (عمر الساعدي) ، الرجل الذي جعلني أغير المدينة خمس مرات ، تهانينا ، أمسكتني أخيراً.”
 
“لم أتصل برجال الشرطة ، كما اتفقنا ، أتيت وحدي ، أخبرني بقصتك ثم أحكم عليك كما أشاء”.
“أعلم ذلك”.
قالها بثقة مجدداً بينما ينظر في عيني ، عيينه ميتة لا حياة فيها ، هذه عينا رجل يتشارك مع الموت وجبة عشاء يومياً.
 
“أسمح لي أن أعرفك بنفسي أولاً ، أنا (جمال توفيق )، طبيب جراح سابقاً ، اختصاص جراحة القلب. من أهل هذه المدينة ، اضطررت أن
أتركها بسببك منذ سبع سنوات ، وتنقلت في أرجاء البلاد حتى الشهر الماضي ، حيث قررت الرجوع إلى هنا، أتعلم لماذا ؟ “.
 
“لأنها الذكرى السنوية العاشرة لأول جرائمك “.
 
“بالفعل”.
 
قالها دون أن يطرف عينه ، توقعت على الأقل أن يدعي أنها ليست جريمة ، تعاملت مع الكثيرين من أمثاله ، يدعون أن ما يقومون به أعمال بطولية أو لأن كائناً فضائياً أمرهم بها أو لأن اليوم ثلاثاء… لكن اعترافه بجريمته لا يحسن صورته أطلاقاً أمامي.
 
“الموسيقى ، هل تعجبك ؟ “.
 
“هه ؟”.
 
” أتعلم أن كثيراً من الجراحين يفضل الاستماع إلى الموسيقى أثناء العملية الجراحية ، تساعدنا على الاسترخاء ، هذه المقطوعة هي
 Clair de lune، مقطوعتي المفضلة ، مناسبة للنهاية “.
 
” اذاً قررت أن تكشف نفسك فجأة ؟ لماذا رجعت إلى مدينتك ؟ وماذا دعوتني أنا بالذات ؟ “.
 
“ستعلم كل شيء قريباً ” قالها ثم سكت ، وساد الصمت الغرفة لبرهة.
 
مد يده إلى معطفه الأبيض فصرخت به ” إياك أن تقوم بأي حركة مريبة ! أبق يديك حيث أستطيع رؤيتهما !”.
“اهدأً، اهدأ، إنها مجرد سيجارة”  قالها وهو يخرج يديه بهدوء من جيب معطفه وهو بمسك بعلبة سجائر ، قدم إحداها لي ، فتجاهلته.
 
أشعل السجارة ثم أكمل ” قبل عشر سنوات ، كان أبني على شفا الموت ، يرقد في المستشفى التي أعمل فيها ، لقد وُلد بعيب خلقي في القلب وكان يحتاج لزراعة عاجلة ، وكما يمكنك أن تتوقع ، لم أتمكن من إيجاد أي متبرعين ، كنت يائساً ، أردت التبرع بقلبي لو استطعت ، ولكن اختلاف الحجم والعمر منعني من ذلك ، بحثت حتى في السوق السوداء وتجار الأعضاء ، لم أتمكن من إيجاد أي متبرعين” ، قالها بعيون يائسة وكأنه يرى طفله أمام عينيه مرة أخرى.
 
“صادف في ذلك اليوم حالة لطفل أخر مقارب له في العمر، توفي في حادث سيارة ، غفل أهله عنه ، ففعل ما يفعله أي طفل يغفل أهله عنه ” ابتسم و أكمل في سخرية ” قفز أمام شاحنة !” التمعت عيناه وبدا يضحك في جنون هستيري ” ذلك الطفل الغبي لم يكن يستحق الحياة ، ابني كان يستحقها “.
 
“كانت أغلب أعضاءه في حالة سليمة ، ربما كانت معجزة ، فصيلة دمه كانت مطابقة لفصيلة دم ابني، فرصة التطابق كانت خيالية.”
“يا لك من محظوظ ! “.
“بل هو القدر.. القدر! أخذ يصيح واللعاب يسيل من شفتيه.. كما توقعت ، مجرد مجنون أخر.
 
“ترجيت أهله ، توسلت اليهم ، ركعت لأقبل أقدامهم ، أنقذوا أبني ، انقذوا طفلي ، أنه يستحق الحياة ، أعطوه قلباً !” أخذ يقول في حزن حقيقي وكأنه يعيش تلك اللحظة من جديد.
 
“لكنهم رفضوا ، قالوا أنه حرام ، قالوا أنهم يريدون أن يدفنوا ابنهم كاملاً ” أخذ يصيح ويقول في عصبية ” لقد فضلوا أن يقدموا أبنهم للتراب لتأكله الديدان والحشرات ، بدل أن ينقذوا أبني ، أولئك الملاعين عديمين الرحمة ! ” وضرب بيده على الطاولة في غضب حقيقي.
“كنت يائساً لدرجة أنني كنت مستعداً لسرقة قبره والظفر بأعضائه ، لكن مع الأسف استغرق الأمر وقتاً طويلاً حتى يدفنوه و يتركوه ، القلب يستمر حوالي 4 ساعات في أحسن الأحوال بعد الوفاة ، و بعدها يصير غير صالح للاستعمال مرة أخرى”.
 
هذا الرجل يتكلم عن سرقة أعضاء طفل ميت وكأنه أمر طبيعي ، تشويه القبور و سرقة الموقع ، هذا “تابو” كبير، ولكن لم أكن أتوقع ما
هو أقل من هذا المختل ، لهذا سموه بالغول ، الغيلان مشهورة بنشل القبور.
 
“على كل حال ، حالة ابني كانت في الحضيض ذلك اليوم ، عرفت أنه لن يستمر طويلاً ، لقد صمد كثيراً بالفعل ، كنت عائداً إلى المنزل لاغتسل بعد مناوبة طويلة استمرت ساعات ، أنا أعيش وحدي كما ترى بعد وفاة زوجتي ، بينما أبني راقد في المستشفى ، عاش داخلها أكثر مما عاش خارجها “.
 
كنت قد اندمجت في القصة حتى أرخيت يدي قليلاً ، ثم انتبهت إلى توقف الموسيقى فجأة ، لا يجب أن أرخي دفاعاتي.
“اه ، توقفت الموسيقى” اتجه إلى المذياع الذي كان بالقرب منه ، وبدل الكاسيت فبدأت موسيقى كلاسيكية أخرى ، أنا مندهش من كونه لا يزال يستعمل الكاسيتات !.
 
“شوبان ، هل تحب شوبان ؟” سألني، فتجاهلته مرة أخرى.
 
“على كل حال، في الطريق إلى المنزل ، رأيته ، طفل أبله يجول الشوارع حافياً عارياً ، طفل قذر، أنه أبن أحد جيراني ، ذلك الذي يعتقد أنه أرنب وأن وظيفته الوحيدة في الحياة هي التكاثر، كان له عشر أطفال يلقي بهم إلى الشارع في الصباح ويسترجعهم في الليل ، نظرت إليه  وفكرت في نفسي ، هذا الطفل البائس ليس له مستقبل ، سينتهي به الحال عالة على المجتمع ، ابني يستحق الحياة أكثر
منه ، وعندها كنت قد عزمت امري واتخذت قراري ، ” قالها بابتسامة شيطانية ، ابتسامة مفترس يوشك أن ينقذ على فريسة
 
“من أنت لتقرر أن حياته أقل من حياة أبنك ؟. أتحسب نفسك إلهاً أو ما شابه ؟ أنت مجرد مجرم” صرخت في وجهه وقد استفزني كلامه.
 
“أتقول لي أن حياة ذلك البائس بنفس قدر حياة ابني ؟ سأخبرك أين أبني الأن، أنه يدرس الطب في جامعة هارفرد في المملكة المتحدة ، أبني سينقذ الألاف الحيوات لاحقاً ، أخبرني أين كان ذلك البائس سيكون الأن ؟ في مشفى عقلي ؟ مشرد ؟ عند مجموعة من أقاربه يسيئون معاملته ؟ بل قد أرحته من معاناته ” صاح و هو يرغي و يزبد حتى ظننت أنه كلب مسعور.
 
“كل الحيوات متساوية”.
 
“هراء، هذا هراء، المساواة مجرد وهم في أدمغة المثاليين ، لا وجود لها على أرض الواقع ، يُولد الناس وهم متميزون”.
 
“إذن ، أكمل .. كيف خطفته ؟ “.
 
” لم يكن الأمر صعباً ، كان مجرد طفل أبله ، انتظرت حتى الليل ، وتأكدت من عدم وجود أحد ، ثم طلبت منه أن يلتقي بي في مكان محدد ، وخطفته من هناك في سيارة حتى وصلت إلى الكراج ، حرصت على إجراء التجارب للتأكيد من نسبة التطابق ، كانت مثالية ! لم أكن لأحلم بها ولو تبرعت بقلبي نفسه ، أنه القدر.. القدر.. القدر أراد لابني الحياة”.
 
“مجرد حظ”.

” لم أعرف كيف أقتله ، لم أكن قد قتلت حشرة قبل ذلك اليوم ، خشيت أن أحقنه بسم أو أستعمل الكهرباء ، لم أرد أن تتضرر أعضاءه الداخلية ، انتظرت حتى نام ثم جئت بصخرة ضخمة و هويت بها على رأسه ، لم يمت من أول ضربة ، استغرق الأمر عدة ضربات حتى هدأ أخيراً ، نظرت إلى يدي ، الدم ، رأسه المهشم ، وأيقنت أنني تجاوزت نقطة اللاعودة “.
 
اليوم 12/15 الساعة 11:38 مساءً ، تلك اللحظة التي غيرت حياتي كلياً ، ما قبلها ليس كما بعدها.
 
نظرت إلى الساعة الجدارية حيث كان هو الأخر ينظر ، اليوم 12/15 ، الساعة 11:16.
 
“لم أعرف ماذا أفعل ، علمت أن علي التصرف بسرعة ، لن تدوم أعضاءه بحالة جيدة لفترة طويلة ، استعملت الثلاجة في المنزل كمجمد ، ولكنني
أعلم أن التجميد وحده قد يتسبب بضرر ذاتي للأعضاء الداخلية ، يجب أن استعجل ، استعملت رقما هاتفياً جديداً كنت قد اشتريته خصيصاً لهذا الوضع ، اتصلت بكل أهالي المرضى الذين أعلم أن أطفالهم يحتاجون لزراعة أعضاء ، عددهم أكبر مما قد تتخيل ، حرصت على إحداث أكبر ضجة ممكنة وازدحام ممكن ، ثم أخذت جثة الطفل و رميتها في الطوارئ ،  مع ملاحظة : فاعل خير، استعملوا الأعضاء للأطفال الذين يحتاجونها”.
 
“حادثة مستشفى المنصور الشهيرة ، أول جرائمك ، في منتصف الليل”.
 
“بالفعل ، كانت فوضى ، تدخلت الشرطة ، والأعلام ، كان اهتمامهم منصباً على المعضلة الأخلاقية ، هل من الأصح استعمال الأعضاء أم
تركها للتحقيق الشرعي ؟”.
 
“في الأحوال الطبيعية يستحيل أن يسمحوا بزراعة أعضاء طفل مهشم رأسه جيء به إلى الطوارئ في منتصف الليل.”
 
” بالفعل ، ولكن كما ترى ، ضغط الأهالي ، و ضغطي شخصياً بصفتي طبيباً على مجلس الإدارة ، و وجود وسائل الإعلام ، تمكنت من
إقناعهم بأن ما حصل قد حصل ، و أنه لا بد من إنقاذ الأحياء”.
 
“حظ” .
 
“بل هو القدر.. القدر”.
 
كانت تلك الحادثة الشنيعة بداية للمصائب التي تلتها ستون جريمة أخرى ، مع تقدم مستمر في أساليب القتل ، حتى انتهت بسم خاص ما زال العلماء يحاولون كشف تركيبته ، تقتل المصاب به بينما تحافظ على أعضاؤه سليمة لفترات طويلة.
 
“فعلت ذلك كي تنقذ نفسك من الشبهات ، أليس كذلك ؟ لو أنك استعملت القلب لابنك فقط لصار من السهل تعقبك ، حولت القضية إلى قضية رأي عام ، حتى تنقذ رقبتك”.
 
“ربما ، إن كان هذا ما تعتقده ، أما أنا فأرى أني فعلتها لأنقذ باقي الأطفال ، تمكنت من إنقاذ طفلين أخرين ليلتها ، بالرغم من أن أحدهما
توفي بعد بضعة شهور، لكن الأخرى عاشت وهي الأن أم لطفلين ، والان ، هلا تتبعني ؟ أريد أن أريك شيئا مهماً”.
 
” إياك أن…” وقاطعني في ملل قبل أن اكمل: “نعم نعم ، واضح ، اذا شعرت بأي قلق مني اضغط على الزناد”.
 
تقدمني إلى غرفة قريبة تبدو وكأنها غرفة المعيشة. غرفة ضخمة تزينها نباتات ذابلة و يتوسطها تلفاز ضخم ، وتوجد مكتبة ضخمة على اليمين ، بينما يوجد ممر على اليسار يقود إلى غرفة أخرى .
 
“هذه كانت الغرفة التي قمت فيها بأول عملية” ثم أشار إلى أريكة تقع أمام التلفاز “هنا بالذات ، تركته يشاهد التلفاز حتى أخذه النوم ، ثم هويت على رأسه ، ملأت الدماء المكان ، بالطبع قمت بتنظيف المكان لاحقاً ، ثم حرقت كل الأدلة ، ثم تملكتني البارانويا
حتى قمت بحرق الغرفة كلها ، وانتقل الحريق إلى اغلب المنزل ، اعتقدت الشرطة أنه حادث ماس كهربائي نتيجة لمغادرتي المنزل بسرعة بسبب الحادث إياه”.
 
“لم تتوصل التحقيقات إلى شيء ، بالرغم أنك تدعي أنها كانت مرتك الأولى ، ولكنك كنت بارعاً في إخفاء كل أثار جريمتك ، كالشبح ، قد لا يكون حظاً بعد كل شيء ، بل هي مهاراتك”.
 
“القدر ، إنه القدر!” صاح و قد استفزه كلامي.
” أذن ، أكمل القصة الأن ، أبني ، ماذا حصل له ؟ “
 
“ابنك كان خامس ضحاياي ، لا تستعجل ، بعد أن انتهت مشكلة مستشفى المنصور و هدأت الأوضاع ، وتيقنت إلى سلامة ابني ، كانت
قد مرت عدة شهور، عندها تركت عملي لأنني قد ادركت ما هي مهمتي ، هنالك العديد من جراحي القلب  يستطيعون القيام بمهمتي ، لكن هناك مهمة قذرة لا يستطيع أن يقوم بها أحد سواي”.
 
“أنت مجرد مجرم”
 
“أعلم ذلك ، أنا الذي سأذهب إلى النار لأنقذ حياة المزيد من الناس ، سأذهب إلى النار و أرسل التعساء إلى الجنة ، بينما أمنح فرصة
أخرى للذين يستحقونها”.
 
هذا الرجل يظن أنه المسيح المخلص أو ما شابه ، لولا أن قصصه تتطابق مع تحقيقاتي لشككت في كل كلمة قالها.
 
” أرسلت أبني بعد فترة قصيرة إلى خارج البلاد. لأحميه من شر أفعالي ، بينما وجدت ضحيتي الثانية ، رجل أعمال فاسد  يسرق الناس
ويتخلص من منافسيه ، لم تكن مهمة قتله صعبة ، المشكلة كانت أن الأطباء والشرطة رفضوا استعمال أعضاءه ! دفنوه ! تلك الأعضاء كانت في حالة مثالية ! و تركوها للديدان ! عندها علمت خطأي ، لن أثق بهم بعد الأن ، بدأت أرسل الأعضاء مباشرةً إلى أصحابها ، أو أبيعها لهم في السوق السوداء بمبالغ تافهة ، و أصبح عملي خارج المدينة كذلك ، وجدت أشخاصاً كي يعملوا لحسابي ، تمكنت من تكوين مافيا خيرية أصرف عليها من ملاييني وملايين عائلتي التي ورثتها “.
 
“هذا يفسر التمويل”
 
قلتها و أنا لا اصدق كلمة واحدة منه ، مهما كان مليونيراً لن يتمكن من أنشاء مافيا باستعمال راتب الطبيب أو تركة عائلته فقط ، لا بد أنه كان يبيع بعض الأعضاء بسعر ضخم بحجة “الصالح العام، لاستمرار الشركة”.. أعرف أمثاله ، لكني لا أهتم لهذه التفاصيل التافهة.
“الضحية الثالثة كانت بائعة هوى ، الرابعة كانت لصاً افلت من الشرطة ، والخامسة كان شرطياً مرتشياً “.
 
“اخرس” صرخت به وقد ضغط على عصب مؤلم عندي.
 
“هه ، يبدو أنني دست على جرحك ؟ اعذرني على ذلك ، لكنها الحقيقة ، ابنك كان مجرد شرطي مرتشي فاسد ، لا فرق بينه و بين أي رجل عصابة”.
 
أطلقت طلقة تحذيرية مرت بالقرب من رأسه.
 
” قلت لك أخرس ، أبني كان رجلاً نزيهاً ، و لا يحق لأمثالك الحكم عليه ، ولا على الستين ضحية الأخرى ، لا يحق لمختل عقلي مثلك أن يقرر من يستحق الموت ومن يستحق الحياة “.
 
” أتعتقد ذلك حقاً ؟ ألا ترى أنك تنسى أصل المشكلة هنا ؟ “.
 
” و ما هي برأيك ؟”.
 
“الناس لا يتبرعون بأعضائهم ! أعضاء طازجة جاهزة لإنقاذ الحيوات ، ولكنهم يفضلون تركها للديدان ، بل ويرفضون التبرع بدمهم
وهو لا يكلفهم شيئاً ولا يضرهم ، لو أن الناس تبرعوا بأعضائهم بعد وفاتهم  لم أكن لاضطر لتوفيرها بهذه الطريقة البشعة ، لكان  ال60 ضحية بيننا الأن ، لما كان هناك أي تجارة أعضاء من الأساس ! “.
 
“الناس أحرار في ما يفعلونه بجثثهم بعد وفاتهم”.
 
“وهذا أساس المشكلة ، في المملكة المتحدة فقط مئة وأربعة عشر ألفاً يحتاجون إلى عملية زراعة أعضاء حالياً ، يُضاف أسم أخر إلى القائمة كل عشر دقائق ! هل تعلم كم شخصاً يموت يومياً بسبب عدم وجود أعضاء ؟” صاح بي ، ثم اكمل دون أن ينتظر إجابتي.
 
“عشرون ! عشرون شخصاً يموت يومياً و يمكن إنقاذهم بسهولة ، لو أن الناس لم يكونوا مجموعة من الحثالة الأنانيين ، أتعلم أن متوفياً ، متبرعاً واحداً يمكنه أن ينقذ 8 حيوات ! بل و يستطيع أن ينقذ أو يُحسّن أكثر من 100 حالة أخرى !”.
 
أخذ يعدد ولعابه يسيل كأنه يرى مائدة طعام أمامه : ” القلب ، الرئتان ، الكبد والبنكرياس ، الكليتان، الأمعاء ، الجلد ، الأوعية الدموية ، القزحية، العظام و الأربطة  و الأوتار، غير الدم !”.
 
“من حق الناس أن يرغبوا بأن تُدفن أجسادهم كاملة ” قلتها متردداً
 
” لم تكن لتقول هذا لو كان أبنك هو الذي يموت بين يديك ، أنظر إلى عيني وقل لي أنك لم تكن لتنقذ أبنك لو استطعت ، أنظر إلى عيني و قل أنك لم تكن لتفعل ما فعلته أنا “.
 
“لا ،  لم أكن لأفعل ذلك ” قلتها متحاشياً النظر في عينيه
 
“حقاً .. سنرى بشأن ذلك “.
قالها بنبرة تهديد وابتسامة خبيثة جمدت الدم في عروقي.
 
ثم وقف وهو يشهر بيديه وكأنه في مسرحية تمثيلية ما ” لقد قتلت 61 شخصاً ، ولكنني انقدت المئات، بل الألاف ، قد أكون مجرماً  بالنسبة لك ، بالنسبة لل61 شخصاً وعائلاتهم ، ولكن بالنسبة إلى المئات ، وعائلاتهم أنا المسيح المخلص بالنسبة لهم ! بل منذ أن بدأت أفعالي  ازداد اهتمام الإعلام بموضوع التبرع بالأعضاء ، وازداد عدد المتبرعين بالأعضاء أضعافاً مضاعفة ! أنظر لي و قل أنني مخطئ في عملي”.
 
كما توقعت، ما زال يستعمل أليه دفاع ، لا يرى نفسه مجرماً بقدر ما يرى نفسه بطلاً.
 
“لقد انتهيت منك ، منطقك أسوء من أفعالك ، وحسب اتفاقنا لقد قررت ، سأسلمك إلى الشرطة “.
 
“قبل أن تفعل ذلك دعني أريك شيئاً ،خيراً ”  قالها وهو يقترب من المكتبة ، أخرج كتاباً ما و سرعان ما تحركت المكتبة لتكشف وراءها عن مخزن مخفي ، أقدم حيلة في الكتاب.
 
فتح المخزن  وسرعان ما شعرت بفطوري يرجع إلى فمي ، ثم تقيأت كل أمعائي في قرف ، ليست هذه أول عملية لي ، وليست أول مرة أرى فيها قاتلاً متسلسلاً ، ولكن ما رأيته فاق التوقعات ، ستون وجهاً مسلوخاً و مجففاً في ثلاجة خلف المكتبة ، وجوه ضحاياه ال 60!.
 
“باستثناء الطفل الأول  الذي تهشم وجهه فلم أتمكن من سلخ جلده ، احتفظ بوجوه جميع ضحاياي ليذكروني بالعبء الذي أحمله ، بأني استحق الجحيم” قالها وهو يأخذ الوجه الخامس و يلبسه كقناع ، هذا وجه أبني ! وجدته أخيراً ! واسترجعت كل مشاعر المصيبة التي حلت بي  حين استلمت جثة أبني بدون وجه ، بدون قلب ، بدون أعضاء داخلية ، وحتى أوعيته كانت مستنزفة ! لقد سرق أخر قطرة من دمه !.
 
” لن أسامحك أبداً ، أنت مجرد مختل” و هويت بالمسدس على رأسه ثم أخذت الكمه و أركله حتى خشيت أن يموت على يدي.
“لحظة .. توقف” أخذ يلهث وهو يحاول أن يوقفني.
 
“وهل تحسب أني سأرحمك بعد ما فعلت ؟ “.
 
” لا ، بل الساعة ، 11:38.. لقد حان وقت أخر مفاجأة لك ، أعدك ستعجبك ،  إنها هدية الوداع”
 
تركته ، فأخذ نظارته المكسورة وهو يلهث ثم قام ونفض ثيابه ، كان الدم يتدلى من جبهته بينما أسنانه المكسورة تمنعه من الكلام
 
” أرأيت؟ أفعالك هذه تثبت وجهة نظري ، كل هذا الغضب على جلد ميت ، الجلد البشري يستبدل نفسه كل بضعة شهور أو سنوات ، بمعنى أخر لو كان هؤلاء الناس بيننا لكانت لهم وجوه أخرى”
 
“أخرس”.
 
“اتبعني إلى الغرفة الأولى لو سمحت” قالها بصوت منخفض.
 
رجعنا إلى غرفة الطفل ، ما زالت الشاشة تشير إلى أن قلبه ينبض بسلام ، وكل مؤشراته الحيوية مستقرة.
 
“سأخبرك سراً.. اسمعني .. اقترب مني”.
 
اقترب مني هو حتى صار على بعد بضعة إنشات مني.
 
“هذه الشاشة مسجلة مسبقاً ، مجرد فيديو ، الطفل مات منذ حضورك ” و أخذ يضحك في هستيريا وكأنه قام بأكبر مقلب في العام !.
“نظرت اليه مدهوشاً ! ونظرت إلى نفسي كأنني حمار ، لقد خدعني هذا المجنون الخرف ! “.
 
ركضت إلى الطفل وأخذت أتحسس أعضاءه ، يبدو وكأنه في سبات عميق ، تحسست نبضه ، لا نبض ، تحسست نفسه ، لا نفس.. أنه ميت !.
 
شعرت بغضب و وجهت مسدسي إلى جبهته مرة أخيرة عازماً على الإطلاق.
 
“لا تمثل الغضب ، لقد كنت تعرف ما سيحصل ، لقد كنت ترغب في ذلك في سرك ، أليس كذلك ؟ لقد تركتني أقوم بذلك و أنت تعرف باحتمالية أن أكون أحقنه بسمي الخاص ، لقد كنت ترجو أن أنقذ طفلتك الصغيرة ، أليس كذلك ؟”.
 
قالها بابتسامة خبيثة شيطانية ، حتى ظننت أنني في حضرة إبليس ذاته.
 
“كيف تعرف ب..”
 
“أعرف كل شيء ، طفلتك في حاجة إلى زراعة رئة ، وهي في نفس حالة أبني ، أتفهم شعورك ، ابنتك سلوى طفلة نبيهة و ذكية ، تستحق
الحياة ، على عكس هذا الطفل الذي كان يستمتع بتعذيب الحيوانات ، خذ أعضاءه إنها لك ، وتبرع بما تبقى على باقي الأطفال الذين ستجد أسمائهم في تلك القائمة “.
 
“أيها اللعين ، كيف تجرأ ؟ أتعتقد أنني سأنزل إلى مستواك الدنيء ؟ يا قطعة الحثالة المتعفنة ” واطلقت سيلا من المسبات التي لم أسمع بها من قبل في حياتي والتي لا تعني غالباً أي شيء.
 
“عليك أن تسرع ، لن تستمر الرثتان لفترة طويلة. هل تعرف لماذا اتصلت بك ؟ أتعتقد أنني كنت خائفاً منك ؟ لم تكن لتمسك بي ولا بعد عشرة سنوات أخرى ، لم تكن قريباً حتى ، ولكنني أموت ، لم تبقى لي في هذه الحياة أكثر من أيام معدودة ، ربما ساعات ! عندي سرطان في الرئة ، يا لسخرية القدر! بالرغم من كل شيء لم أتمكن من ترك التدخين ، احتجت أن أجد بديلاً لي يكمل عملي ، عندي الكثير من المعاونين  ولكني لا أثق بهم لاستمرار العمل ، يقومون بعملهم لأجل المال لا أكثر ، أما أنت.. أجريت أبحاثي عنك لفترة طويلة ، أعلم أنك تستطيع ذلك ، أنت في نفس الحالة اليائسة التي كنت عليها أنا قبل 10 سنوات ، إنه القدر ، أنت ستكمل مشواري.

إلى أن يأتي اليوم الذي يرجع فيه الناس إلى صوابهم و يتبرعون بأعضائهم ، ولن يموت أحد بسبب حاجته إلى عضو مدفون تحت التراب ، عندها لن يحتاج العالم إلى أمثالنا ، أنا أقدم إليك خيارين الأن ، إما أن تسلمني للشرطة حيث أموت قبل أن يكملوا استجوابهم حتى ، أو أن تنقذ أبنتك و أطفال الناس ؟ القرار لك “؟
 
ناولني دفتراً أسوداً في غلافه بقع دم ، “هذا الدفتر يحتوي على كل شيء ستحتاجه ، كل أعضاء فريقي ، كل جواسيسي في الشرطة ، كل مساعدي من الأطباء ، أسماء الناس الذين يدينون لي لإنقاذي حياتهم ، طرق عمل السم ، دليل قاطع على جرائمي ، أو وسيلة لك لإكمال أفعالي ، هيا.. أثق بك ، أتخذ القرار الصحيح”.
 
دفعته بقوة حتى اصطدم بالحائط و وقع أرضاً ، ما زال على قيد الحياة ، أخذت الدفتر و بدأت بالاتصال بالرقم.
 
“لست تتصل بالشرطة  أليس كذلك ؟” قالها بابتسامة ، لم يكن يسأل ، كان متأكداً ، وكان على حق.
 
“اتصل بإبراهيم ، سيأتي قريباً ويساعدك في نقل الجثة ، التعليمات مكتوبة ، أما أنا  فحان الوقت لأموت بسلام ، يمكنك أن تأخذ انتقامك الأن ، لا تخف ، لن يهتم مساعدي بوفاتي، إنهم يعلمون مسبقاً “.
 
أخرجت مسدسي  وصوبت على جبهته  لأخر مرة ، و ككل مرة  لم ينظر إلى المسدس أبداً ، ظل ينظر للسماء وهو يترنم بكلمات ماء
ركزت معه ، أنه يقول شيئاً على وزن” القدر ، إنه القدر.”
 
أطلقت أخر طلقة ، وهذه المرة أصبته في منتصف جبهته ، اكتفيت من ألعابك ، أخبرتك أنني سأنتقم لأبني ، أخبرتك أنني لن أرحمك.
ولكن..
 
أنت على حق ، يجب أن يقوم أحد بهذا العمل القذر ، و أنا من سيقوم به من الأن ، أخرجت محفظتي و تأكدت من وجود بطاقة التبرع بالأعضاء ، حيث وضعتها منذ سنوات ، بالرغم من أن وفاة أبني كانت قد جعلت الموضوع شخصياً ، لكن منطقه لا يخلو من الصواب.
 
سأكون أنا الشر الذي ينقذ العالم.

النهاية ……

 

تاريخ النشر : 2020-09-11

guest
13 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى