كشكول

الفاجعة

بقلم : علاء العبسي – تعز / اليمن
[email protected]

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته حبيت ان اشارككم هذه القصة المؤلمة التي حكتها لي جدتي ..

*****

في زمن كان يسوده الجهل والظلم والخوف والجوع الذي لا يرحم دارت أحداث هذه القصة المؤلمة في إحدى قرى اليمن النائية وبالتحديد في عزلة الأعبوس محافظة / تعز في مكان ما على الجبل – مازالت بعض أثار البنيان حتى يومنا هذا – كانت تعيش في ذلك المكان النائي الموحش امرأة مسكينة و ولدها الصغير الذي لم يتجاوز السادسة بعد , اما الزوج فلم يكن احد يعلم عنه شيئا يقال بأنه كان مسافراً الى الحبشة ولم يصل الى المسكينة مريم زوجته أي خبر!! فهي لا تعلم إن كان حياً أو انه قد مات .
كانت المسكينة لديها بقرتها الغالية والتي تحبها بمثابة ابنها فهي سر بقاءهم على قيد الحياة فمنها اللبن وبها تحرث الأرض وتزرعها لتعيش ويعيش ولدها.
كان منزلها صغيرا ومتواضعا ليس سوى غرفتين صغيرتين مبنيتان بكل بساطة من حجارة الجبل مغطاتان بالطين من الداخل بشكل عشوائي وفي الخارج كان اصطبل البقرة , لم يكن بجوارها أي منزل فاقرب منزل لها كان اعلى الجبل حيث يسكن هناك الحاج سلام وبجواره القليل من المنازل وكان سلام هو الوحيد من يتفقدها بين الحينة والاخرى او زوجته .

*****

وذات ليلة من ليالي الصيف الكئيبة وكعادتها عادت مريم متعبة من حراثة ارضها منهكة لا تكاد تقوى على عمل شيء لكن محمد الطفل الصغير الذي يرافقها كظلها في كل مكان تذهب اليه ;كان يبكي ويشتكي من الجوع , فما كان منها إلا ان قامت بعجن الطحين و أوقدت النار لتصنع لها ولإبنها خبزا وتركته على النار ثم أخذت وعاء اللبن وخرجت لتحلب بقرتها كي يأكلان هي وابنها الخبز مع حليب البقرة وقد أمسكت بإحدى يديها وعاء الحليب وبالأخرى مسرجتها (( مصباح للضوء كان يستخدم قديما مصنوع من الحجر المحفور يوضع القطن في الوسط وحوله الزيت ويتم اشعاله فينير المكان و قد ينطفي عند اول هبة رياح)).
وكالعادة خرج محمد معها فهو لا يفارقها ولا يعرف في حياته احد سواها .

*****

كان سلام جالساً فوق سطح منزله مستمتعاً باحتساء قهوته ناظرا الى القمر الذي كان لم يكتمل بعد لكنه ينير الارض بضوئه الجميل, وامرأته تقوم بأعمالها اليومية اما هو فقد كان يستمع بهدوء الى صرير جداجد الليل وهي تردد لحناَ يوحي بالوحدة والكآبة رغم ان الليل كان في اوله.
كان الثعلب يصرخ في الوادي بصوته المشؤوم الذي يبدد سكون الوادي ومع كل صرخة كان سلام يحس بضيق وانقباض في صدره فبحسب معتقداته فصوت الثعلب نذير شؤم .

*****

وكعادتها مريم راحت تحلب بقرتها الحبيبة وهي تدعو الله ان يبارك لها ويطيل عمرها ، بينما ظل محمد عند باب الاصطبل يبكي متضوراً من شدة الجوع ،
لم يكن هو الجائع الوحيد ففي الجوار كان هناك طاهش جائع ( ضبع ) يحوم باحثا عن ما يأكله ويسد رمقه واشتم رائحة الطفل الصغير فاقترب خلسة ورأى فريسته التي يبحث عنها فابرز مخالبه وبرزت انيابه الطويلة الحاده ثم أنقض على الطفل الصغير وكما هي عادة الضباع الخبيثة الشرسة فهي لا تهاجم كباقي المفترسات بالانقضاض على العنق بل تنهش اللحم من أي مكان وهكذا فقد انقض الضبع القاتل ينهش في لحم محمد ويجره بعيدا وصرخ محمد صرخات كانت مخلوطة بالألم والبكاء والجوع وكما حكت لي جدتي فالطفل لم يكن يعلم انه صار طعاما لمفترس لا يعرف معنى الرحمة لذا فقد كان الطفل يصيح قائلا ً ( بقصتي بقصتي ) بما معناه خبزي خبزي فقد كان المسكين كل همه جوعه وطعامه .
وما ان سمعت الام صراخ ابنها حتى توقف قلبها عن الخفقان للحظات و رمت وعاء الحليب من يدها وركضت تصرخ بصوت مهيب يدمي القلوب والاسماع صوت ام تفقد ولدها … صرخة ام مفجوعة بطفلها واملها في حياتها.. صرخة بددت صمت الليل والجبال وبثت الرعب في ارجاء المكان .
وانطفأ مصباحها لكنها لم تبالي ركضت وقد تركت كل شيء خلفها فهي لاتريد سوى ابنها دموعها تنهمر وصوتها الباكي يعم المكان .

*****

تسمر سلام في مكانه واضطربت دقات قلبه وصار كأن طبلا يدق بين ضلوعه وتيبست ركبتاه وسرت قشعريرة في جسده احس معها ان شعر رأسه قد استقام واشتعل شيبا، وبعد ثوان قاوم سلام خوفه وارتباكه وصاح بصوت خائف كي يطمن مريم انه موجود.
واذا بها تصرخ مستغيثة به وتناديه بـِ اسمه فعلم ان مكروها قد اصاب ولدها .
رمى ما كان في يده واسرع راكضا حاملا عصاه ويصرخ لكل جيرانه ان يهبوا لنجدة مريم المسكينة .
اما مريم فقد ركضت بلا طريق وبلا ضوء فقد ضاع ابنها وسكتت صرخاته للابد ، كانت تركض كالمجنونة حافية حاسرة لرأسها فهي لا تفكر سوى بمحمد غير مبالية بالأشجار والاشواك التي كانت تغيب في قدميها والاحجار التي تصطدم بها فقد فقدت احساسها بالألم في سائر جسدها فقد كان الالم يمزق قلبها .

*****

اسرع الرجال والنساء من بعيد راكضين يصرخون وينادون بـِ اسمها لكن الاوان كان قد فات حين وصولهم ، فقد اختفت مريم و ولدها فانقسم الرجال كل في جهة وزوجة سلام وجارتها ايضا ركضن لمساعدة مريم وبعد بحث لم يدم طويلا وجدوا مريم مرمية بين الاشجار فاقدة لوعيها والدماء تسيل منها بسبب جروحها .
أسرعوا يرشون الماء على وجهها وتمسح النساء دمائها ويضمدن جراحها وبعد لحظات افاقت من غيبوبتها وكان اول ما نطقت به ( ولدي محمد أكله الطاهش ردو لي ولدي….. )
شهقوا لهول ما يسمعون وتدفقت الدموع من مآقيهم وركض الرجال يبحثون علهم يعثرون عليه واستمرت المرأتان تبكيان وتواسيانها في مصابها ويخففن عنها ثم اردن المسير بها الى بيتها لكنها لم تكن تريد العودة بدون ابنها ولا تقوى على السير فقد أصبحت كالمجنونة ويرثى لحالها .
بحث الرجال في كل مكان لكنهم لم يعثروا على شيء ولم يتمكنوا من تتبع الدماء بسبب الضوء الضعيف الذي ينبعث من مصابيحهم بحثوا وبحثوا حتى تعبوا وملوا وعرفوا ان الاوان قد فات ولن يعثروا على شيء فالمكان واسع و وعر
وكان القمر قد غاب وزاد ظلام الليل سوادا رغم ذلك واصل الرجال بحثهم فقد شعروا بالخزي ان عادوا قبل انبلاج الصباح وظهور الضوء فكيف سيقدرون على مواجهة دموع مريم الثكلى المفجوعة .
وحين لاح الصباح بحثوا من جديد ورأوا الدماء التي لم يروها من قبل وحاولوا تتبعها الا انهم لم يجدوا شيء فقد اخذ الضبع فريسته واكلها عن اخرها واشبع جوعه ، ثم عادوا الى مريم والخيبة تملئهم والحزن باديا في عيونهم فوجدوها قد فقدت وعيها مرة أخرى والمرأتان تحاولان افاقتها دونما جدوى .
عندها احضروا جنازة وحملوها عليها حتى اوصلوها الى بيتها ، واتفقوا على ان تتناوب نساء القرية بالاهتمام بها .

*****

ظلت مريم وهي تارة تصحو وتارة تفقد وعيها واعترتها الحمى فصارت تهذي وتصرخ تطلب ولدها وتبكي ودموعها لم تتوقف قط عن النزول .
مرت يومان وهي لم تذق طعاما رغم محاولة النساء لإطعامها ولم يدخل بطنها سوى القليل من الماء ، وفي ثالث الايام وبينما كانت زوجة سلام بجانبها حزينة لحزنها باكية لبكائها وقد أمسكت بيدها تريد ان تهدأ من حزنها تريدها ان تنسى ما حصل وتعود لحياتها من جديد لكن هيهات ان ينسيها شيء ابنها وهيهات ان تخفف من لوعتها وحزنها أي كلمات ، واحست زوجة سلام بيد مريم تبرد ومريم ساكنة لا تتنفس فحركتها فاذا هي قد فارقت الحياة وقد تراخى جسدها ،فأسرعت لتبلغ الجميع بموتها فجاءوا ودموعهم تنهمر فغسلتها النساء وكفنوها وقبروها وذهبوا والحزن يعصر قلوبهم ويقطع ارواحهم .. وهم يقولون قدر الله وما شاء فعل .

*** انتهت ***

guest
18 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى