أدب الرعب والعام

الطريق إلى المنارة

بقلم : تقي الدين – الجزائر

للتواصل : 
[email protected]

بعد ثلاثة أسابيع و دزينة من الليالي المصبوغة بالأرق أنهيتها أخيرا ” الطريق إلى المنارة ” ، و قد كانت دون مبالغة أجمل لوحة جرافيكية صنعتها ، تلك السيارة الكلاسيكية و هي تمتطي طريقا منعرجا ينتهي بمنارة يجلس أعلاها كلب راعي ألماني ينتظر مالكه ، كانت المجاز المثالي للهرب من الواقع ، بعض الناس قد يرونها هربا من دورة العمل المملة ، آخرون قد يرون أنها فرار من الحياة اليومية ، لكن أنا رأيتها على أنها هرب من سلاسل الأفكار التي يريد أن يقيدني بها والدي ، كان شخصا صلبا و يأتي من ” خط طويل من عمال البناء ” و مثل أي رجل فخور بمهنته فقد أراد دوما أن يضمني لذلك الخط ، لم يفهم يوما كلمة التصميم الجرافيكي و كان يدعوها دوما بخربشات الأطفال ، صدقا قد تكون كذلك أحيانا لكن عندما تضع قلبك في عمل فإنك تشعر أنه حقيقي ، أنه موجود على أرض الواقع … الواقع ، تلك الأرض التي حططت الرحال بها حالما رن المنبه مشيرا إلى الساعة الرابعة مساءا ، كنت قد بدأت بضبط المنبه على هذا التوقيت قبل بضعة أشهر لأجد الوقت للحفظ و إطفاء الكمبيوتر قبل عودته للمنزل فنظرات الخيبة على محياه رغم أنها لا تهمني كثيرا إلا أنها تؤثر في بطريقة ما ، ربما لأننا بعد كل شيئ نريد أن نحظى بالقبول من أولئك المقربين منا ، أخفيت دلائل جريمة ” قتل خط العائلة ” بسرعة و نزلت لأسفل و بين يدي كتاب حملته بعفوية من رف المكتبة ، منتبها للتفاصيل الصغيرة جلست على الأريكة و فتحت الكتاب على إحدى الصفحات و أنا أهمس :
– ثلاثة … إثنان … واحد .
و فتح الباب و دوت تلك الصرخة المعتادة :
– مرحبا برجل المنزل .
سأكذب لو قلت أنه كان يقول تلك العبارة بفخر فكمية السخرية النابعة منها يمكن أن تسقي فيلما كوميديا و الشارب الأسود الكثيف مع جسمه الضخم لم يجعلا الأمر أقل غرابة ، بإمتعاض أغلقت الكتاب و أنا أنظر له يتجه للثلاجة ثم قلت مجاريا سخريته :
– غريب كيف أنك تحيي نفسك كلما تدخل المنزل .
رسمت تلك العبارة إبتسامة على وجهه و رد :
– في مرحلة ما من الحياة على الرؤوس على تنحني و على يدي أن تسلم مشعل … السخرية لحضرتك فقد تفوقت علي في المزاح أما عن الرجولة فأنت متأخر بضع خطوات .
– الرجولة . قلت بحيرة . إذا العمل في موقع بناء هو تعريف الرجولة بالنسبة لك ؟ .
– لا . أجاب و الإبتسامة لم تفارق وجهه . تربيتك لوحدي بعد وفاة والدتك رغم العمل في موقع بناء هو الرجولة في نظري .
بإعجاب مزيف أومأت برأسي موافقا و قلت :
– إذا لا يمكنك الحكم علي بعد فأنا لم أنجب أولادا و لم أفقد زوجتي بعد .
بعيون ميتة نظر لي عبر نافذة المطبخ الصغيرة و قال :
– صدقت ، لكن خربشات الأطفال ليست خطوة أولى جيدة .
– ها نحن مجددا . همست بقلق و قد جف صبري فأعقب :
– كل ما أقوله هو أنها أكثر من مجرد وظيفة ، إنها مسؤولية أيضا و أنا قلق بشأن مسقبلك … .
– لا ، ليس اليوم . قلت مقاطعا كلامه و أنا أنهض من مكاني و بين يدي مفتاح السيارة ، ظللت ألوح رفضا بيدي حتى خرجت و للحظة وقفت عند العتبة معيدا التفكير في جميع قرارات حياتي قبل أن أركب العربة و أنطلق مبتعدا ، عرفت تماما وجهتي فذلك لم يكن ” الروديو الأول ” كما يقول الأمريكيون لكن شيئا في الطريق ذلك اليوم بدى مختلفا فعادة كنت أسير على طول المسلك الرئيسي ثم أنعطف عند نهايته لمسلك فرعي وعر لكن حالما وصلت للمسلك الوعر رأيت منظرا مألوفا ، منارة تعانق السماء تقف عند نهاية طريق منعرج و أعلاها ظِل كلب ينتظر بصبر ، لا أحتاج للقول أنني شعرت كمختل و أنا أحدق ببلاهة لذلك المشهد لكن شيئا ما دفعني للسير عبر تلك الطريق فرفست دواسة الوقود كمجنون و أنا أناور عبر تلك المنعرجات حتى وصلت باب المنارة ، بسرعة ترجلت من السيارة و ركضت منتشيا حتى القمة أين راح ذلك الكلب البني الصغير ينبح بحماس و أنا أربت على رأسه ، بهدوء جلست على الحافة و أنا أتأمل منظر المدينة ، السد ، الطريق السريع و أشجار النخيل ، شعرت بالمثالية في تلك اللحظة كأنني كنت في كون آخر و إستلقيت بسلام على ظهري متأملا السماء فأخذتني زرقتها لعالم النوم و وجدت نفسي أغمض عيني ، لبرهة شعرت أنني أطفو لكن صوت أبي و هو ينادي بإسمي بقلق رمياني تدريجيا للحياة مجددا فإستفقت بصعوبة و أنا أصارع جفوني و رحت أنظر بإرتباك لباب ( الجراج ) التابع لمنزلنا قبل أن أستدير لأبي و قد بدت كل علائم الإرتباك على وجهه ، ترجلت من السيارة كعجوز هرم و الدوار يتلاعب برأسي لكني رغم ذلك إستطعت أن أبصق سؤالي :
– ماذا حدث ؟ .
أبي نظر لي بقلق و أجاب :
– لا أعرف ، خرجت لألقي القمامة فوجدتك تتخبط و تهذي في السيارة .

***

لقد علمت دوما بين ثنايا عقلي الباطن أن أفضل ملجأ يمكن أن يهرب له الإنسان هو مخيلته لكن الجانب المظلم للهرب من الواقع هو أنك تفر من العزلة لتقع في مزيد من العزلة ، كان علي أن أثبت لنفسي أن المكان الذي لجأت له أمس كان مجرد خيال جامح لذا أخذت السيارة مع أضواء الصباح الأولى و إنطلقت ، كانت المسالك فارغة و من بعيد كان يمكنني أن ألمح الطريق الفرعي و الأشواك قد نمت على جانبيه ، كنت مرتاحا لأنني لم أغرق في ذلك البئر المزيف من الأكاذيب مرة أخرى لكن رغم ذلك أردت بعض الوقت مع نفسي و ذلك الطريق الفارغ كان ملجأي ، ببطئ قدت السيارة حتى وصلت النهاية أين تقف الطريق إحتراما أمام واد غزير المياه ، أوقفت المحرك و جلست مع نفسي بصمت حتى أطلت الشمس رامية بخيوطها عبر زجاج السيارة الأمامي ، لن أبالغ حين أقول أن ساعة الصمت تلك هي أفضل فترة في يومي لكن رغم ذلك فإن مواجهة الحياة هو أهم جزء فيها ، الطريق كانت شبه فارغة عند العودة لذا أسرعت آملا في الوصول أبكر لكن الأمل لن يتعدى قط ليكون حقيقة و منظر والدي و هو يجلس عند الأدراج المؤدية للباب أكدت لي ذلك ، متحاشيا النظر له ركنت السيارة عند الممشى و ما إن ترجلت حتى سأل بهدوء غريب :
– أين كنت ؟ .
– إستيقظت باكرا لذا أخذت السيارة في جولة . أجبت .
نهض من مكانه و هو يتمتم بكلام غير مفهوم ثم قال :
– أنت تدرك أنك خرجت في وقت غير إعتيادي و جعلتني أقلق عليك ، صحيح ؟ .
– تقلق ؟ . سألت بفضول . لماذا ؟ .
بنرفزة مسح على فمه مجيبا :
– لأنني بالأمس وجدتك تهذي داخل السيارة … تتحدث عن منارة و طريق مثالي .
– أبي ، من فضلك … .حاولت التكلم لكنه قاطعني قائلا :
– لقد إتصلت بالسيدة لطيف و هي في الداخل بإنتظارك .
بإرتباك نظرت لباب المنزل و قلت :
– إتصلت بأستاذة لم أتحدث معها منذ ستة سنوات .
– نعم ، و ستتحدث معها . قال و هو يقترب مني و خلفه كان يمكنني أن أرى أضواء المنارة تتراقص مختفية حينا و ظاهرة حينا .
” الأمر يحدث مجددا “
– حسنا … حسنا . قلت و أنا أتفادى النظر للأفق و بسرعة دخلت المنزل .
في الداخل كانت السيدة لطيف تجلس على أريكة غرفة الجلوس ، بنوع من الحذر تقدمت صوبها وقد مددت يدي لأصافحها فلاحظت أنها رغم السنوات لم تتغير كثيرا ، نفس قصة الشعر القصيرة نفس الملابس الرسمية ونفس الملامح الحادة والتي تخفيها ببراعه بإبتسامة بريئة ، أخذت جلوسي بجانبها بعد تبادل التحايا فقالت بقلق :
– هذه أول مره أتلقى إتصالا كهذا ، لابد ان والدك متحير بحق بشأنك .
رسمت على محياي إبتسامة ساخرة و أجبت :
– هو قلق بحق لكن ليس بشاني بل بل بشان كوني مختلفا مع خط العائلة المثالي .
حاول أبي بعد اغلاق الباب التدخل لكن السيدة لطيف اوقفته قائلة :
– أعطني بعض الوقت معه .
بنرفزة حمل حاجيات عمله وخرج بينما واصلت الاستاذة حديثها معي :
– إذا ، ما المشكلة تحديدا ؟ .
أجبت بدفاعية ممزوجة بالتهكم :
– إنه يريد إقناعي أن مجال تخصصي ليس مهنة حقيقية .
– و هل تظن أنها كذلك ؟ . سألت بفضول فأجبت مجددا :
– إذا ظن روكويل أن الرسم مهنة حقيقة و ظن ستيفن كينغ أن الكتابة مهنة حقيقية إذا … لما يجب أن يكون الأمر مختلفا معي .
بإبتسامة على وجهها أضافت :
– لربما والدك يريدك أن تكون جزءا من شغفه .
– أنا أتفهم ذلك . رددت . لكن حاليا أنا أريده أن يكون جزءا من شغفي ، أن يعطيني فرصة و إن لم ينجح الأمر فسيكون هناك حديث آخر .
حسنا . هسمت . أتظن أن والدك يريدك أن تحصل على مهنة حقيقية لأنه يريد ربط المهنة بطريقة ما بالمسؤولية ؟ .
مرتبكا قلت :
– أي نوع من التفكير هذا … لربما والده حقن هذه الفكرة في رأسه و قد تقبلها لكن هذا خطأه لأنه لم يتخذ موقفا ، هل أنا شخص سيئ لأنني لا أريد الدخول في خط العائلة أم أنني شخص سيئ لأنني شجاع كفاية لأذهب في طريقي … عكسه هو .
– كل ما أقوله هو ….
حاولت الأستاذة الحديث لكنني قاطعتها :
– هل أحببت التدريس منذ سن صغيرة أستاذة لطيف ؟
– نعم ، منذ المدرسة الإبتدائية . ردت .
– هل تركت أحدا يغير رأيك بشأنها و لو للحظة ؟ .
– لا .
– إذا لماذا تملكين الحق في إختيار شغفك بينما أنا أحرم منه ؟ .
تلثمت الأستاذة بالصمت برهة ثم قالت :
– والدك قلق بشأنك ، أظن أن هذا كل ما في الأمر .
– لا . رفضت بحدة . كبرياء والدي أكبر من الإتصال بأستاذة لم يتحدث معها منذ سنوات ، أنا أعرف يقينا أن شيئا ما يحاك لذا ألقي الخبر علي .
بتوتر مررت يدها عبر شعرها و أجابت :
– إنه يحضر لعشاء غدا مع المسؤولة عن المشروع ، إنه شكليا عشاء عمل لكن ضمنيا …
– كلاهما عازبين . أكملت جملتها .

***

مر وقت طويل منذ آخر مرة رأيت فيها والدي متحمسا بتلك الطريقة ، الطاولة في المطبخ كانت مجهزة و الأطباق مستعدة لإستقبال الطعام ، هندامه كان أنيقا على غير العادة و الإبتسامة على وجهه لم تبرح مكانها منذ الصباح ، كنت سعيدا لأجله فقد بدى كأنه يرى أخيرا الضوء في نهاية النفق لكن الشيئ الوحيد الذي يمنعه هو وزني الزائد في مؤخر سيارته ، دق جرس الباب فهرعت لفتحه مستقبلا إمرأة أربعينية عصرية الملابس ، لطيفة الملامح ، رسمت على وجهها إبتسامة إتسعت حالما رأتني و قالت :
– لا بد أنك مصطفى .
– نعم . أجبت و أنا أفتح الباب . من فضلك تفضلي .
بشيئ من الدهشة دخلت المنزل و قد ثبتت معطفها عند العلاقة ثم قالت :
– لديكم منزل جميل .
– أنا بناء بعد كل شيئ . قال العجوز بفخر و هو يسحب الكرسي كدعوة لها للجلوس بينما إلتحقت أنا للطاولة ، بأدب سكب والدي الحساء في أطباقنا بينما سألتُ :
– إذا سيدة …
– رميس . أكملت جملتي .
– رميس ، هل لديك أي أولاد ؟ .
– إبنة . أجابت . إنها في الثالثة و العشرين .
أخذت ملعقة من الحساء الموضوع أمامي ثم سألت مرة أخرى :
– هل تملك عملا أم تقطن معك في المنزل ؟ .
غيمة أسى طافت فوق وجهها للحظة و هي تجيب :
– للأسف لا … لا تقطن معي في المنزل لكنها تعمل كمساعدة لطبيب العيون وسط المدينة .
بفضول واصلت تساؤلاتي :
– للأسف ؟ .
– نعم ، لم ترد الزواج لكنني ألححت عليها و في النهاية إتضح أن الرجل كان سافلا عاملها كالقمامة .
– أنا أرى ، قلت بشغف و أنا أحدق لوالدي بإبتسامة غبية على وجهي . عادة ما يملك الأبناء حدسا تجاه هذه الأمور .
لاحظ أبي لعبتي الصغيرة فقال بنوع من النرفزة :
– حسنا … لقد نالت كفايتها من الأسئلة يا مصطفى .
– لكن مازال هناك أولياء يتحكمون حتى في عدد أسئلة أبنائهم . أكملت جملتي متهكما بينما سأل :
– إلى أين تريد الذهاب بهذا ؟ .
بهدوء يعلو ملامحي و روحي أجبته :
– سيفيض الكأس لا محالة … لكنك أعمى كفاية كي لا ترى ذلك و تستمر بسكب الماء .
ظهر في نبرته شيئ من الغضب و هو يقول :
– أنا من يستمر بسكب الماء ؟ لقد كنت دوما حريصا عليك و هناك من أجلك .
– و أنا لم أكن كذلك ؟ رددت . هل لي أن أذكرك أنك كنت تعيش حرفيا في الشارع في الستة أشهر الأولى بعد وفاة أمي ، تغيبت عن العمل حتى كدت تفصل و وجدتني أنا فقط عند كتفك .
دون أن يشيح بنظره وضع الملعقة داخل الصحن و قال :
– حقا … هل كل هذا الغضب بشأن أمك ؟ .
– لا تحاول إستعمال المغالطات معي . أجبت بسرعة . أنا لست أحمقا .
صمتت برهة ثم إستطردت :
– أنا أعرف أنك تدفن نفسك في العمل لأنك لا تريد الفراغ الذي يذكرك بها و تفعل الشيئ نفسه حين تعود هنا و تتجه للنوم مباشرة لكن الأمر كله خطأك .
– خطأي ؟ .
– نعم ، مفهومك الخاطئ للرجولة منعك من البكاء كشخص عادي و الآن أنت تستمر بضغط نفسك معتقدا أنك في في قمة العالم بقوتك … البكاء لم يكن يوما ضعفا و لا قلة رجولة لكنك يوما بعد يوم تستمر بتدمير نفسك و تريد أن تجرني معك .
حاول والدي مرة أخرى الحديث بعد ذلك لكنني واصلت ثورة غضبي :
– أنت لست قلقا بشأن مستقبلي و لست قلقا بشأن فشلي في تخصصي ، أنت قلق من كوني شخصا ضعيفا لا يستطيع مواجهة العالم لكن طيلة الوقت كل ما كان عليك فعله هو النظر في المرآة لمعرفة من الضعيف فينا حقا .
بقبضة محكمة ضرب الطاولة حتى إهتزت أركانها و قال :
– كفى كلاما ، إذهب إلى غرفتك .
بهدوء نهضت من مقعدي راميا بسهم أخير :
تهرب من الصراعات كعادتك ، لماذا لست متفاجئا ، و سيدة رميس من اللطيف مقابلتك .

***

في أعمق حالات الصمت نسمع أقوى ضجيج ، ليس ضجيج صياح أو صراخ إنما ضجيج الأفكار تتآكل داخل رؤوسنا ، عبر نافذة غرفتي الضيقة نظرت خارجا فلمحت مرة أخرى عنق المنارة و هو يحتضن السماء بسلام فأنزلت الستائر و إهتديت للزاوية بضع ثوان قبل أن أعود و أطل مجددا لأجدها كما تركتها .
” حان وقت مواجهة خيالك “
كنت مجبرا على الذهاب مرة أخرى لذلك الطريق ، كنت أدين لنفسي بأن أخلصها من الهلوسات التي خلقتها ساعات عملي الطويلة و كما كان الحال … فتحت الباب و هرولت للطابق السفلي متجها مباشرة لوعاء المفاتيح عند المدخل لكن مرة أخرى الصوت الأبدي لوالدي أوقفني :
– خير إن شاء الله .
تظاهرت بأنني لم أسمع كلماته تلك و فتحت الباب ليصرخ مجددا :
– أنا أتحدث معك … إلى أين أنت ذاهب ؟ .
وقفت للحظة حتى أنهى جملته ثم واصلت السير لباب السيارة فأطلق صيحة أخرى :
– مصطفى إذا لم تتوقف حالا أقسم بالله أنني سأتصل بالشرطة ، مقرهم على بعد مبنيين و سيمسكون بك قبل أن تغادر الحي .
كلماته ، صيحاته ، تهديداته لم تعن شيئا لي ، جلست خلف المقود و أنا أنظر له يضع الهاتف عند أذنه ثم أطلقت العنان للمحرك و ركبت أمواج الطريق ، عداد السرعة إستمر بالصعود كحرارة أغسطس حتى وصلت الطريق السريع فإنعكست على مرآتي الجانبية أضواء الشرطة و تناهت لأذني صافراتهم المدوية ، كنت آليس في بلاد العجائب ، الكابتن آهاب في مواجهة الحوت ، بطلا في قصتي الخاصة ، كل شخص يشعر بذلك لكن أنا لم أشعر بذلك فقط بل كنت أعيشه ، لوقت طويل لم أدرك الأمر لكن في تلك اللحظة إتضحت الصورة ، الرحلة لم تكن يوما عن ” إيجاد نفسك ” بل عن ” كونك نفسك ” ، كانت الأضواء تقترب لكن الطريق للمنارة كان في مرمى بصري فأدرت المقود بحدة حتى إرتقى ذيل السيارة إرتقاء جسد لبؤة تتربص فريستها و دخلت ذلك المسلك المنعرج مرة أخرى ، العداد إستمر بالإرتفاع و الراعي الألماني في الأعلى كان يقفز حماسا بعودتي مرة أخرى و هناك فقط لاحظت … أن الصافرات قد خفتت و أن الأضواء قد حجبت تماما ، بسرعة أوقفت السيارة وسط الطريق و قد كدت أفقد السيطرة عليها ثم خرجت مسرعا لأجد نفسي أواجه إسفلتا فارغا يمتد على قدر ما لمحت عيناي ، نظرت للمنارة خلفي و على وجهي إبتسامة لم ترسم عليه منذ سنوات لا أقوى على عدها و قلت :
– لم يكن خيالا قط … إنه حقيقي ! .

النهاية .

تقي الدين

الجزائر
guest
14 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى