أدب الرعب والعام

الروح العالقة

بقلم : رائد قاسم – السعودية
للتواصل : [email protected]

بت متيقنا بأنني أعيش بجسد آخر غير جسدي
بت متيقنا بأنني أعيش بجسد آخر غير جسدي

*** 

كان يمشي في ليلة غيهب نجومها ساطعة بالقرب من شقته الواسعة التي اشتراها في تلك العمارة الجديدة… الفرح يغمره لهذه النقلة النوعية في حياته ولكن للقدر دائما كلمة اقوى من كل قوة ..
في الليل وعندما ينام البشر يذهبون الى عالم الاحلام .. في ذلك العالم ينشأ المستقبل فيرونه على شكل حلم يتحول فيما بعد الى حقيقة يعيشونها في عالم المادة ..

إلا أن حلمه لم يكن كذلك ، كان حلما وحقيقة في نفس الوقت ، كان واقعا يعيشه بكل تجلياته ..
يفتح عينيه ليرى نفسه بالقرب من حفرة مليئة بالماء…

– يبدوا بأنني نمت هنا ، ولكن كيف حدث ذلك؟
– حسنا لم ابتعد كثيرا عن شقتي ، انها قريبة وسوف اذهب اليها.
يتجه نحوها الا انه لا يستطيع تجاوز محيط الحفرة ..
– لماذا لا استطيع الإبتعاد عن هذا المكان؟
يوجه انظاره في كل الإتجاهات فلا يشاهد اي شيء غير مألوف ..

يمشي على حافة الحفرة فيجد ان كل شيء اعتيادي ، فيعاود محاولة الذهاب الى شقته الا ان حاجز غير منظور يمنعه من مواصلة التقدم وكأنه محبوس في محيط الحفرة..

– انه أمر غريب حقا ، ما الذي يحدث؟
يشاهد سيارة قادمة بسرعة.. يتجنبها حتى لا تصطدم به..
يستلقي على الأرض وقد تقطعت انفاسه ..

– يا لهذا السائق المجنون كاد يقتلني!
– كيف لم يراني؟
يشاهد اشخاص مارين…
– يا لحسن حظي ، اخيرا ستنتهي معاناتي.
ما أن يمروا نحوه حتى يبدئهم بالكلام إلا انهم لا يرونه ولا يسمعونه ..
يناديهم بصوت مرتفع ولكنهم لم يكونوا يدركون بأنه موجود بالقرب منهم …
يمضون من امامه وهم يتحدثون مع بعضهم البعض وكأنه ليس له وجود ..

– مستحيل!
– ما هذا الذي يحدث لي؟
ينتابه خوف فظيع..
يطوف حول الحفرة … ينظر الى اسفلها فيشاهد شخصا ملقا بالقرب من مياهها الآسنة ..
– يا الهي انه شخص مغمى عليه او ربما ميت.. يا لهذه الليلة العصيبة المكفهرة.
ينزل له بسرعة.. ما ان يراه حتى يصاب برعب مهول…
– مستحيل، لا يعقل!
تنتابه صدمة …. يسقط على الارض …يشعر بأنه في ورطة عظيمة… يحس بأنه في مكان بعيد عن عالمه …
إلا انه يتمالك امره وينهض متقدما نحو جسده..

– انه انا! ولكن كيف يمكن ان يحدث هذا؟
ينظر الى جسده الملقى .. يتفحصه بخوف فيرى انه لا يزال ينبض..
يصرخ بأعلى صوته..
يبكي .. ينتحب… ولكن لا احد يسمعه… لا احد معه سوى جسده المسجى امامه ..
يعود الى الاعلى مرة اخرى.. يستغيث بأعلى صوته.. ينادي على الناس ولكنه يظل وحيدا ..
يشاهد سيارة قادمة … يقترب منها وينادي على سائقها ولكنها تمضي بعيدا..
يركض بأقصى سرعته محاولا اللحاق بها ولكنه لا يستطيع تجاوز محيط الحفرة..

يعود إلى جسده الملقى في الاسفل… لا يلبث ان يهدئ ليخمن ما حدث ..

– لا شك بأني قد سقطت من الاعلى ، ثم خرجت من جسدي. انني الان شبه ميت وهذا ما يفسر عدم رؤيتي او سماع صوتي… ولكن جسدي لا يزال حيا ، لذا انا هنا ولا استطيع مغادرة هذا المكان ، وعندما يموت سوف اذهب من هنا بكل تأكيد.
يعود الى الاعلى..

– يجب ان اجد حلا، لا بد ان يعثر على جسدي ويعالج على وجه السرعة لأتمكن من العودة اليه وإلا فسوف اموت لا محال.
يرجع الى جسده.. يحاول الدخول فيه ولكنه يشعر بصاعق اشبه بالكهرباء يمنعه من دخوله ..
يعود الى الاعلى… يتطلع في كل الاتجاهات .. فجأة يشاهد في احدى العمارات شخص يخرج من النافذة ..

– يا للهول ! امر لا يصدق.. انه يخرج من النافذة ويسبح في الفضاء.

– بت متيقنا بأني اعيش بجسد آخر غير جسدي الذي اعرفه ، وان ذلك الشخص كذلك ، لا شك بانه نائم وخرج من غرفته.
يحلق في السماء فيناديه بأعلى صوته.. يسمعه فينزل له ..
ينظر له باستغراب ..

– ارجوك ساعدني انا في ورطة كبيرة، ان لم تنقذني سأموت هنا.
يتطلع اليه وكانه لم يفهم ما يقوله ..
– ارجوك انصت الي ، حاول ان تفهمني.
يستمر في النظر له بوجه مشتت الذهن ثم يمضي عنه بسرعة هائلة نحو النافذة التي يدخلها على الفور..
يستلقي على الارض …

– لا شك بأنه قد عاد الى جسده واستيقظ من نومه.
يصاب بإرهاق شديد ..
– انني اشعر بإرهاق حاد ، لا شك بأن جسدي ساءت حالته ، علي ان اجد حلا قبل فوات الاوان.
يقف ثم يبدا بالمشي بالقرب من الحفرة … تمر عليه سيارة .. يستجمع شجاعته… يقف امامها ويغمض عينيه الا ان السيارة تخترقه وتمضي في شأنها..
يسقط على الارض .. يتيقن انه بجسده الاثيري .. يبكي بكاء مرا.. ينظر بحسرة الى ناحية شقته الجديدة تارة والى جهة جسده الملقى في الحفرة تارة اخرى..

– يبدوا بانني لن اعود اليكما مجددا، ولكني سأذهب الى عالم اخر فيه الكثير من الناس ولن ابقى وحيدا كما انا الان.

فجأة يشاهد امرأة تخرج من نافذة شقة ملاصقة لشقته.. تأتي اليه طائرة ثم تهبط بسلاسة بالقرب منه..
ينظران الى بعضهما البعض بتعجب واستغراب وذهول ..
يقترب منها بهدوء بينما تتراجع عدة خطوات للوراء..

– لا تخافي، انا جارك الذي اقطن بالشقة التي تجاورك.
تظل صامتة وكأنها لا تستطيع التحدث معه..
– انا هنا في ورطة كبيرة..
تظل صامتة..
– ارجوك تكلمي معي، وصدقيني فيما اقوله لك.
تدنوا منه قليلا..
– لما انت هنا؟
– كنت…

إلا انها تختفي وتعود من حيث اتت..
يستلقي على الارض يائسا..

– لا شك بأنها عادت الى جسدها ، وسوف تنسى حلمها معي وان تذكرته فلن تصدقه.
تستيقظ من نومها .. ينتابها شعور بأن ما راته لم يكن مجرد حلم… تذهب الى النافذة وتلقي نظرة على الحفرة المائية .. لا تشاهد اي شيء غير مألوف ..تفتح باب شقتها وتنظر مليا الى الشقة الملاصقة لها..
تعود مرة اخرى لفراشها وتحاول النوم ..
تتقلب في فراشها حتى يغلبها النوم لتخرج من جسدها.. يشاهدها وهي قادمة نحوه.. يغمره الامل فينهض ليناديها ويلوح لها بيديه .. تنزل الى الارض وتدنوا منه ..
– ارجوك ساعديني انني احتضر وسوف اموت عما قريب .
تنظر له باستغراب . يمسك بكتفيها ويهزها بقوة..
– ارجوك انقذيني.
– ( بخوف) ولكني اراك بصحة كاملة امامي!
– بل انا على وشك الموت.
– كيف ذلك؟
– كنت امشي وفجأة سقطت في هذه الحفرة المليئة بالماء.
يمسك بيدها وينزلان الى داخل الحفرة ويريها جسده الملقى بالقرب من الماء..
ينتابها العجب والذهول..
– كيف تكون شخصين؟
– بل انا شخص واحد، ذاك جسدي الذي اعيش فيه على الارض ، وهذا جسدي الذي سأعيش فيه بعد موتي ، وانتِ كذلك مثلي ، وكل الناس مثلنا.
– فاين جسدي انا؟
– انت نائمة الان وجسدك على فراشك.
– ارجوك عودي اليه واتصلي فورا بالإسعاف ، ولا تعتقدي بانك تحلمين حلما عابرا بل انت تعيشين حياة حقيقة بكل تفاصيلها.
تنظر له باضطراب وحيرة..
– هل ستقومين بذلك؟.
– نعم سأفعل.
ثم تطير في السماء متجهة الى غرفتها..
ينظر لها بأمل وتفاءل..
– ارجوك آمني بأن حلمك حقيقة فالحقيقة ليست كل ما نراه ونسمعه فقط.
تستيقظ من نومها وهي مضطربة ومشوشة.. تعود لفتح النافذة لتلقي نظرة على الحفرة المائية مرة اخرى..
لا يزال صدى ما قاله يتردد في اسماعها…
تغذوا تائهة ما بين الوهم والحقيقة… لا تستطيع التفريق بين الحلم واليقظة.. تحتار في امر ما رأته. تشعر بأنه واقع وانها تحدثت فعلا مع شخص بحاجة الى المساعدة وان عليها نجدته وان لم تكن تراه او تشعر به بل وحتى لا تعرفه…
تمسك بسماعة الهاتف وتبلغ الاسعاف بأن هناك شخصا قد قوع في حفرة الماء..

**

تنظر من النافذة بقلب دقاته تتسارع.. قلقها يتصاعد. اكثر من نصف ساعة من الانتظار كأنها ساعات طويلة …
بينما هو ينتظر ينتابه الم عارم، يدرك بأنه يموت الان ، الا انه يشاهد سيارة الاسعاف تأتي بسرعة وينزل المسعفون الذين يرصدون مكان جسده .. يحذوه الامل بالعودة الى جسده وحياته ..يجتمع الناس بسرعة حول الحفرة بينهم الفتاة.. يتابعهم وهم يسعفون جسده وينظر لها بامتنان..
فجأة ينجذب الى جسده مخترقا صفوفهم .. يشعر كأنه قد صعق بشحنة كهرباء ثم يلتصق بجسده.. يحس بإرهاق شديد وتعب عات ثم يدخل في غيبوبة..
يفتح عينيه فيشاهد الناس وهو متحلقين حوله ويهنئونه بالسلامة.. يبدا المسعفون ادخاله الى سيارة الاسعاف الا انه كان ينظر الى الفتاة التي تقدمت نحوه لتقف الى جانبه ..
ينظران لبعضهما البعض بابتسامة متبادلة..
يشير بيده الى المكان الذي التقيا فيه ..
– كنا هناك قبل برهة اتذكرين؟
– احقا كان كذلك؟
– نعم مثلما نحن الان هنا.
– لم يكن ذلك حلما؟
يجيبها بصوت خافت مرهق:
– لم نكن نحلم، كنا نعيش الحقيقة مثلما نعيشها الآن.
احيانا يكون الحلم حقيقة وفي احيان اخرى تكون حياتنا مجرد حلم ليس له قيمة.

تاريخ النشر : 2019-08-28

رائد قاسم

السعودية
guest
8 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى