أدب الرعب والعام

الراكض العاري

بقلم : إسرائيل السفياني – اليمن

بعد ساعتان رجع المارد إلى الغرفة حيث يقبع يوسف مكبلاً بالأغلال وقد بدأ يحتضر جوعاً
بعد ساعتان رجع المارد إلى الغرفة حيث يقبع يوسف مكبلاً بالأغلال وقد بدأ يحتضر جوعاً

 
كانت الغيوم السوداء تغطي وجه السماء وتذرف الأمطار الغزيرة المندلعة من أعالي الجبال كانتحاري لا يلوي على شيء ، البرق يضيء قرية معزولة في شعب ضيق ويكشف عن بيوت من الحجارة والخشب ساكنة برهبة كما لو أنها مهجورة منذ مئات السنين وحولها الأشجار مرتعشة تقلبها الريح يمنة ويسرة وتقتلع بعضها للعبرة .

– هيا لنحتمي في هذه القرية قبل أن تذبحنا هذه العاصفة وتهلك ماشيتنا يا موسى ، سيغضب عمنا إذا أصابها شيء وقد نبيت الليلة دون عشاء مكلومين من سوطه الخبيث !.
– لنذهب يا أخي أكاد أختنق من الريح والمطر ، لنأوي إلى هذه القرية فقد ابتعدنا كثيراً عن قريتنا وتهنا في هذه الشعاب التي لا تنتهي .

راكضان بين المطر الغزير يصارعان الريح كان الأخوان موسى ويوسف يقودان قطيع الأغنام نحو القرية المثيرة للريبة ، وصلا إلى القرية وهما يصرخان : الغوث يا أهل القرية تكاد العاصفة والمطر يهلكاننا ، الغوث نريد أن نأوي قطيعنا ونحصل على بعض الدفء ، هل يسمعنا أحد ؟.
 
لم يجبهما سوى الريح التي زادت حدتها وكادت أن تطير بيوسف بعيداً ، يعيد الأخوان استغاثتهما مجدداً دون جدوى ، يندفع موسى بقوة إلى أحد البيوت الذي لم يكن بابه موصداً بشكل كامل ويدلف إلى داخله فيتبعه أخاه يوسف ، وكان البيت فارغاً عدا بعض جلود الماعز والأغنام في قاع المنزل وبعض قراميد الخشب .
 
– ما هذه القرية يا اخي ؟ ألا يسكنها أحد !.
– لا أعلم يا يوسف ، ولكن المهم الآن أن نحتمي من هذه العاصفة الشديدة قبل أن نموت .
– ماذا عن القطيع يا أخي ؟.
– آه ! لقد نسينا أمر القطيع سأخرج الآن ، خطرت لي فكرة ! لماذا لا ندخل القطيع هذا البيت فهو يتسع له ولا يوجد فيه أحد ؟.
– حسناً يا أخي ، لنسرع قبل أن تفر مننا بعض الماشية أو تهلك .
إلى الداخل هيا هيا ، يهش الأخوان قطيعهما ويدخلانه المنزل الفسيح ، يمر الوقت والعاصفة لا تزال شديدة والمطر ينسكب دون توقف ، يحل الظلام وما زال الأخوين والقطيع في البيت تحاصرهم العاصفة .
 
– أنا خائف يا أخي لقد حل الظلام ونحن بعيدان عن قريتنا .
– لا تخف يا يوسف ، لن يحدث لنا شيء ، سنقضي ليلتنا هنا ريثما تمر العاصفة بسلام ونعود مع أول خيوط ضوء الفجر مع قطيعنا .
يصنع موسى له ولأخيه مكان نوماً من الجلود ويخلدان للنوم بعد أن أغلقا باب البيت خشية فرار القطيع ولأجل ضمان نوم آمن بعيداً من الوحوش والغرباء الطامعين في الماشية.
 
بعد ساعات من النوم المريح نوعاً ما يستيقظ موسى الذي سرعان ما أصابته الدهشة ، ما زال الظلام يربض بكل ثقله خارجاً والعاصفة لم تنتهي بعد !
يفتح موسى باب المنزل الذي كان يقف وينظر ، كانت العاصفة تزداد حدة وتصدر صوته أشبه بالصفير المخيف وفجأة يندلع في المكان قرع طبول يصم الآذان تلاه عزف قيثارة قادم من أسفل الجبل باتجاه القرية ، يشعر موسى بالهلع ويهز كتفي أخيه يوسف.
 
– يوسف هيا أستيقظ يا أخي ، إنني أسمع قرع طبول وموسيقى و ناراً قادمة إلى هنا ، أنهم أسفل الجبل.
– ماذا ؟ طبول وموسيقى ونار في هذه العاصفة ؟ أخي متأكد مما تقول لا أحد يستطيع العيش خارجاً في هذه العاصفة والظلام الدامس فكيف بقرع الطبول وإيقاد النار !.
– أنا متأكد مما رأيته يا أخي ، قم وأنظر بنفسك.
ينظر الأخوان مجدداً من نافذة المنزل فإذ بضجيج الطبول يقترب من المكان وهناك جمع من الناس يبدو وكأنه يقترب ، كانوا طوال القامة نحيفو الأقدام و رؤوسهم طويلة نحيفة ، يصاب موسى ويوسف بالهلع وتزاد الأصوات ولم يعد يفصل بين زائري الليل والقربة سوى أمتار عديدة.
 
يتجه موسى وأخيه يوسف إلى علية المنزل ويختبئان تحت بعض الجلود .
– أنا خائف جداً يا أخي ، من هؤلاء وكيف يحملون شعلات في هذه العاصفة ؟.
– لا اعلم يا يوسف ، أخاف أنهم ليسوا بشراً ، هل رأيت أجسادهم ؟ إنها طويلة جداً و رؤوسهم غريبة الشكل ، ماذا سنفعل الآن ، ماذا سيحل بالقطيع عندما يجده هؤلاء ؟ .
 
ينفتح باب المنزل وبعد دقائق ترتفع أصوات الماشية ، صراخ الماشية يرعب الأخوين المختبئان تحت كومة من الجلود وينطلق قرع الطبول مجدداً وعزف القيثارات والمزامير ويندلع لهب عظيم يعانق سقف المنزل وأصوات مرعبة تتمتم بكلمات غير مفهومة.
 
أصوات خطوات أقدام تصعد إلى العلية التي يختبأ فيها الأخوان تقترب من كومة الجلود ، و فجأة يعم الهدوء المكان ، تمر الدقائق كأنها ساعات والأخوان يرتجفان بشدة خشية أن يكشفها ذو الحوافر الكبيرة الذي دلف إلى علية المنزل ، وبعد ساعة من الصمت الرهيب يبدأ أحدهم بنزع الجلود من فوق الأخوين ، تتسارع نبضاتهما بشدة وتنهمر الدموع من عينا يوسف الذي صرخ بقوة عند آخر جلد يخرج : ابتعدوا عني أرجوكم.
 
موسى الذي لم يكن يعرف ما يجري بالضبط لم يتجرأ أن يفتح عيناه أكثر فظل مغمضاً إياهما ، و ذو الحوافر يضحك بصوت مفزع وهو يأخذ الأخ الأصغر الذي يبكي بهستيرية مروعة ويصيح منادياً أخيه : أنقذني يا موسى ، إنهم شياطين سيقتلونني ، أنقذني يا أخي أرجوك ، لما لا تقوم بشيء ، انظر إلي يا أخي.
 
لم يقم أخوه موسى بحركة فقد تملكه الخوف الشديد الذي أيبس مفاصله واكتفى بترديد بعض التعويذات والصلوات ، يخفت صوت استغاثة يوسف بعد أن أتجه به المارد إلى الأسفل ، يفتح موسى عيناه بحذر شديد ولم يكن هناك أحد في العلية سواه ، لم يكن بإمكانه الحراك فالفزع قد جعله متصلباً بشدة ، وسرعان ما أصيب بإعياء شديد وغلبه النوم
 
، تُرسل الشمس أشعتها الصفراء الزاهية فتداعب وجنتا موسى وتتراقص العصافير فوق الأشجار وسطوح المنازل معلنة بداية يوم جديد ، الجو صحو و رائحة المطر تعبق بالأجواء ، يستيقظ موسى ذا الستة عشر ربيعاً بعد ليلة شاقة ومليئة بالأهوال وكأنه كان في خضم كابوس مرعب لم يشهده في حياته ، ولكنه خلال لحظات يدرك أن ما مر به ليس كابوساً وإنما واقعاً مخيف.
 
يجري كالممسوس إلى أسفل المنزل فلا يجد شيء غير جلود ماشية وبعض الهياكل العظمية للأغنام في القاع ، ينطلق مسرعاً إلى خارج البيت ويصرخ منادياً أخيه ولكن ليس هنالك من يجيبه .
 
بين رعب الأمس وصدمة اليوم ينهار موسى الذي لا يعرف كيف بإمكانه أن يفسر اختفاء قطيع بأكمله ومعه أخيه الصغير ، ما الذي سيفعله عمه المجرم به ؟ هل سيكويه بسيخ ملتهب هذه المرة أم سيقتله بدون تردد ؟ يجثو على ركبتاه ويصيح : أمي ، أبي أين أنتما ، لقد أختفى أخي الصغير الذي ائتمنتماني إياه ، لقد أخذه الجن ولم أستطع أن أفعل شيء لأنقذه بل وقفت كالجبان أرتعد !.
 
بعد نحيب دام لساعات قرر موسى ألا يعود إلى عمه ، سيبقى هنا في هذه القرية الموحشة إلى أن يعود الجن إليها – أو كما خالهم هو – وينقذ أخاه ، دخل المنزل وهو يتضور جوعاً ، يحل المغيب ثانيةً وموسى في العلية متسلحاً بعصا خشبية غليظة وبطنه تأن جوعاً وخوفاً ، يسرقه النعاس فينام و في منتصف الليل يعود قرع الطبول مجدداً فيستيقظ موسى.
 
وكالأمس ينفتح باب المنزل وتشتعل النيران ويعلو صوت الطرب والمزامير والطبول والقيثارات وتبدأ الحفلة مجدداً ، موسى الذي ما زال فقدان أخيه يوجعه قرر ألا يقف مكتوف اليدين كالبارحة وأن يتخلص من خوفه ويبقي عيناه مفتوحتان مهما تطلب الأمر.
 
يدخل ذا الحافران مجدداً إلى علية المنزل ، كان طويلاً بشكل مفرط حتى لامس قرنا رأسه سقف المنزل ، نحيف الرأس شديد السواد ومخيف الشكل مقزز المنظر ذا أظافر طويلة كالمخالب وأرجل منتهية بحوافر كالبغال .
موسى الذي تجمد الدم في عروقه من هول المنظر وقف ينظر برهبة إلى المارد الذي بدأ يبتسم بشكل مفزع وبادر بالقول :
– لماذا لم تهرب إيها الأنسي ؟.
يرد موسى وقد استجمع بعض شجاعته :
– لن أهرب ، لقد أخذتم أخي .
بلمح البصر كان موسى مكبلاً بالقيود في مكان ما مظلم ومتخم بمشاعل النيران ، مقابله كان أخوه يوسف عارياً ومغما عليه.
– أخي ، اااه يا أخي ما الذي فعلوه بك ؟ يا آلهي .
– يستيقظ يوسف مع صياح أخيه ويبادر إلى تغطية عورته بيداه وهو يبكي :
– أخي إنها هي تريد مني أن افعل معها العيب !.
– من هي يا أخي ؟ أي عيب تتحدث عنه !.
 
– إنها بشعة يا أخي ولديها ثديان يمتدان إلى ما خلف ظهرها ، قالت : إنها تحب الأنسيين وترغب بالزواج بإنسي ، لقد عرتني من ملابسي ( تنهمر دموع يوسف ويبدأ بالبكاء ).
فهم موسى ما يجري من حوله ، لا شك أن أحدى الجنيات قد حاولت ممارسة الجنس مع أخيه الصغير !.
– كيف لهم أن يفعلوا هذا بك ، لا زلت صغيراً ! أكاد أجن ما هذا ؟.
 
تمر الساعات تلو الساعات والأخوان لا زالا مكبلين بالأغلال ولا جديد يطرأ سوى الجوع الذي يفتك بهما ، والخوف الذي يقطع أوصالهما ، يصرخ يوسف ابن العشر سنين متألماً من الجوع : سأموت يا أخي ، تكاد بطني تتمزق جوعاً ، لم آكل شيء منذ 3 أيام !.
 
يرد موسى :
– أصبر يا أخي أرجوك ، سنخرج من هنا ونأكل ما يحلو لنا ، إنني مثلك لم أتذوق شيء.
 
” اليوم الخامس دون طعام “.
كان الأخوان مصفرا الجلد ، مغرقا الأعين ، جافا الحلق والشفاه ، يفتك بهما الجوع والعطش ، وفجأة يدخل أحدهم فيصرخ يوسف :
– إنها هي يا أخي ، إنها هي.
ينظر موسى فتظهر له الماردة كما وصفها أخوه ، ذات أثداء تمتد إلى ما وراء الظهر ولا تقل بشاعة عن السابق في علية المنزل ، تنظر تارة ليوسف وتارة لموسى وتتجه أمام يوسف الذي يصرخ :
 
– أرجوك يا أخي أنقذني ، أرجوك.
موسى الذي تحول فزعه لغضب شديد يصرخ : إيتها القبيحة الساقطة أتركي أخي الصغير ، أنا بإمكاني إشباع نزوتك اللعينة يا شيطانة ليس أخي الصغير.
 
تلتفت الماردة إلى موسى وتتجه أمامه وتشد شعره بقوة حتى كادت تنتزعه ثم تفك أغلاه وتجره إلى خارج هذه الغرفة الواسعة المظلمة ، يوسف الآخر كان يرتجف بشدة في الزاوية وهو يشارف على الهلاك جوعاً ، وبعد ساعة أعادت الماردة أخيه موسى ولم يبدو عليه شيء سوى بعض الكدمات في وجهه ولا زالت ثيابه عليه ، سأله أخاه يوسف عن ما جرى له ؟ فأجاب : بأن لا شيء مهم حصل فقط تعرض للضرب والتعنيف .
 
يوم آخر يمر دون طعام وقد بدأ الإعياء يصيب الأخوين خصوصاً يوسف الذي كان يتلوى جوعاً ويصرخ بهستيرية لأجل شيء يأكله ، فجأة يدخل مارد رهيب الشكل أشد رعباً من سابقيه ويوجه كلامه للأخوين : أيها الأنسيان القذران هل تتضوران جوعاً ؟ عليكما الاختيار من الذي سيتم طبخه للآخر ، هذه الوسيلة الوحيدة ليشبع أحدكما أو تموتا جوعاً !.
 
صدم كلام المارد الأخوين بشدة ولكن نوبة الإعياء الشديد بسبب الجوع لم تترك لهما مجالاً للكلام حتى ، اكتفى يوسف بنظرات حزينة مندهشة وإما موسى فقد غرق في التفكير لدقائق معدودات حتى قاطعه المارد صارخاً : إذاً لتموتا جوعاً إيها القذران ، و يهم بالمغادرة فيوقفه موسى ويقول : أنا سآتي معك.
 
تنهمر الدموع بغزارة من عينا يوسف الذي فهم ما يقصده أخيه فيطلق صرخة من بين ركام الألم والجوع : أرجوك لا يا أخي ، أرجوك سنموت معاً بدل هذا كله !.
 
لم تفلح توسلات يوسف وبالفعل أخذ المارد موسى ، بعد ساعتان رجع المارد إلى الغرفة حيث يقبع يوسف مكبلاً بالأغلال وقد بدأ يحتضر جوعاً ويضع أمامه طبقا مليء باللحم اللزج ، لم يجد يوسف وقتا ليفكر بماهية ما يوجد أمامه وكأن حواسه تعطلت كلها ولم يتبقى سوى غريزة البقاء الشديدة ، فانكب يلتهم ما أمامه بشراهة كبيرة وما أن أكمل الطبق حتى أتاه المارد بآخر ، بعد الوجبة الغريبة واللذيذة بدأت الحياة تعود ليوسف بالتدريج وفي لحظة أدرك أن تلك الوجبة لم تكن سوى لحم أخيه المسكين !.
يا للهول ! ماذا فعلت ؟ بدأ يوسف بالصراخ والتشنج وعض لسانه مرات عديدة حتى أدماها وانتحب باكياً بشدة ، دخل المارد إلى الغرفة وأمسك برأسه لدقيقة ثم وجه له عشرات الصفعات الحارقة والموجعة .
 
بعد تعرضه للصفعات يُغمى على يوسف ويغط في سبات عميق ، يفتح عيناه ببطء ليجد نفسه في نفس المنزل المهجور الذي استكن به من الأمطار مع أخيه موسى وقد فُكت أغلاله وأصبح حراً ، ينطلق بسرعة ليفتح الباب ويخرج إلى الخارج ، كانت الشمس تحتضر وقد بدأت خيوط الظلام بالتسلل والسماء مليئة بالغيوم والبرق والرعد وتنذر بمطر غزير .
 
 عادت بيوسف الذكرى إلى الليلة نفسها مع أخيه ، بسرعة البرق ركض يوسف هارباً من القرية حتى وصل إلى شعب من الشعاب تذكر أنه مر به من قبل وهناك شاهد راعيي غنم بنفس سنه هو وأخيه وهما يهشان قطيعهما بعجلة متجهين أمام القرية المهجورة.
انطلق يوسف ليحذر الأخوين ولكن الأوان كان قد فات فالمطر قد بدأ ينهمر ولا وقت لتحذريهما فاستمر بالركض مبتعداً عن المكان .
 
– من ذاك الفتى الذي يركض عارياً أسفل الجبل يا أخي ؟ أين يذهب وهو بهذا الشكل وهناك عاصفة على وشك الاندلاع ؟.
 
– لا اعلم يا سامي ، أمره غريب ، لكن لنعجل إلى تلك القرية ونحتمي عند أهلها إلى الغد قبل أن تهب العاصفة وتهلكنا مع قطعاننا .
 
النهاية …….

تاريخ النشر : 2020-05-10

guest
6 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى