أدب الرعب والعام

الرحـلة رقم 102

بقلم : علي فنير – ليبيا

وعيناه تبحران هناك إلى البعيد يتأمل من خلف الزجاج الطائرات وهي تقلع وتهبط
وعيناه تبحران هناك إلى البعيد يتأمل من خلف الزجاج الطائرات وهي تقلع وتهبط

تجمع ركاب الرحلة رقم 102 في صالة الانتظار في المطار في انتظار رحلتهم ، في الركن جلس ذلك الشاب مفكراً و قد أشعل لفافة تبغ وعيناه تبحران هناك إلى البعيد يتأمل من خلف الزجاج الطائرات وهي تقلع وتهبط ، لقد ضاقت عليه الدنيا بما وسعت ، مرت سنتان كاملتان منذ تخرجه من الجامعة و لم يحصل على عمل رغم سعيه المستمر كل يوم ، و لم يعد لديه ما يستدعي البقاء ، فقرر الهجرة ، قرار صعب ، فالشجرة عندما تُقتلع من جذورها ستذبل وتموت ، و لكن ما باليد حيلة ،

و في زاوية أخرى جلس رجل مع أمرأة شابة يحادثها ويمازحها و هي تضحك بسعادة ، يبدو أنها زوجته ،  وبد واضحاً أنه يحبها و تحبه كثيراً ، و على احدى الكراسي الأخرى  كان يجلس رجل في منتصف العمر ، يرتدي بدلة أنيقة و يدخن سيجاراً فاخراً ، يبدو أنه رجل أعمال غني من طريقة جلوسه وشموخ أنفه ، كان يرافقه شاباً لطيفاً في مقتبل العمر ، أمره بأن يذهب إلى المقهى ليحضر له كأساً من العصير ، نهض الشاب مسرعاً و أحضر له ما طلب و جلس قريباً منه ينتظر أوامره. أنطلق صوت المضيفة الأرضية يعلن عن قيام الرحلة ، نهض المسافرون يحملون ما سُمح لهم بحمله من أمتعة خفيفة  ، أنهوا إجرائهم و اتجهوا إلى البوابة حيث تقبع طائرة من طراز بوينغ 737 في انتظار أن تقلهم إلى وجهتهم.

الجو كان غائماً و رذاذ لمطر خفيف يتساقط ، صعد الركاب إلى الطائرة و أتخذ كل منهم المجلس المخصص له ، و بدأت الطائرة في سيرها البطيء في المدرج المخصص لها ، توقفت في نهايته في انتظار برج المراقبة للسماح لها بالإقلاع.

وصل الأمر إلى الطيار و بدأت الطائرة في السير على المدرج بقوة ، أرتفع جسم الطائرة العملاق و ضربت بعجلاتها الخلفية أرض المطار ثم ارتفعت عالياً في السماء متجهة إلى وجهتها ، أسترخى ركاب الطائرة و هم يتبادلون الحديث فيما بينهم  و يفكرون في ما سيفعلونه عند وصولهم ، مرت النصف ساعة الأولى ثقيلة ،  و فجأة بدأت الطائرة في الارتجاج بعنف ، ضن الركاب بأنه مجرد مطب جوي ، و لكن الربان أرتفع بالطائرة ارتفاعاً مفاجئاً ، تساقطت كممات الأكسجين على المسافرين ، صرخات رعب هنا وهناك ، و ذعر يطل من كل العيون ، أمر ربان الطائرة الركاب بالتزام الهدوء و شد الأحزمة نتيجة لخلل طارئ في أحد محركات الطائرة مع احتمال هبوط الطائرة اضطراريا اذا لزم الأمر ، هدأت الارتجاجات قليلاً مما سمح للركاب بتبادل حديث يغلفه الخوف بينهم ، الرجل المرافق لزوجته كانت تدس رأسها في صدره.
 
– هل تعلمين بأنني أحبك ؟ ولكنني سأعترف لك بشيء لا أريد أن أحمله معي إن لم تكتب لنا النجاة ، ضميري يؤنبني و لم أعد احتمل.
– لقد أخفتني … ما هو ؟.
– لدي علاقة تربطني منذ أكثر من سنة مع ( هيام ).
– صديقتي الحميمة ! هذه خيانة منك و منها ، لن أغفرها أبداً.
– أقسم بأنني سأقطع علاقتي بها أن كُتبت لنا النجاة
 
تساقطت دموع صامتة من عينيها ،  لم تعد تشعر بالذعر من اهتزازات الطائرة ، فلتقع الطائرة لتنهي هذه المأساة فلم يعد يهمها أن تنجو ، لم يعد يهمها شيء.

أشاحت بعينيها عن وجهه ، لم تنظر إليه طوال ما تبقي من الرحلة ، أبقت رأسها ثابتاً في ناحية النافذة الصغيرة تنظر إلى السحب و هي تعانق جناح الطائرة المضطربة ،  و كم تمنت لو تقفز فوقها لتحلق معها إلى حيث تمضي ،  إلى البعيد ، رحلة كانت هدية منه بمناسبة عيد زواجهم ، فإذا بها تتحول إلى مأساة.
 
و في مقصورة الدرجة الأولى الشبه خالية ،  رجل الأعمال فقد اتزانه و بدا من الخوف كطفل صغير ، دس رأسه في صدر الفتى المرافق له ، بدا ذلك الشاب أكثر هدوءاً و اتزاناً منه.
 
– أعدك بأننا لو نجونا  سأعطيك حقك كاملاً و لن أخصم من مرتبك شيئاً نتيجة لأتفه الأشياء!.
– لا عليك …. أرجوك أهدأ .
– أنني أحس بتأنيب الضمير تجاهك و تجاه معاملتي لك … لن أعاملك بترفع و عجرفة كما كنت أعاملك … وسوف أطهر نفسي من تلك الصفقات المشبوهة التي عقدتها !.
– سوف ننجو بأذن الله … أرجوك أهدأ.
 
و في الدرجة السياحية  بدا ذلك الشاب الذي قرر الهجرة هادئاً و غير مبال بما يحدث ، بالرغم من صراخ الركاب و فزعهم و تشبثهم بالحياة ، فسيان عنده أن وصل إلى وجهته أو لم يصل أبداً ، فلم يعد شيء يهمه.
 
استقرت الطائرة قليلاً ، أبلغ الربان المسافرين بأن وضع الطائرة قد أصبح مستقراً بعض الشيء ، مما يسمح بهبوطها اضطراريا في أقرب مطار للبلد الذي يقصدونه ، أبلغ الربان سلطات المطار ، و اتخذت الاحتياطات اللازمة و تم هبوط الطائرة بسلام ، انفصلت المرأة المرافقة لزوجها فور نزولها و قررت العودة إلى بلدها و طلب الطلاق ، لم يناقشها زوجها في الأمر فطعم الخيانة مر لا يُذاق ،

رجل الأعمال هبط من الطائرة شامخاً بأنفه كعادته و قد نسي بمجرد ملامسة قدميه لأرض المطار كل ما وعد به ذلك الشاب الذي كان وراءه يحمل له حقيبته ترهقه ذلة لقمة عيش ربطته بذلك المتعجرف الذي كان قبل لحظات من الخوف يرتعد كطفل صغير ، أما ذلك الشاب المهاجر فقد نزل يحمل حقيبته على كتفه  غير مبال بما حدث ، أتخذ مجلساً في صالة ذلك المطار في انتظار الطائرة الأخرى التي ستقله إلى وجهته ، فما أشبه هذه الرحلة بالحياة  و ما يحدث فيها من متناقضات ! ففي الأزمات يبرز وجه المرء الحقيقي ، و عندما تنتهي الأزمة سرعان ما يرتدي ذلك القناع الذي يخفي شخصيته الحقيقية.

ففي مواجهة الموت تنكشف الحقيقة  التي قد تغير أقدار البشر ، أن هم التزموا بما وعدوا به في لحظاتهم التي قد تكون الأخيرة .
 
 النهاية …….

تاريخ النشر : 2021-08-27

علي فنير

ليبيا
guest
25 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى