أدب الرعب والعام

الطريق نحو الخطيئة

بقلم : هيفاء – المغرب
للتواصل : [email protected]

حبي له جعله الأجمل في عيني بل حبي له أعماني عن كل الرجال
حبي له جعله الأجمل في عيني بل حبي له أعماني عن كل الرجال

عدت للمنزل لتوي و أنا أكابد شتى أنواع القهر و الذل، أقاوم رغبتي في البكاء، في منزل لم أكن أنعم فيه بالخصوصية و هي أبسط حقوق طفل. كانت الساعة قد قاربت السابعة مساءا عندما اتجهت نحو حديقة تقع قريبا من المنزل. هناك تحت شجرة الزيزفون الفارعة، ذلك المكان هو مكاني المفضل، لطالما لعبنا فيه أنا و اسمهان و أسميناه مخبأنا السري، هو المكان الوحيد الذي يمكنني فيه أن أذرف الدموع وحدي قدر ما أشاء دون أن يراني أحد. أما اسمهان فكانت تبكي في غرفتها.
أكره أن أظهر ضعفي للناس، حتى عائلتي دائما ما أشعر أنهم غرباء عني و أحاول أن أداري عنهم نقطة ضعفي.

جلست أبكي و أفكر في حل لمشكلتي فلطالما كنت فتاة عقلانية، حتى في لحظات يأسي و إحباطي. فكرت أن أنقطع عن الدراسة و أرتاح ثم عدلت عن الفكرة الغبية فبذلك سأكون قد حققت لهن مرادهن في إزاحتي عن الطريق، كلا لن أسمح بانتصارهن أبدا،

أتساءل لم ينفر مني الجميع ؟ كل فتيات المعهد تكون الصداقات بكل سهولة إلا أنا كل ما أتلقاه من الأخريات هو التنمر و الهمسات و السخرية.
الانتحار..
ربما هذا هو الحل الأمثل لارتاح نهائيا. كلا ! أنا أجبن من أن أفعلها ! أظن أن سبب نصف مشاكلي هي خوفي من الله في زمن انعدمت فيه الضمائر، أما نصف مشاكلي الأخرى فسببها أني غير اجتماعية

قطع صوت أمي حبل أفكاري و هي تناديني للعشاء. فمسحت دموعي و التحقت بهم حتى لا يلاحظ أحد غيابي فيأتي هنا و يراني في هذه الحالة المثيرة للشفقة
* * * *

تسلمنا اليوم أوراق اختبار الرياضيات و تحصلت كالعادة على أفضل نتيجة في الصف.كنت سعيدة، الدراسة هي الشيء الوحيد الذي أبرع فيه و أحبه أيضا.
آه.. مهلا !
عفوا إلى جانب الدراسة، أنا أحب عائلتي أيضا رغم أنهم لا يحترمونني كثيرا و لا يشعرون بوجودي البته. و أحب أيضا حسام، زميلي، ذلك الشاب ذو العينين الخضراوين، حبيبي..
و حبيب منى أيضا

لطالما أقنعت نفسي أنه لا يحبها و إنما يحبني أنا. منذ أن عرفت حسام و أنا شاهدة على علاقاته المتعددة مع الفتيات، واعد على الأقل خمس فتيات منذ أن عرفته ، لطالما شاهدته و هو يتلاعب بخصلات شعر هذه و يقبل تلك ، راقبته و أنا أموت غيظا، كنت أشعر أن قلبي ينقسم لنصفين في كل مرة. كنت أقول في نفسي هو يقوم باستغلالهن لإشباع غرائزه لا أكثر ، ذلك الأمل هو الذي جعلني أقاوم و لولاه لمت منذ زمن بعيد
* * * *

اليوم وصلتنا دعوة لحضور حفل زفاف إحدى قريبات والدي ، في حياتي لم أحضر حفلة زفاف، تحمست للفكرة، قدمت لأمي الدعوة و قلت لها : أنظري مكتوب فاطمة و ابنتيها، انها تقصدني أنا و اسمهان
فأجابتني : أجل.. سآخذ اسمهان معي، لقد سبق و أن كانت صديقة العروس
فقلت : حاضر يا ماما أصلا امتحاناتي على الابواب و أنا بحاجة للمزيد من المراجعة، استمتعا بوقتيكما

* * * *
كنت أحث الخطى نحو الصف فقد كنت متأخرة جدا ،كنت أمشي و أتفقد ساعتي اليدوية،
ماذا ؟؟ العاشرة و نصف ؟
لا بد و أن الدرس قد بدأ منذ ما لا يقل على العشرون دقيقة. صرت أجري حرفيا.
فجأة،.. انقطع البث،
لا شيء سوى ضباب كثيف يعم الأرجاء..
لقد اصطدمت بمنى، مما جعل نظاراتي تطير عاليا ثم ترتطم بعنف على الارض ،صاحت في منى : هل أنتِ عمياء ؟
لو لم تصرخ لما عرفت أنها هي حتى ، كانت ستغادر كأن شيئا لم يحدث لولا أني أمسكتها من ذراعها و قلت لها : هلا أعطيتي نظاراتي ؟

_ و ما علاقتي أنا بنظارتك ؟ التقطيها !

_ أنتِ من أسقطها بسبب تهورك و لذلك يتوجب عليك أنت أن تلتقطيها، تحلي بشيء من اللباقة و لو لمرة في حياتك !

_ صحيح، آسفة..

صمت ثقيل
أضافت : أشيري عليها و سأحضرها

ساد الصمت مرة أخرى
فأضافت مرة أخرى : هيا ! أنا لا أراها
عندها؛ ارتفعت ضحكات كل من حولي ، ثم شعرت بيد تربت على كتفي،
إنه حسام؛ أحضر النظارات، البسني إياها ثم قال : لا تهتمي لها.
منى : لم أحضرتها ؟ كنت سأحضرها بنفسي
حسام : منى اغربي عن وجهي !

ذهبت منى و تركتنا معا، تمنيت أن تنشق الأرض و تبتلعني عندها من شدة خجلي ، أنقذت الموقف قائلة : يجب أن أدخل لدرس الكيمياء لقد تأخرت، ألا يفترض بك أن تحضر فيه أيضا ؟
_ كلا أنا مطرود من حصص الكيمياء، هل نسيتي ؟ أجاب ضاحكا
_ صحيح.. نسيت، طيب إذا أراك فيما بعد و شكرا لك

_ لا شكر على واجب، استمتعي بوقتك
غادرت و أنا أقول في نفسي : أنسى ؟ معقول يا حسام ؟ كيف أنسى شيء يتعلق بك ؟ أصلا لو لم تكن مطرود من حصص الكيمياء لما تأخرت عليها من الأساس
* * * *
كنا مجتمعين أمام الصف ننتظر أستاذ الرياضيات، كان حسام و منى داخل القاعة بينما كنت أنا و بقية التلاميذ في الخارج ، فكرت أن أدخل لأضع حقيبتي على الطاولة ريثما وصل الاستاذ فقد أثقلت ظهري ،كان حسام يتكأ على إحدى الطاولات بينما تقف منى مقابلة له و هي تنظر في هاتفها و كلاهما صامتان ، وضعت حقيبتي و عدت أدراجي، استوقفني حسام قائلا : شعرك يبدو جميل هذا اليوم
أحمر وجهي خجلا، تلعثمت و أجبته و أنا أطأطأ برأسي: شك.. شكك.. شكرا،

حسام : ابقي معنا الجو بارد في الخارج

أنا : يجب علي .. أن .. آآ.. أقصد الإدارة، سأحضر الدفتر من الإدارة و.. ربما أعود لاحقا.

ثم خرجت، لكني لم أبتعد كثيرا، خطر لي أن أسترق السمع، لقد انتابني الفضول لأسمع ردة فعل منى، لا بد و أنها ستموت من الغيرة
و فعلا سمعتها تقول : و ما الذي أعجبك في شعرها الأشعث ؟
حسام ضاحكا : كنت أستفزها و حسب.. تضحكني عندما أكلمها و تتوتر

_ نعم أنت محق إنها معقدة جدا، قالت ذلك و هي تقهقه
_ ألا تملك حبيبا ؟

_ فتاة لم تفلح في الحصول على صديقة فكيف عساها تملك حبيبا ؟ يبدو أنك أكثر غباءا منها

و انفجر الاثنان ضحكا
* * * *
بعد مرور عشرون سنة..

في إحدى الأيام الشتوية و الممطرة، كنت أنا و مايكل متعانقين كعادتنا في فراشه، نتبادل القبل و نراقب تساقط الثلوج في جو رومانسي جميل.

كنت معه أشعر أني أنثى، بحياتي لم أشعر بهذا الشعور، هو لا يكف عن مدحي و التغزل بي، منذ أن دخل حياتي صرت أقتني مساحيق التجميل لأتجمل في عينيه فقط، أضع أغلى العطور ليستنشقها هو علي، ربما هو لا يملك عيونا خضراء و لا زرقاء، و لا عضلات مفتولة، و لا رصيد بنكي كبير لكن حبي له جعله الأجمل في عيني بل حبي له أعماني عن كل رجال الدنيا ، كان مايكل يتأملني بإعجاب شديد، و ينصت لكل ما أقوله باهتمام، لم يكن عندي الخبرة الكافية في العلاقات العاطفية لكن قلبي يحدثني أنه فعلا أحبني، حتى لو كذبت الكلمات، العيون لا يمكن أن تكذب أبدا، و أنا قرأت ذلك في عينيه،

قلت : اشتقت إليك كثيرا، لم نتقابل منذ أيام، أليس هذا كثير علي؟
_ أنتِ من ترفضين المجيئ إلى هنا،

_ أخشى أن يتعرف علي أحد و أنا في طريقي،

كان يتلاعب بخصلات شعري و يمرر يده على جسدي برفق
أنا : حتى المسشفى لم يعد بإمكاني التحدث فيه معك بحرية

_ هذا بسببكِ أيضا فلولا لسانك الطويل و لولا أنك تحدثتي عن علاقتنا لما انتبه أحد للموضوع من الأساس، كان من المفروض أن تكتمي السر حتى أقوم بتسوية وضعي على الأقل .
_ أنت تعرفني، لست بارعة في كتم مشاعري .

و بينما نحن نفكر و نخطط للمستقبل، قطع حديثنا طرق عنيف على الباب،  توترت و صرخت في مايكل : من هذا ؟ هل تنتظر شخص ما ؟

_ كلا؛ لا تقلقي عزيزتي لا بد و أنها إحدى الجارات، هم يعلمون أني أعيش وحدي فيحضرون لي الغذاء بين الحين و الآخر

_ حسنا إفتح إذا قبل أن يتحطم الباب على رؤوسنا،

خرج مايكل و هو يطمئنني ثم فتح الباب وليته لم يفعل !
سمعته يتحدث مع امرأة ما، ثم علت أصواتهما و تحول الحديث إلى صراخ، يبدو أنها زوجته، واضح أن أحدهم أبلغها عن وجودي ، سمعتهما يقتربان من غرفة النوم شيئا فشيئا و هي تصرخ : إذا كنت لا تخفي شيئا فلم لا تريدني أن أتفقد الغرف ؟
قفزت من الفراش و ارتديت ثوبي على عجل، حاولت أن ألملم نفسي لأقف بصعوبة، رجلاي بالكاد تحملانني، ركبتي ترتعش خوفا
كنت أسمع صراخها هي فقط،
كانت تقول : يبدو أنك لا تتغير، و الله لأفضحنك،
اتركني..
فليسمع الجميع و ليعرفو حقيقتك، زير نساء يت..
دعني..
اتركني..
ثم سمعت صوت ارتطام هز الجدران، و ساد الصمت لبضعة دقائق، فتحت الباب بهدوء، وجدت مايكل يجلس على الأرض، ممسكا برأسه بين يديه، مطأطأ و لا يتكلم ،ما كدت اتجاوز الباب ببضع خطوات حتى رأيت جسدها، كانت زوجته ممددة و لا تتحرك ، عدت إلى مايكل، جلست إلى جانبه، أمسكت رأسه و نظرت في عينيه و سألته :
هل قتلتها ؟
_ لا أدري
_ ما الذي سنفعله الآن ؟
_ لا أدري

ظل يكرر تلك الجملة باستمرار و بصفة هستيرية.
الجيران أحسو بوجود خطب ما في المنزل، بعض الجارات الفضوليات خرجن للحي يستقصين الأمر
وجدت نفسي بين المطرقة و السندان، إن خرجت فلن أتمكن من مواجهة نظرات الناس، سأكون في نظرهم امرأة فاسدة، تزور عشيقها المتزوج في شقة مأجورة ، اتخذها ليبتعد عن العيون، و طبعا سيصل الأمر لعائلتي ، والدي رجل محافظ جدا، لم يكن يسمح لي أن أتحدث مع زملائي الذكور فماذا عساه يفعل إذا علم أني أعاشر رجلا متزوجا ؟ لا أستبعد أن يقتلني
يا للمصيبة !

بينما أنا أفكر سمعت صوت أنين ضعيف، استيقظت الزوجة و هي تضغط على رأسها و تتلوى وجعا ، انتفض مايكل فسألته : ماذا ستفعل ؟

_ سآخذها للمستشفى

_ لكي تشفى و تفضحني ؟ أجبته بانفعال
_ ماذا تقصدين ؟

جريت نحو المطبخ و أحضرت سكينا كبيرة، أمسكتها بكلتا يداي، و غرستها في قلبها مباشرة بكل ما أوتيت من قوة
ارتبكت، اتجهت نحو الباب، فمنعني مايكل و قال : هل ستخرجين بوجهك و ملابسك الملطخة بالدماء ؟ اغتسلي بسرعة و غيري هذا الثوب ريثما هدأت الأوضاع في الشارع
فعلت كما أمرني، ثم عدت إليه فوجدته يمسك بيديها و هي جثة هامدة و يبكي بحرقة، عندما رآني جاهزة، أطل من النافذة، ثم قال لي : يمكنك الخروج

أسرعت نحو الباب ثم التفت إلى حبيبي، عانقته، و قلت له أني أحبه
فأجابني : و أنا أيضا، هيا انطلقي بأقصى سرعة، ليس لدينا وقت، اذهبي و لا تلتفتي إلى الوراء أبدا يا عزيزتي .

انهمرت دموعي و عانقته مطولا

فقال لي: هيا اذهبي.. سأتصل بك فيما بعد.. هيا
غادرت و لم أكن أعلم أنها ستكون آخر مرة أراه فيها
* * * *

كنت أجلس على كرسي متهالك، في مكتب ذو إضاءة ضعيفة. في الجهة المقابلة جلس المحقق، أخرج صورة الضحية من جيبه و سألني : هل تعرفين هذه المرأة ؟
_ كلا

ثم أخرج صورة مايكل و قال : ماذا عن هذا الرجل ؟

_ طبعا أعرفه
_ من أين تعرفينه ؟
_ هو مدير المشفى الذي أعمل فيه
_ و ماذا أيضا ؟
_ و عميد الأطباء
_ فقط ؟
_ فقط
_ و كيف هي علاقتك به ؟
_ ماذا تقصد ؟
_ عدة أشخاص أكدوا أنكما على علاقة حميمية
_ هذا صحيح
_ أليس من المفروض أن تذكري ذلك منذ البداية و توفري علينا العناء ؟
_ في الواقع لا أفتخر جدا بتلك العلاقة،

ضرب المحقق على الطاولة بعنف و صاح قائلا : أنتِ هنا لتجيبي عن الأسئلة بلا لف و لا دوران .

ردة فعله و صوت صراخه الذي تردد صداه في الأرجاء جعل قلبي يرتجف، فأشعل سيجارة، ثم واصل : إذا كنت قريبة منه إلى هذا الحد فلا بد و أنك تعرفين زوجته
_ كلا
_ لا تقولي أنك لا تعرفين أنه متزوج و له أطفال
_ طبعا أعرف، حدثني عنها ،أقصد أني لا أعرفها شخصيا،
_ لكن زملاؤك يعرفونها، جميعهم أكدوا أنها تأتي للمستشفى بين الحين و الآخر، ألم يسبق لك أن صادفتيها ؟
_ كلا
_ تأملي الصورة مليا، ربما رأيتها مرة من بعيد ؟
_ لم أرها في حياتي قط، لا من بعيد و لا من قريب
اتجه المحقق نحو الحائط، وضع يده عليه و قال : هل تعرفين من يجلس وراء هذا الحائط تماما ؟
_ لا
_ عشيقك، أحضرناكما معا ليتم استجواب كلاكما على حدة .

عاد و جلس قبالتي و قا ل: متى كانت آخر مرة رأيته فيها ؟
_ الخميس
_ يعني يوم الجريمة
_ أية جريمة ؟

سكت المحقق برهة من الزمن ثم جلس بجانبي تماما و همس في أذني : مايكل اعترف أنكما خططتما للجريمة معا يا دكتورة، أخبرنا كيف قمتي بطعنها و كيف هربتي من منزله كالجبانة و تركته وحيدا، ثم تراجع للوراء قائلا : هو الصراحة لم يعترف في البداية، يبدو أنه يحبك كثيرا، لكن بعد التعذيب انهار و اعترف بكل شيء.

أجهشت عندها بالبكاء و لم أتمالك نفسي، قلت : يبدو أنكم أحضرتموني كمتهمة لا كشاهدة

_ بصراحة أصابع الاتهام تتجه نحوك بالأساس، فأنتِ لديك دافع قوي، الغيرة هي السبب وراء أغلب جرائم القتل.. أين كنتِ يوم الواقعة ؟

_ في منزلي

_ هل لديك شهود ؟

_ عائلتي

_ أليس لديك أخت تدعى اسمهان و كانت تدرس الآداب في جامعة العلوم الإنسانية ؟

_ أجل

_ سمعت أن الزوجة المغدورة درست فيها أيضا، مع أختك و في نفس الصف، سمعت أنهما كانتا صديقتان،أستغرب كيف لا تعرفينها
_ علاقات أختي كثيرة و أصلا أختي لم تدرس في الجامعة سوى سنة واحدة
_ حسنا دكتورة، سررت بمقابلتك، يمكنك المغادرة و لكن لا تبتعدي كثيرا فمازلتي على ذمة التحقيق
سألته بلهفة : هل يمكنني أن أرى مايكل ؟

_ هو موقوف و غير مسموح له أن يقابل أحد في الوقت الحالي

_ لم ؟ هل هو متهم ؟

_ في الواقع هو متهم رئيسي، بل أمسكناه بالجرم المشهود

عندها شهقت، وضعت يدي على فمي من الدهشة ثم قلت : كيف ؟.. من ؟
_ لا يمكنني أن أعطيك معلومات أكثر ، آسف .

في تلك الليلة لم يكحل النوم جفوني ،بت أتقلب في فراشي، أنتظر الصباح بفارغ الصبر

* * * *
في الصباح، أسرعت نحو المشفى، مررت أولا بقاعة الاستقبال، ألقيت تحية الصباح لكن لم يجبني أحد ، دخلت إلى مكتبي، هو مكتب مشترك بيني و بين طبيبة أخرى ، وجدتها تشرب القهوة ، ألقيت عليها السلام كالعادة فسألتني : سمعت أنهم أخذوك للتحقيق، هل هذا صحيح ؟

_ أجل

_ غريب، لم أخذوك أنتِ بالذات للتحقيق في المكتب ؟ جميعنا أخذو أقوالنا على عين المكان،

_ كان حري بكِ أن تتساءلي لم قاموا بإيقاف الدكتور شربال كل هذه المدة و كأنه مجرم ؟

_ قيل بأنهم أمسكوه متلبس بالجريمة

_ معقول ؟ كيف حصل هذا ؟

_ قيل بأنه قتل زوجته و كل أولاده ثم اتصل بابن عمه ليساعده على دفن الجثث، لكن تبين بأن ابن عمه رجل محترم و بمجرد أن رأى جثث الملائكة و الأم المسكينة ارتعب المسكين و أبلغ عنه فورا .

لم تكد تكمل حديثها حتى صرخت فيها : عبد الستار ؟؟
_ من هو عبد الستار ؟

ارتبكت قليلا ثم قلت : من عبد الستار ؟ سألتك عن الستار.. قلت لك أين الستار ؟ سمعك صار ضعيف هذه الأيام، أنتِ تحتاجين لعيادة طبيب أذنين في أقرب وقت

_ ربما، أصلا كل أعمامي يعانون من نقص في السمع يبدو أني ورثت ذلك عنهم. يا ويلي ! أنا لم أبلغ الثلاثين بعد
ضحكت و قلت لها :ت عملين كطبيبة جراحة منذ سنتين و لم تبلغي الثلاثين بعد ؟ هل تقومين باستغفالي أم ماذا ؟

_ حسنا أيتها الذكية، حري بنا أن نكون الآن في غرفة العمليات ، قالت ذلك و هي تنظر في ساعتها اليدوية

* * * *

تم ايقافي هذه المرة رسميا بصفتي متهمة ، و جاء نفس المحقق ليقوم باستنطاقي ، ظل صامتا لدقائق ثم مسح نظارته، ارتداها و قال : الإنكار لن يفيدك بشيء، من الأفضل أن تعترفي حالا، إذا اعترفتي و وفرتي علينا العناء فقد تحصلين على حكم مخفف

_ كيف أعترف بشيء لم أفعله ؟

_ أين كنتِ يوم الواقعة ؟

_ أخبرتكم مائة مرة أني أمضيته في المنزل، أمي و أختي شاهدتان فلتسألهما

_ شهادة العائلة لا نأخذها كثيرا بعين الاعتبار، و بالتالي فليس لديك دليل، موقفك ضعيف أيتها الجميلة و موقفك صار أضعف بعدما أكتشفناه البارحة
_ و ما الذي اكتشفتموه البارحة ؟

_ أولا نتيجة التشريح أكدت أن الجريمة حصلت يوم الخميس بين الساعة السادسة و الحادية عشرة، في ذلك الوقت ليس لديك حجة غياب ، ثانيا، وجدنا أنك يوم الواقعة اتصلت بمايكل عدة مرات..

_ طبيعي أن اتصل به، أنتم تعلمون أننا على علاقة، ما الغريب في أن تتصل امرأة برجل تحبه ؟

ضرب المحقق على الطاولة بعنف و صرخ : هذه آخر مرة تقاطعيني، ثم.. هلا جلستي باحترام ؟

اعتدلت في جلستي فأضاف : الغريب في الأمر أنك اتصلتي به لأكثر من خمسمائة مرة في أقل من خمسة ساعات.. ما السبب الذي يجعل شخص ما يتصل بشخص آخر خمسمائة مرة من الحادية عشرة إلى الثالثة صباحا دون انقطاع ؟ دون كلل أو ملل ؟
شعرت عندها أن حرارة المكتب قد ارتفعت بشكل لا يطاق، و لم أنبس ببنت شفة

عندها ابتسم المحقق و قال: أنتِ متهمة رسميا بالتخطيط لقتل السيدة شربال.. أخبرينا بالتفصيل ما الذي حصل ؟

_ أنا لن أتكلم إلا بحضور محامي

_ طبعا، هذا حقك، اتصلي به
ذهب المحقق إلى المكتب الآخر و جلس يشرب القهوة مع زميله الذي ما أن لمحه حتى تنفس الصعداء و سأله :أخيرا تمكنا من إغلاق الملف
_ لا أعتقد ذلك يا صديقي، الطبيبة المدعوة بملاك عبد الحميد ليست سهلة أبدا ، لها قدرة رهيبة على التملص و التمثيل، أول مرة في حياتي أشعر أن طرقي في الاستجواب لا تجدي ، أنا متأكد أن لها يدا في الجريمة، إن لم تكن قتلتها فلا بد و أنها العقل المدبر.

_ ألا تثق بما يقوله مايكل ؟

_ لا أثق كثيرا بكلامه، أنا واثق أنه يغطي عليها

_ ما الذي قد يجعل شخص يغطي على شخص آخر و يعرض نفسه لحكم الإعدام فقط ليحميه ؟ الحب ؟ معقول ؟

_ هذا ممكن، لطالما تعرضنا لهكذا مواقف من قبل خلال مسيرتنا المهنية

_ صحيح، لكن مايكل معروف في المستشفى أنه زير نساء، بل نذل، لا يعرف معنى الحب، لا يفكر إلا في إشباع غرائزه الجنسية، تقريبا نام مع نصف العاملات في المستشفى، سمعت أن المرحومة ضبطته عدة مرات في مواقف غير أخلاقية مع الممرضات و حتى عاملات النظافة لم يسلمن من تحرشه ، قيل أن المرحومة أصيبت بالضغط بسببه
_ ليست هذه المرة يا فؤاد، تجربتي في هذا الميدان علمتني قراءة الأفكار، هو يحبها أكثر من نفسه و أكثر حتى من أطفاله، حبه لها غيره و حوله من شخص نذل و أناني إلى رجل وفي
ثم أضاف : المدعي العام يحتاج لأكثر أدلة ليكون ملف إدانتها.. لن أرتاح قبل أن أرمي هذه المجرمة رمية الكلاب، وراء القضبان، حيث تنتمي
* * * *

وكلت للدفاع عني أكبر محامي في البلاد، و بعد المحاكمة، تم إثبات أني كنت حاضرة يوم الواقعة في منزل عشيقي لكن هذا الأخير تمسك بأقواله و قال أنه لا علاقة لي بالأمر و أنه هو من خطط و نفذ الجريمة ليخلو له الجو معي و ليقبض بويصلة التأمين على حياتها ،حكم علي بالسجن سنتين ثم قام المحامي بطلب الاستئناف و قلص المدة لسنه واحدة بتهمة التستر على مجرم لكني لم أقضي منها يوم واحد فقد قمت بدفع كفالة كلفتني مدخرات سنوات طويلة من العمل ،
كنت أظن أن المحكمة قامت بتبرئتي من كل التهم الموجهة، و بذلك أثبت للجميع براءتي و سأتمكن أخيرا من العيش بسلام و لكن هيهات ، مازلت في نظرهم امرأة ساقطة، خانت واحدة من بني جنسها مع زوجها ثم قتلتها  ليستمتع الإثنان بمال التأمين ثم خرجت كالشعرة من العجين، بل بعضهم يقول بأني قتلت المرأة و أولادها أيضا و البعض يقول أني ساحرة جعلت الرجل يقتل زوجته بيديه و عدة إشاعات مؤلمة تم بثها بحقي ، نظرات الناس لي في الشارع صارت أشبه بسكين تطعنني مرارا و تكرارا ، بعدما أقنعت المحكمة و أقنعت نفسي أني بريئة و أن حظ تلك المرأة السيء هو الذي وضعها في طريقي و هو السبب في موتها ، أنا لست امرأة سيئة و أي شخص مكاني كان ليفعلها ، أي امرأة تخاف على شرفها و شرف عائلتها كانت لتفعلها.

عائلتي بعدما عرفوا بقصتي مع مديري قامو بطردي و تبرأوا مني ، أمي طلبت مني أن لا أحضر حتى في جنازتها ، أما والدي فقد شل المسكين في المحكمة عندما سمع شهادة إحدى الجارات و هي تقول أني كنت أتردد على منزل مايكل و أحيانا كانت تفطن لسيارتي المركونة وراء منزله حتى الصباح.

عندها لم أجد بدا من الاستنجاد باسمهان التي تزوجت و هي تعيش في منطقة بعيدة ، ترجيتها حتى تقنع والداي بالافصاح عني فلطالما فضلاها علي، و لطالما سمعوا منها ،اسمهان وافقت أن تحاول الحديث معهما ، و عرضت علي أن أعيش معها ريثما تعود المياه لمجاريها

* * * *
كنت جالسة أشرب قهوتي الصباحية بهدوء حينما دخلت اسمهان علي قائلة : أخيرا خرج وليد، الآن يمكننا التحدث
_ ما الذي يجري ؟

_ أنتِ هي من ستخبرني ما الذي يجري..

أخرجت ثوبا و قالت : بينما كنت أضع الملابس في الغسالة وجدت هذا ، أليس ثوبك هذا ؟

_ أجل

_ إذا ما هذه البقعة الحمراء ؟

تمعنت النظر فيها ثم قلت : عصير على الأغلب

_ حاضر إذا، سآخذه معي غدا إلى الشرطة، و هم سيأخذونه بدورهم إلى المخبر و سيتم تحليل البقعة، و إذا تبين أن البقعة عصير عندها سننسى الموضوع و كأنه لم يحدث أما لو…

تجمد الدم في عروقي عندها و صرخت فيها : هل جننتي ؟ ماذا يمكن أن يكون مثلا ؟ دم ؟ هل تقصدين أني مجرمة ؟

صمتت اسمهان لبرهة من الزمن ثم قالت : في مركز الشرطة، سمعت أن هناك شاهد، هو قريب مايكل، و هو الذي اتصل به ليساعده على إتلاف الجثة و هو الذي قام بالابلاغ عنه و كان من المفروض أن يشهد ضده في المحكمة لكنه لم يحضر لسبب مجهول ثم اختفى نهائيا و لم يجدوا له أثر.. ملاك ! قولي أنه لا دخل لك بالموضوع

التزمت بالصمت و لم أجد شيئا لأقوله ، عندها جن جنون اسمهان، أمسكتني بكلتا يداها و أخذت تخضني و هي تصرخ : قتلتيه ؟ قتلتيه أيتها المجرمة ؟

_ اتركيني !

خلصت نفسي منها بشق الأنفس، كانت تضغط على كتفي بقوة، أمسكت موضع الألم و قلت لها و قد خنقتني عبراتي : ذلك الخائن لطالما وثق فيه مايكل، كان يعتبره أخ وأخبره بكل أسراره لكنه ليس سوى واشي

_ قتلتيه ؟

_ أمثاله حتى الأكسجين الذي يتنفسونه كثير عليهم ،لقد خان حبيبي و بسببه سيمضي بقية حياته وراء القضبان ، لن أرضى أبدا أن يعيش هو بحرية بينما أحرم أنا من الرجل الذي أحببته و أحبني

_ صرتي تدافعين عن المجرمين الآن ؟

قالت هذا ثم جلست تفكر لبرهة من الزمن ثم أضافت : غدا صباحا، سنتوجه معا إلى مركز الشرطة و ستعترفين بما فعلته بالتفصيل

_ سترسلين أختك الوحيدة إلى حبل المشنقة ؟

_ الشرطة تقوم بقلب الدنيا عليه رأسا على عقب ، إذا اعترفتي بنفسك فقد تنالين حكما مخففا صدقيني أما إذا وجدوا جثته..

قاطعتها قائلة : لن يجدوها، أؤكد لك أنهم لن يجدوها، اسمعي يا أختاه أنا لم يعد لي أي أقارب سواك، فلنغلق الموضوع و لن نفتح الموضوع حتى بيننا و بين أنفسنا

هزت رأسها بالنفي و قالت : سأكون بذلك شريكتك في الجريمة ، أصلا سبق و أن شاركتك في الجريمة الأولى. أتذكرين ؟ شهدت في صالحك يوم مقتل كاترين، في تلك الليلة أتيتي في وقت متأخر و ترجيتني فيما بعد كي أشهد لصالحك ، أقنعتني عندها أنك تخافين من الفضيحة و لا يمكنك أن تقولي أنك كنت مع عشيقك، لم أشك عندها لحظة واحدة في صدقك. آه ! كم كنت حمقاء !

_ لم أقتل كاترين

_ سأقترح عليك حلين اثنين لا ثالث لهم ا: إما أن تذهبي و تعترفي بما فعلته للرجل المسكين و أتمنى من كل قلبي أن يكون حيا ،و إما أن لا تعترفي و عندها سأذهب أنا للتبليغ عنك و سآخذ هذا الثوب للشرطة بنفسي ، و ليس هذا فحسب بل سأعترف أني كذبت عندما شهدت لصالحك في المحكمة و ستعيد الشرطة فتح ملف القضية و سأدعهم يكتشفون بأنفسهم إذا كان لك يد في مقتل كاترين أم لا.

هدأت من روع اسمهان و وعدتها بأني سأذهب للاعتراف بكل شي. لم يكن لدي حل آخر أصلا لم يكن لدي أي شخص يهتم لأمري.

* * * *
مرت المدة التي اتفقنا عليها، و وقفت أنتظر اسمهان في الحديقة المحاذية لمنزلنا حيث يقع مخبأنا السري، المكان الذي لطالما لعبنا فيه و نحن صغارا ،أخيرا ظهرت سيارتها، صعدت إلى جانبها فسألتني : لم أتيتي بي هنا ؟ ألم تقولي أنك ستذهبين اليوم لتعترفي ؟

_ سأذهب، لكن أردت أولا أن آتي إلى مكاني المفضل آخر مرة و أودعك فيه ، و ما أدراني ؟ لعلهم يقومون بإعدامي ؟ و تكون بذلك أختي هي التي أرسلتني بيديها إلى حبل المشنقة
أجابت و هي تشيح بنظرها عني : لن يحكموا عليك بالاعدام صدقيني و أنا واثقة أن هذا أفضل لك ، فمنذ يوم الحادثة و الكوابيس تلاحقك، لم أكن أفهم ما تقولينه عندها حتى رأيت ثوبك و عليه بقعة الدم تلك، عندها فهمت ما كنت تقولينه.

ثم التفتت الي و قالت : إذا نلتي العقاب الذي تستحقينه، فستتوقف الكوابيس و سترتاحين بالتأكيد فقط ثقي بكلامي

_ أنا أثق بكلامك يا أختاه و لهذا سأذهب بنفسي لتسليم نفسي و لكن أولا أرغب في معانقتك ، هلا ضممتني إلى صدرك ؟ فيبدو أن فراقنا سيطول هذه المرة
فتحت اسمهان ذراعيها ثم ابتسمت و قد اغرورقت عيناها بالدموع ، ارتميت في حضنها ثم سللت سكينا من حقيبتي اليدوية و غرسته في ظهرها حيث يقع قلبها و قلت لها : كم أنتِ غبية ! كيف تصدقين أني سأسلم نفسي ؟

كانت تلفظ أنفاسها الأخيرة بين ذراعي فقلت لها : آسفة يا أختي العزيزة فلم تتركي لي خيارا آخر.

غيرت ملابسي على عجل ثم خرجت من السيارة أتعثر و أنا أتذكر كلمات حبيبي الأخيرة : انطلقي بأقصى سرعة، ليس لدينا وقت، اذهبي و لا تلتفتي إلى الوراء أبدا يا عزيزتي…

تاريخ النشر : 2021-06-13

هيفاء

المغرب
guest
57 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى