أدب الرعب والعام

العينة رقم تسعة

بقلم : سارة برير – السودان
للتواصل : [email protected]
وجدتها في وسط الظلام مُنكمشة على نفسها و تهذى بالكثير من الكلمات

( أُقسم بالله العظيم أن أؤدي عملي بكل إخلاص و تفاني و أن أداوى الصالح و السيء ، و أن أحفظ سِر المهنة ) .

إن أسوأ جريمة قد ترتكبها بحق غيرك هي أن تخون واجباتك ، أن تتنصّل من تلك المسؤوليات التي أُسندت لك ، و  عندما تحنث بذلك القسم  الذي قطعته عندها تتجرد من إنسانيتك  .

في أزمنة مختلفة أدت الطبيبتان أوليفيا و آشلي  هذا القسم في نقابة الأطباء و وضعتا يديهما على نفس الكِتاب و قد ضربت إحداهما بهذا القسم عرض الحائط .

* * * *

غلب اللون الأبيض على كُل شيء و أرى طيف أحمر قاني يكسر ذلك البياض بين الفينة و الأخرى ، يعقبه و خز في ذراعي أنام على إثره .

مرّت عدة أيام تم حقني خلالها بالمهدئات التي تبقيك نائماً طوال اليوم حتى و إن لم تكُن كذلك  و تجعل وزنك من عدة كيلو غرامات إلى أطنان ثقيلة و بسببها لن تستطيع التحرك خطوة واحدة دون مساعدة .

حتى أتى ذلك اليوم و خففوا الجرعة قليلاً و بدأوا بمرحلة جديدة من علاجي .

في ذلك الصباح صار ذهني صافي قليلاً ، و استقرت عواطفي المضطربة و عندها لاحظت أن طبيبتي شابة رقيقة أسمها آشلي  .

ألقت علي التحية بلطف و بادلتها  .

– كيف حالك تبدين بخير اليوم ؟.

– نعم ، أفضل حالاً.

– بِم تشعرين ؟.

– بالخوف.

– لا يوجد ما يدعُ للخوف فالمكان آمن هُنا  .

– بل أنا خائفة من نفسي ، هل سأصبح مثلهم ؟.

– من تقصدين ؟.

لم أُجب و اكتفيت بالنظر للبعيد.

– يا صغيرة لِم لا تخبريني بالبداية كيف كانت ؟.

جُلت ببصري قليلاً و أنا أتذكره بوضوح :

– لقد كان أسوأهم.

– من هو ؟.

أجبتها  ” أليكساندر  ” .

انهالت علي الذكريات و أطبقت بعنف على عقلي الذي لم يتهيأ بعد لذلك فأرسل صوراً حمراء قانية و خز خفيف على ذراعي ، أغلقت على إثره عيناي.

* * *

– كيف تعالجين ذلك النوع من الجنون ، ذلك الذي يقود صاحبه إلى الحافة بهدوء ؟.

– أو ما أقصده هو البداية كيف تكون البداية ؟.

سؤال مباغت طرحته علي ميغن  أثناء تناولي لطعام العشاء و بينما أنا أفكر كيف سأشرح لعقلها الصغير سؤالها الذي لخّص الخمسة عشر سنة التي اكتسبتها من خبرتي في الطب النفسي .

أجابها سام المشاكس بنبرة ساخرة  :

– عندما يبدأ الإنسان بطرح أسئلة غبية مثل هذه .

رمقته بنظرة تحذيرية و أجبتها :

– نتيجة لعدة عوامل متراكمة ، ولكن من أين خرجت بهذا ؟.

مجرد سؤال يا ماما .

في الواقع لم  تكُن هذه الإجابة كافية لها و لم تشف فضولها ، لذا كان عليها أن تبحث أن تدخل إلى تلك الأماكن المظلمة في العقل البشري و هي بهذا السن.

* *

في اليوم التالي كُنت أجلس في مكتبي بهدوء واضعة السماعات على أذني و أستمع إلى  تسجيلات أحد المرضى ، رأيت خيالها الصغير من تحت الباب ، فدعوتها للدخول ، كانت نظراتها تحمل الكثير و بالرغم من أنني أمها التي من المفترض أن تشعر بها و لو على بعد أميال ، فأنا لم أستطع أن أشعر بابنتي أبداً إلا بعد فوات الأوان.

–  ما زلت مستيقظة ، ماذا تريدين ؟.

أجابتني بمرح :

– غداً عُطلة ماما.

– إذاً أذهبي و ألهي بعيداً فأنا لست متفرغة الآن .

و أشرت إليها بالخروج.

اقتربت مني و جلست على حِجري و سألت مجدداً :

– ما هي العوامل المتراكمة ؟.

– أي عوامل يا ميغن ، عم تتحدثين ؟ .

– تلك التي تقود الإنسان إلى حافة الجنون .

– حسناً يا  وجه الملاك يكفى أسئلة ، هيا لتنامي .

* * *

نعم لقد أخطأت في ذلك اليوم كان علي أن أجيبها  ، كان علي أن أشبع فضولها  و ألا أتجاهل عقلها ، كان يجب أن تعلم بأن تلك العوامل معظمها تكون  بدايتها منذ الطفولة .

منذ ستة أشهر أهملت عائلتي كثيراً وبدأت العمل على بحث علمي ، نهاراً أكون في المشفى و عندما أعود إلى المنزل أقضى جُل وقتي في المكتب أعمل على تحليل عينات بحثي حتى وقت متأخر من الليل.

كان مشروع البحث المتقدم عن” السلوك النمطي لطفولة المجرمين ذوي الأمراض النفسية و العصبية و أثره على محيطهم  ” .

التأثيرات البيئية المختلفة لعينة البحث لدى كانت نتائجها متباينة فلم أستطع حتى الآن إثبات فرضية البحث التي تنص على ” أن المجرمين الذين ينشئون في بيئة طبيعية منذ الطفولة يكونون أقل عنفاً من غيرهم ” .

أجريت البحث على عشرون عينة ، جميعهم عاشوا طفولة شبه طبيعية قبل ذلك الحدث الذي أدى للتحول الكبير في حياتهم و كان له تأثيرات نفسية على المدى الطويل في حياة المريض  .

شملت عينة البحث ثمانية نساء و اثني عشر رجلاً جميعهم كانوا تحت سن الخامسة و الأربعون  ، أخفهم قدراً ارتكب ثلاثة جرائم على الأقل .

اعتمدت في تصنيفهم على الأرقام فذلك أسهل و منعاً للتشابه ، العينات المتقاربة في التنشئة البيئية أعطيتها أرقاماً زوجية و الأخرى التي لا يوجد بينها أي تشابه أشرت إليها بالأرقام الفردية .

العينة رقم واحد كانت مثيرة للاهتمام ، إمرأة في الخامسة و الأربعون  من عمرها تخلصت من  أحفادها الأربعة خلال ليلة واحدة ، لا أدري كيف طاوعها قلبها !.

تلك الجدة نشأتها كانت طبيعية للغاية و هذا ما كنت أبحث عنه ، ولكن  عند تعمُقي في تاريخها العائلي اكتشفت بأن طبيعة أقربائها يمتازون بالعنف المفرط فكان مؤشر واضح على أنها أسباب وراثية بحتة مما جعلني أستبعدها ، فالأسباب الوراثية لم تكن من ضمن فروضي ، بل ما أحتاجه هو عوامل خارجية أدت إلى تلك التحولات في حياة أولئك الأشخاص .

كانت أصعب و أخطر عينة لدي المريض  رقم تسعة ، كان ذلك المريض مثقف و ذكي و يتمتع بقدر عالي من الكاريزما و الوسامة ولولا غوصي داخل عقل المريض بِكُل ما أملك من عتاد و خبرة اكتسبتها أثناء ممارستي للطب النفسي  لقلت بأنه أعقل إنسان على وجه الأرض .

* * *

دخلت إليه في سجنه الأبيض ، كان يجلس بهدوء على السرير و بدا شاحباً .

بادرت بسؤاله :

– هل نمت جيداً ؟.

أجابني وهو يتمتم :

–  لا ، فقد عادت أحلامي المزعجة مجدداً.

نظرت إلى عينيه ملياً :

– أنت تعاني من الأرق و لا تنام ليلاً حتى ثلاثي الفاليوم لم يُجدي معك نفعاً .

– هل ترى والدك في أحلامك ؟.

أجاب وهو يشيح ببصره عني :

–  لا ، لم أعد أراه ،  هل غيرته ؟.

لقد فهمت مقصده و لكن تعمدت الجهل :

–  ماذا تقصد ؟.

أجاب بارتباك :

– دوائي ، لقد غيرته ، أنا متأكد.

–  أوتعلم ، نعم فقد غيرت طريقة علاجك الأولى كلها ، فلم تعد تُجدي نفعاً .

–  ولكن لقد كُنت أتحسن !.

و اقترب مني حتى شعرت بأنفاسه الحارة على جبيني وسأل :

– منذ متى غيرته ؟.

هربت من سؤاله و باغته بواحد :

– أخبرني عن نينا ؟.

وكما توقعت فقد تراجع ، وحصلت على مساحة آمنة قليلاً بيني و بينه ، فآخر مرة أثرت فيها غضبه كاد أن يحطم فكي بقبضته .

و واصلت على هذا المنوال :

– كم كان عُمر جنينها ؟.

جلس على السرير وأجابني :

–  سبعة أشهر.

بعد أن شعرت بالأمان قلت له بهدوء :

– أوتعلم ؟ ستبقى قليلاً بعد فأنت لست بخير لقد ساءت حالتك مجدداً .

اغرورقت عيناه بالدموع ، وبالرغم من أنه كان يبكى من الداخل أيضاً أردفت :

لديّ طفلة جميلة تُدعى ميغن و علاقتها ممتازة مع والدها ، ليس لأنه أب جيّد و لكنها محظوظة و ليست مثلك و أتمنّى ألا يطول بقاءك هنا .

* * *

الطبيبة آشلي بالرغم من حداثة سنها فهي بارعة في عملها و لولا خبرتي لتفوقت عليّ و لديها عادة سيئة في العمل فهي تحشر أنفها في كُل شيء  .

في ذلك الصباح  دخلت إلى غرفة المريض رقم تسعة فوجدتها هناك تجلس و تتحدث معه بِكُل أريحية .

عبست في وجهها و سألتها :

– عساه خيراً يا آشلي  ، ماذا تفعلين هنا ؟.

نظرت إلي كمن يوجه إتهام و أجابت :

–  لقد تحسن في الأيام الماضية لماذا ساءت حالته مجدداً ؟.

أجبتها ببرود :

– الأمر لا يعنيك لذا أخرجي و أغلقي الباب خلفك .

– بلى يعنيني يا أوليفيا ، كان من المفترض أن يخرج بعد شهرين ماذا حدث حتى تراجع وضعه مجدداً  ؟.

أجبتها و أنا خارجة :

– مريضي ساءت حالته و قد قررت  إبقاءه .

جاءني صوتها من خلفي :

– سيأتي وفد قريباً لزيارتنا آمل أن تكون إجاباتك واضحة .

( بعد ذلك صارت آشلي  تتربص بي حتى أوقعتني )  .

* * *

قد تبدو كُل جدرانها بيضاء و لكنها تُخزن في طياتها الكثير من الذكريات التي كانت سبباً محورياً في إلقاء أصحابها ها هُنا .

رياح باردة ستهُب من الشمال هذه السنة ، و بالرغم من التدفئة المركزية تجِدُ طريقها خِلسة داخل أروقة المشفى ، و إذا أرهفت السمع ستلاحظ صدى أنين بعيد يتردد بين حوائطها ، حتى و إن كُنت معتاداً  على سماعه أُلوف المرات ففي كُل مرة يلمس دواخلك كأنه الأولى .

– تبدو بخير اليوم ، كيف حالك ؟

– لست بخير أبداً فتلك الأدوي…

قاطعته :

– أخبرني عن طفولتك قليلاً ، كيف كانت ؟.

– سبق وأن أخبرتك .

قُلت بلطف :

– هل من الممكن أن تخبرني مرة أخرى ؟

اعتدل في جلسته و قال :

– في إحدى ليالي ديسمبر الباردة  خرج أبي إلى البرية كي يقطع الأخشاب قليلاً و أثناء أنهماك أبي في قطع أحد الجذوع  انزلق على المنشار .

– هل انزلق فعلاً أم أنت من دفعه ؟.

أجابني بنبرة استنكارية :

–  لا ، لم أدفعه .

بلى ، لقد قتلته فأنت دائماً ما تكذب ، قُلت هذا وأنا أكتب على ملفه ، و أردفت بصوت يكاد لا يُسمع :

–  أخبرني لماذا قتلته ؟.

– لا أذكر .

و كي أجعله يتحدث حاصرته بالسؤال الذي يخشاه :

– هل كان يؤذيك ؟.

أجابني بعصبية :

–  أصمتي ، و لا تؤلفي

و أنهمر في بكاء حاد كالأطفال

حقنته بمهدئ و تابعته بنظراتي حتى ارتخت كل عضلاته و دخل في سبات عميق ، لأول مرة أراه بهذا الانهزام ، يبدو بأنني اقتربت من منطقته الخطرة .

* * *

مرّت ثلاثة أشهر ولم تزدني إلا ابتعاداً عن عائلتي لدرجة أنني لم ألحظ تلك التغيرات في سلوك ميغن ، فكيف لفتاة مرحة و مليئة بالطاقة أن تصبح خاملة و هادئة خلال فترة وجيزة ! حسبتها مجرد فترة مراهقة عادية و ستزول مع الوقت .

كانت تقضي جُلّ وقتها في غرفتها أمام الكمبيوتر أو تمسك بهاتفها ، أصبحت انطوائية جداً ولا تتحرك إلا من أجل حاجاتها الأساسية ، حتى أتى ذلك اليوم الذي طرقت فيه باب غرفتنا ليلاً أنا و والدها و قالت بأنها خائفة ، تذمر آدم و أمرها بالانصراف ولكن بالطبع أنا لن أترك ابنتي خائفة ولحقت بها .

سألتها بحنان  :

– ميغن حبيبتي مم أنت خائفة ؟.

– رأيت رجلاً يحدّق بي و يتوعد .

وضعت يداي على يديها :

– أخبريني كيف كان يبدو ؟.

أجابت وهي تضغط على يدي :

– لم أر وجهه ، فقط ظل أسود.

احتضنتها بين ذراعي و طمأنتها مجرد حلم كان عندما أغمضت عينيك و الآن زال ،  فبوجودي يا صغيرتي لن يستطيع أحد أن يؤذيكِ  .

* * *

بعد يوم عمل طويل عُدت متأخرة للمنزل و ظننت بأن الجميع قد نام  ، و لكن كُنت مُخطئة فقد كانت ميغن بانتظاري في مكتبي .

– ماذا تفعلين كل ليلة هنا ؟  .

– أعمل يا ميغن ، أعمل .

– ماذا تعملين ؟ .

– أبحث عن أشخاص .

–  من هم ؟.

– إنهم مرضى .

– لا ، قصدت أسماءهم .

– حتى لو أعطيتُك اسماً لم تكوني لتعرفيهم .

– كم عددهم ؟

– عشرون

– عما تبحثين بالضبط ؟.

– ماذا تقصدين ؟.

و جلست متعبة على الأريكة و أنا أحاول مسايرتها .

أليس هذا بحث ، أنت عم تبحثين بالضبط ؟.

– عن حياتهم.

– و كيف كانت حياتهم ؟.

– حياتهم طبيعية.

– هل أنت متأكدة ؟ .

ورمقتني بنظرة متشككة ، تفحصتها بعيني لوهلة و فكرت يا لها من فضولية ! و قبل أن أجيبها سألت مجدداً .

– هل تتأثرين بهم  ؟.

– نعم ، أتأثر أحياناً ، فحالهم يُحزن .

– ولكنني لم أقصد ذلك !.

– إذاً ماذا تقصدين ؟.

رمقتني بنظرة حادة و قالت :

– ذلك التأثير الذي من الممكن أن يؤثر على سلوكك.

نظرت إليها بِوُد وأمسكت بيدها و قُلت :

– أعذريني يا حلوة فأنا أعلم بأن سلوكي في هذه الفترة تغير كثيراً نظراً لضغوط العمل ، و لكن أصبري قليلاً بعد فقد تبقت عدة أسابيع و سأعوضكم عن كل ما فات .

في ذلك اليوم ميغن لم تقصد سلوكي تجاههم و إهمالي لهم و إنما قصدت سلوك آخر .

* * *

( إن أسوأ أنواع السرقة هي سرقة الأمل من الذين لا يملكون غيرهُ في هذه الفانية ) .

رأيتُه في حديقة المشفى يجلس بهدوء على الأرض و يمسك ببعض الأزهار ، بدا بحالة ممتازة ليس كمن يأخذ كمية من الجرعات القوية ، فذهبت للإنضمام إليه :

– تبدو مسترخ هذا الصباح ؟.

– أنا في أحسن حالاتي يا دكتورة أوليفيا .

كان ينظر لعيني مباشرة كمن علم أمراً ، جلست بالقرب منه و بدأت بفعل ما أبرع به :

– هل تتذكر ملامحها ؟.

– بالتأكيد فهي لا تفارق ذهني أبداً .

– قصدت يوم الحادثة ، هل كانت مرعوبة منك ؟.

عبس و بدأ بالنظر إلى البعيد وهو يضغط على الأزهار حتى سُحقت بين أصابعه .

كُنت قادرة على نسفه و السيطرة عليه متى ما شئت فمفاتيح عقله و مرضه بين يدي ، ليس هو فقط بل جميعهم كانوا كالدُمى التي أُحركها متى ما شئت  ، راقبته وهو يتذكر عندما كان وحش :

– صوتها يتردد في أُذني كُل حين  ، و دمائها اللزجة لا تزال على يدي .

– هل بإمكانك إدخال إمرأة أخرى إلى حياتك دون أن تؤذيها ؟.

– بالتأكد فأنا لم أعد سيئاً كما كُنت ، و بإمكان الحياة ، إعطائي فرصة أُخرى .

– لا أعتقد بأن بالحياة ستعطيك المزيد من الفرص .

قال وهو يصرخ بوجهي

–  من أنتِ حتى تقرري هذا ؟ لا أُريد من الحياة شيئاً ، إذا علم الله ما في قلبي سيعطيني ولو كُنت كارهة لذلك  ، ولكن هل أنت كذلك مع جميع مرضاك ، أم معي فقط ؟ .

– معك أنت.

– لماذا أنا ؟.

– لأنك وحش.

– أنتِ أيضاً تحتاجين إلى العلاج فسلوكك هذا غير طبيعي ، بإمكاني مداواة نرجسيتك هذه  .

– داوي نفسك  .

قلت ذلك ثم هددته :

– هل نسيت من أنا ؟ بإمكاني إبقاءك هنا إلى أن تتعفن لذا من الأفضل لك أن تعتدل .

خشيتُ أن يراني أحد و أنا أستفزُه فنهضت و ابتعدت عنه ، و أنا أردد لن ينعم بنوم هادئ هذه  الليلة .

كُنت أقوده إلى الجنون مجدداً دون أن يرُفّ لي جُفن ، فالمجرمون لا يستحقون العيش .

كان من المفترض أن يُغادر المشفى بعد شهرين و سيُرحل إلى سجن الولاية ، سيتم تأهيله لِبضع سنين ثم سيُطلق سراحه فلا يزال شاباً و لكن قررت إبقاءه قليلاً بعد  .

* *

ذات يوم  عندما عدت من العمل بالكاد لحقت طعام العشاء ، وفوراً لاحظت بأن ميغن لم تكن موجودة على المائدة ، و عندما سألت والدها أخبرني بأنها معاقبة ، حبسها في العلية ثلاث ساعات .

ذهبت ركضاً إليها و وجدتها في وسط الظلام مُنكمشة على نفسها و تهذى بالكثير من الكلمات من ذعري و خوفي عليها لم أميز منها شيئاً ، حملتها بين ذراعي و ذهبت بها إلى غرفتي ، حاولت جاهدة كي أجعلها تستوعب ما حولها و أخيراً انتبهت لوجودي بقربها ، و أجهشت بالبكاء ، أسكتها بصعوبة و جعلتها تنام معي .

أنبت آدم بشدة حتى أنه أنهار و بكى و قال بأنه أنفعل فقط لأنها ضربت سام  و أعتذر مني كثيراً و بالرغم من أنني سامحته فقد كرهته كثيراً لفعلته هذه  ، و في الأيام التالية كلما نظرت إلى وجهه أتذكر ما فعل فأشيح بنظري عنه ، الكثير من التوتر حام فوقنا تلك الفترة .

امتلكت منزل رائع و زوج أروع ، آدم كان سندي و داعمي الأول في حياتي ، و بالأخص في هذه الفترة ، فكان يعتني بالأطفال و المنزل بعد عودته من العمل و يساعدهم في حل واجباتهم و إذا تأخرت أنا يُعد لهم طعام العشاء و لم يتذمر بوجهي يوماً .

بعد أسبوع يبدو بأنه  شعر بتأنيب الضمير لما فعله بميغن ،  و رتب لرحلة عائلية صغيرة في البرية القريبة من مقاطعة أونتاريو ، عساها تفيدنا قليلاً و قام بتوفير كُل ما نحتاجه خلال رحلتنا .

تصرفت ميغن مجدداً خلال الرحلة بغرابة ، كانت تائهة كمن يبحث عن شيء ، و اختفت لمدة ساعتين لا نعلم حتى الآن إلى أين ذهبت و ماذا حلّ بها ، و بعد بحث مستميت وجدناها قالت بأنها ابتعدت قليلاً أثناء تنزهها بالجوار و ضلت طريق العودة  .

و حتى لا تلومونني على ما حدث أقسم بأنني لم ألاحظ تلك التغيرات إلا لاحقاً  فقد كنت منشغلة بعملي و مرضاي الذين كان جنونهم واضحاً للعيان .

و عندما أعود للمنزل أعمل على بحثي و بالكاد عندما أتفرغ أقوم بتنظيف و ترتيب المنزل ، أعلم بأنه ليس مبرراً لإهمالي ولكن أُحاول مواساة نفسي فقط  .

* * *

  عندما اقتربت من البوابة الحديدية لمصح رويال كير فكتوريا  و أنا أهمُ بالخروج ، انطلقت أجهزة الإنذار و بدأ الإغلاق ، و كان هذا يعني هروب أحد المرضى .

كُنت مجهدة و مرهقة و لم أكلف نفسي عناء السؤال عن هوية المريض الذي هرب  فقط كُنت أنتظر دوري أثناء الإجراء الروتيني لعملية تفتيش السيارات و فحص الهويات ، و لكن قبل أن يحين دوري رنّ هاتفي و طلب المدير مني العودة فوراً ، تحججت و تعذّرت كثيراً كي يتركني أذهب و لكنه رفض و أقنعني بأن الفارّ من المشفى هو أحد مرضاي ، وما كُنت أخشاه حدث ، فقد كان الهارب هو العينة رقم تسعة  كان علي أن أتنبأ بهذا فهدوءه خلال اليومين الماضيين لم يكُن يبشر بخير ، و إذا لم نجده سريعاً فهذا يعني المزيد من الضغط و المشاكل  ، فمن ناحية سيتأخر بحثي و من ناحية أُخرى الإدارة ستضع المريض تحت الضوء و هذا ما لا يمكن أن يحدث ، لأنني ببساطة جعلت من العينة رقم تسعة و تسعة عشر آخرين  فئران تجارب حقيقية و بدل أن يقتصر بحثي على السلوك العام و التاريخ العائلي للمريض و بعض ذكريات الطفولة  ، فقد غُصت أنا داخل دهاليز عقولهم المعقدة و أعطيتهم الكثير من الأدوية المحفزة للذاكرة بجرعات كبيرة هي مزيج ما بين الدﺍﻳﻤﻴﺜﻴﻞ ﺃﻣﻴﻼﻣﻴﻦ ﻭ الميثيل ﻓﻴﻨﻴﺪﻳﺖ و الميثامفيتامين  ، فما أحتاجه هو هي تلك الذكريات المعتمة و الباردة التي دُفنت داخل عقولهم  الباطنة  ، و حالياً الوقت ليس في صالحي فكُل ما تأخرتُ في إيجاده اقترب المدير من الحقيقة .

قضيتُ يومين متتاليين و أنا أبحث عنه ، استنفرت فيها ثلاثة محققين و دفعت لهم بسخاء كي يعثروا عليه و لكن كأن الأرض انشقت و ابتلعته .

وما زاد الطين بلّة لاحقاً اكتشافي بأن ملفه أختفى من مكتبي ، نعم فالمصائب لا تأتي فُرادى فوقوع ذلك الملف في يد المدير يعني انتهاء حياتي المهنية ، و شككتُ بأن آشلي هي من سرقته .

* * *

أحضروها و هي لا تعي بما حولها و تتخبط في ذكرياتها ، الكثير من الصراخ و الأنين ، كانت صغيرة و روحها مُمزقة بحق و عجِبتُ لأمرها فأي شرٍ هذا الذي أوصل تلك الطفلة إلى هذه الحالة ! لم أكن أستطيع أن أعطيها أي شيء سوى المهدئات و بالمقابل لم أكن قادرة على أخذ أي معلومة منها ،  شيء عنيف أدى  لانفصالها عن هذا العالم ، لاحقاً علمت بأنها ابنة أوليفيا فمكثتُ قربها حتى تحسنت قليلاً  .

– كيف حالك هذا الصباح ؟.

ردّت بنبرة طفولية :

– بخير يا آشلي .

جلستُ على الكرسي الذي بالقرب من سريرها و سألتها :

– إذا كُنتِ بخير فهل يمكننا أن نواصل  من حيث توقفنا بالأمس ؟

هزت رأسها بالإيجاب.

– و إذا شعرت بالضيق في أية لحظة يمكننا أن نتوقف متى ما شئت .

أجابت و هي تحدق إلى الأوراق التي بيدي و بدا عليها الفضول  :

– حسناً .

– أليكساندر  صديقك ؟.

– إنه عدويّ .

– ومنذ متى وأنتما أعداء  ؟.

– منذ أن رأيته .

– يوم الحادثة ؟.

بدا التشتت على ذهنها و لم تجُب على سؤالي

سألتها بصوت هامس :

– لماذا قتلته  ؟.

نهضت من سريرها و بدأت تجُول في الغرفة بتوتر و تخربش بأظافرها على الحائط .

لقد أخطأت ، قالتها بصوت هامس  و بدأت تجهش بالبكاء ، أمسكت بكتفيها بلطف و أجلستها على السراميك البارد كي تنتبه قليلاً و استقريت بالقرب منها كي أشعرها بالأمان و سألتها :

– لماذا أتى أليكساندر  ذلك اليوم إلى منزلكم ؟.

– لا أدري.

– عما تحدثتما ؟.

عادت للبكاء مجدداً ، انتظرتها هنيهةً حتى هدأت و سألتها   :

– هل حاول قتلك ؟.

– نعم.

– بماذا حاول قتلك ؟.

– بسكين لوّح بها في وجهي .

–  وقبل الحادثة هل تواصلت معه ؟.

ارتبكت مجدداً و بدأت تعبث بخصلات شعرها و قالت :

– نعم تواصلت.

– متى ؟.

أهملت سؤالي و استمرت في  عبثها .

بعد هنيهة أجابت :

– في الليل.

– وضحي أكثر ؟ .

– صرخت بصوت حاد صمّ أذنيّ :

– في الليل بعد أن ينام الجميع ، ألا تفهمين ؟.

–  عن ماذا كنتما تتحدثان ؟.

– و متى قُلت بأننا تحدثنا ؟ .

– لم تتحدثا مطلقاً !  إذاً  كيف ترينه ؟.

– في غرفتي بعد أن ينام الجميع ، أخرجي لا أريد التحدث إليك و لا أود رؤيتك مجدداً .

تشخيص الحالة :

( اكتئاب حاد و صدمة قوية  أدت إلى خلل في الذاكرة طويلة المدى و مبادئ لظهور اضطراب الهوية التفارقي ) .

هكذا كتبتُ في تقريري عن حالة ميغن  .

* * *

( بشاعة الفعل قد تجعلنا نُجحِف بحقهم و لكن إذا كُنت قاضيٍ أو طبيب ستضع تلك الفظاعة التي إرتكبوها جانباً و ستكتم مشاعرك في قلبك  و ستُنفذ قسمك رقماً عن أنفك ) .

العينة رقم تسعة :

كانت تيارات الرياح الباردة تضرب سطح الكوخ المهترئ بقوة فتصدر صوتاً مرعباً يجعل قلبك ينخلع من مكانه ، و لكن التعود يجعلك تتأقلم مع وضعك بمرور الوقت .

شَردْ الضُوء الذي كان ينبعث من المدخنة و  انسحب الدفء  و بدأ الظلام يتسرب من حولي شيئاً فشيئاً ، كان أبي قد خرج قبل الغروب بقليل لجلب الحطب و لكن تأخر كثيراً في العودة حتى حلّ الظلام ، تناولت مصباحاً زيتياً صدئً و ألتحفت بخرقة بالية علها تقيني نُدف الثلج و خرجتُ إلى العراء لأبحث عن والدي ، كُنت أعلم وجهتي لم يُكن المكان بعيداً و لكن وعورة الطريق و زمجرة الرياح جعلته بارداً موحشاً خالياً من أي مظهر للحياة سوى صدى عواء لذئاب يتردد في البعيد ، سِرتُ بين  أعمدة الأشجار التي كانت مخضرة يانعة في السابق و أضحت الآن تتربص بي كالأشباح التي تتهيأ للانقضاض على فريستها ، ضرب البرد وجنتاي الطريتان بقسوة فأحكمت لفَّ الخرقة علي صدري و رقبتي جيداً و بدأتُ أُسلي نفسي بدندنة تهويدة عودني أبي عليها قبل النوم ، وكنت قلقاً عليه ، هل تراه سيكون بخير ؟ لم أكن أملك غير أبي في هذه  الحياة ، سكنا وحيدين منزوين من الناس في أبعد نقطة من القرية ، منذ فتحت عيناي كان كل شيء بالنسبة لي و حياتي تدور حوله و معه ، و سِرتُ وحدي فترة من الزمن حتى رأيته في البعيد  بين الأخشاب ، كان ممدداً على الأرض مفارقاً للروح ، هرولت إليه و جلست عند قدميه و احتضنتهما و بكيتُ أبي و أمي و حالي  ،  كُنت أعلم بأن الأوان قد فات و منذ ذلك الحين لم أعد كالسابق شيء ما تغير  ، كُنت صغيراً و مع ذلك لم يندمل جُرحي طوال سنوات و سرت كالميت بين الأحياء حتى تعرفت على نينا ، كانت متزنة العقل  و على قدر من الجمال ، أحببتها حُباً جماً ، و بالرغم من معرفتها لماضي تزوجنا و كِدنا نُرزق بطفل و لكن تأبى الحياة و تصّرُ على إشقائي ، لم أدرى ما الذي حدث لي ذلك اليوم و لكن علمت لاحقاً أن أهل الاختصاص  يسمونه الذُهان أو اضطراب الهوية التفارقي ، و يُصيب الشخص نتيجة لصدمة عنيفة تلقاها في طفولته ، جُنّ رأسي و لم أدري بما حولي إلا بعد عدة أشهر و قالوا بأنني مزقتها شرّ ممزقٍ ، مكثت عدداً من السنين و أنا أتنقل من مصح لآخر و الجميع كان يرمي التُهم علي جُذافاً حتى تلاشت الحقيقة بمرور الوقت و أصبحتُ قاتل والدي و زوجتي و طفلي .

آخر مصح كان في مشفى رويال كير فكتوريا في مقاطعة أونتاريو ، لبثتُ فيه عامين دون أي تحسن ،  حتى جاء  اليوم الذي أتت فيه الطبيبة أوليفيا ، كانت بارعة في مجالها و خلال ستة أشهر فقط طرأ تحسن ملحوظ على وضعي ، و بدأت أميل إليها كثيراً ، فهي تتمتع بشيء خاص كان يشعل كُل حواسي ، حتى أصبحت هواءً أتنفسه كُل حين و لكنها كانت متزوجة و أم لطفلين ، بعد أن يتم تأهيلي سأغادر سجني و أبدأ بحياة جديدة هكذا كُنت آمل و لكني عشتُ مظلوماً و سأموت و أنا كذلك ، وضعي تدهور مجدداً من دون أسباب واضحة و عادت الكوابيس و الذكريات المريرة تطفح إلى الوسط مجدداً ، أدركت بأني لو تقهقرت لن أشفى للأبد و كان علي خوض الكثير من المعارك كي أحصل فقط على الصحة ، أوكثير مطلبي ؟  .

لاحقاً اكتشفت بأن أوليفيا حبيبتي غيرت كامل الطريقة التي أتبعتها و أدت إلى شفائي في السابق و لقد اعترفت هي بذلك ، بل وصل بتلك الحقيرة  الأمر لدرجة إعطائي أدوية خاطئة من أجل بحثها ، هكذا أخبرتني آشلي .

و صارت نرجسية مستفزة لا تمت للمهنة بصلة ، أحيانا ينتابني شعور بأنها أيضاً تُعاني من خطب ما .

قطعتُ أدويتي دون أن أشعرها  بذلك و سايرتها فيما تفعل ، حتى جعلتها تظن بأن حبلي لا يزال بين يديها و فعلاً تحسنت حالي و قد لاحظت هي ذلك .

أتت فرصتي الذهبية و تحررت من قبضتها بمساعدة آشلي لي على الهرب ، فقررتُ الذهاب بعيداً ولكن رائحة فضيحة مصح رويال فكتوريا زكمت الأنوف خلال يومين فقط ، و جُنَّ رأسي ثانياً  .

* * *

اليوم :

بعد جلسة الأمس مع ميغن ، ذهبتُ إلى مكتب والدتها داخل المشفى و سهرتُ الليل و أنا أراجع جميع ملفات مرضاها ، و ما أثار اهتمامي أن جميع المرضى الذين كانوا ضِمن بحثها ملفاتهم لم تكُن موجودة ، لذا قررت زيارتها في سجنها الأسود الذي تسببت أنا بدخولها إليه و لست نادمة على ذلك فهي تستحق كُل ما حدث لها عديمة الإنسانية  .

كان المطر يهطل بغزارة و الرياح تُحرِّك قطراته بعُنف و أنا في طريقي إلى سجن النساء الذي يبعُد عدة أميال من مصح رويال فكتوريا للأمراض النفسية و العصبية .

فكرت كيف تدهورت حالة ميغن خلال ستة أشهر و أوليفيا  بارعة في مجالها بل هي الأفضل على الإطلاق ، كيف لم تلحظ الصرخات التي كانت ترسلها إليها صغيرتها ، و ابتسمت ابتسامة ساخرة عندما كادت السيارة تنزلق و تحكمت بها بصعوبة ، نعم إنه الوعي …

جاءت وهي ترتدى الأبيض مجدداً فقُلت لها مستفزة  :

– يبدو بأن الأبيض يأبى أن يفارقك .

أجابتني ببرود :

– هل أنت قادمة لتشمتي يا آشلي ؟  لم أتُرك لِك المشفى فقط ، بل عالم النفس بأكمله ، هنيئاً لكِ ما غنِمت .

قُلت لها بنبرة هجومية وأنا أشير بيدي  :

– لقد كُنتِ غارقة في الوحل من رأسك حتى أخمص قدميك ، أنت خائنة و عارٌ على المهنة .

بدت مرتاحة في الحديث وأرجعت شعرها للوراء و بنفس غرورها السابق أجابت  :

– لماذا جئت لزيارتي  ؟.

أجبتها ببرود :

لقد وجدنا مريضك أم أقول فأر تجاربك !.

الآن أثرتُ اهتمامها فاعتدلت في جلستها و سألت :

– متى و أين ؟.

أجبتها بلا مبالاة  :

– الأسبوع الماضي بعد إلقاء القبض عليك بيومين .

– و أعلم بهذا الآن…

– هل احتفظت بفيديوهات مرضاك في منزلك أو كي أكون أكثر تحديداً عينات بحثك ؟.

ضمّت يديها معاً بتوتر كمن خمّن :

– نعم ، على جهاز الكمبيوتر في مكتبي  .

– كما توقعت .

و زممتُ شفتي من الغيظ.

سالت دمعة ساخنة من عينها و بدا عليها الإنكار  .

لطالما لعبت تلك اللعبة مع مرضاها مثل الذي  يُشعِل الحريق داخل صندوق حديدي مُغلق مفتاحه بيدها فقط و الآن هي داخل هذا الصندوق من غير مفتاح .

منذ مدة سرقت ميغن كُل فيديوهات بحثك ، هكذا قُلت في سري ثم جهرتُ بالباقي :

– الكثير من الذكريات لأولئك المختلين ، طفولتهم ، أفراحهم و أتراحهم ، أين عاشوا و كيف ؟ و جرائمهم أيضاً و تِلك الأبشع .

– لقد شاهدت تِلك الصغيرة جميع جلساتك معهم ” حركاتهم ، ابتساماتهم و إيماءاتهم ، بكاءهم و ندمهم ، غضبهم و سخطهم ، و رأتك كيف تستفزينهم و تُخرجي أسوأ ما فيهم ، بل و كيف تسيطرين عليهم كالكلاب بكلمة واحدة منك “.

– ” رأت كيف روت تلك السيدة طريقة قتل أحفادها و كيف أخرج العينة رقم تسعة أحشاء زوجته و أنت تعلمين ما تبقى جيداً ” .

” عشرون مجرم كُل واحد منهم لديه أكثر من ثلاثون جلسة مسجلة ، ألف و مئتان ساعة من الرعب شاهدتها دقيقة تلو الأُخرى ” .

صمتُ قليلاً و أنا أراقبها تفقد آخر ما تملُك و تابعت حديثي :

” ستة أشهر من الأرق ، كانت النتيجة كارثية على حياتها  ،  اكتئاب حاد و جنون ارتياب  ”   .

انهمرت دموعها دون أن تصدر صوت و تابعت كلامي عليها كالمطر  :

– لقد كانت مريضة طوال الوقت و أمام ناظريك و أنت لا ترين ، حتى أصبحت قاتلة ، و هي الآن نزيلة في مشفانا منذ أسبوع و أنا من أشرف على علاجها بكل مهنية و نزاهة .

نهضتُ و وضعتُ راحتاي على الطاولة و نظرت لعينيها مباشرة و لم أرأف بها و بدموعها المنهمرة فأنزلت كلامي كالصاعقة عليها :

– ” أليكساندر كان على قدر عالي من النباهة ليُدرك بأنك تتلاعبين بأدويته و تودين الإبقاء عليه في المصح لأطول فترة ممكنة ، لذا بعد هروبه بيومين ظنّ بأنك في المنزل  ، و ذهب إليك هناك لقتلك ، و لكن أنهت صاحبة الاثنى عشر عاماً أمره سريعاً بنصل غرزته في صدره  ، لقد كانت مهيأة لذلك فهي مريضة من الأساس و من حُسن حظك و سوء طالعها كُنتِ أنتِ هُنا و هي هُناك ” .

– تهانيّ لقد تمَّ إثبات فرضية بحثك  .

قُلت ذلك و أنا خارجة

* * * *

أليكساندر و ميغن :

كانت الرياح قوية باردة ليست كعادتها ، تلامس جنبات الفيلا و شجر الأجاص فتصدر هسيساً كفحيح الأفاعي .

كُنت وحدي فأشعلت جميع أضواء المنزل علها تبعد أشباح الظلام التي في الخارج و صعدت إلى غرفتي و تدثرت بكمية من الأغطية الناعمة و الغالية فعلياً و ضمنياً .

طوال الأشهر الماضية كنت أشعر بالوحدة و الضياع ، من حياة هانئة إلى كوابيس مليئة بالدماء  و لكن رغبتي في المعرفة و اكتشاف ذلك العالم كانت قوية .

أمي لم تعد للمنزل منذ يومين ، لديها الكثير من المشاكل في عملها ، و أبي خرج مع سام و لم يعد حتى الآن ، انتشلني قرع جرس الباب المزعج من خيالاتي و نزلت الدرج على عجل ظانه بأن أبي قد عاد .

فتحت الباب و إذا باخطرهم على الإطلاق كان خلفه ، انتصب كُل شعر رأسي و صار قلبي يخفق بقوة حتى ظننت بأنه سيخرج من مكانه ، كُنت   أعرفه جيداً ولا أخطئه أبداً لطالما شاهدته أياماً  كثيرة و هو يسرُد حياته البائسة و الخطرة  على مسامع أمي ، أليكساندر أو العينة رقم تسعة ، كان وحشاً حقيقياً بحق و أمي روضته و تلاعبت به جيداً من أجل مصالحها ، نظرت إلى ملامحه الصلبة التي أعطته هيئةً أكبر من سنه و ارتعبت .

برق خاطف لمع نبهني للنصل الحاد الذي كان بيمينه تبعه صوت قرقعة الرعد ، هرولت إثر ذلك  للداخل و اتجهت للمطبخ و استللت سكيناً من أحد الأدراج  و استدرت فإذا بالسكين تنغرز في قلبه .

يعشق والدتي .

لم يكُن ينوي قتلي .

– والده و منشار و تمتم بأشياء لا أذكرها وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة  .

(  الكثير من اللون الأبيض و خليط أحمر قانٍ يلفهُ من الحين للآخر )  .

النهاية …….

تاريخ النشر : 2019-10-28

guest
37 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى