أدب الرعب والعام

الطفلة ليست طفلتي !

بقلم : أحدهم – كوكب الأرض

تلك الطفلة ليست ابنتي و لا اختي

بعد أخذ ورد، وتوضيح واستنكار، وصراخ وعويل، لم يقتنعوا بأن تلك الطفلة الصغيرة ذي العامين ونيف ليست ابنتي ولا اختي .. صدقوني لا صلة لي بها ولا اعرفها، اقسم لكم بذلك.. لكن سائق السيارة وزوجته أصرا بأن البنت الصغيرة ليست ابنتهم، وأنها لم تكن موجودة قبل أن اركب معهم في السيارة.. لا انكر فضل السائق الطيب وزوجته اللذان أعطوني توصيلية يفترض أنها مجانية لولا هذه الطفلة الصغيرة التي يصرون أنها ليست ابنتهم ولا يعرفونها، وأنها لم تكن موجودة قبل أن اصعد معهم في السيارة، وطلبوا مني أخذها على أساس أنها طفلة تخصني..

وبين أخذ ورد، وشد وسحب في الكلام، ازداد الوضع سوءا وإرباكا وحيرة، وازداد الجدال حدة، وتعالت التهم بيننا، وبدنا لعبة الصراخ والكلام الجارج الذي كاد أن يصل إلى التعدي بالأيدي لولا دورية شرطة كانت مارة بنفس المكان الذي كنا فيه، وكان هذا من حسن الحظ، أو لعله من ويلات حظي العاثر.. أخبرنا شرطة الدورية بالقصة، قلتُ له بأن هؤلاء الجماعة (السائق وزوجته) قد أكرموني بتوصيلة، حيث كان مقصدي في مسار رحلتهم بالسيارة، وركبت معهم، وقد وجدتُ هذه الطفلة بجواري في المقعد الخلفي ، لكن عندما أوصلاني إلى بغيتي – إلى هُنا- طلبوا مني أن أخذ الطفلة معي ؟!؟ قلت لهم أن هذه الطفلة طفلتكم، فقد كانت في السيارة قبل تكرموني بالتوصيلة، لكن (الجماعة) السائق وزوجته أنكروا، وقالوا بأن الطفلة ليست طفلتهم، وإنها لم تكن موجودة قبل أن اصعد معهم في السيارة..

الشرطي طلب منا إبراز بطاقات هويتنا المدنية.. ثم طلب منا اللحاق به إلى مخفر الشرطة، وخوفا على سلامة الجميع، طلب مني الشرطي أن اصعد معهم في الدورية بدل الركوب في سيارة الرجل، ولما هممت بركوب الدورية طلب مني الشرطي أن أحمل “طفلتي” معي، قلت له بحنق واضح بأني قد أخبرته بأن الطفلة طفلتهم ليست طفلتي، لكن الشرطي رمقني بنظرة كما لو أنني قد سلبت شيئا من هيبته أو بخست حق من حقوقه المهنية، حينها علمتُ بأن الأمور لن تكون على خير في المخفر، كان حازما وبلباقة طلب مني أن أحمل الطفلة معي إلى مخفر الشرطة، وحملت حقيبتي والطفلة مرغماً من سيارة الرجل على همهمات وبنظرات تهمس بأني ناكر للجميل من عيون الزوجة الغاضبة، .. وعبارات من قبيل “من يفعل خيرا يلقى شرا” من قبل السائق الحانق..

لكن قبل أن أحكي لكم ما جرى في مخفر الشرطة إليكم قصتي من البداية…

كنت في سنتي الأولى من الجامعة، وجامعتنا بعيدة عن القرية التي أسكن فيها، وكنت أعود إلى البيت عند نهاية كل أسبوع، وكان علي أن اعود للجامعة مع أصحابي عندما تنتهي العطلة الأسبوعية بسيارتهم، لكن أحيانا كان علي الإعتماد على سيارات الإجرة لكي أصل إلى سكن الجامعة التي تبعد نحو ساعتين ونصف بالسيارة من المنزل، وفي عطلة من عطل الأسبوع اتصل بي زملاء الدراسة وأخبروني بأن سيارتهم معطلة، وعلمت بأني مضطر إلى استقلال سيارة أجرة.. وقد كنت سعيدا هذه المرة لأني لم أكن مضطراً للانتظار طويلا كالعادة حتى تقلني سيارة أجرة عابرة من نفس الطريق الذي انتظر فيه، فعادة ما كنت انتظر قرابة الساعة قبل أحظى بتوصيلة بعيدة..

لكن الأمور لم تكن جيدا دائماً، فقد تعطلت سيارة الأجرة بعد نصف ساعة من ركوبي فيها، واضطر صاحب سيارة الأجرة إلى الإعتذار مني، حاولت المساعدة، لكني لم أكن افقه في تصليح السيارات ولا حتى سائق الأجرة نفسه.. واضطررتُ إلى انتظار سيارة أجرة أخرى، المكان الذي توقفت فيه سيارة الأجرة كان قاحلا وهادئا، لا سكنى فيه، سائق الأجرة كان يتصل بأحد أصدقائه، وأنا اقف على مسافة مناسبة أمام سيارة الأجرة وأرقب الوقت فقد شارفت الشمس على المغيب..

ومن بعيد رأيت سيارة بل شاحنة صغيرة (نصف نقل) بيضاء اللون قادمة، ولما اقتربت خفف سائقها السرعة لإلقاء نظرات فضول حول سيارة الأجرة المتوقفة على جانب الطريق، كانت الشاحنة صغيرة الحجم و مزركشة بزينة بلدية، فعلمت بأن سائقها من القرويين اللذين يسكنون الجبال، و سكان الجبال هؤلاء طيبون ولكن عادة لا يحتكون بغيرهم كثيرا، تبادل السائقان حوارا قصيرا، سائق الأجرة اخبر سائق الشاحنة بأن سيارته متعطلة وهو بانتظار أحد الأصدقاء، لم أكن اسمع الحوار لكن لغة الجسد والإشارات كانت تحكي ما يقولان، ثم أشار سائق الأجرة بيده إلى جهتي واستنتجت بأنه يطلب من سائق الشاحنة أن يوصلني.. توقف سائق الشاحنة أمامي وألقى السلام والإبتسام، كانت زوجته في المقعد الأمامي تبتسم ترحيباً، ثم سألني عن وجهتي فأخبرته، لكنه تأسف باحترام بليغ وقال بأن خط رحلته لا يمر بالجامعة، لكن عرض علي إن يوصلني إلى أقرب نقطة ومنها استطيع أن أجد سيارة أجرة لتوصلني إلى السكن الجامعي، فوافقت وركبت معهم، وكنتُ ممتنا لحسن دماثتهم وكرم توصيلتهم..

ركبت في المقعد الخلفي، ورأيت بجانبي على المقعد شال بلدي الصنع مزين بزركشة جبلية جميلة، وكان الشال يغطي ما بدا لي أنه كومة ثياب أو أغراضهم الشخصية، وضعت حقيبتي عند قدماي، وتبادلنا الحديث والتعارف، حديثهما كان سلسا كله دماثة واحترام، الشاحنة من الداخل كانت مزينة بصورة مبالغ فيها وألوان زاهية براقة أكثر من المقبول، لكن ذلك يعد مؤلوفا لسكان الجبال، حيث السيارة هي جزء من البيت ولم يكن تنقصها الزينة البراقة ولا حتى بعض الديكور الخفيف، وبعد برهة أخذ الزوجان يتبادلان الحديث بحرية، غير متكلفين وجودي أو تطفلي بالاستماع لحديثهم، بل لم يعيراني اهتماما وسط أحاديثهم الشخصية، وطفقت انظر غروب الشمس من النافذة..

وفجاءة تحرك ما تحت الشال، تلك الكومة لم تكن سوى طفلة صغيرة بالكاد تجاوزت العامين تقريبا، أخذت الطفلة تصيح، يبدوا أنها كانت نائمة واستيقظت، الغريب بأن الزوجان استمرا في حديثهما وكأنهما لا يسمعان صراخ الطفلة، وانتظرت برهة وقلت لنفسي لعلهم ينتبهون لصياح الطفلة، ولكنهم بدوا كما لو أنهم مندمجين حتى النخاع في حديثم، كشفت الطفلة الصغيرة الغطاء من فوقها وجلست على المقعد بجانبي تبكي وتصيح، فقاطعت حديث الرجل مع زوجته وقلت (يا عم..!!!)، تنبه الرجل وزوجته لي، فصمتا فجاءة، ونظر الرجل ناحيتي من خلال المرآة العاكسة، والطفلة ما زالت تصيح، ولبرهه انتظار ظننت أنهم يسمعون صياح الطفلة، لكن بدا وكأنهم لا يعيرون صياح الطفلة بقدر ما كانوا ينتظرون مني أن أقول شيئا بعد جملة ال (يا عم..)، ثم طفقا يكملان حديثهما هكذا بكل بساطة متجاهلين صياح الطفلة وبكاؤها..

قلت لنفسي لعل هذه هي طريقتهم المعتادة في التعامل مع صياح طفلتهم، لكن استمرار صياح الطفلة كان لا يطاق، وبدأت أشفق عليها، فأخذت أربت عليها، حتى هدأت، ثم أخذت طرف الشال لأمسح وجنتيها الحمراوين.. سكنت الطفلة من صياحها، ثم أخذت تتكلم أشلاء كلمات غير مفهومة ممزوجة بحسرة طفولية، لغلغات ومأمأات وبأبآت.. وكأن المسكينة تخبرني عن بعض مشاكلها الصغيرة، وجدت الأمر طريفاً للغاية، ثم بعد فترة قصيرة هدأت الطفلة من نوبة صياحها وبدأت “تتحدث” عن دميتها التي في يدها، لم أفهم شيئا.. وكنت أرى انه من الكياسة ورد الجميل أن أكون جليس أطفال لهذه العائلة ريثما اصل إلى وجهتي..

بصراحة راق لي حديثها الجذل، كنت أعي ما تعنيه وإن لم أكن افهم انصاف كلماتها، ثم قامت على قائمتيها الصغيرتين فوق مقعد السيارة لتكمل حديث (أكشن) طفولي مختلط، وتسألني أسئلة لا افهمها وهي تنظر في عيني مباشرة وتتوقف قليلا لتنتظر أجوبة لا أعلمها، كان بالمختصر حديث طفلة مرحة تبحث عن اهتمام وعن حنان.. وكنت وقتها ذلك الطفل الكبير.. الغريب بأن والداها لم يعيرا مهمهات طفلتهما أية إهتمام..

دخلنا الشارع الرئيس ولم تكن حركة المرور سلسلة، بل مختنقة وخصوصا عند مفترقات الطرق، وعلى حين غرة، وقع حادث أمامنا على مسافة ليست بعيدة مما كان على السائق أن يضغط على فرامل السيارة بقوة، وأهتزت السيارة بقوة، وعلت أصوات صرير إطارات مفرملة من السيارات الأخرى في الطريق هنا وهناك.. كان المشهد دراميا، احتضنت الطفلة على الفور والتي بدأت في الصياح مرة أخرى، الرجل أخذ يلقي تذمرا أقرب للسباب عن كيف يُسمح للمجانين بالقيادة في الشوارع؟!؟ والغريب أن الزوجة لم تنظر للخلف لتطمئن على طفلتها، بل إنها تجاهلت صراخها للمرة الثانية، وقد ساءني كثيراً هذا التقصير والتجاهل أي كان نوعه لطفلة صغيرة..

استمرت الرحلة واخذ الرجل يحكي لي عن بعض الحوادث المرورية الشنيعة التي رأها أو كاد أن يتعرض لها، كان يتحدث متجاهلا صياح طفلته التي في حضني أهدئها واربتُ على ظهرها، ثم صمتت الطفلة وسكت الرجل لبرهة، وأخذ الرجل يكمل حديثه لزوجته، ورجع الوضع كما كان قبل الفرملة المفاجئة، وأخذت طفلتهما تكمل ثجلاتها معي وهي في حضني، واعدت لها دميتها التي سقطت أثر الحادث، واستمرت الطفلة في طرح أسئلتها الغير مفهومة وأخذتُ اصطنع أجوبة لا معنى لها من خلال تعابير وجهي ومناغاتي معها.

إلى أن وصلت إلى وجهتي، وطلبتُ من الرجل إن يتوقف بالقرب من تجمع سيارات الأجرة، فشكرتهما جزيل الشكر على صنيعهما، وودعتهما، وترجلت من السيارة، ولم أنسى أن اختلس نظرة إلى طفلتهم التي بدت ثجلى وهي تلعب بدميتها، وأغلقتُ باب السيارة ورائي، لوحتُ للزوجين بيدي توديعاً وتبادلنا الإبتسامات، واتجهت لنقطة تجمع سيارات الأجرة، وما هي إلا ثواني بسيطة حتى سمعت زمّور سيارة، إلتفت ورائي وكانت سيارة الزوجان نصف نقل ما زالت متوقفة، والزوجان يشيران إلي بالعودة، فرجعت، فأخبراني بأني نسيت ما يخصني، فتحسست جيوني وكنت واثقاً بأني لم أنس شيئا، فأشاروا لطفلتهم في الخلف، فبادلتهم نظارات إستفهام وتعجب، فقالت زوجة الرجل ضاحكة: (طفلتك يا رجل.. نسيت طفلتك !!).. لم أفهم (طفلتي!؟! .. تمزحون؟ أليس كذلك؟!).. فتغير جو الظرافة إلى استغراب ثم ضيق، ثم اشتد إلى نزاع وجدال، والكل أقسم أغلظ اليمين بأن الطفلة ليست طفلته.. إلا جاءت الشرطة.. وطُلِب منا الذهاب إلى مغفر الشرطة..

في قاعة إنتظار مكتب الضابط، جلست مقابل الباب واقعدت الطفلة جانبي، وكان الزوجان يقعدان على مسافة مني على يميني ويبادلاني نظرات كلها غضب وحنق، وهمهمات تأسف، ثم طفقت الزوجة متظاهرة التحدث مع زوجها بصوت مسموع عن أولئك اللذين يرمون أولادهم “اللقطاء” في ذمة الغير.. وكنتُ من بلاهة الفكرة وسخافتها أضحك بصمت، ولا أدري هل علي أن أتجاوب معهم أم أتجاهلهم.. وبعد لحظات رأيت شرطي الدورية يدلف إلى مكتب الضابط، ولم ينسى إن يرمقني ويرمق الطفلة بجانبي بنظرة غريبة .. لا أدري، هي مزيج من الإستخفاف والضيق، وتكشيرة كما لو أن هناك رائحة عفنة في الجو.. ليس ذبني إن كان ما صار قد أفسد له نوبة عمله ومزاجه..

دقائق وعاد الشرطي نفسه يطلب منا الدخول لمكتب الضابط، كان الضابط ينهي من توقيع بعض الأوراق الرسمية ويناولها للشرطي بطرف يده دون أن ينظر إليه، ثم طلب منا الاقتراب من مكتبه بلهجة من اعتاد على إصدار الأوامر، كانت غرفة المكتب ضخمة نسبيا وكانت هناك سجادة وفيرة وكبيرة تتوسطه، وأثاثه الراقي يدل بلا شك على رتبة الضابط العالية، كان الضابط على أبواب التقاعد، لكن ما زال محافظا على قوام جسمه الرياضي، وقور، ويملك عيون صقر تخترق روحك، رحّب بنا وأخذ يسألنا عن أحوالنا وأعمالنا وأين نسكن، بدا كما لو أنه يملك الوقت كله للاستماع لما يجب نقوله وما لا يجب أن نقوله والموقف، ثم أمر الزوجان بالبت عن روايتهما، بدأ الزوجان بالحديث، وأخذ يتفحصني والطفلة بجانبي بنظرات المحققين الغير مريحة، أشعة سينية من قمة الرأس إلى أخمص القدم، مرة تلو المرة، حين فرغ الزوجان من روايتهما، طلب مني سرد روايتي لما حصل، ثم طلب مني أن أتيه بالطفلة وحاول الحديث معها لكنها كانت ما تزال صغيرة وخجولة وغير مدركة.. وأخذ يسألها أسئلة من باب (أين بابا وماما؟ .. ما اسمك؟ .. هل تريدين حلوى؟ ..).. لكن بلا جدوى.. أخذت الطفلة ترمق الجميع على نفس المستوى من الخجل الطفولي الصامت.. والغريب أنها كانت تتصرف وكأنها لا تعرف والديها اللذان ينكران صِلتهما بها.. ولا ألومها فقد رأيت الإهمال بأم عيني.

كانت ساعة من التحقيق من أضيق الساعات التي مررت بها.. كان الضابط يرجح الكفة لصالح الزوجين بين لحظة وأخرى، فقد بدت مبرراتهما قوية، حيث لا أحد يتخلى عن طفله “الشرعي” (ضناه) هكذا للآخرين، وإنه إن كانا يعلمان بشأن الطفلة مسبقا كانا من الأسهل والأصوب أن يسلمانها لمخفر الشرطة بنفسيهما بدل أن يتهموا الآخرين، وأن الطفلة لم تكن معهم ولم يلحظوا وجودها قبل وخلال تواجدي في السيارة معهم، وكان الضابط يرى مبرراتي واهية، فكيف لم ينتبه الزوجان لصراخ الطفلة لمرتين داخل السيارة، وأشار بأني أخفي شيئا خطيراً، وبأن من الأفضل لي أن أتكلم بصراحة قبل أن تتفاقم الأمور، وكانت الدائرة تضيق بي أكثر وأكثر.. أقسمت أغلظ الإيمان والحرقة تملئ قلبي بأنه لا صلة لي بهذه الطفلة وإنها كانت في سيارة الزوجين قبل أن أركب معهما..

هنا نهض الضابط وقال (الساعة متأخرة الآن .. ولدي عمل طارئ خارجي، تعالا كلكم غداً صباحا وسأكون موجود هنا في المكتب)، أعرف هذه الخدعة جيداً، هيهات أن احمل الطفلة معي، وهنا وقفت وسألتك الضابط ماذا بشأن الطفلة لهذه الليلة، رمقي بنظرة من طفح كيله، وكان ما يزال محافظا على وقاره، وبهدوء وحزم ضاغطا على كل حرف يقوله: (أسمع يا من تكون.. كف عن هذه الألاعيب.. أنا أعرف جيداً من هم على شاكلتك .. خلال خبرتي الطويلة مرت علي حالات لن تستطيع تخيلها.. وفراستي لا تخيب أبدا.. أقول.. واسمعني جيداً.. احمل طفلتك الليلة وإن كان لديك شيء تقوله فوفره وتعال المكتب غداً صباحا، سأكون هنا)..

أسُقط الأمر في يدي.. ولم تعد مبرراتي تفيد في حل الإلتباس، ماذا أفعل لهذه الطفلة؟ هل على أن أحملها معي للسكن الداخلي؟ مستحيل، وحتى لو كان فلن يسمح لي أمن بوابة السكن بالدخول ومعي طفلة.. وهكذا إلتمست للزوجين أن يتحملا مسؤولية الطفلة لهذه الليلة فقط، وغداً يكون خيراً وشرحت لهما ظرفي.. لكن (الجماعة) طفح كيلهم، ولم يعدا يثقان بأي شيء أقوله أو أي وعد أقسم عليه.. ولا ألومهما.. فقد بدأتُ اصدق بأنهما فعلا ليسا أبَويّ الطفلة.. لكنها ليست طفلتي كذلك..

هنا تدخل الضابط، وقال مقاطعا ( الطفلة هي من تختار)، كيف؟ لم أفهم؟.. ورمقته بنظرة تَطلب توضيحاً، فسألني (أنت تقول أن الطفلة ليست لك، وإنها لهؤلاء الزوجان الطيبان؟ .. إذن الطفلة هي أدرى بأهلها.. هل توافق على ذلك؟).. فأومأت برأسي بأن نعم، ثم أمرني أن أقعد عند نهاية غرفة المكتب في الجهة المقابلة، كان هناك صف من المقاعد على عرض الجدار المقابل، قعدت أقصى اليمين، وطلب من الزوجين أن يقعدا أقصى اليسار على نفس صف المقاعد، وكانت الطفلة على الأرض بجانب طاولة الضابط تلعب بدميتها وتنظر الجميع..

وقال الضابط: (الطفلة تعرف أهلها جيداً، من تأتيه الطفلة يتحمل كافة العواقب.. لا تراجع.. تطبق الأحكام على من يخالف القانون).. وركل الطاولة بقدمه بقوة، وارتجت غرفة المكتب بصوت قعقعة مفاجيء وكأن الطاولة قد تكسرت بالفعل، ففزعت الطفلة المسكينة.. فقامت تصيح وتبكي.. ولكم أن تتخيلوا أين تتجه الطفلة الخائفة الآن.. واااغمااه!!.. أراها تتهادى في مشيتها مبتعدة عن مكتب الضابط.. نحونا.. تبكى وتترنح ذات اليمين وذات الشمال، وأن باسط أكف الضراعة.. وأراها تزخر في مشيتها فوق سجادة غرفة مكتب الضابط إتجاهي.. واغماااه ..

ماذا افعل؟ الطفلة ليست لي..أقسم لكم إنها ليست لي.. العرق يتصبب مني في غزارة.. وفي رأسي ألف سؤال وسؤال؟ ماذا أقول للجميع؟ وكيف سأعتني بهذه الطفلة الصغيرة؟!؟.. على الأقل حتى يوم الغد.. كيف؟!؟.. تصل الطفلة الباكية عند ركبتاي تنتظر الحنان الذي يبدوا أنها تعودت عليه خلال الرحلة. البائسة.. احتضنتها واغمضت عيناي في أسى وغم.. أبكي مع بكائها.. ويتماهى صياحها مع عويلي.. وأظلمت الدنيا في عيني.. وهنا جاء الصوت.. صوت أمي باهتاً من بعيد: (ولدي.. ولدي.. ما بك.. انهض انهض.. لا تبتأس.. مجرد كابوس.. كابوس)، فتحت عيوني الدامعة وإذا بأمي عند فراشي تربت على صدري، وأخي يضحك واقفا من خلفها.. وغمغمت ومهمهت وتلعثمت وأنا أعتصر الوسادة نحو صدري بقوة، وأغمغم والدموع تسيل مني بغزارة: (نعم.. نن.. نعم ..ككك.. كابوس.. !! .. ككك.. كابوس ..!!).

تاريخ النشر : 2016-01-08

guest
97 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى