أدب الرعب والعام

العجوز الميت – قصة قصيرة

بقلم : راشد الوصيفي – قطر
للتواصل : [email protected]

كان العجوزُ يفكرُ في أموالهِ وثروتهِ لمَنْ يعطيها
كان العجوزُ يفكرُ في أموالهِ وثروتهِ لمَنْ يعطيها

 
كان يسمع كثيراً بأن هناك من يصحو بعد موتهِ ، فجلس بين أبنائه وخاطبهم قائلاً : لقد تقدم بي العمرُ كما ترونَ ، فقدْ بلغتُ السبعينَ وها هو جسمي أضمر، وسمعي خَفَّ ، وبصري تلاشى ، وإنني على مشارفَ الموتِ وحافةِ القبرِ ، فإذا مِتُ فاتركوني يوماً أو يومين فربما أصحو أفضل إنْ صحوتَ في القبرِ !.
 
كتم الأبناءُ الثلاثةُ ضحكةً قدْ كادتْ تنفجرُ من أفواههم جميعاً ، فقالوا معاً : لا عليك يا أبي مِتْ كما تريد فنحنُ لن نتعجل دفنك ؛ فضحكَ الأبُ، وقال : أتظنون بأني أمزح معكم ، ألم تسمعوا بأنَّ فلاناً ماتَ وصحا عند غُسله، وأنَّ فلاناً مات ودفن وأخرجوه من قبره حياً ، وأنَّ فلاناً ماتَ ودفنوه وصحا وماتَ في قبره .
 
قالوا : سمعنا … ولكن يا أبانا أنتَ بخيرٍ وبصحةٍ جيدةٍ ، وندعو الله جميعاً أن يطيلَ في عمركَ .
انصرفوا جميعاً ، وفكرَ العجوزُ قائلاً : إنَّهَا حِيلة جَيدة سوفَ أتخذها حتى يتبينَ لي مَن يحبني بصدقٍ ، ومَن يتمنى موتي ويتعجلني ليرثني ، وأراد أن ينامَ فمَدَّ جَسَدَهُ مَدّاً وأخذه التفكيرُ كيفَ يكونُ ميتاً ؟ وأخذ يشد جسمه شداً ويلف ساقاً بساقٍ ، و يُشخصُ بصره نحوَ السَّماءِ، ويكتم أنفاسَهُ ، فيجد كتمَ أنفاسهِ صَعباً ، ولكن لا بد من التدريب ، بدأ يجربُ ويجربُ ، حتى خُيل إليه بأنَّهُ مَاتَ حَقاً ، فَانتَفَضَ وَاقفاً مَذعُورَاً وَ كَأنَّمَا مَسَّهُ مَلِكُ الموتِ ، لقد دارتْ به أركانُ الحجرةِ ، خَفَّ جِسْمُهُ ، وَعُدِمَ وَزْنُهُ ، خُيل إليه بأنه داخل نعشٍ مقفولٍ يتحركُ الناسُ بهِ يميناً ويساراً متجهاً به إلى بابِ القبرِ .
 
جاءَ الأولادُ الثلاثةُ فوجَدوهُ شَاحبَ الوجهِ ، شَاردَ الذهنِ ، لا يأكلُ ولا يشربُ ، ملامحَهُ قَدْ تغيرتْ ؛ فَسُرَ ولدان و بكى الثالث ، قالوا :
– يا أبانا إنا لنراكَ ساهم الطرفِ شَاردَ الفكرِ لا تأكلَ ولا تشربَ، فماذا حَلَّ بِكَ ؟.
 
– لا عليكم ، فإنني بخيرٍ والحمدُ للهِ .
كان العجوزُ يفكرُ في أموالهِ وثروتهِ لمَنْ يعطيها ، و تساءَلَ : هل أتركها ليتقاسمها أبنائي ؟ رغم اختلاف بِرهم بي ، هذا يضحك عليّ ، وهذا يسايرني غير راضٍ ، وهذا أراه حزيناً باكياً ويسمع قولي .
 
جاء اليوم الموعود في تمام الساعة العاشرة صباحاً مات الأب باتفاق بينه وبين طبيب القرية الوحيد الذي زاره وهو مريض ، فأبصره الأبناء ، وقالوا لقد ماتَ أبونا .
 
– قال أكبرُهم : علينا أن نتعجل بغسله وتكفينه ونصلي عليه في مسجد المقابر .
– قال الأصغر : علينا أن نتعجل .
 
– أما الثالث فقال : لا عليكما ، أنسيتم وصية أبيكم ، بألا نتعجل بدفنه ، فلربما يصحو ، نظر الكبير والأصغر لبعضهما ، وكأنما وجدا جداراً يفصلُ بينهما وبين حلمهما .
 
– قال أحدهما : سوف نتحقق من ذلك ، ونرسل للطبيب، فحص أبيهم وسحب الغطاء على وجهه ونظر إليهم قائلاً : البقية في حياتكم .
انتحب الأولاد جميعاً، وكأنَّمَا نزلتْ بهم صاعقةٌ .
قال الأوسط : علينا أن ننتظر العصر .
قال كبيرهم : سوف تعفن الجثة ، لقد ماتَ أبوكم الظهر .
 
قال أصغرهم : العصر … بعيد ، سأذهب لإحضار المُغسل، وأذيع في أهل القرية بأن أبانا توفاه الله، والعزاء ليلاً .
قال الأوسط : يا أخي … أنسيتَ وصيةَ أبيك ؟.
قال الأكبر : أي وصيةٍ … الكبارُ لا يُخَذْ لهم على كَلامٍ .
 
قال الأصغر : الطبيب ألمْ يقل إنَّهُ ماتَ ؟.
رضخا للأصغر ، فاحضرَ المُغسلَ  و جرّدَ الأبَ من ثيابه ، وقام بغُسله ، وعندما أراد أن يشد الكفَنَ على رأسه ِ، تبين له ما كان يفكر فيه كُلُ واحدٍ من الأبناءِ، قال : لا تغطي وجهي .
 
ارتعب المُغسلُ وكاد أن يُغشى عليه وفرَّ هارباً، قابلوه عند الباب متسائلين : ما بكَ ؟.
قال : إنَّ أباكم صحا من موته !.
نظر الأولاد الثلاثة إلى بعضهم البعض ، وهم في وَجلٍ .
فقال الأوسط : ألم أقل لكما ربما ؟.
لمعت عينا الكبير بعيني الصغير وأحاطتْ بهما الظنون ، وقالا : هل من المعقول أن يصحو الميت بعد موتهِ ؟ وكيف أخبرنا أبونا بأنّهُ ربما يصحو بعد موتهِ ؟.
 
صار الأولاد في حيرة من أمرهم ، أبوهم يضحكُ عليهم … يخادعهم … ولكنهم نفوا ذلك بقولهم :
– إنَّ الطبيبَ لا يكذب !.
دخل الأولاد مهللين ومكبرين على أبيهم ، فعجَّلهم بقوله : ماذا بكم ؟ وماذا تصنعون بي ؟.
نظروا لبعضهم البعض قائلين : لم نصنع بك شيئاً يا أبانا ، ما نراك إلا بخيرٍ ، سلخوهُ من كفنهِ وألبسوهُ ملابسه ، وجلس معهم يأكلُ ويشربُ .
 
شاع في القريةِ والقرى المجاورة بأنّ فلاناً ماتَ بالأمسِ وصحا ، فأقبل الناسُ مهنئين مغتبطين يباركون عودة أبيهم إلى الحياة الدنيا ، منهم من يحمل الورود ، ومنهم من يحمل الهدايا ، ومنهم من يقول بأنّهُ رجلٌ مبروكٌ ، ومنهم من يقول بأنّ لَهُ خصوصية عندَ رَبهِ .
 
أخذَ الناسُ يتقربون إليه ويتمسحون ويتبركون به، ويأتون أفواجاً، يتساءلون معه : كيف وجدتَ الآخرةَ ؟ هل كنتَ تعلمُ عن الأحياءِ شيئاً ؟ هل كنتَ تحسُ بنا وتسمعنا ؟.
 
اشتهرَ العجوزُ بالكراماتِ ، فتقربَ إليه كُلُ صَغيرٍ وكَبيرٍ رَجلُ كانَ أو امرأةُ، يلتمس كُلُ رجلٍ أسبابَ السعادةِ والرزقِ من العجوزِ، وتتلمس البناتُ منه الدعاءَ لهن بالزواج ، وتلتمس النساءُ بأنْ يهدي أزواجهن ، وصار العجوز شيخاً وقوراً مِن أهل الكراماتِ يَحُجُ إليهِ الناسُ مِنْ كُلِ مَكَانٍ .
 
 النهاية ….. 

تاريخ النشر : 2020-05-28

guest
13 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى