أدب الرعب والعام

الساعة – الجزء 2

بقلم : البراء – مصر 
للتواصل : ​​​​​​​ [email protected]

الساعة - الجزء 2
صوت عقارب الساعة يعلو بشكل ملحوظ للغاية حينما يحين وقت الانتقال..

أول ما رأيت هذه الساعة يا نيمو كنتُ في العشرينات.. أذكر ما حدث وقتها جيداً ، كنت حينها أعمل في شركة قطارات.. مجرد عامل بسيط يبني مسار القطار مع رفقائه.. و لم أكن قد قابلت جدتك ، بعد لذا أعتقد كنا ما بين عامي 1969 و 1973..
منذ بداية نضج تفكيري و أنا كنت أجد شغفاً غريباً في أشياء غير اعتيادية.. كانت هذه هي طريقة نظري للأمور كما أظن ، و من ضمن الأشياء التي وجدت فيها شغفاً كان هذا العمل.. عمل تركيب قضبان القطارات.. شيءٌ ما كان يثيرني حينها.. صوت ارتطام المطارق الحديدية على القضبان.. المساحات الشاسعة الممتدة أمامنا.. أشياء قد تراها غير ذات معنى يا نيمو.. و لكنني رأيتها أشياء رائعة أسرتني.. و كان هذا هو شغفي في تلك الفترة.. عملي الجميل..

و تبعاً لهذا الشغف كنت أعمل ليلاً وحدي على القضبان ، اعتدت أن أجد هذا شيئاً ظريفاً.. العمل بينما الجميع نيام، يومها كان خط عملنا بجانب بحيرة ما ، و يمكنك أن تتخيل الموقف ، رجل يقف وحيداً تحت ضوء القمر و يطرق على الأرض مصدراً صوتاً محبباً ، و لن أخفي عليك ، كنت أستمتع بوقتي حقاً.. أصفّر و أدندن بألحان أغنية ما.. الأغاني كانت شيئاً ما حينها..

ثم فجأة ظهر صوت من وسط العدم.. لا أذكر هذا الصوت الآن ولكن أذكر أنني وقتها ظننت أن هناك شيءٌ ما يحترق.. لا أعرف إذا ما كان الصوت نيران أو ما شابه ولكن هذا هو ما ظننته وقتها ، تلفت حولي كي أعرف مصدر الصوت و إذا بي أرى خيالاً ناحية البحيرة.. خيالات شيء صغير و نحيل، أعتقد أنني لم أفكر جيداً في هذا الموقف حينها.. لأنه حينما أتذكر الأمر أجد أن الرجل لم يظهر إلا من البحيرة، كان المكان واسعاً و ضوء القمر يكشفه..

بمعنى آخر إذا كان هذا الرجل أتى من بعيد أو مكان طبيعي لكنت قد رأيته أو أحسست به على الأقل، و كأنه فعلاً خرج من البحيرة نفسها ، و لكن لنقل أنني وقتها لم أملك رفاهية أن أفكر من أين أتى الرجل.. لأن هيئته وحدها كانت كفيلة بجعلك لا تتساءل إلا عنها مهما كانت الظروف، النظرة الأولى كانت أنه نحيل للغاية.. تلك النحافة التي تجعلك تتساءل عن مدی النحافة الذي يمكن أن يصل إليها إنسان حي ، و مع اقتراب الرجل بدأت أستوضح ملامحه و أكتشف أشياء أخفاها بُعده عني..

حينما رأيت تلك النقاط الصغيرة التي تتساقط من شعر الرجل بدأت أدرك الأمر.. لقد خرج الرجل حرفياً من البحيرة، اقشعر جسدي وقتها وبدأت أتفحصه باهتمام أكبر، كان يلبس ثياباً رمادية اللون و غريبة للغاية ، لا أذكر وصفها بالدقة و لكنني أذكر أنها كانت شيئاً غريباً و ملفتاً للأنظار.. و خصوصاً أنها كانت باللون الرمادي بالكامل.. كل تفصيلة من تفاصيلها كانت رمادية ..
اقترب أكثر فاستطعت أن أرى ملامح وجهه التي بالطبع لا أذكرها الآن.. لكن ما لفت نظري أن وجهه كان جامداً.. لا ملامح ولا تعابير.. مثل الإنسان الآلي، توجست حينما اقترب مني و أحسست بشعر يدي ينتصب ، و كأنه يعرف أن ما وراء هذا الرجل هو شيء غير طبيعي أبداً..

و حينما صار على مسافة كافية بدأ يتحدث، لا أذكر كلامه بالكامل حينها و لكنه كان يقول شيئاً عن قيمة الشيء الذي سيعطيني إياه.. وعن أنني لن أتأثر به وفقط عليَّ الاحتفاظ به حتی تحين اللحظة المناسبة ، أعطاني وقتها صندوقاً.. ذلك الصندوق الذي يحوي الساعة الآن ، أعطانياه ثم رحل في هدوء.. فقط رحل بخطوات رتيبة بينما أتابعه بعيني في خوف ، حاولت أن أتفحص الصندوق في ثانية و في الثانية التالية نظرت نحوه لكنه لم يكن موجوداً ، ارتعبت مما حصل وأخذت أتلفت حولي ولكنه كان حقاً قد اختفی.. هو الذي كان موجوداً أمامي منذ لحظات قليلة.

– “لكن هذا غريب يا جدي ، أنت تقول أنك لم تجربها قط.. إذن كيف عرفت ما تفعله؟ ، لقد وصفت لي الأمر كأنك عشته بنفسك.. كيف عرفت كل هذه التفاصيل؟”
– “لقد حكيت لك عن مقابلتي الأولی مع الساعة ولكن لم أحك لك عن إيرڤن”
تنهد الجد ثم نظر لأعلی قائلاً:
– “إيرڤن يا صديقي.. أتمنی أن تكون سعيداً أينما كنت الآن”
هنا لاحظ نيمو لمعان خفيف في عيني جده.. قال بحذر:
– “من هو إيرڤن؟”
– “إيرڤن هو صديقي… وهو أول من عانی مع الساعة”
– “عانی مع الساعة؟!.. ماذا تقصد؟”

وقف الجد ومشی بخطوات حثيثة مشيراً لنيمو أن يتبعه ..

تبعه نيمو بصمت وعقله يصرخ من كثرة الأسئلة، عليه أن يعرف كل شيء .. حتی الأشياء التي لم يعرفها جده !
توقفا قبالة مكتبة قديمة مليئة بالكتب.. أشار لأحد الكتب وقال:
– “ها هي قصة إيرڤن.. لكن احذر.. للمعرفة ثمن”

توجه نيمو نحو الكتاب الذي أشار وسحبه من مكانه قائلاً :
– “ماذا تقصد بقصة إريڤن”
– “إيرڤن هو أول من اختارته الساعة.. عرفت كل شيء عن الساعة من خلال ذلك الشيء في يدك.. إنها مذكرات إيرڤن”
أخذ نيمو يقلب في الكتاب وهو يغمغم :
– “مذاكرات إيرڤن.. هاه ؟!”

***

مقتطفات من مذكرات إيرڤن

حسناً لا أعرف ما الذي يجب علي أن أكتبه حقاً، ليس من عاداتي كتابة مذكراتي ، لكن الآن.. لا أعرف.. أعتقد أن علی أحدٍ ما أن يعرف ما أمر به الآن.. حتی وإن قال أنني مجنون..

لذا نعم من ناحية هذه المذكرات لتوثيق فترة مهمة من حياتي، لربما هي الأهم حقاً!
ومن ناحية أخری لتكون هذه المذكرات مرجعاً لي أدون فيها ملاحظاتي عن الساعة.. الأسرار حولها وما شابه، إذا اكتشفت شيئاً مهما سأكتبه هنا بكل تأكيد، ستفيدني فيما بعد.

حدثت لي حتی الآن أربعة حوادث مع الساعة.. والله وحده يعلم إذا ما كان الأمر سيستمر أم لا.. إذا استمر فسوف أحاول بقدر الإمكان تدوين كل ما رأيته بأسرع وقت حتی لا أنسی التفاصيل.

لم تكن بدايتي مع الساعة مهمة.. رأيتها في خردة چاك فسألته عنها.. قال أن رجل غريب قد أعطاه هذه الساعة منذ بضعة سنوات.. حتی أنه قد نسي أنها معه من الأساس، أعجبتني فأخذتها ولم يمانع چاك لأنه لم يكن يستخدمها من الأساس، لكن المهم هو ما أتی بعد ذلك .

—–

أول الأمور الغريبة التي حدثت لي مع الساعة كانت بعد أن أخذتها من چاك بفترة.. أتذكر جيداً.. لقد كان الأمر حقيقي للغاية..
كنت أكتب رسالتي المعتادة لإيميلي حينما دقت الساعة بصوتٍ عالٍ.. ذهبت لأتفقدها لكن ما إن فتحت غطاءها حتی اختفی كل شيء من حولي، وجدت نفسي أمشي مترنحاً في شوارع فارغة.. لكن هذا لم يكن أنا.. لم أكن أتحكم بجسدي.. ولكني كنت أشعر.. عرفت هذا لأنه كان هناك ألم حارق يعصف بجسدي كله، لا أعرف كيف أصف هذا حقاً.. فقط سأضيع المزيد من الوقت.. سأتخطی هذه النقطة..

البيوت بدت لي وكأنها من مكان آخر.. شكلها كان غريب للغاية لم أتعوده قط، نظرت للأعلی فوجدت لافتة خشبية عتيقة تدلت من مكان ما وقد كتب عليها بخط رديء “احذروا غضب الرب”
وعلی جدران البيوت “نحن ندفع ثمن خطايانا”
و المكان بأكمله كان فارغاً بالرغم من تواجد بيوت كثيرة، تذكرت للتو أيضاً أن الشوارع كانت ترابية.. لم أعتدها بهذا الشكل، بعدها سمعت أصواتاً تصدر من مكان ما فتبعتها، وحينما وصلت إلی مصدر الصوت وجدت شيئاً غريباً للغاية.. كومة كبيرة جداً من الأجساد متكومة فوق بعضها البعض.. كانوا يملؤون حفرة كبيرة يبدو أنها قد حفرت خصيصاً من أجلهم، الغريب لم يكن في هذا فقط.. لقد كانوا يحترقون جميعاً.. نار كبيرة تأكلهم بينما يقف علی مسافة منهم ثلاثة أشخاص يتحدثون..

حاولت الاقتراب لكن لم أستطع، خذلتني ساقاي.. كان الألم يزيد حتي وصل لحد أنني بدأت أتأوه بصوتٍ عالٍ ، يبدو أن هؤلاء الأشخاص سمعوني فتحركوا نحوي، تعاونوا معاً في الإمساك بي.. ثم بعدها لم أشعر بنفسي إلا وأنا أطير في الهواء لأستقر علی كومة الجثث.. لهيب النيران توغل في جسدي فزادت آلامي.. بدأت أصرخ بصوتٍ عالٍ للغاية، من بين صرخاتي سمعت أحدهم يقول “عليك أن تشكرنا لأننا أرحناك.. كنت ستموت ميتة أكثر إيلاماً من هذه.. الوباء لا يرحم شخصاً”.

وكانت تلك هي حادثتي الأولی مع الساعة كما أذكرها .

—–

تحتوي الساعة علی الكثير من الأشياء المربكة والمثيرة للحيرة في نفس الوقت ، مثلاً علی غطائها الخلفي توجد نقوش صغيرة للغاية.. بعد جهد جهيد تمكنت من قراءتها.. فقط أشياء صغيرة لا تعرف ما إذا كانت لغة أخرى أم نوع من الكتابات العشوائية، لكن كانت توجد كلمة واحدة فقط تمكنت من قراءتها.. خرونوس!
سأبحث عن تلك الكلمة.. وأملك أحساساً أنني سأبحث كثيراً عنها.

—–

شيء آخر لاحظته.. تحت العقارب توجد مجموعة من الأرقام.. للوهلة الأولی تظن أن هذه الأرقام ليست إلا زخرفة رائعة المنظر حقاً، لكن وبعد أن مررتُ بكل هذه الأحداث وانتقلت لكل هذه الأماكن لاحظت الأمر، في الواقع إن الأرقام المزخرفة تتغير في كل مرة.. أمر غير ملحوظ لكنه يحدث.. الفكرة أنه توجد مجموعتين من الأرقام.. المجموعة الأولی تخبرك بالتاريخ الذي انتقلت إليه في المرة السابقة.. أما المجموعة الثانية فتخبرك إلی أين ستنتقل في المرة القادمة، نعم أعرف يبدو هذا جنونيٌّ بالفعل لكنها الحقيقة بالرغم من هذا.

—–

ملحوظة أخری ، صوت عقارب الساعة يعلو بشكل ملحوظ للغاية حينما يحين وقت الانتقال.. وكأن الساعة تقول لي بشكل ساخر استعد لقد حان وقت انتقالك الذي ليس بإرادتك.

—–

اللغة !
كيف لم أنتبه لهذا ؟!
حسناً إذا انتقلت لمكان ما مهما كان هذا المكان فإنني أفهم لغة هذا المكان بالرغم من أنها ليست لغتي التي أتحدث بها، أعتقد أن عقلي يكون جزءاً من عقل الشخص الذي أكونه.. أشعر وأرى وأسمع مثله تماماً.. بالرغم من هذا لا أستطيع التحكم بجسده.

—–

تذكر يا إيرڤن، خرونوس khronos.. هو إله الزمن في الأساطير الإغريقية، واحد من أوائل الآلهة.. الجيل القديم.. أو الأجداد كما يقولون..
مثير للغاية.. تلك النقوش تخفي أشياء مهمة.. عليَّ أن أتقصی أمرها.

—–

أحداث اليوم أعادت إلی ذهني تميمة البيضة والدجاجة الشهيرة
البيضة أم الدجاجة أيهما أتی أولاً ؟!
السؤال ليس هكذا بالتأكيد.. يجب أن يأتي بصيغة أخری كي نتمكن من إجابته، لكن ما هي هذه الصيغة يا إيرڤن ؟!

—–

حسناً أنا أفقد عقلي تدريجياً.. أنا أُجن.. قليلاً بعد وسأفقد القدرة علی الإحساس بمشاعري ، لقد انتقلت لأماكن عديدة للغاية.. رأيت الكثير من البشر يموتون.. رأيت آلامهم وأحسست بهم وهذا لا (خربشة بالحبر علی بضعة كلمات).. هذا ليس سهلاً .. ليس سهلاً علی الإطلاق.. خاصة علی شخص مرهف الأحاسيس مثلي.. علی هذا أن ينتهي أو يتوقف وإلا سـ …… لا أعرف ماذا سيحدث بالضبط.. لكنه سيكون أمراً سيئاً .

—–

تذكير مهم.. لا تحاول أن تتخلص من الساعة أبداً.. فقط سيزيد هذا من الأمر سوءاً وسيسرّع من عملية انتقالك للكارثة التالية، مجرد أن ترى أول كارثة فلقد علقت فيها للأبد.. حتى ولو أبعدتها عنك ، فقط لا تفكر بالأمر.. لقد حاولت كثيراً ولن أذكر تفاصيل التجارب.. سأذكر النتائج فقط.

—–

إن الساعة تختار من تحب.. إذا أعجب أحد بها وصمم أن يأخذها فهذا يعني أنها اختارته.. ليس العكس، لقد تيقنت من هذا بعد العديد من التجارب، لم تؤثر في چاك أبداً ولكنها أثّرت في إيميلي.. المشكلة الحقيقية أنه عليَّ أن أخفيها عن إيميلي حتی لا تأخذها، لقد أريتها إياها وصممت أن تأخذها.. أخبرتها أن هذا إرث عائلي، الأمر ليس خطيراً للغاية.. عليَّ فقط أن أخفيها هذه الفترة.. و ستنسی أمرها مع الوقت.

—–

ما لاحظته دوماً أن الشخص الذي أكونه يموت في النهاية… أيضا ليس وحده من يموت.. بل يموت الكثير من البشر ، أعتقد أنني من هذه النقطة كوَّنت القاعدة العامة للأمر.. الانتقال يكون إلی كارثة أو مجزرة.. فقط أي مكان حيثما يحدث فقْدٌ كبير في الأرواح أياً كان هذا المكان.. الانتقال ببساطة يحكي قصة شخص يكون في هذا المكان، يقود هذا لتساؤل مرعب.. هل معنی أن الساعة معي أنه ستحدث كارثة لي ؟!! أما الشيء الأكثر رعباً هل سيتأذي من هم حولي ؟! من أُحبهم ؟!

لا أعرف شيئاً سوی أنني علي أن أتأكد من الأمر بنفسي

***

أغلق نيمو المذكرات ثم نظر للسقف شارداً.. كان يفكر.. ماذا حدث لإيرڤن ؟!
كان هذا هو آخر ما كتبه ، أيضاً من هي إيميلي التي تكلم عنها إيرڤن؟
إيرڤن قد مر بالكثير من الحوادث بالفعل وقد وثقها كلها في هذه المذكرة.. لكن السؤال هو أين هو إيرڤن وماذا حدث له..
استقر في النهاية أنه یجب عليه أن يسأل جده – كالعادة – عن صحة ماكتبه إيرڤن.. وعن إيميلي.. وعن إيرڤن نفسه.

يقول الجد :

– ” فقط استيقظت في يومٍ ما لأجد أن إيرڤن لم بعد موجوداً.. أتت لي إيميلي في اليوم التالي.. أذكر جيداً.. سألتني عنه ولكنني لم أجبها قط، فيما بعد وجدنا مذكراته وعرفنا كل شيء ، ظننا أنه علی الأرجح إيرڤن هرب من هنا إلی مكانٍ آخر، المكان الذي حدثت فيه الكارثة.. كان يعرف أنه سيموت في جميع الأحوال لذا قرر أن يفعل هذا بعيداً عنا حتی لا يؤذينا”

– “ومن هي إيميلي إذن؟”

– “إيميلي كانت من المفترض أنها زوجته المستقبلية، في الواقع اختفت هي الأخری بعد إختفائه بيومين”

– “ما الذي فعلْتَه حينها ؟”

ِ ” لا شيء أكثر من الإبلاغ عن مفقودين.. أريتهم المذكرات.. مذكرات إيرڤن.. أتعرف ماذا قالوا لي ؟! إنه مجنون يا چاك.. لا يجب أن تضيِّع وقتك ووقتنا في البحث عنه، كنت قد توقعت أن يحدث شيء مثل هذا ولكن لم يكن بإمكاني التكتم علی أمرٍ مهمٍّ كهذا ، الشيء الوحيد الذي فشلت في توقعه هو أن المذكرات ستكون سبباً في توقفهم عن البحث.. أمر مثير للسخرية “

– “إذا كانوا قد توقفوا عن البحث عن إيرڤن فماذا عن إيميلي إذن ؟! “

– “إيرڤن لم يكن له أقارب بالمعنى الحرفي لذا كنت أنا من أبلغت عن فقدانه.. كنتُ في الواجهة حينما يتعلق الأمر به.. لكن إيميلي كان لها أهلها.. تمسكوا بالقضية وقاتلوا حتی النهاية.. لم يجدوها بالرغم من هذا”

لم يجد نيمو ما يقوله فصمت وأخذ يفكر فيما قاله جده.. ثم خطر علی باله خاطر مزعج.. لم تمر ثوانٍ حتی أخبر جده بهذا الخاطر:
– “لكن هل تعتقد أنه محق فيما يقوله ؟ “
– “إيرڤن ؟!”
أومأ نيمو برأسه إيجاباً فقال الجد :
– “إيرڤن كان من النوع الذي يحب أن يلاحظ ويحلل الأمور.. لهذا تمكن من معرفة كل هذا الأشياء عن الساعة، إذا أدلى برأي قد أتی عن طريق تحليلاته فهذا يعني أنه صحيح بنسبة كبيرة”
– “إذن أنت تخبرني أنه محق علی الأرجح.. ربما تجلب الساعة كارثة علينا”
– “ولهذا قلت لك أن الأمر سيئ للغاية.. وأخبرتك ألا تصاب بالذعر”
– “لكن هذا أسوء مما توقعته بكثير، ماذا سنفعل؟!”
– “لو عرفت لكنت قد أخبرتك، ليس أمامنا سوی الانتظار حالياً.. ربما قد يتضح الأمر فيما بعد “

***

كان الأمر مربكاً بالنسبة لنيمو.. هو ينتظر شيء لا يعرفه.. وكان هذا في حد ذاته شيئاً أكبر من أن يتعامل معه نيمو.. لأن الانتظار قد يكون مدمراً للجانب النفسي في الإنسان إذا ما وُجد بطريقة صحيحة وملائمة للوضع..
نظر نيمو للساعة باحثاً عن التاريخ الذي سينتقل إليه تالياً.. وجده عام 1975، سيجلس هكذا منتظراً وقوع كارثةٍ ما في عام 1975 ، هذا الأمر جعل نيمو يفكر.. ماذا لو أنه لم ينتظر من الأساس ! فقط يبتعد عن الساعة ولا يفتحها أبداً.. بمعنی آخر لا يترك فرصة لها لكي تلقي بسحرها عليه…
ليلتها عرف نيمو أن ذلك لن يفلح حينما استيقظ من نومه علی صوت دقات منتظمة عالية.. إنها الساعة !

اندهش نيمو لأنه كان قد ترك الساعة في الغرفة الأخری.. تذكر كلام إيرڤن عن ذلك الموضوع.. لكنه في النهاية لم يستطع أن يتحقق من الأمر.. لأنه ومجدداً لم يكن هناك من الأساس.. لقد كان في كمبوديا.. في عام 1975.. وبالتحديد في واحدة من الحقول التي سموها آنذاك حقول القتل ، من الإسم تتضح الفكرة العامة لهذه الحقول.. إنها حقول مخصصة للقتل !.. بالرغم من أن الإسم لم يكن منصفاً لما يحدث هناك حقاً .

لم يكن الأمر سهلا أبداً علی نيمو.. تقبل فكرة أن ما يحدث حوله الآن عبارة عن بشر يتم قطع رؤوسهم مثل الدجاج.. أو مثلاً فكرة أن الدماء يُمكن أن توجد بمثل هذه الكثرة.. هناك حد لكل شيء أليس كذلك ؟!
نيمو يعد في الثالثة والعشرون.. ثباته العقلي جيدٌ نوعاً ما.. هو بالتأكيد أفضل من معظم الذين هم في عمره، لكنه ليس وحشاً علی الرغم من هذا.. هو بشر ينفر من أفعال الشر كبقية البشر.. وبالتأكيد هي حكمة أن يكون هكذا.. الآدمية شيء جيد بالطبع، لكن ما يراه الآن كثير للغاية علی شخص طبيعي لديه عقل ولديه مشاعر.. ربما سيقاوم المناظر قليلاً لكنه سيسقط في النهاية..

نيمو في عالم آخر.. شارداً ومنذهلاً كان ، قاطع شروده ذلك الصوت العسكري الصارم :
– “سيشاهد الأخ رقم 5 موتكم.. أظهروا بعض الاحترام”
نظهر بعض الإحترام ونحن نموت ؟! فكر نيمو بدهشة ممزوجة بغضب عارم ، وفي غمرة تفكيره لم يلحظ أن الدور قد حان عليه.. لم يلحظ إلا والفأس يهوي علی عنقه.

***

– “مستر نيمو هل أنت متأكد؟!”
– “نعم یا سيد ماريو.. أنا متأكد”
– “يمكنني شراؤها منك بدلاً من هذا”
نظر نيمو للسقف ثم قال بصوت منخفض:
– “أعدك.. لن تكون سعيداً بها”
قالها ثم عدل من جلسته ونظر للسيد ماريو مردفاً:
– ” انظر يا سيد ماريو أنا عاقل.. أعرف قيمة هذه الساعة جيداً وحينما أقول لك أن تفككها فهذا يعني أنني أريدك فعلاً أن تفعل هذا لأن هذا ضروري للغاية.. وليس لأنني مثلاً أجد متعة حقيقية في تفكيك الساعات الأثرية القيمة وإفقادها لقيمتها”

رد السيد ماريو بسرعة:
– “ما هو سببك المنطقي إذن؟! اشرحه لي”
ثم أشار للساعة وأردف:
– “هذا الشيء يجب أن يستمر في كونه موجوداً.. لن تجد شيئاً مثله مجدداً.. أعدك أنا أيضاً بهذا، أعني يمكنك أن تصنع مثلها بمعجزة ما ولكن لا يمكنك أن تصنع الزمن.. لا يمكنك أن تصنع مائة وخمسون عاماً”
ثم أمسك السيد ماريو الساعة وقربها من نيمو مكملاً جملته السابقة:
– “و لا حتى تلك النقوش.. انظر إلی هذا.. أين يمكنك أن تجد مثل هذه الأشياء الآن.. أي عبقري سيتمكن من فعل هذه الأشياء الآن.. حتی أننا لا نعرف من فعلها وقتها”
– “هذا يؤكد وجهة نظري للأمر فقط لا أكثر سيد ماريو.. بأن هذه الساعة ليست من صنع بشر من الأساس”
– “لا يهمني سيد نيمو.. صنع بشر أو غيره هذه التحفة يجب أن يظل بريقها يلمع للأبد ، لن أفعل هذا للأسف يا سيد نيمو.. سيكرهني الكون علی ذلك “

ابتسم نيمو ثم قال :
– “حسناً إذن يا سيد ماريو.. اسمعني جيداً ، يمكنني إعطاؤك هذه الساعة بالمجان.. بدون أن تدفع فلساً واحداً .. نعم يمكنني فعل هذا بكل بساطة ، سأستريح جداً حينها وسأزيح هماً ثقيلاً من علی كاهلي.. لكن كما تری لو فعلت هذا ستستمر الدائرة وستقع الساعة في أيادٍ كثيرة وستسبب حسب اعتقادي الكثير من البؤس لحاملها ، وربما لمن حوله كذلك إذا صَّحت الافتراضات.. لكنني لا أريد لهذا أن يحدث أبداً ليس لي ولا لأي شخص آخر، لذا هاك الأمر يا سيد ماريو سأعقد معك صفقة ستعجبك.. سأعيرك الساعة لمدة أسبوع واحد فقط.. وبعد الأسبوع لك الحق في الأخذ برأيي في تفكيك الساعة وتدميرها أم لا.. أنا آسف.. أعرف أنك ستكرهني لأنني أقحمتك في هذا ولكن هذه هي الطريقة الوحيدة لإقناعك علی هذا و…”

قاطعه السيد ماريو قائلاً:
– “أكرهك ؟! يافتی أنا أحبك الآن.. ستترك لي الساعة لمدة أسبوع مجاناً”
تبدلت ملامح نيمو فجأة.. نظر للسيد ماريو وقد اضيقّت عيناه:
– “أترى هذا البريق في عينيك ؟! نعم هذا البريق.. الإثارة والفرحة.. أتعرف ما معنی هذا يا سيد ماريو ؟! معناه أن الساعة قد اختارتك، هذا هو تأثير الساعة عليك.. مرحباً بك في عالمي يا سيد ماريو “

***

لا يمكن الجزم حقاً بالذي رآه السيد ماريو بالضبط.. لكن يمكن الجزم بنوعيته بالرغم من هذا ، الكثير من الموت.. الكثير من الدماء والظلام ، إنها تلك المسببات الأساسية للألم.. والوحيدة التي تستطيع أن تجمع بين نوعيه حقاً.. الألم النفسي والألم الجسدي ، وحقيقةً أن أكثرهم طراً هو الموت السريع بدون ألم لهو شيء يخبرنا بمدی قوة وصعوبة الأمر.

السيد ماريو لم يكن يتوقع شيئاً مثل هذا.. جعله هذا يفقد رباطة جأشه التي ربما افتخر بها في يوم من الأيام، المرة الأولی كانت ذعراً حقيقياً بالنسبة له، ذكّره الأمر بنيمو وما قاله له حينما جلب معه الساعة لأول مرة وأغشي عليه، لم يصدق ما قاله الفتی يومها.. اعتقد أنه يحتاج لعلاج باعتباره نوعاً ما من الذين يبدون كذلك ، لكنه أدرك الآن أنه ليس كذلك، خصوصاً بعد المرّة الثانية ، كان قد بدأ يدرك فداحة ما هو مقدم عليه مع كل مرة يزور فيها معقلاً لكارثة من نوعٍ ما، أن تكون أحد الذين قتلهم انفجار بركان كراكتوا.. أو الذين قتلوا في صبرا وشاتيلا.. أحد الذين حضروا الطاعون في أوج انتشاره وعانوا الأعراض النهائية له، هي أشياء تزلزل ثبات ووجدان أقوی الأشخاص.. ستقاوم في البداية بالطبع لكن عقلك سينهار في النهاية ، وهذا هو ما حدث مع نيمو بالضبط.

بعد الحقيقة الأولى التي أدركها السيد ماريو لم يفكر كثيراً فيما قاله نيمو بعد ذلك.. فقط اتصل به ليخبره بأن عليه أن يكون معه أثناء عملية تفكيك الساعة.

***

– “أنت تدرك أن ما نفعله الآن قد يكون غلطة كبيرة للغاية أليس كذلك ؟!”
– “لا توجد غلطة أكبر من احتفاظنا بهذه الساعة يا سيد ماريو”
– “أعني.. نحن لم نتأكد بعد من أنها ستجلب الكوارث علينا”
– “سنكون ميتين في اللحظة التي سنتأكد فيها من هذا.. أيضا الطريقة الوحيدة للتخلص من الساعة هي عبر إعطائها لشخص آخر سبق أن تم اختياره.. مما يعني أن الساعة ستكون عبئاً ومعاناة إينما حلت.. وأن مسألة اختفائها وارتياح حاملها ستكون مسألة شخصية و وقتية فقط لا غير.. لأن غيره سيكون يعاني منها بالفعل ، نحن نريد أن نحل الأمر من الجذور يا سيد ماريو ، وصدقني نحن نقدم للبشرية خدمة عظيمة”

رد السيد ماريو بابتسامة خفيفة:
– “ما يضايقني أنه لن يتسنی لهم شكرنا لأنهم لن يعرفوا أصلاً.. نحن بطلين خارقين !”
لم يرد نيمو وأخذ يشاهد السيد ماريو وهو يتعامل بحرفية تامة مع الساعة.. هذا شخص تراه يعمل فتعرف علی الفور أنه خبير ويعرف تماماً ما يفعله ، حينها أدرك نيمو أنه بالفعل قد أتى للشخص الصحيح .

أزال السيد ماريو الغطاء الخلفي للساعة.. ثم أزال قطعة النحاس التي تخفي جميع المكونات الداخلية للساعة، أمسك السيد ماريو بعدسته المكبرة ووضعها علی عينه ثم أمسك بالساعة وأخذ يفحصها عن قرب، بعدها بثوانٍ علت ملامح الدهشة وجهه.. قربها أكثر من عينه وهو يغمعم بصوت خفيض:
– “ماهذا الهراء؟!”
سمعه نيمو فنظر له متسائلاً.. لم يرد عليه السيد ماريو وأكمل فحصه للساعة.. و كلما تعمق أكثر في أجزائها كلما ازداد انعقاد حاجبيه وازدادت دهشته.. بين الحين والآخر يسمعه نيمو يتمتم بكلمات غريبة من نوع هذا ليس منطقياً علی الإطلاق وكيف لهذا أن يكون ممكناً، فجأة وضع السيد ماريو الساعة من يده ثم نظر نحو نيمو قائلاً :
– “أتعرف فكرة عمل الساعات.. الزنبرك والتروس وما إلی ذلك”
نظر له نيمو متسائلاً بدون أن يرد.. مد السيد ماريو يده ليخرج ساعة قديمة من مكانٍ ما.. أشار إليها بإصبعه وهو يكمل مردفاً:
– “كل ساعة ميكانيكية أو ساعة بعقارب كما نقول يجب أن تحتوي علی زنبرك وعلی تروس.. يعمل الزنبرك فتدور عجلة التروس بسرعات متفاوتة حسب الحجم لتتحرك عقارب الثواني والدقائق والساعات.. وهذا هو ما يجعلنا نسمع صوتها المميز بالطبع، لكن…”

قالها السيد ماريو ثم وقف وأخذ يبحث في المكان عن غليونه وهو يكمل حديثه:
– “لكن بالطبع لن يعمل هذا كله بدون بطارية.. لا شيء يعمل بدون بطارية”
ارتفع حاجبا نيمو في دهشة وقال:
– “ماذا تعني بالضبط ؟!.. وما سبب أخبارك لي بهذا كله؟!”
وجد السيد ماريو غليونه فأشعله بسرعة ثم سحب نفساً من أنبوبه وقال:
– “إليك الأمر.. إن هذه الساعة لا تحتوي علی زنبرك ولا علی تروس ولا علی أي شيء ، إنها فقط تحتوي علی قطع غريبة للغاية لا أعرف ما هي استخداماتها ولم أرها في حياتي من قبل.. وإذا كنت تعرفني جيداً فستعرف أنه من المستحيل عليّ ألا أعرف قطعة ما في أي ساعة صنعت في أي وقت، لكن ليس هذا هو أكثر ما أثار استغرابي.. إن الساعة لا تحتوي علی بطارية”

عاد السيد ماريو لمكانه وقال وهو يجلس علی الكرسي :
– “الآن نحن نعرف يقيناً أن الطاقة لا تُستحدث من العدم.. قاتل الكثيرون لإثبات هذا الأمر كما تعلم، وأن تكون الساعة هكذا ربما يعني أننا نعيش في كذبة كبيرة حقاً”
رد نيمو وهو يحك ذقنه:
– “أو أن مصدر الطاقة مختلف عما اعتدناه”
– “أحب نظرية المؤامرة كثيراً لكن أعتقد أنك محق”
قالها السيد ماريو ثم أمسك بالساعة فجأة وأردف :
– “والآن لنری كيف سنفكك هذه الجميلة “

حاول السيد ماريو أن یعبث بالساعة بالطرق التي يعرفها ولكن عمله لم يكن له تأثير يذكر.. وبقي حلهم الوحيد هو تحطيم الساعة.. لكن مرة أخری لم يكن الأمر بهذه السهولة.. لأن المواد بداخل الساعة صلبة للغاية..

كان السيد ماريو – الذي يتعرق بشدة – علی وشك ضرب الساعة مرة أخر بالمطرقة حينما قال نيمو :
– “حسناً يا سيد ماريو هذا يكفي.. هذا ليس حلاً”
توقف السيد ماريو وقد بدا عليه التعب.. أمسك نيمو بالساعة و أردف:
– “سأذيب هذا الشيء اللعين غداً في مصنع الحديد.. لنواصل لعبة محاولة التدمير.. تعجبني الاحتمالات الكثيرة لتدمير هذه الساعة”
مسح السيد ماريو عرقه ثم قال :
– “أياً يكن أبعد هذا الشيء عني.. لا أريد أن أری المزيد من الدماء”
أومأ نيمو برأسه موافقاً في أسی.. لم يتفقا علی أن تبقی الساعة عند السيد ماريو..
قال السيد ماريو فجأة وكأنه قد تذكر شيئاً:
– “لكن قبل أن تفعل هذا.. أحتاج الساعة لدقيقتين فقط”

نظر له نيمو متسائلاً.. ما الشيء الذي من الممكن أن يريده السيد ماريو من الساعة ؟!

***

نام نيمو علی سريره وأمسك الساعة وهو يفكر.. متی أصبحت الساعة هي كل شغله الشاغل ؟!
لماذا تحمل هذا التأثير الكبير عليه؟
ولماذا عليه أن يحضر مذبحة أو كارثة مَرّة بعد أُخری؟!
تذكر نقطة التواريخ ففتح الساعة ونظر فيها بغاية أن يعرف إلی أي عام سينتقل هذه المرة، ورأی الرقم منقوشاً بوضوح أمامه.. 2624
العام الذي سينتقل له نيمو هو عام 2624..
رفع نيمو نظره من على الساعة لينظر للنتيحة التي كانت أمامه.. مكتوب علیها مارس عام 2018..
في الوقت ذاته بدأت الساعة تدق بصوتٍ عالٍ .. لينتفض نيمو من مكانه وينظر جاحظ العينين نحو الرقم الذي في الساعة ليتأكد.. لكن الوقت كان قد تأخر.. هو الآن في مقر الكارثة، صوت الصراخ الرهيب هذا يخبرك أنك في المكان الصحيح.. نيمو الآن في المستقبل !

يتبــــع ..

  

تاريخ النشر : 2018-03-15

البراء

مصر - للتواصل: [email protected]
guest
45 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى