أدب الرعب والعام

العدنان و الباهية بنت التاجر

خرجت من حجرها الطيني، و اتخذت عكازها رفيقا يرشدها في عتمة الليل، غاصت في السماء متفحصة و توغلت في ثناياها، ثم أنشدت قائلة:

القاف قمر أطل بنوره المهيب
و النون نجوم كأنها لآلئ منثورة
ذبجت كسوة السماء الداكنة
فزادتها حسنا على حسن و بهاءا

ثم عادت تتحسس الأرض حتى تصل أطراف النهر، حيث تجتمع نسوة القرية. شدت العجوز على عصاها و أحكمت، ثم أنها بسبست، حتى تسربت إلى مسامعها أهازيج النسوة، اللآتي رحبن، و توسدن بها كبد المجمع. التقطت العجوز أنفاسها، و تنهدت، ثم حمحمت بجهر :

يا نسوة الخير هلموا، و أحسنوا الإنصات، إني جئت لكم من أرض البلاغة سليمة معافاة، حتى بعد أن تخبطت بي الأحداث، في شتى أساطير و حكايات، فاخترت منها ما كانت فصيحة تنير العقول، و تزيل الغشاوة من العيون.

فما كادت العجوز تنتهي من الكلام المباح، حتى وجدت النسوة يتفرشن الأرض بملاحفهن المطرزة، ينتظرن أن تبدأ في نسج خيوط حكاية، إن لم تنفعهم، تؤنسهم في جلستهم و تبعد عنهم الضجر و السأم.

جالت العجوز بعينها، تتمعن وجوههن الملهوفة، ثم استرسلت:
بلغني أنه كان تاجرا كهلا وصل الشيب عنفقته، ماتت زوجته، بعد أن أوصته حسنا بابنته الوحيدة الباهية،  تررعت البنت في كنف أبيها حتى كبرت، و قيل أنها كانت شديدة الجمال، ضليعة اللسان، على قدر كبير من الفطنة.
و جاء يوم أن حل بالتاجر سقم شديد، فأضحى طريحا الفراش، فخاف أن يأتي أجله و ليس له من قريب، ثم أنه فكر و غرق في التفكير، و أرسل إلى “االبراح” أن اسرح في القبيلة، و قل أن الباهية  ابنة التاجر فلان بلغت سن الزواج.
ثم أن البراح فعل ما أمر، و أذاع الخبر ، حتى وصل لإبن رجل من الأعيان، اسمه العدنان، تربى فى العز و الدلال، تحيطه المرضعات و الديات، لا يحمل هما ولا غما، يشير بأكمامه فيحاط بالخدم و الحشم، يرفهن عنه ولا يبرحن مجلسه حتى يبلغنه ما طلب. ثم أن العدنان دخل على أباه ، و قبل يده، و دعا له بدوام الصحة و العافية، ثم شاوره في أمر زواجه من ابنة التاجر، و حكى له ما سمعه من خير عنها و عن أبيها، ففرح بذلك فرحا شديدا ثم أنه أمر الخدم، أن جهزوا من الأثواب أغلاها، و من الجواهر أندرها، و من صواني الذهب و الفضة، ما يليق بمقام ابنه العدنان و عروسه.
تجهزت المواكب، و رفعت الأعلام، قاصدة بيت التاجر الذي رحب بهم أشد الترحيب، و فرح بهم كل الفرح، ثم أنه و بعد أن تبادل معهم أطراف الحديث، و علم مقصدهم، عقد حاجبيه ثم أردف بثبات:

-و الله يا ولدي لن أجد لابنتي من هو أحسن منك خلقا، و أعلى منك مقاما ،لكني أستسمحك و والدك أن أسألها في هذا الأمر.

ثم أن التاجر طلب ابنته، و جعلها تتطيب و تتعطر، و تلبس من الثياب أجملها، ثم تعدل في جلسته و تنحنح ثم قال:

-ماذا تقولين يا ابنتي فيما سألتك؟؟

طأطأت الباهية رأسها و فكرت هنيهة ثم أنها استرسلت:

-اعلم يا إبن الناس، أني لن أسألك  في مالك، و لا كم دينارا تتخد في صرتك، الفقر ليس عيبا، و الغنى لا يدوم. إنما أريد أن أعرف، هل لك من صنعة تزيل عنا هم العوز و الحاجة إن ضاقت بنا الأيام؟؟  فصدق من قال لا خير في رجل خمول لا يعرف حق القرش.
استنكر العدنان مما سمع، و اغتم بذلك غما شديدا، فكيف تقلل من شئنه، و تعايره و هو ابن المال و الجاه، ثم أنه حمل نفسه و صاح مجلجا:

لا خير لي في زيجة كهذه … اقعدي يا ابنة التاجر  في دارك، يأتيك أجير يليق بشروطك، يبدو أن عيشة القصور لا تلائم مقامك، و لا يغرنك جمالك الذي زادك غرورا فإنه فاني.

اتجه العدنان إلى ايوانه، و قد اشتد غيضه من الباهية، و ما كاد يصل  حتى نخز الشيطان قلبه، و اعتمر عقله بالمكائد، ثم أنه دخل حجرته ولم يبرحها سبعة أيام، و قيل عشر، إلى أن جاء يوم، و  طلب أحد الخدم أن اذهب إلى السوق، و اسأل عن العشاب فلان، و قل له أن العدنان يريدك في أمر فيه منفعة لك، فلما سمع الغلام ما جاء به الخادم، خفف الخطوات، و لم يعي ذاته حتى اجتمع الإثنان. فلما استقر بهما الجلوس و  هما يتسامران، حكى الفتى للعشاب ما جرى فلما سمع حديثه أطرد:

-و الله إن أمرها هذه البنت عجيب .لكن كيف لي أن أخدمك يا سيدي؟! ما أنا إلا عشاب لا قوة لي ولا حيلة.

-فرد صفوان قائلا:

ما ناديتك أيها الغلام، حتى علمت أنك عارف بعلم النبات، و عالما  بأصول حكمتها، فأردت أن تصنع لي تركيبا بمعرفتك يخترق  الملاحف، و يتسلل إلى الذات فيذهب روءها و رونقها ، ثم أني أريدك أن تجعل رائحته زاكية كالعطر، فلا يفرق المرء بينه و بين المسك، اني اقسمت و اعدت القسم، ان اتلف حسنها فيسود بختها علها تنقهر، و يرضخ غرورها .. و اعلم أيها العشاب أنك إن حققت ما طلبت، سأغرقك بالنعم، و سأعطيك من الذهب ما يغنيك، و يغني أولاد أولادك.

فلما سمع الرجل ما جاء على لسان عدنان أغراه الطمع  ثم أنه قال:

-لك ما أمرت يا سيدي، لكني أستسمحك أن ترسل أحد من خدمك إلى السوق، و قل له أن يحضر لي كذا و كذا حتى اتمكن من صنع ما طلبت.
فلما فرغ العشاب مما طلب منه، دخل بالبشارة إلى عدنان، فما كان منه إلا أكرمه كرما شديدا، ثم أنه أخد المحلول، و جعله في قمقم من ذهب، تزينه من الأحجار الكريمة ما يدخل العجب. و اتجه إلى بيت التاجر فصادف صعلوكا  أحذب، مرقع الثياب، في حال يرثى لها، فلما راى الغلام عدنان و القمقم بيده انغلقت أساريره و صاح فزعا :
-بئسا لك أيها المكيود … اي شر تضمر، لكن اعلم أن الخير يرجع لصاحبه، و الشر يرجع لصاحبه.

فلما سمع عدنان كلام الصعلوك، قال في نفسه كيف علم بما أحيك؟؟! ثم أنه كتمها في سره و لم يبدها له، و أكمل طريقه، لكن الرجل قاطعه ثانيا و قال له نفس الكلام، فأمسك عدنان  بحجر، ثم رشقه به فراح بعيدا يتألم. ثم أن الفتى أكمل طريقه، و قد انخطف لونه مما سمع.
وصل عدنان بيت التاجر، ثم أنه قبل الأرض بين يديه طالبا الغفران من ابنته ، و ناوله القمقم، أن اذهب به أيها التاجر و اهديه إلى الباهية، و أبلغها أن العدنان عمل بما شاورت عليه، فعاد يعمل في النحاسة، و قد سهر من الليالي عدة حتى صنعت أنامله هذا القمقم، الذي ملأه عطرا حتى ينال رضاك، فلما سمع التاجر ما جاء على لسان العدنان ، تلاشى سقمه، و انشرح صدره ثم أنه قصد ابنته،  و أردف قائلا:

أ-بشري يا باهية!! العبد الضال اهتدى، و أخذ بموعضتك ثم أنه حكى لها ما جرى.

فلما سمعت البنت هذا الكلام، أكثرت الضحك و قهقهت، ثم أنها عدلت من جلستها و أردفت:

-كيف هو شكل القمقم يا أبتاه؟!! (فرد قائلا)

-سبحان من خلق أنامل جادت بهكذا إبداع، كأن من شكله حرفي عارف بأصول النحاسة من غابر الأزمان. (فأكملت)

-كيف هو ملمس كفه الغلام يا ابتاه؟؟ (فرد متعجبا)

-ملساء يا ابنتي!! كأنها كف وليد في مهده.

فلما فرغ التاجر من كلامه ردت قائلة:

-و الله يا آبتي إن أمرك عجيب، كيف تصدق أنه صاغ قمقما بهذا الجمال، و هو لم يبدأ في صنعته سوى من يوم أو بعض يوم، ثم كيف يعمل ليل نهار و كفه ناعمة لينة، وهي  كانت تخضع من الخامات أعندها، بالله عليك يا أبتي أن ترجع له القمقم بما حمل، و قل له ابنتي راسها حجر، أو اصرفه عني أنت بمعرفتك.

ثم أن التاجر جعل القمقم في  حزمته، قاصدا دكانه وسط السوق ،فإذا به يتعثر بصبي يحمل من القماقم ما يحجب نور الشمس في الضحى، قد سقطت أرضا و تبعثرت، فلما شاف الشاب ما حل بها، إنكفأ عليها يلتقطها و هو يحولق و قد تقلبت خواطره، فإذا  بالتاجر يطبطب عليه و يقول:

-ما بك أيها الشاب؟؟  تأنى في عملك تسلم.

فلما سمع الغلام ما جاء على لسان التاجر أردف:

-صدقت أيها الشيخ، لكن ما باليد حيلة، قد رزقني الله بأناس من أشراف القوم أخدمهم، و في صباح هذا اليوم جاءت امراة صاحب الدار إلي، أن اذهب يا مسعود إلى السوق، و اجلب من العطور و ماء الورد و الزهر و حطها منها في هذه القماقم الذهبية، ثم أنها أوصتني أن أعجل في سخرتي ،كي لا تقتطع من أجرتي، و هذا ما كان يا سيدي.

ثم أن الفتى أكمل طريقه بعد أن ألقى السلام، فأما عن التاجر فقضى ما قضاه، و باع ما باعه، ثم عاد إلى داره سواد الليل، فإذا بابنته تلاقيه، أن ماذا فعلت يا أبي فيما تشاورنا هذا الصباح؟؟ فرد قائلا:

-و الله يا ابنتي أنستني المشاغل و أغفلتي، غدا إن شاء رب العباد نقضي ما تعذر قضاءه هذا اليوم، فلما انتهى ذهب إلى حجرته يبدل ثيابه، فلم يجد للقمقم آثر، فتذكر عندما تعثر بالفتى، فعرف أنه ذهب معه هفوة ،فقال  ان شاء الله خير.

مرت الأيام تباعا، و التهى التاجر لمعاملاته، حتى غاب عنه ذلك الأمر. وجاء يوم أن كان قاعدا مع الباهية يتحاوران، حتى جزعا من صياح “البراح”، أن يا قوم أسمعوا و عوا  الحاضر يعلم الغائب ،أم العدنان ابن فلان وافتها المنية، فلما اهتدوا إلى ما سمعوا ، زعم التاجر أن يقبل على داره عشية، فما كاد ينتهي من الكلام حتى سمع طرقا في الباب، فإذا به عدنان، أشعث الشعر في حال تقلق العدو ، فلما رأى التاجر ما حل به، قال في نفسه موت أمه قل جهده، ثم أن الفتى  نظر  إليه متفحصا ثم أنشد.

ضمرت الشر و أوعدتكم البلية

فما كان للبلية أن هرولت إلي جلية

لا الندامة تسترها ولا الحسرة سويا

عتي أنا …ما زادني الدلال إلا ذل على ذل بئسا لي مامدت حيا

فلما انتهى استدار دائعا، يترنح ذات اليمين و ذات الشمال،  ينشد ما قاله للتاجر، فما كان من هذا الاخير  إلا أن تعجب مما رأى وسمع، فسبح و حولق ثم أنه ألقى عباءته، و ذهب إلى دار عدنان قدم واجب العزاء و السلوان، ثم  قص على أباه ما جاء على لسان ابنه و ما جرى، فلما سمعه اشتدت دموعه، و بكى أشد البكاء، و ناح و استعبر ثم أنه قال:
لقد ملأت الظغينة أوصال ولدي فأراد بالسوء بإبنتك فزرع الشر و لاقاه في امه بعد ان تطيبت من العطر الموجود في القمقم  و هذا ما كان.
فلما  انتهى من سرد حكاية القمقم للتاجر تنهد قائلا:

-و الله يا فلان لا اخفي عنك  إني لا أعلم إلى الآن كيف وصل القمقم المسقوم  إلى داري، فلما انتهى من كلامه تنهد التاجر،  ثم انه حكى لوالد عدنان  ما جرى له مع خادمه في السوق،و كيف أن القمقم ذهب معه هفوة،  دون أن يدرك ، ثم انه حمد و شكر، ثم عدل عباءته، و عاد إلى داره بعد ان اصابه العجب مما جرى له و ابنته، فأما عن عدنان فيقال انه عاد هائما في البراري و القيفار، حتى مات حسرة على أمه و هذا ما كان.

استندت العجوز على عكازها، وترجلت بعد أن انتهت من سرد حكايتها . ثم انها انهت الكلام فقالت:
تذكروا يا نسوة يا اخيار ،الخير يرجع لصاحبه، و الشر يرجع لصاحبه ،ثم اكملت طريقها إلى دارها الطينة في مقتبل القرية، و هي تسترجع ثانية ما جرى لها مع العدنان .

قصص أُخرى للكاتب :

كوثر الحماني

ـــ المغرب ـــ للتواصل مع الكاتب : [email protected]
guest
14 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى