أدب الرعب والعام

الساحر الشاب (1)

بقلم : احمد العراقي – العراق
للتواصل : [email protected]

الساحر الشاب (1)
صفحات قديمة ممزقة تكاد تبلى في يدي

 بدأ الامر كله في الثالث والعشرين من شهر شباط / فبراير

في ذلك اليوم مات خالي.. عماد مروان… كان اول من اكتشف ذلك هم الجيران اللذين اشتكوا للشرطة من الرائحة الخانقة المنبعثة من شقته وعندما دخلت الشرطة وجدوا جثته وقد مات على مقعده منذ أسبوع.. لقد مات وهو على المقعد يكتب بعض الكلمات غير المفهومة ولأنه يسكن وحيدا فلم يعرف أحد بموته.. كان عجوزا في الخامسة والستين من العمر ولكن لم يكن الشيب باديا على وجهه… لم تكن هناك تجاعيد ولم يكن أصلعا وبدينا كغالب العجائز.. كان فارع الطول يرتدي ملابس تذكرك بملابس رجال الاعمال.. وكان هادئا باردا شعره اسود مع بعض الشيب عند جانبي الرأس وكان يمنحك ذلك الشعور بانك في حضرة شخص مهيب له منزلة عظيمة.. لم يكن أحد يعرف ما عمله يقال انه كان محاميا ويقال انه كان كاتبا.. لكن أحدا لم يره يخرج من شقته الا نادرا… ولم يعرف أحد (ما عداي) كيف كان يحصل على تلك النقود التي يدفع بيها الايجار ويشتري تلك الأشياء التي تصله دائما في مغلف اسود.. على كل حال لم يكن يؤذي أحدا ولم يتعرض له أحد… ولم يزره أحد طيلة السنوات العشر الا بضع زيارات اغلبها كان مني او من محصل الايجار وفواتير الماء والكهرباء…

كان يسكن في شقة تقع في الطابق الرابع في احدى الشوارع الهادئة والراقية.. كان يحب الانعزال والوحدة منذ ان ترك منزلنا فلم يكن يزوره أحد غيري الا نادرا… عندما ترك المنزل كنت في الخامسة او السادسة من عمري أي قبل حوالي ثلاثة عشر سنة … عندما كنت صغيرا كان خالي هو أقرب الناس الي في العائلة وقد كان يحبني وعلمني الكثير.. الحقيقة انه هو من علمني القراءة والكتابة فقد توفي والدي عندما كنت في الثالثة وليس لدي ذكريات عنه الا القليل … تربيت على يدي جدي وخالي وبعد ذلك اخي سيف وهو أكبر مني بسبعة سنوات .. عندما كنت صغيرا كنت امر في الليل بالقرب من غرفته فكنت اسمع أصوات مخيفة من الداخل وأضواءً تنبعث من أسفل الباب.. كنت اشعر بالخوف الشديد.. ولكن عندما كنت اسأله في الصباح كان ينكر الامر برمته… لكني كنت اعلم يقينا انه يكذب.. تكرر ذلك بضع مرات ولم اتجرأ ابدا ان افتح الباب وقتها.. بمرور الزمن ضعفت علاقتي مع خالي وعندما طرده جدي من منزل العائلة كنت وقتها صغيرا فلم اعلم السبب .. ولكنني علمت بعد سنوات من اخي سيف ان السبب كان ان خالي قد بدأ بتعلم السحر منذ عودته من تلك الرحلة الى المغرب…

مضت الأعوام وتوفي جدي فلم يبقى لي من العائلة سوى والدتي وأخي سيف.. وكنت اتردد باستمرار على شقة خالي عماد عند عودتي من كلية القانون.. وكنت أخفى زيارتي لخالي عن سيف لأنني اعلم رده مسبقا وهذا جعلني أزور خالي مرة في الشهر او اقل.. لابد من القول هنا ان خالي لم يعلمني أي شيء عن موضوع السحر هذا وقتها ربما بعض الأحاديث الصغيرة عن وجود الجن وبعض قدراتهم وكلاما عاما يعرفه عامة الناس.. كان ودودا جدا معي ويكلمني عن أمور حياتي اليومية ومشاكل الجامعة والحياة ويودعني ببعض كتب الرعب التي كانت جائزة كبيرة بالنسبة لي … كان ودودا ولا يبدو انه ساحر ابدا.. من يدري ربما كان اخي سيف قد اختلق الامر برمته … هكذا نسيت كل شيء عن الماضي …ولكن الماضي قرر ان يعلن عن نفسه… في آخر مرة زرته فيها قبل وفاته بثلاثة أسابيع.. صعدت الى الطابق الرابع بالسلالم لان المصعد كان معطلا والمنزل كما قلت في الطابق الرابع .. وبعد ان وصلت هناك بجهد كبير توقفت عند الباب وتصلبت … انها نفس الأصوات التي كنت اسمعها سابقا في تلك السنوات والضوء الذي ينبعث من أسفل الباب هو نفس الضوء الذي أٍسهرني ليالي طويلة وزار كوابيسي عشرات المرات… بعث في الرعب… الرعب الذي دفنته السنوات الطويلة…استدرت بلا كلمة وكدت أن أهرب وأطلق ساقي للريح ولكنني سمعته ينادي من وراء الباب ..

“أدخل… الباب مفتوح”

تجمدت في مكاني… هل ادخل؟ مددت يدي بتردد الى المقبض

“أدخل ولا تخشى شيئا”

يبدو انه يراني بل وكان يستعد لمجيئي وأخيرا فتحت الباب … وعلمت ان حياتي بعد هذه اللحظة لن تكون كما كانت قبلها ابدا … كانوا أحد عشر وخالي هو الثاني عشر.. كانوا يجلسون على شكل دائرة وفي المنتصف يوجد طاولة قديمة مليئة بجثث القطط والارانب وحيوانات أخرى لا اعرف ماهيتها…. كانت احشائها قد خرجت من مكانها وقلوبهم كانت في ايدي المجتمعين وهم يأكلونها نيئة!! .. كان الامر مقرفا ومثيرا للاشمئزاز … هذا هو السر الذي اخفاه خالي عني .. وهو سبب طرد خالي من المنزل.. اعترف ان كوابيسي كانت مقارنة بهذا تبدو سعيدة ومبهجة بحق…. نسيت ان أصف لك المجتمعين.. كانوا متشابهين الى حد ما منهم من له رأس خنزير ومنهم من له رأس ابن آوى ومنهم من هو ضخم جدا ولونه اخضر يشبه الى حد ما الغيلان ولكن كانت له ثلاثة عيون.. والبعض كانوا أقرب الى البشر ولكن بوجوه بشعة تملؤها الدمامل وبأجساد نحيفة كأقرب ما يكون الى عصا مكنسة.. يبدو ان هذه مأدبة يقيمها خالي لهؤلاء الشياطين .. أردت أن أهرب ولكن ساقاي خانتاي وشعرت بالوعي يتسرب من ببطء. عندما استيقظت وجدت الغرفة قد عادت لسابق عهدها وخالي يقف امامي .. للحظات شعرت ان كل شيء كان مجرد كابوس ولكن وجدت إحدى تلك الكائنات النحيلة البشعة امامي فنهضت بسرعة وقلبي ينبض بأسرع ما يقدر عليه.. لكن خالي هدئ من روعي وقال لي: “يمكنك الذهاب ولكن ثق ان أحدا لن يصدقك.. ولن ألومك أبدا ولكنني أعرض عليك فرصة لا تأتي الا مرة في العمر”

لم اجب بل ظللت أحدق في الفراغ لعدة دقائق.. ثم قلت “حسنا.. أنا موافق… أخبرني”

ساعدني على النهوض والجلوس على الاريكة وجلس امامي وبدأ الكلام لاحظت عندها ان تلك المخلوقات قد اختفت من جديد

(بدأ الأمر في رحلتي تلك الى المغرب… تلقيت رسالة من صديق عمري حاتم الساري يدعوني الى زيارة للمغرب على حسابه… في البداية ترددت قليلا فانا لم القى حاتم منذ سنوات مالذي ذكره بي فجأة .. ثم قررت انه لا ضير من السفر ان كان على حساب صديق قديم …وذهبت الى هناك… تعرف انه كان ميسور الحال فقام بتجهيز كل الأمور لي.. وسرعان ما كنت هناك… كانت الأمور تسير بأفضل ما يكون فالمغرب بلد جميل بحق.. قضيت اليوم كله اتنقل بين الأسواق والأماكن الثرية برفقة حاتم وفي تلك الليلة كان الوقت قد تأخر كنت راجعا من احدى المهرجانات لم يكن حاتم معي لأنه قرر البقاء وقتا أطول لذا اكتشفت انني قد ضللت الطريق.. لم يكن عندي هاتف او أي طريقة للاتصال بأحد… مضت عليّ ساعات وانا امشي في الطرقات أحاول تذكر أي معلم يقودني الى بيت حاتم ولكن.. لا شيء… ربما لو وجدت مركزا للشرطة أو… ثم بدأت الامطار تهطل بغزارة لسوء حظي… طرقت الأبواب ولكن يبدو ان لا أحد يفتح الباب لمتسول في وقت متأخر كهذا.. وبعد عدة محاولات ابتسم الحظ لي أخيرا.. فتحت عجوز الباب ونظرت الى منظري.. حاولت ان اشرح لها الوضع ولكنها لم تتكلم ابدا وانما اشارت الي بالدخول … ترددت قليلا ثم قررت الدخول فذلك أفضل من المطر.. كان بيتها يتكون من غرفة صغيرة في منتصفها طاولة وضعت عليها البلورة السحرية.. ومكتبة مليئة بالكتب العتيقة… جلست على الأرض امامها… قالت بهدوء” كنت واثقة أنك ستأتي”

سألتها “عفوا ماذا قلت؟”

“كنت متأكدة أنك ستاتي لتكمل السلسلة وتأخذ نصيبك… انت جزء من سلسلة عمرها الاف السنين وقد جاء دورك الآن… عليك ان تفرح بهذا الشرف وتأخذ حقك… الأقدار اختارتك لمهمة عظيمة”

ثم نهضت واحضرت كتابا مليئا بأوراق صفراء مغبرة مر عليها زمن طويل..

قالت بجدية “هل أنت موافق” لم اعرف ما هو الذي أوافق عليه وخشيت ان اقول لا فتطردني… انه مجرد كتاب ولن اخسر شيئا لذا قلت “نعم” فتهلل وجهها وابتسمت ابتسامة كريهة واعطتني الكتاب… وبت تلك الليلة هناك على سرير قديم يصدر صريرا طوال الوقت … عندما استيقظت في الصباح كان المطر قد توقف لذا ذهبت للبحث عن مركز للشرطة ووجدت واحدا بعد سؤال المارة ..ذهبت الى المركز وسألتهم عن صاحبي.. حاتم …. طلبوا مني الانتظار قليلا ليتأكدوا من موقعه… انتظرت كثيرا جدا وبدا لي ان هناك خطأ ما رجعت إليهم فوجدتهم ينظرون لي بنظرات غريبة وقال لي أحدهم “انت الذي يبحث عن حاتم الساري؟…. اجبتهم بنعم ..فقال أحد الضباط ” هل تهزأ بنا… حاتم هذا قد مات منذ 6أشهر بنوبة قلبية” عندها كاد قلبي ان يتوقف… هل قضيت يوما كاملا مع شبح؟؟!!

بعدها لم أحتمل البقاء يوما آخر رتبت الأمور بسرعة وعدت… ولكنني أحضرت الكتاب معي.. رأيت انني سأحتاج اليه… وخلال أسبوعين كنت قد أصبحت ما تراه.. حصلت على الكثير… لم يكن أحد يتجرأ أن يقف في طريقي.. ومن فعل فكانت تلك اخر مرة يقف فيها… ولكن الآن صرت كبيرا جدا في العمر.. أنا عجوز أكثر مما تراه ولكن احدى التعاويذ تمنحك القدرة على تغيير مظهرك … لذا اقمت هذه المأدبة وأخبرت حراس الكتاب أنني سأعطي الكتاب لشخص أثق به… وهذا الشخص هو انت”

ظللت انظر في الفراغ امامي وانا اتأمل كم المعلومات الهائل هذا… خالي ساحر أحضر كتابا من المغرب ويريدني ان أكمل من بعده؟!.. ولكن.. لما لا … هذه الفرصة تأتي مرة في العمر وعلي استغلالها.. انظر الى حياة خالي فاراها جميلة رغم كل شيء لديه حساب مصرفي ممتاز وحياة هادئة لا يزعجه أحد قادر على تنفيذ ما يشاء ولا أحد يملي عليه ما يفعله… لذا وافقت.. أخذت الكتاب من يده وقلبت صفحاته في يدي صفحات قديمة ممزقة تكاد تبلى في يدي.. من العجيب ان يستمر كتاب كهذا طيلة تلك السنوات..

علمني بعض التعاويذ الضرورية لتأمين الحماية.. أخذت الكتاب وشكرته على كل شيء.. لقد تغيرت حياتي بالكامل ولكن ذلك لا يعني ان اتأخر عن موعد العودة والا فسكون على تحضير إجابات لكل الأسئلة وخاصة من اخي سيف الذي يعتقد انه لو غفل عني لحظة لأصبحت رجل عصابة او سفاحا او هاربا من العدالة.. ربما كان على حق بعد كل شيء ها أنا ذا أصبح ساحرا!!

قضيت أيام طويلة امام ذلك الكتاب… في البداية لم أكن افهم سوى الكلمات العربية واستعين بالقواميس لترجمة الكلمات اللاتينية والعبرية… مرت الأيام حتى توفي خالي عندها ايقنت ان المهمة قد انتقلت لي بالفعل.. ولكن لم أكن اشعر باي شيء مع هذا الكتاب ولم افهم شيئا الا ما علمنيه خالي ولا اظن انه ينفع حتى.. ما زال جاسم الجابر الطالب الوغد الي يعتقد ان امتلاكه لعضلات منفوخة يعطيه الحق في التطاول على أي شخص آخر.. ومازال أولئك الاساتذة الذين لا يفقهون شيئا يصرخون فيّ ويطالبونني بمعرفة معلومات لم يكونوا ليعرفوها لولا ان الكتب والمراجع مفتوحة امامهم.. ألا تبا للجميع.. الشيء الوحيد الذي غيره في هذا الكتاب هو انه نبهني الى المأساة التي اعيشها.. لم الاحظ هذا من قبل فقد كنت الطالب المنعزل الذي لا يهتم لأي شيء… ولكنني الان افهم.. كنت أخشى من ان يرى أخي الكتاب لأن أول شيء سيفعله هو حرقه ثم لن يترك نصابا الا ويأخذني اليه… لذا لم أكن أتحرك خطوة من دون الكتاب.

يتبع ….

تاريخ النشر : 2016-06-04

guest
37 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى