أدب الرعب والعام

الفصول الأربعة

بقلم : وفاء سليمان – الجزائر

أمسك نهاية مقبض الكمان بقوة، ثبته إلى كتفه الأيسر، ثم بدأ يعزفُ لحنها المفضل

مطلع عام 1994 م

استيقظتُ من نومي على صوت المنبه.. يوم بارد و مثلج، روتين معتاد، ورتابة مملة، الشيء الوحيد الذي كسر كل ذلك هو صوت موسيقى عالٍ داعب أسماعي جمع بين الحدة والعذوبة.. تسلّل الحنين لفؤادي خِلسة، توارى بين تياراتِ المشاعر المتناقضة التي عصفت بدواخلي، حاولت أن أقمعه، أحاربه، أتصدى له بحصون كبريائي العالية المنيعة التي شيدتها على مدى سنتين، غير أنه ذكي، ماكر، لعب على وتر العاطفة ، وعزف على كمان الذكريات، فتهاوت حصوني أمامه، لم يتوانَ عن إكمال طريقه.. ظل يتابع تدريجيا حتى احتك بندوب وُشمت في أعماق الذاكرة، ولمس جراحا غائرة، لاتزال رطِبة.. ندِية، عبثا حاولتُ رتقها ..

– صوفيا.. أين وجدتِ شريط المقطوعة؟.

سألتُ صوفيا ، صديقةٌ لي تشاركني السكن، شابةٌ إيطالية جاءت في بعثةٍ أجنبية لتدرس فنون الموسيقى الشرقِية ..

أجابتني بعربية متقطعة.. وهي تتمايل طربا على وقع أنغام الموسيقى ..

– صباح الخير يا نور، إنها موسيقى رائعة.. أنا أعشقها منذ طفولتي ..

– طيّب.. لكن أين عثرتِ عليها ؟.

-أهدانِي إياها مارك البارحة ..

واستمرت ترقص غير آبهةٍ بما حولها.. رحت أراقبها، جميلة، بريئة.. إنها مرِحة ومفعمةٌ بالأمل والحياة.. ذكرتني بأخرى كانت مثلها في زمن مضى، قبل أن تصطدم على صخرة الواقع وينقشع الضبابُ فتكتشف عالماً ينضح قسوةً وأنانية ..

قطعت عليّ حبل أفكاري بفرنسيةٍ سريعة :

– سأذهب الآن إلى المعهد، مارك بانتظاري.. الفطور على الطاولة.. اعتني بنفسك، ولا تنسي دوائك، أراكِ مساءً.. إلى اللّقاء.

أخذت معطفها وحقيبتها ورحلت، تاركة إياي مع لحنٍ تتراقص أنغامه حولي فتوقظ مواجعي وترهق كاهلي.. خطوتُ نحو المكتبة، فتحت أسفل أدراجها وفتشتُ تحت ركام الأوراق والملفات المبعثرة حتى وجدته.. تطلعت فيه لدقائق متأملة العبارات التي كُتبت بخط عريض على غلافه ..

الـفـصـول الأربـعـة ..

كـل عـام وأنـتِ حـبيبتـي ..

إلـى نـور حـيـاتـي ..

أطلقتُ زفرة عميقة.. وراحت الذكريات المدفونة رغما عنها تتحرر رويدا رويدا، والآهات المكبوتة تحرق مسرى الهواء في حنجرتي مطالبة بالخلاص ..

قطعت على نفسي وعدا ساعة الفراق أن لا أبكي، أن لا أذرف دمعة من أجله، سأكون قوية، متماسكة، صلبة، فأنا أعي أن الحياة لن تتوقف عنده.. لكني لم أستطع النسيان وحرق ماضٍ باتت مواجهته أليمة، إني الآن أشعر بطعم المرارة في حلقي ممزوج بملوحة أعرفها جيدا، لقد خانتني دمعاتي، آه..آه، لماذا أشعر أحيانا أنني أنتشي بتعذيب نفسي، أبحث عن أشياء تجعل سيل ذكرياتي معه يتدفق.. رغم علمي أنها سياط تحرقني وتزيد أوجاعي أضعافا ..

سامي.. الحبيب الضائع، وجع القلب وعذاب الروح، لماذا يا تُرى تقاطعت سبلنا ذات يوم؟، لمَ كان عليّ أن ألتقيك، فأحبك فأفارقك؟، أيّ ريح هوجاء قذفتني نحوك؟، لم يكن الأمر خيارا لديّ حتى أتفاداه، كان فقط قدرا، قدرا محتوما خُطّ لنا منذ الأزل …

* * *

باريس

ربيع عام 1991م

يومها كان الجو صحوا، نشر فيه قرص الشمس الذي توسط السماء الباريسية الزرقاء الصافية خيوطه الذهبية على العاصمة.. النهار في منتصفه، الحرارة معتدلة.. الشوارع مزدحمة، والوجوه باشّة متفائلة، وسط زحمة السيارات السائرة فوق جسر نهر السين، عبرت سيارة التاكسي قاصدة الضفة اليسرى منه، اتخذت منعطفا جانبيا ثم مرت عبر زقاق ضيق وتوقفت أمام بناية عتيقة ..

سألتُ السائق:

– هل أنت واثق أن هذا هو العنوان؟.

أكد الرجل كلامه، فنقدته أجرته ثم ترجلت من السيارة وسرتُ نحو مدخل البناية، حدقت بالورقة جيدا ثم صعدت الدرج.. وقع نظري على الشقة رقم اثنين، تقدمت نحوها وضغطت على زر الجرس وانتظرتُ عدة ثوان قبل أن أسمع صوت خطوات قادمة من خلف الباب، عدّلت من وقفتي ورسمت ابتسامة متكلّفة على وجهي، فُتح الباب وأطلت من ورائه عجوز تبدو في العقد السادس من العمر، بيضاء الشعر، جامدة الملامح.. حدقت بي قليلاً ثم وشت عيناها بالتساؤل قبل أن تنطق، أدركت ذلك فتكلمتُ بتهذيب :

– طاب يومك يا سيدتي.. هل أنتِ المدام جيرار؟

أومأت العجوز إيجابا، فأكملتُ بنبرة واثقة :

– أنا نور.. المستأجرة الجديدة، دلني عليكِ المسيو جاك ..

بصوتٍ رخيم أجابت العجوز وهي توسع فتحة الباب :

-تفضلي ..

دلفت إلى الداخل، أشارت لي العجوز بالتقدم ناحية الصالة الصغيرة التي تتوسط الشقة ذات الإضاءة الخفيفة، مطالبة إياي بانتظارها فيما اختفت هي داخل ممر محاذٍ لباب الشقة، وبخطوات بطيئة دخلتُ الصالة، نقلت بصري على محيطها، كانت صغيرة ونظيفة، أثاثها قديم.. ولكن مظهره كان يوحي أنه كان فاخرا.. لفتت نظري مجموعة لوحات وأيقوناتٍ صغيرة تتوسطها (مينوراه ذهبية) موضوعة على المكتبة، تقدمت نحوها ودققت النظر فيها لبرهة، هزني وقتها شعور غريب، واستبد بي القلق فجأة، فاتجهتُ صوب النافذة المفتوحة لأستنشق بعض الهواء النقي، و أفكر بالقرار المناسب ..

– قال السيد جاك أنكِ فتاةٌ عربية، كثيرا ما أجّرت الغرفة لشبان عرب، أنتم مثالٌ للطيبة والتميّز ..

أتى صوت المدام من خلفي قاطعا عليّ تأملاتي، التفتُّ صوبها.. كانت تحمل كأسين من الشاي، جلست على الأريكة، ثم دعتني للجلوس قائلة:

– ما اسمك يا ابنتي، وماذا تعملين؟ ..

أجبتها بعد أن اتخذت مجلسي :

– اسمي نور يا سيدتي، أعمل بالملحق الثقافي لسفارة بلادي ..

-نور.. اسم جميل، ماذا يعني؟ ..

– الضوء ..(Lumiere)

قُلتها محاولة حجب التوتر الذي اعتراني، لفت ذلك نظرها.. فابتسمت قائلة :

– بإمكانك الإعتذار عن السكن هنا بكل يسر، لا داعي للحرج يا عزيزتي ..

فهمتُ مقصدها، وأدركت ما ترمي إليه، خجلت لحظتها من نفسي، فليست نور من تحكم على الناس طبقاً لاختلاف مذاهبهم و أعراقهم، أخذتُ منها كأس الشاي وقلتُ بلطف :

– أعجبتني شقتك كثيرا، هل لي برؤية الغرفة؟ ..

– بالطبع يا ابنتي.. تفضلي ..

قادتني نحو غرفة متوسطة الحجم تقع في نهاية الممر، كانت نظيفةً ومرتبة، تحوي سريرا وخزانة وكرسيا مع طاولة للكتابة..

سألتها:

– ألازال السعر على حاله كما أخبرني المسيو جاك؟.

– أجل يا ابنتي ولن يتغير ..

– الغرفة جيدة وتناسبني، هل أحضر أغراضي؟.

– أكيد، تبدين فتاة لطيفة ومهذبة، سأكون مسرورة للغاية بمشاركتك لي الشقة ..

* * *

بعد عدة أيام ..

كان يوما ممطراً، أسرعت حينها للعودة للشقة، فتحت الباب وتوجهت ناحية الصالة لألقي التحيّة على المدام جيرار، هناك رأيته لأول مرة، انتابني شعور غامض لحظتها لم أعرف كنهه، رحت أراقبه لهنيهاتٍ و هو يحدق بمنظر المطر الغزير من وراء زجاج النافذة، التفت نحوي.. فاصطدمتُ ببريق عينيه الساحرتين، أجفلت و لم أدرِ هل أتقدم أم أعود أدراجي، حين فاجأني قائلاً بابتسامةٍ مشرقة أطلت من وجهه ذي اللّحية البنية الخفيفة قبل أن يجلس :

– أنتِ المستأجرة الجديدة أليس كذلك؟، أخبرتني المدام جيرار عنك قبل قليل ..ادخلي ..

هززت رأسي بإيجاب مؤمنة على كلامه ثم اتخذت أقرب مقعد للمدخل كمجلس، وقد نال مني التوتر الذي يجعل بالعادةِ ساقي تهتز بعنف، شددت عليها بقوةٍ لأكبح جماحها، وكان ما أنقذني من موقفٍ محرج دخول المدام جيرار حاملةً أكوابا من القهوة الساخنة، ألقيتُ التحية عليها وشكرتها، ثم تجرعتُ بضع رشفات من القهوة علّها تخفف وطأة ما كنت أمر به ..

جلست ثم وضعت يدها على كتف الشاب الذي لم تبارح الابتسامة ثغره، وقالت بعبارات ملؤها الامتنان :

– سامي.. شاب عربي مثلك، انتقل من شقتي منذ أشهر.. لكنه لايزال وفيا للأوقات التي قضاها هنا، يزورني كل فترة للاطمئنان عليّ ..

توجهت إليه واسترسلت :

– وهذه نور ..

– تشرفت بمعرفتك يا آنسة ..

وقع اسمه على مسامعي كلحنٍ هادئ، قابلَت عينيه اللطيفتين نظراتي فابتسمت وأجبت :

– وأنا أيضا ..

– وما هو عملكِ؟.

– أعمل بالسفارة، وأكتب بصحيفة محلية من حين لآخر ..

تحدثنا قليلاً، ثم استأذن بالرحيل قائلاً :

– تشرفت بمعرفة فتاةٍ مثقفة مثلكِ يا آنسة نور، سأعاود الزيارة بعد أيام قليلةٍ، أرجو أن ألتقي بكِ ساعتها ..

حضوره أربكني، وشخصيته سحرتني، كان هادئاً، بشوشاً، ومرحاً، لكني لم أرد التفكير بأي شيء حينها، فأجلت كل صراعاتي الداخلية وهواجسي لوقت آخر.. كان ينبغي أولاً أن أرتب أفكاري وأراجع قناعاتي التي باتت تائهة مشتتة ..

في نفس اللّيلة أثناء تناولي وجبة العشاء مع المدام جيرار، تلك العجوز التي اكتشفت وقتها أنها امرأةٌ لطيفة طيبةُ المعشر، فتحت لي قلبها وأخبرتني أنها تعيش بمفردها منذ أكثر من أربعين سنة، قالت أنها بعد قصة حب ملحميّة باءت بالفشل.. آثرت اعتزال الرجال و الانفراد بعزلةٍ اختارتها لنفسها، فبرأيها الحب يأتي مرة واحدة بالعمر، وفيما عدا ذلك فهو سرابٌ خادع وأماني زائفة ..

حديثي معها وترني ، وما حدث ظهرا أرق مضجعي، راحت التساؤلات تنهش عقلي، أردت مواجهة نفسي والحصول على إجابات صريحة، ما الذي حل بكِ يا نور؟، هل هي لطمة الحب من أول نظرة؟، ألم تجاهري دوما بأنه محض هراء وخرافة؟، هل استبدلتِ قناعاتك بأخرى بين عشيةٍ وضحاها؟ ..

في خضم كل علامات الاستفهام التي كانت تدور برأسي، امتدت يد خفية من الماضي وانتشلتني من معمعة الأسئلة لتعود بي سنوات طوالٍ للخلف، وأتذكر من هي بالضبط نور حمدي ..

كنت طفلةً صغيرة لم تتجاوز الست سنوات من العمر، شهدت الكثير من المشاكل والصراعات بين والديّ، مشاكل لم أفهم لها سببا آنذاك، ومع تزايد حدتها واستحالة عيشهما سوياّ اختارا الانفصال.. وسرعان ما اتخذ كل منهما شريك حياة آخر، ترعرعت في كنفِ جداي لأمي، بعد أن أصرت جدتي على حضانتي، أغدق الاثنان عليّ فيضاً من الاهتمام والحنان، عشت طفولة رائعة، ومراهقة هادئة متوازنة خاليةً من العقد، إذ أن جدتي الحكيمة زرعت في نفسي أسس الفضيلة و حاولت جهدها إقصائي عن الرذائل.. أعطتني مساحةً واسعة من الحرية، وأولتني ثقة كبيرة ترسخت جذورها في داخلي إلى يومنا هذا، كنت أجد في داخلي شغفا للكتابة، فرحت أستغل أوقات فراغي في إرضاء ذلك الشغف، أختلي بنفسي وأبث خواطري وانفعالاتي وآرائي بكل ما يحيط بي على الورق ..

توفي جدي وأنا في العشرين من العمر، لحقت به جدتي بعد عامين فقط، كانت فيهما عجوزا هشة كما لم أعهدها، دمرها فقدان نصفها الآخر، فراحت تدعو الله ليل نهار أن يلحقها به. تركاني وحيدة، غريبة، في عالمٍ كبرتُ فيه وسط أنفاسهما، رفضتُ الإذعان لطلبات والداي بالعيش معهما وانفردت ببيتي العتيق الذي أورثني إياه جداي لشهور أكملتُ فيها عامي الأخير بالجامعة ..

وصلتني ذات يوم رسالة من الخارج، كانت من باريس أين يقطن خالي المهاجر هناك منذ سنوات مع زوجته وأبنائه، يدعوني فيها لزيارته في العطلة، لبيت الدعوة مغتبطة، وقضيتُ شهور العطلة في جو ملؤه الدفء والألفة، عرض عليّ الاستقرار بالمدينة فوافقت.. ثم سعى في دائرة معارفه ليجد لي عملاً يتناسب مع شهادة الأدب الفرنسي التي أحملها ..

لم أتأقلم بدايةً مع المجتمع الباريسي، كان تحرره المفرط يخيفني، كما لم أستطع تكوين صداقات حقيقية، باستثناء التقائي ببعض معارف بيت خالي كل فترة، نأيت بنفسي عن عالم الحب و العلاقات العاطفية.. أردت فقط أن أعمل، أكتب، أتعلّم وأتعرف على مجتمع جديد أدرسه، وأحلّله، وأحاول التعايش معه رغم الاختلاف، تنقلت بين عدة غرف كانت تؤجر بالعادةِ للطلبة، لم يعترض خالي على قراري، أردت الاستقلالية وأن لا أكون عبئا على أحد، و بعد سنةٍ من السعي والبحث تحصلت أخيرا على فرصة للكتابة بصحيفةٍ بفضل مساعدة مدير الملحق ..

نمت ليلتها بصعوبة، مضطربة النفس، متوجسة الخواطر، كنت أشعر ببوادر زلزال سيهز سكون حياتي الهادئة ..

* * *

جاء سامي مساء عطلة نهاية الأسبوع لزيارة المدام جيرار، قررتُ أن أطبخ وجبةَ عشاء على طريقتي كمبادرة طيبة لشكر السيّدة على لطفها ورقتها معي، رأيت فيها امرأة شامخة وقوية ..مثقفة ومعتدّة بذاتها، فاعتبرتها لي صديقة و رفيقة ..

تجمعنا حول الطاولة، وشرعنا في الأكل حين هتفت المدام :

– الأكل جد لذيذ !.

وافقها سامي بقوله :

– بالفعل، لم أتناول مثله منذ زمن، ثم ضحك واستطرد : كاتبة و طاهية ماهرة، يا لها من توليفة غريبة !.. سكت قليلاً ثم أردف : لكن هناك شيء ناقص ..

راقبته وهو يقف عن مقعده، ويتجه ناحية الخزانة، ثم أتى بقنينة نبيذٍ وثلاثة كؤوس قائلا :

– لنحتفل ! ..

كادت المدام أن تعترض لِعلمها أني لا أشرب الكحول.. لكني أوقفتها بإيماءة من رأسي، لم أكن أريد أن أفرض عليهما طريقة عيشي، تركته يصبُّ الشراب في الكؤوس وقلت :

– الحقيقةُ أنني لا أشرب، لكني سأشارككما بكأسٍ من العصير ..

ابتسم.. وقد لاحظتُ تهكماً واضحا حين قال :

– متحفِظةٌ إذن !، لا بأس.. هنيئا لكِ بالعصِير ..

تعمدتُ تجاهله كي لا أفسِد السهرة، وغيّرتُ الموضوع ..

– قلتَ أنك تدرس بمعهد الفنون ..

– أنا لا أدرس، بل أستاذُ موسيقى بالمعهد ..

قالت المدام : إنه موسيقيٌّ بارع، ليتكِ تسمعين عزفه يا نور، ستدهشين بمدى روعته !، ثم توجهت لسامي :

ستعزف لنا الليلة، أليس كذلك؟.

ابتسم بترفع وأجابها :

– في حال وافقت نور ..

– بالطبع !، أتوق لسماع عزفك، فأنا أعشق الموسيقى ..

بعد انتهاءِ العشاء عزف على البيانو القديم للمدام سيمفونية (ضوء القمر) لبتهوفن ..كان أداءه منسابا رائعا، يحمل بين ثناياه رهافةَ حسٍّ و عمق وجدان، وشت أصابعه التي كانت تتراقص على المفاتيح بأنه كان بارعاً ومتمكنا، انسجمت مع الألحان العذبة التي مست جوارحي، واندمجتُ مع جو شاعري غدا بعدها طقساً أسبوعيا برِعاية سامي ..

توالت الجلسات والسهراتُ في الشقة بحضور المدام جيرار، تقربنا خلالها من بعضنا أكثر، فذابت رواسب خجلي وتحفظِي أمامه شيئا فشيئا، ثم أصبحنا نلتقِي بالخارج بعد أن دعاني ذات مرة للالتقاء به بمقهى هادئ بأحد أزقة باريس، أصبحنا نتحدث بكل شيء ، نتناقش ونتبادل الآراء.. وإن كنّا كثيرا ما نختلف، تزايد خلالها إعجابي بشخصيته الفذّة، كان شابا عصاميّا، مثقفاً واسع الاطلاع، جذبني سحرُه بشدة.. فلم أستطع مقاومته، ولم يمض الكثير من الوقت حتى أدركت أنني وقعت في غرامه ..

* * *

بعد شهرين ..

دعاني سامي ذات يوم عطلة إلى أحد المطاعم الراقية الهادئة بشارع ( مونمارتر ) وسط باريس، اتخذنا طاولةً بمحاذاة الجدار الزجاجي المطلّ على الشارع، كنت أتأمل الساحة شاردة الذهن، مشغولة البال.. حين نطق وهو يقرأ قائمة الطعام :

– فيمَ تفكرين؟.

أفقت من شرودي على صوته، فأجبت :

– أشياء كثيرةٌ تشغل فِكري ..

– وأهمها ؟.

لم يكن من السهل إخفاء شيء عن سامي، كان لماحا، ذكيا و فطنا، فأجبته دون مقدمات :

– في الحقيقة.. أفكر بعلاقتنا هذه ..

ضحك ثم أشار للنادل بالمجيء ، أملى عليه طلبه ثم توجه نحوي وقال :

– الأمر واضح يا نور، نحن في باريس، مدينة العشاق ! ..

فُغر فاهي من فرطِ الدهشة وأنا أنصت إليه يتحدث بغير الفرنسية لأول مرّة، ثم قلت :

– أنت تتحدث اللّغة العربية بطلاقة !، قلت أنك لا تجيدها !..

– أردت مفاجأتك بها في مناسبةٍ كهذه ..

– لكنك أخبرتني ذلك في بداية تعارفنا ..

قال بمكر وهو يمسك يدي ويضعها بين يديه :

– أنا موهوب، بإمكاني أن أقرأ المستقبل يا حبيبتي ..

أحسست بالدّماء تغلي في عروقي، وبحرارة تضغط على وجهي رغم أن جو المطعم كان مُكَّيفاً، تسارعت دقات قلبي بشدة وأنا أسمعه يقول :

– أحبك يا نور ..

الأضداد تتجاذب، بهذه الجملة أستطيع أن أصف علاقتي بسامي، فباستثناء الشيء الوحيد الذي كنا نتفق عليه ألا وهو عشق الفن بأنواعه، فإن اختلافنا كان واضحا وجليّا، كنتُ أرى العلاقاتِ المنفتحة المتحررة من كل قيد، والتي يغوص بها شباب المجتمع الباريسي، فأخشى ما أخشاه أن أنزلق في نفس الدوامة ..خاصّة وأن سامي منجذب لثقافتهم، وأفكاره باتت متأثرة بهم، بل إنه كان مندمجا معهم بالكامل، كان يثني على الحرية اللامحدودةِ المتوفرة بأوروبا عامة وفرنسا بالخصوص، ويذم كل الأفكار والتقاليد العربية التي يصفها بالمتخلّفة ..

قال لي ذات مرة :

– الحرية بأوطاننا أضيق من خرم الإبرة، في مجالسنا تدور النقاشات بالساعات عن فرضِ قوانين عقوبات على من يمارس الجنس دون وثيقة زواج !، بلداننا تغرق في الفساد، ينتشر فيها الظلم والفقر كانتشار ذرات الأكسجين في الهواء، ثرواتنا تحول لأموالٍ تملأ بنوك سويسرا والنمسا، العربي أصبح يفر من بلاده دون أن يلتفت خلفه، والسبب هو الحاجة لتوفير أدنى متطلبات العيش، كي يحاول استرجاع كرامته الإنسانيةَ التي هُدرت فوق تراب بلاده، كان من الأوجب تحسين معيشةُ الناس وليس التلصص على حياتهم الشخصية ..

– نظرتك سوداوية جدا، أنظر حولك، ألا يعاني المجتمع هنا من مشاكل رغم سيل الحريات المتدفقة عليه ؟، ثم إن الأخلاق …

قاطعني ساخرا:

– هه، ما جدوى الأخلاق إن لم يكن يتوفر للناس ثمن كسرةِ الخبز حتى …

صمت قليلاً، ثم قال معترفاً بصوت يغلب عليه الأسى :

أنت لا تعلمين أنّ طفولتي كانت جدُّ قاسية، كنت الأصغر بين جيشٍ من الإخوة، لأبٍ مريضٍ وأم أميّة، عائلتنا كانت بسيطة و دخلنا كان جد محدود، لم نكن نجد أحيانا ما نسد به رمقنا حتى، على الرغم من محاولات أمي توفير احتياجاتنا بخدمتها طاهيةً في بيوت الأثرياء. كنت لا أشبههم لذا انعزلت بنفسي وأفكاري بعيدا عنهم، وقررت بحلول الخامسة عشر من عمري أن أعول على نفسي و أعمل لأحصِّل مصاريف تعليمي، فبالنسبة لي كان التعليم هو الفرصة الوحيدة للهرب من مستنقع الفقر ذاك.. انحنى ظهري وأنا أنظف أرضيات المطاعم وأجلي الصحون، لكن كل ذلك الشقاء لم يثن عزمي، وضعت نصب عينيّ هدفا وحيداً، أن أظفر بمنحةٍ دراسية للخارج، وأنمي موهبتي التي كنتُ أعلم مسبقا أنها ستُقمع بمجرد ذكرها.. كان يحدوني أمل بمستقبل أتعلم فيه فنون الموسيقى، وأرتقي بنفسي لعالم الإبداع فيها ..

فوجئت بكلامه، فتلك أول مرة يتحدث عن حياته بذلك العمق :

– لم أكن أدرك أنك عانيت هكذا ..

عقد ذراعيه ورد بهدوء :

– أنا هنا سامي ولستُ سامر، سامر تركته هناك، ودعته منذ اثنتي عشرة سنة، ونسيته مع أول خطوة وطأتُ بها أرض باريس ..

صمت وكأنه يستعيد ذكرى ما ثم استرسل :

اكتشفت ولَعي وتعلقي بالموسيقى الكلاسيكية بعمر الثانية عشر، كنت أستمع لباخ، موزارت، بتهوفن، شوبان.. بشغف حقيقي، كانت حصص الموسيقى التي تقدم بالمدرسة محدودة، لذا فإنه ما إن توفر لي المال حتى سعيت لتلقي دروس دعم خارجيةٍ، و في الأخير ها أنا ذا، اكتشفت هنا مجتمعاً مختلفا تماماً، يقدر المواهب ويشجعها، درستُ وتفوقتُ ووجدتُ عملاً أيضا، الحياة هنا سهلة، بسيطةٌ، خالية من التعقيدات.. لذا فقد تنصلتُ من جذوري، أوصدتُ باب الماضي خلفي، ختمته بالشمع الأحمر، ثم رميتُ المفتاح وراء ظهري ..

– و هل زرت عائلتك بعد رحيلك ؟.

أجاب دون اكتراث : كلا ..

لذت بالصمت، فأنا كنت على علم أن أيّ جدال معه سيكون عقيماً، كنت قد خبِرتُ بعضا من طِباع سامي، و منها العناد الذي كان صفة متأصلةً فيه ..

* * *

كنت منغمسة في الكتابةِ عندما قطع عليّ حبل أفكاري صوت المدام :

– هل نمتِ يا نور؟ ..

أغلقتُ دفتري، قمت وفتحت الباب ثم أجبتها :

– لا.. لم أنم بعد، إن الجو حار وخانق، كما أني أحاول إنهاء مقالتي، هل تريدين أن أعد عصيرا باردا لنشربه سويا ؟ ..

– سيكون هذا من دواعي سروري يا عزيزتي، سأنتظرك في الصّالة إذن ..

بعد قليل كنا في الصالة، حدقت المدام في وجهي بنظرة تأمليّة و سألت :

– هل علاقتكِ بسامي تسير بشكل جيد ؟ ..

– كالعادة، الأمور تسير بوتيرة حسنة.. لكنه غاضب، دعاني بالأمس لتمضية بضعةِ أيام على الشاطئ، لكنّي لم أستحسن الفكرة ..

شربت من كوب العصير ثم قالت :

– كم هو مقدار العطاء الذي بوسعك تقديمه في هذه العلاقة يا نور ؟ ..

– لم أفهم ؟ ..

– الحب ليس مجرد كلمات يا عزيزتي، هو قبل كل شيء أفعال، الحاجز الذي تضعينه بينك وبينه سيُساء فهمه، أنت تعلمين أنك لستِ أول علاقة بحياته، إنه خبير.. لكنك مبتدئة، هو لن يتفهم، اسمعيني يا ابنتي، للحفاظ على علاقةٍ كالحب ينبغي تقديم بعض التنازلات أحيانا ..

– أهو من طلب منك التحدث معي ؟ ..

نفت الأمر بسرعة قائلة :

– لا.. لكني عجوز طعِنت في السن، خبرت الحياة جيدا و أستطيع ملاحظة كل ما يجري حولي بدقة ..

قالتها بتوتر ملحوظ، حينها تأكدتُ أن شكوكي صحيحة.. كان سامي يحاول التأثير على قراري بشتى الوسائل ..

في اليوم التالي أدركت بعد تفكير جاد أن كلام المدام جيرار صحيح، سامي مختلف عني، أفكاره أكثر انفتاحا وتحررا.. ومع ذلك أحببته، فلماذا أضنّ عليه برحلة نستمتع بها سويا، ونكسر بها زخم الروتين اليومي ؟، أبلغته بعدها موافقتي، اغتبط وأسرع لحجز التذاكر وهو يقول :

– لن تندمي.. ستكون رحلةً خيالية ..

بعد أيام حطّت الطائرة ظهرا بمدينةِ (كان)، بعد الحجز بالفندق أخذني بجولةٍ سريعة للشاطئ رغم قيظ الظهيرة، كان رائعا، مزيجا من الألوان التي رسمت لوحة فنية خلابة، بمياهه النقية التي عكست لون السماء الأزرق الصافي، اليخوت البيضاءُ الناصعة المنتشرة على سطحه، والمنتجعات الراقية المطلة عليه، أسرني جمال الطبيعةِ و سُحرت بالمنظر المذهل الماثل أمامي ..

– كنتِ لا تودين القدوم ! ..

– لم أدرك أنّ المكان بهذه الروعة ..

– لم تري شيئا بعد.. لنذهب الآن لنيل قسط من الراحة وسنخرج مساءً، إني أدعوك للعشاء ..

ودعته عند المصعد، واتفقنا على اللّقاء عند الثامنة مساءً.

* * *

ليلتها ارتديت فستانا أزرقا للسهرة، كان محتشما يناسب قوامِي النحيل و شعري الأسود الذي جمعته للخلف. بعدها تزينت، ثم ألقيت نظرة أخيرة على شكلي في المرآة، أخذت حقيبتي الصّغيرة ثم هممتُ بالخروج حين طرق الباب، كان سامي ..

راح ينقل بصره من رأسي وحتى أخمص قدمي بانبهار ..

– أنت تحرجني بنظراتِك هذه ..

– ليس ذنبي أنك جميلة ..

– إلى أين سنذهب ؟..

– إنها مفاجأة ..

ثم تأبط ذراعي، وسار بي حتى بلغنا الشاطئ، كان هادئاً ساكناً إلا من بعض الناس المتجولين بمحاذاته .. دهشت وأنا أسأل :

– هل سنتعشى هنا ؟ ..

ابتسم، ثم أمسك بيدي و سحبني خلفه حتى انتهينا إلى الرصيف المحاذي لطول الشاطئ، تصطف عليه مجموعة من اليخوت، استل من جيبه مفتاحا وقال :

– أترين ذلك اليخت الصغير هناك؟، ذلك مكان سهرتنا الخاصة لهذه اللّيلة ..

– أنت تمزح ! ..

كنت مصدومة، فلطالما كانت مواعيدي معه إما بأماكن عامة أو بحضور المدام جيرار في الشقة ..

– تبدين متوترة، هل أنت بخير ؟ ..

حاولت عدم التصريح بمخاوفي أمامه، ففندت الأمر بنبرة مرحة :

– بالعكس، أنا جد سعيدة لأني برفقتك ..

– تعالي إذن ..

وشدني من يدي بحماس، دخلنا إليه، كان مظلماً وهادئا، تحرك سامي بضع خطوات، وفجأة أُشعلت الأنوار، كانت عبارة عن سلسلة من مصابيح النيون الملونة تلف محيط اليخت ..

هتف سامي:

– كل عام وأنت بخير يا نور، عيد ميلاد سعيد يا حبيبتي ..

– صحيح، إن اليوم عيد ميلادي !، كيف عرفت بالأمر ؟ ..

تقدم نحوي بسرعة، طبع قبلة على وجنتِي ثم نظر في عيني و قال :

– لا شيء يخفى على سامي ..

ارتبكت، فلأول مرة أكون فيها بهذا القرب الشديد منه، ابتعدت عنه قليلاً وقلت :

– بالعادة لا أحتفل به، ومنذ وفاة جداي نسيته فلا أحد غيرهما كان يقدم لي الهدايا ..

– ستنالين إحداها هذه اللّيلة، لكن لنقم بجولة أولاً ..

شغل المحرك، ثم أدار المقود فتحرك اليخت ببطء مخترقا المياه الساكنة المتلألئة بانعكاس الأضواء على سطحها ..

– واضح أنك متمكن من القيادة ..

– كنت آتي مع أصدقائي كل عطلةٍ لقضاء عدة أيام هنا ..

– آه.. أصدقاؤك إذن !..

أطلق ضحكة صاخبة ثم قال :

– لا يليق بك أن تكوني غيورة ..

بعد جولة قصيرة توقف اليخت وسط البحر، أخذني سامي للطابق الأسفل حيث كانت كعكة ميلاد رائعة تتوسط طاولة الأكل مع عشاء فخم . تقدم نحو الثلاجة وفتحها، ثم أمسك بزجاجة والتفت لي قائلاً بلهجة ساخرة :

– سأتنازل هذه اللّيلة وأشرب الحليب.. أقصد العصير، من أجلك فقط ..

رمقته بنظرات حانقة ثم أشحت عنه بصري :

– هذا ليس وقت تهكماتك ..

– إني أمزح فقط، لنقطع الكعكة معا ..

قطعنا الكعكة، تمنيت أمنية كما طلب مني، ثم أمدني بعلبة صغيرة وقال :

– هذه هديتك، قضيتُ وقتا طويلاً في إعدادها.. لا تفتحيها الآن، بعد العشاء سنفعل ذلك سويا ..

انبهرتُ وأنا أرى كونشرتو ” فيفالدي” الشهير الكامل (الفصول الأربعة) مسجلا على شريط كاسيت، ولم يكن ذلك السبب الوحيد لذهولي، لقد كان هو من عزفها !..

– قلت أنها أفضل مقطوعة موسيقية لديك.. أليس كذلك؟ ..

– بالفعل إنها كذلك ..شكرا جزيلاً يا سامي، واضح أنها أخذت الكثير من وقتك ..

– لا شيء أغلى من نور، تعالي لنرقص الآن ..

وضعها بالمسجِّلة، أمسك يدي.. جذبني إليه ثم راح يتحرك بخطوات سريعة و مرِنة، جاريته في ذلك، ومع مرور الوقت كنّا قد اندمجنا مع الموسيقى. كانت ليلةً لا تنسى، فإلى حد اللّحظة.. لازالتُ أشعر بحرارةِ أنفاسه على وجهي وهو يقتربُ ليقبلني لأول مرة ..

* * *

منتصف سبتمبر من نفس السنة ..

توطدت علاقتي بسامي كثيراً، وتعلقتُ به أكثر، عرفت معه معنى الحب الذي كان جديدا كليا علي، كنتُ أنام وأصحو على صوته، ولا يمر يوم دون أن ألتقي به، فباستثناء ساعات العمل.. صرنا نقضي معظم الأوقات معا، حتى إني عرفته على خالي الذي أعجب به و لم يمانع فكرة علاقتي معه، فقد كان يثق بي وبخياراتي، كنت جد متألقة وعفوية معه، اكتشفت بقربه جوانب خفية من شخصيتي، أسعدني سامي وأضاف لمسته الفريدة على حياتي، ولكنها كانت سعادة لم تخل من شوائب ..

في كل ليلة كنت أضع فيها رأسي على وسادتي.. أعيد اجترار أحداث ذلك اليوم، أبتسم لكل اللحظات المسلية و الجميلة التي قضيتها معه، وفي ذات الوقت أشعر بتخبط و بوخز في عمق صدري، لم أكن راضية عن نفسي، فعلاقتي به تعدّت مرحلة البراءة، أصبحت لا أمانع أشياء كنتُ أراها سابقا لا تجوز، لأني أخاف خسرانه، وعلى الرغم من أن موطني و تقاليدي كانا يسكنانني طيلة الوقت.. غير أني انجرفتُ وراء عواطفي.. واندفعتُ خلف مشاعري، اكتشفت حينها أنه لا شيء يجعلنا سعداء مثلما يفعل الحب، وكذلك لا شيء يجعلنا ضعفاء غيره ..

* * *

ذات يوم خريفي جميل كنت أتمشى مع سامي حين مررنا أثناء تجوالنا بجانب إحدى الكنائس العتيقة، حيث كان يقام هناك حفل زفاف ما، وقفت أتأمل منظر العروسين وهما يخرجان من الكنيسة يدا بيد وسط التصفيق والهتاف، كانا يبدوان في غاية السعادة ..

– ماذا هناك؟، لماذا توقفتِ يا نور ؟..

أشرت باتجاههما قائلةً :

– أنظر كم يبدوان سعيدين ..

التفتَ صوبهما، حدّق في الجمع قليلاً ثم رد هازئا :

– محض سعادة مؤقتة ..

-ماذا تقصد ؟ ..

– إنهما يتوجهان نحو الجحيم بإرادتيهما ..

– وهل تعتبر الزواج جحيما ؟! ..

قال بنبرة واثقة :

– أجل ..فالزواج يعني التعود والروتين و اللّذان يضربان الحب في مقتل، فلا اشتياق، لا لهفة، ولا حنين يدفع طرفاً صوب الآخر، الحب يظهر أجمل ما لدينا من صفات ومشاعر، أما الزواج فهو يبرز أسوأها.. الحب هو أن تكون مع المحبوب حرا من أي قيد أو شرط.. الزواج سجن بكل تعقيداته يئِد الحب ويدفنه في مهده ..

رددت على منطقه الغريب باستنكار :

– الزواج يكلّل الحب ولا ينهيه، أعلم أن الحياة ليست وردية، فالزواج مسؤولية، مشاركة، هو أن تنوي العيش مع الطرف الآخر للأبد، أن تحبه بصدق و تعزم على مشاركته حياته بأفراحها وأتراحها ومشاكلها، أن تتقبل نواقصه وتتأقلم مع علاّته ..

– وسيتناقص الحب حتى يجف تماما، وتصبح الحياة جحيما، و يستحيل الآخر كابوسا يصعب الفكاك منه ..

– لا تطلق أحكاما مسبقةً يا سامي، فوحده الحب الحقيقي لا ينضب، بل ينمو ويكبر مع الوقت ..

ثم عقدت حاجبي وسألته بتبرم :

هل تقصد أن حبك لي سينتهي ذات يوم ؟ ..

بابتسامة باهتة أجاب :

كلا.. أنا لا أتكهن بما ستؤول إليه حياتنا يا نور، ولا أحد يعلم ما تخبئه لنا الأيام .. يكفي أنني متمسك بكِ بقوة في هذه اللّحظة ..

تذكرتُ وأنا أستمع لحديثه ما سألني إياه خالي قبل أيام من ذلك، عمّا إذا اتفقتُ وسامي على مشروع ارتباط رسمي أو شيء كهذا، فأجبته محاولة إقناعه بما لم يقنعني شخصيا أننا لازلنا في بداية تعارفنا فقط ولا زال الحديث مبكرا عن أمور كهذه.. كيف لي أن أخبره أني لا أجرؤ على سؤاله بهذا الشأن تخوفا من ردة فعل غير محسوبة تنتهي بأن تقضي على كل ما بيننا ؟! .. كيف لي أن أخبره أني متورطة بعلاقةٍ مبهمة الملامح ؟! ..

* * *

ذات أمسيةٍ باردة كنت وحيدة في الشقة.. بعد مغادرة المدام جيرار لزيارة أحد أقربائها في الجنوب، كانت الساعة تشير إلى التاسعة ليلاً عندما كنت أضع اللّمسات النهائية على مقالة الأسبوع، و فجأة كسر صوت جرس الباب الصمت المخيم على الشقة، تقدمت ناحيته ونظرت من العين الزجاجية لأرى من يقف خلفه، عندها تعجبت وأنا أرى سامي فأسرعت بفتح الباب وسألته على الفور :

– ما الذي أتى بك ؟! ..

كانت نبرتي اتهامية دون أن أعي ذلك إلا حينما تكلم مشدوها :

– اشتقت لكِ ..هل هذا جرم ؟! ..

أسرعت بالإجابة بابتسامة باهتة لم تفلح بإخفاء توتري :

– كلا.. لم أقصد، ولكن الوقت متأخر قليلاً ..

– غدا يوم عطلة، فقررت أن نسهر سويا ..

فتح عينيه وأشار بيده للداخل وسأل :

هل سأظل واقفا هنا !، ما بكِ هذه الليلة يا نور ؟ ..

– آسفة حقا، تفضل.. أنا متوترة قليلاً منذ الأمس فكما تعلم المدام جيرار ليست هنا هذه الأيام ولم أعتد على غيابها ..

أسرع إلى الداخل بعد أن قبل يدي وأعطاني كيساً كان به علبة من نوعي المفضل من الشوكولا الفرنسية.. و قال بابتسامةٍ عريضة :

– ولهذا أنا هنا.. كي لا تشعري بالوحدة يا عزيزتي ..

جلس بركن الأريكة داخل الصالة وقال ببهجةٍ قرأت تفاصيلها على وجهه :

– أتعلمين، إني مسرور للغاية لوجودك في حياتي يا نور، فلم أخض علاقة جعلتني بهذه السعادة من قبل ..

كنت حقاً سعيدة في صميمي بزيارته التي خففت من شعوري بالوحدة، لذا جلستُ بالقرب منه محاولة نفض التوتر عني وأجبته باسمة :

– تعلم أن هذا شعوري أيضا، بت لا أتصور الحياة وأنت غير موجود فيها إلى جانبي ..

اقترب مني، وضع يده على يدي وأزاح شعري المسدل إلى ما وراء أذني بيده الأخرى ثم مال بوجهه إلى وجهي وهمس :

– أنت جميلةٌ جدا هذه الليلة ..

شعرت وكأن قلبي يكاد أن يهوي أرضا لفرط ما ازدادت سرعة دقاته، تمالكت نفسي وقلت متأهبةً للوقوف :

– سأذهب لأحضر شيئا ما لنشربه ..

سحبني إليه بقوة وقال :

– ليس وقته الآن ..

قبلني، ثم راح يتشمم شعري، ويمرر راحة يده على وجهي برفق، كانت لمساته هامسة.. ناعمة ودافئة، للحظة كنتُ على وشك أن أستسلم له وهو يتمادى أكثر، ولكن شيئا ما بداخلي استنكر ما كان يحدث، انفلتت من بين يديه بخفة، ثم اعتدلت في جلستي وأنا أسوي شعري قائلة :

– بالنسبةِ للحفلة الموسيقية التي ستشارك بها بعد شهرين، سأحرص على اختيار البذلةِ التي سترتديها بنفسي ..

ابتسم بطرف فمه، وقد لاحظت علامات إنزعاج مكبوتة تعلو محياه :

– ذلك من دواعي سروري يا عزيزتي ..

أحسست أن الجو مكهرب نوعا ما، لذا استويت واقفة و قلت بنبرة مرحة لأبدّد الاضطراب السائد :

– لم أتعشَّ بعد، سأحضّر عشاءً لذيذا لنأكل معاً ..

صاح موافقا :

– و لا تنسي الشراب ..

قالها بمكر محاولاً إغاظتي، ثم أشعل التلفاز وراح يقلب بين محطاته، تركته و غادرت إلى المطبخ وأنا أفكر بنهاية كل هذا، فعلى الرغم من المشاعر القوية التي كانت تجمعنا إلا أن اختلافنا على نقطة جوهرية جعل قلقا لا يوصف يجد سبيله إليّ، فلم أكن أريد خسارته تحت أي ظرف . حضّرت الأكل ووضعت له زجاجة شرابٍ علّني أرضِي مزاجه المكدر، وليتني لم أفعلها.. فقد شرب ليلتها كثيرا حتى الثمالة، ولم يأبه باعتراضي المتكرر على ذلك ..

– سامي !، لقد شربت الكثير، هل أنت بوعيك ؟.

-طبعا…..طبعا…

راح يهز رأسه، ثم قام وتوجه مترنحاً صوب الباب ..

– إلى أين؟ ..

– إلى شقتي ..

– وكيف ستذهب بهذه الحال؟، الوقت جدّ متأخر !.

– سأمشي …

صُدمت وأنا أتخيله يمشي سكراناً في الظلام، فلم أجد بدا من أن أهرع إليه وأمسك يده ..

– ستنام هنا اللّيلة ..

حدق بي بنظرات ملؤها الدهشة وقال بكلمات متقطعة :

– ولكن… لكن… ألا تخافين… مني ؟.

– كفى هراء، تعلم أني أثق بك تماما، ثم إنك ستنام بغرفة المدام جيرار، لا أعتقد أنها ستمانع ذلك ..

قهقه ساخرا وهو يتمايل يمنة ويسرة، ثم تركني أذهب به نحو الغرفة، نزعت حذائه وسترته، ألقى بجسمه على السرير ولم تمر دقائق إلاّ وكان يغط في نوم عميق.. ألقيتُ الغطاء عليه ثم رحت أتمعن ملامح وجهه الوديعة والمسالمةِ، كان بوِدي لحظتها لو استلقيتُ جانبه وضممته بين أحضاني ..

* * *

أواخر نوفمبر ..

كانت ليلةً خريفية هادئةً ومقمرة، انتهى الحفل الذي شارك به سامي مع طلابهِ من معهد الفنون، كان قد لاقى استحسانا كبيرا من الجمهور، خرجنا من أوركسترا باريس بانتظار سيارة تاكسي كانت ستقلنا إلى مطعمٍ فاخر للاحتفال بنجاح الحفل، انضم إلينا شابان وفتاتان من طلابه، قال معرفا و مشيرا لكل واحد منهم باسمه :

– ليزا، ماريا، إيريك، وهذا جون ..

تبادلنا التحايا ثم ركبتُ مع سامي والفتاتين السيارة، وتبعنا الشابان بأخرى ..

تجمعنا حول طاولة العشاء، كانوا مجموعة ظريفة، مختلفةَ الرؤى والطباع، ليزا فتاة مرحة كانت تتحدث معي بلطف وحماس، إيريك بدا شابا خجولاً و هادئا، وجون كان كثير الكلام ومضحكا.. أما ماريا فكانت صامتةً وهادئة ولم تتحدث إلاّ لماماً، عندما كنت أنظر إليها أراها ترمقني بنظرات باردة، أو بالأحرى كانت تحمل نوعاً من العدوانيةِ تجاهي ..

قال جون ضاحكا : وأخيرا تعرفنا على صديقةِ الأستاذ الجديدة ..

لاحظت أن سامي انزعج لجملته، فابتسمتُ لعفويته مظهرة عدم الإكتراث..

رمقته ليزا بنظرةٍ قاسية ثم قالت مغيرة سياق الحديث :

– أنت جميلة جدا، النساء العربيات حسناوات، تذكرينني بصديقة عربية، ظلّت صداقتنا لسنوات.. لكننا افترقنا عند انتهاء المرحلة الثانوية ..

شكرتها على لطفها : وأنت جميلةٌ أيضا، و لا تنسي أنّ النساء الفرنسياتُ حلم كل الرجال ..

– إلا واحدا ..

دمدمت بها ماريا بين أسنانها، ربما لم يسمعها غيري لذا لم يعقب أحد عليها . تابعت تناول طعامي وأنا أنقل بصري خلسةً بين إيريك وماريا، كان هو يتطلع إليها بين الحين والآخر بنظرات خاطفة، فيما كانت هي تلتهم سامي بعينيها غير مراعيةٍ لوجودي بالمكان ..

قلتُ له بعد أن افترقنا عنهم :

– ماريا فتاة جميلة، واضح أنها مفتونةً بك تماما ..

– أوه حقا ؟! ..

– وكأنك لم تكن تعلم ! ..

رد ضاحكا :

– بالطبع لست أحمقا كي لا أنتبه لذلك، لكنها ليست من النوع الذي يروقني ..

– ولو راقت لك يا كازانوفا عصرك ماذا كنت ستفعل؟ ..

– هل أزعجك كلام جون ؟، إنه يمزح ..

قلت بعصبية :

– أعلم بأنه كانت لديك الكثير من العلاقاتِ من قبل، باريس كلّها تعلم ذلك، لا داعي للإنكار ..

– أشم رائحة غريبةً، إنها الغيرةُ على ما أظن ..

تجاهلت سخريته قائلة :

– إن إيريك معجبٌ بماريا ..

– يا لك من ذكية، اكتشفتِ كل هذا من جلسة واحدة ! ..

لم أرد عليه، كانت مشاعري في حينها مزيجاً مختلطاً من الشك و الغيرة والغضب، كنت أقمعُ بقوة تساؤلاً مخيفا يحاول الانبثاق من أعماق تفكيري.. ” هل سأكون يوماً صفحةً من دفتر الأرشيف العاطفيّ الخاص بسامي؟ ” ..

* * *

ليلة رأس السنة الجديدة ..

عدنا من سهرة ليلة رأس السنة بعد ما تجاوزت الساعة منتصف اللّيل بكثير، كنت متعبة ومرهقة، صحيح أنها كانت سهرة ممتعة وجميلة ولكن الصخب الذي رافقها سبب لي صداعا، فأصدقاء سامي المتحمسين للرقص المجنون و الشراب أفرطوا بتفاؤلهم وسعادتهم بالعام الجديد . أوصلني حد باب الشقة، خلته سيعود لشقته ولكنه أبدى استعدادا للدخول معي، قلت له بتذمر :

– المدام نائمة، اذهب لشقتك يا سامي ..

– لن أزعجها، لنجلس ونتحدث قليلاً، لا أريد العودة باكرا لشقتي الموحشة في ليلة باردةٍ كهذه ..

– باكرا !، إنها الثالثةُ صباحا ! ..

لم يأبه بكلامي، دفعني برفق ثم سبقني نحو غرفتي، جلس على الكرسي وراح يعبث بدفاتري وأوراقي وهو يبتسم بنصر ! ..

لحقت به متعجبةً من سلوكه :

– هل جننت.. إنّي سأنام ..

بالعادة أسهر حتى الفجر، لكن من أجلك غادرت الاحتفال مبكرا، أدين لك بساعتين إضافيتين ..

لم أجد ما أرد به عليه، خطوت ببطء نحو المطبخ كي لا أزعج المدام، حضرتُ كوبين من القهوة ثم جلسنا نرتشفها حين قال :

– إن أردتِ النوم فنامي، فأنا لن أغادر قريبا ..

– هل ستبيت هنا ؟، أين ؟..

– أظن أن أريكة الصالة تفي بالغرض ..

– سيتصلب جسمك، إنها صغيرة وليست مريحة ..

وضع كوبه على الطاولة، تحرك من مكانه، جلس بجانبي على حافة السرير، ثم أحاطني بيده وهو يقول :

– تستطيعين أن تمنعي ذلك ..

طال الصمت لدقائق، تهت بعالم آخر تماما وأنا أراه يحاول خلالها تخطي حدود الخط الأحمر الذي رسمته بعلاقتنا، ربما صمتي تحت وقع الصدمة جعله يظن أني استسلمت له أخيرا، عدت بعدها إلى رشدي ..لملمت شتات نفسي ثم انتفضت مبتعدة عنه وأنا أقول له بحدة وحزم لم آلفهما مني :

– رجاءً يا سامي ..

استوى واقفاً ثم علاَ صوته :

– أنتِ فتاةٌ غريبة ومتناقضة ..

– لكل شيء حدود يا سامي، حتى في الحب ..

– وماذا تعلمين أنتِ عن الحب؟، الحب هو الحرية، السعادة، الاندفاع والثقة، أنتِ لا تثقين بي حتى !..

– لا يتعلق الأمر بالثقة، أظنك تفهم قصدي بالضبط ..

انتابته فورة من الغضب لم أعهدها منه وقال :

– كلا، لستُ أفهم.. ما يحيّرني أنك مثقفة وواعية !، أتعلمين، أصبحت شبه متأكد أن حبك لي مجرد ملء فراغ عاطفي، إنه سطحي و هش، لستُ أبلها كي لا ألاحظ تخوفك الدائم كلما اقتربتُ منك، أنت تجعلينني أشعر أنني حيوان ينقاد ببهيمية نحو غرائزه ! ..

سكت قليلاً ثم صاح بحدة :

أنت تدفعينني لخيانتك، وهذا ما لا أريده يا نور ..

لم أستسغ ما اتهمني به، فرددت من فوري :

– أنت تهذِي يا سامي، هل تمن عليّ أنك لم تخنّي !، سأعذرك هذه المرة، لأنك غاضب.. من الأفضل أن تتجنب الكلام وأنت بهذه الحال.. فما هكذا تحل الأمور، ثم إن ما بيننا أقوى من مجرد علاقةٍ جسدية ..

– أنا أتحدّث عن وعي تام، لقد ضقتُ درعاً بهذه الحال، أما أفكاركِ الرجعية هذه فاتركيها لنفسك، فلن أقتنع بها ..

ثم اتجه نحو الباب وأكمل بعد أن فتحه :

سأذهب الآن وأرجو أن تعيدي مراجعة حساباتك جيدا، فعلاقتنا لن تستمر طويلاً بهذا الوضع ..

– أنا مقتنعةٌ بما أقول يا سامي ..

حدجني بنظرات قاتلة، ثم صفق الباب دون مراعاة للعجوزِ النائمة ورحل ..

ناديته : سامي.. انتظر رجاءً ..

تجاهلني وغادر.. بعد أن نفثت كلماته سموماً أحرقتني، و أشعلت نيرانا من القهر بداخلي، فقط كان عزائي الوحيد وقتها هو أن يفكر جيدا ويتفهمني، لكنه أبى إلاّ أن يتعصب لمفاهيمه، لم أستوعب في البداية أنه جادٌّ في كلامه، خلتها فقط فترةً وتنقضي، لكني كنتُ مخطئة.. ففي تلك اللّحظة بالذات كنتُ بالفعل قد خسرتُ سامي ! ..

ففي اليوم الموالي حاولت الاتصال بشقته كثيرا طوال النهار.. لكن دون جدوى، كان الهاتف يرن دون أن يرد عليه، بالطبع كان غاضبا مني، يعتقدني جبانة، لكنه لم يفهم أن الخوف ليس من قيّدني في الحقيقة، فلا شيء يدعو فتاةً مثلي منطلقةً حرة الفِكر أن تعبأ بأيّ أحد، لكن القضيّة كانت مبدأً قررتُ أن لا أحِيد عنه، و قناعةً ذاتيةً لن تتزحزح، أحببته كثيرا.. احتل كياني ورأيت فيه مستقبلي و رجل حياتي، لكن ليس لدرجةِ أن أنصهر به لغاية الحماقة، وأتعدى حدودا حرِصتُ أن لا أتجاوزها يوماً حتى في لحظاتِ الغرقِ العاطفي ..

* * *

بعد أيام ..

طال غيابه الذي ضغط على أعصابي، تملكني إليه شوق جارف.. لم أطِق فراقه.. وخفت أن تتسع الهوة التي بيننا أكثر فأكثر، فاتخذت خطوة جريئة و حاسمة، وقررت مقابلته والتحدث إليه بناءً على نصيحة المدام جيرار، فعلّي أصل معه لحلٍّ يرضي كلينا ..

كان الوقت مساءً حين وقفت أمام شقته التي لم أكن أتخيّل يوما أن أدخلها قبل أن يجمعنا ارتباط رسمي، أخذت نفسا عميقاً و ضغطت زر الجرس، مكثت عدة ثوان أترقب حتى سمعت صوت خطواتٍ قادمة يتبعها فتح للباب، ظهرت أمامي فتاة شقراء طويلة، أنيقة المظهر.. ترتدي فستانا قصيرا ومكشوفا، اعتقدت أني أخطأت في العنوان فسألتها فقط للتأكد :

– أليست هذه شقة سامي نزار؟.

نظرت للخلف وقالت بصوت رفيع :

– سام.. إحداهن تسأل عنك ..

– من؟ ..

أتاني صوته كسكين قطعت قلبي، وعندما انتصب أمامي تمالكتُ نفسي بشدّة كي لا أنهار من الصدمة، وما زاد هلعي رؤيتي لارتباكه التام الذي فضحه قبل أن يتكلم :

– نور !، لم تخبريني أنك قادمة !.

محاولة السيطرة على أعصابي قدر المستطاع أجبته بكياسة :

– آسفة، لم أكن أعلم بوجود ضيوفٍ لديك.. سأذهب الآن ..

– انتظري، سأوصلك ….

وقبل أن يكمل صددته بنظرات حانقة :

– سأذهب مثلما أتيت، ورجاءً لا تتبعني اتركني لوحدي هذه اللّيلة، وأعدك أن نتحدث بالغد ..

– ولكن…. نور…. أنا…. لم….

تنهدت وأنا أنزل الدرج :

– إلى الغد يا سامي، طابت ليلتك ..

رحت أجر خطواتي جرا نحو الشارع، ينهشني ألم فظيع، أحسست بوجع كبير يجثم على صدري، وكأن احساسي بذاتي كان قد تحطم، رحت أتنفس بصعوبة و بطء، وبالكاد كنت قادرة على حمل جسمي، لولا أني تشجعت وتحاملت على نفسي، ركبت سيارة أجرة وعدت للشقةِ فورا، استقبلتني المدام جيرار مفزوعة :

– نور !، هل أنت بخير؟ ..

– بخير، لكني متعبة أريد النوم وأخذ قسط من الراحة ..

– وجهك شاحب يا ابنتي، تبدين مريضة ..

– متوعكة قليلاً .. سأذهب إلى غرفتي ..

بعد فترة جاءتني بمنقوع عشبي دافئ وقالت :

– اشربيه سيفيدك، ثم جلست على الكرسي واستطردت :

آسفة على التدخل، لكن هل قابلتِ سامي ؟..

هززت رأسي إيجابا ..

– وماذا حدث ؟ .

قلت ببساطة :

– وجدته رفقة فتاةٍ بشقته ..

لم تصدم للخبر كما توقعت، فهي كانت تعرفه جيدا ..

– وما الذي تنوين فعله ؟ ..

– لم أتخذ قرارا بعد ..

وقفت لتغادر الغرفة وقالت بلهجة حانيةٍ قبل أن تخرج من الباب :

– ارتاحي الآن، وأيا يكن ما ستقررينه فيجب أن يكون عن قناعة تامة، كي لا تندمي لاحقاً .. تصبحين على خير يا عزيزتي ..

* * *

في الغد جاء سامي وقت الظهر، تمنيت ساعتها لو كنت ملكت القدرة على البكاء والصراخ وإطلاق اللّعنات في وجهه، لكن هدوءاً غريبا سيطر عليّ وأنا أتحدث معه، وكأنني لم أتلق منذ ساعات طعنة الخيانة ممن اعتبرته أقرب شخص لي في العالم كلّه ..

عضضتُ على جرحي و استقبلته في غرفتي كنوع من التمرد على نفسي، جلس على الكرسي وقال لي بعينين كسيرتين :

– لم أفعل شيئا.. صدقيني ..

جلست على السرير قبالته وقلت له ساخرة :

– حقا !، وماذا كنتما تفعلان إذن؟، تلعبان الشطرنج مثلاً ؟ ..

– أعرفها منذ سنوات، شعرت بالوحدة فأردت شخصاً أحادثه، إنها المرة الأولى التي تدخل فيها فتاة لشقتي منذ أحببتك ..أنا لم ألمسها، أقسم لكِ على ذلك ..

– أوه، لم يُسعفك الوقت، آسفة جدا لتعكير السهرة عليك، أما أنك أردت أن تتكلم مع أحد، فدعني أذكرك.. أنت لا ترد على مكالماتي يا أستاذ ! ..

– كنت غاضبا.. فـ ..

قاطعته :

– قررتَ أن تلقنني درسا وتضعني تحت الأمر الواقع، فإما أن أرضخ لك أو أخسرك ..

– ليس الأمر كذلك ..

قلت له بعتب :

– هل تعلم أنني و منذ أُغرمت بك وأنا أستغرب نفسي وأتساءل.. ما الشيء الذي جذبني إليك ؟، أنت بعيد عني بأفكارك و سلوكياتك وقناعاتك، نحن نكاد لا نلتقي بأيّ نقطة مشتركة، ومع هذا أحببتك للغاية مثلما أنت، لم أنطقها يوما لكنني كنت حريصةً على أن تلمسها وتستشعر صدقها، أتدرك شيئا؟، أنا قدمتُ البارحة إلى شقتك لا ألوي على شيء سوى أن أتصالح معك بأي ثمن يا سامي.. بأيّ ثمن ..

– نور رجاءً لا تصعبي الأمر عليّ أكثر، أنا مخطئ.. إني على يقينٍ من ذلك، وفي النهاية.. أنت تعلمين أني لست بتلكَ المثالية ..

– إن الثقة هي أساس الحب وأجمل ما فيه، و ثقتي تجاهك تزعزعت لدرجة أصبحت أتساءل إن كنت أحببتني حقاً .. هل تعلم أن خيانات أبي المتكررة لأمي كانت سبب انفصالهما، طلبت أمي الطلاق لأنها عرفت أن وجودها في حياته كعدمه، إني أرى نفسي مثلها الآن ..

– أنت تضخمين الموضوع، أنا لم أفعل شيئا !..

تجاهلتُ تبسيطه للأمر قائلة :

– أنت لا تدرك مدى صعوبة العيش وأنا أخاف خسارتك في كل لحظة، فمع الأسف لا أستطيع أن أتغير كي ألائم أسلوب حياتك.. ساعتها لن أكون كما عهدتني على سجيتي، سأفقد ثقتي بنفسي و ستتداعى أركان علاقتنا لأنها ستكون مزيفة تماما ..

ران الصمت للحظات تكلم بعدها :

– صدقيني أنا أحبك يا نور، ولا أريد خسارتك، حتى لو اضطرني الأمر لأن أتقدم وأطلب يدك من خالك ..

– ولو اضطرك الأمر ؟.. حسنا، أتركني لأيام حتى أفكر ..

– أنا آسف بالفعل، سامحيني يا حبيبتي ..

وَأدتُ غصّة كانت ستدفعني للبكاءِ ثم وقفتُ وأنا أقول :

– عندما أتوصل لقرارٍ سأهاتفك ..

– نور أنا أحبك حقاًّ ..

همست في سري : قد تكون محقا، لكنك آذيتني..

ثم ودعته :

– مع السلامةِ يا سامي ..اعتني بنفسكَ جيّدا ..

عندما خرج شعرت بالمرارة، فإلى جانب كونها أول مرة أكذب بها في حياتي، كانت أيضا الأخيرة التي أراه فيها، فأنا كنت قد عقدت العزم و اتخذت قراري النهائي بالعودة لبلادي بعد ليلةٍ من التفكير كانت جدّ طويلة و قاسية، فلم أجد غيرها وسيلةً أتخفف فيها من الألم الذي كان يلتهمني بعد أن اقتنعت بعدم جدوى التمسك بعلاقةٍ نهايتها معروفة، نحن ببساطة كنا مختلفين، و مرور الزمن كان كفيلاً بتضخيم اختلافاتنا، تناقضنا كان واضحاً لدرجة أن الدهشة جعلتني أستغرب وقتها، ما هو الشيء الذي كانت تعتمد عليه علاقتنا إذن؟، أهو الحب فقط؟، واضحٌ أنه لم يكن يكفي.. فلِمَ لا أوفر على نفسي الوقت و العناء؟، وأختصر الطريق المؤدي حتما إلى نهايةٍ مؤلمة؟ ..

كنت آمل بعودتي تلك أن أستشعر شيئا من السّلام وأستعيد توازني الداخلي، والمفارقة المضحكةُ المبكيةُ أن أملي ذاك مبعثه مجتمعي المنافِق الذي يتخذ من الحب العلني أحد المحرمات، مجتمعٌ قد يكفل لي بقوانينهِ أن أنسى رجلاً تمزق ذكراه أحشائي، رجل كنت أراه بقلبي.. لا بعيني، فلم أحصد منه غير النّكران والخيانةِ كمجازاةٍ لي على صِدق عواطفي، كنت مجروحة الفؤاد، محبطة الآمال، فارغةً من الدّاخل، متعثرةً و مهزومة عاطفيا ..

أقلّني بعد يومين خالِي للمطار بعد أن استنفد جلّ طاقته ليثنيني بالعدول عن قراري، رافقتني المدام جيرار مصرّة على توديعي بعد أن أخذت منها وعداً أن لا تخبره بسفري إلاّ بعد مغادرتي باريس، فلأنني أردت الاختفاء من حياته و نسيانه، خِفتُ أن أضعف إن رأيته أمامي.. صعدتُ الطائرة مخذولةً، محطمةً، حزينة لدرجة الإنكسار، عائدة لوطنٍ لن أرجع إليه أبدا كما تركته، فأمام صدمة تداعي علاقةٍ كنتُ متمسكةً بها لأقصى حد.. انهرتُ وأصبحتُ طريحةَ فراش غرفةِ العناية المركزة بالمستشفى فور أن حطّت الطائرة بالمطار ..

مرت قرابة العامين منذ ذلك اليوم الذي عرفتُ فيه أني مصابةٌ بـ(فشلٍ في عضلةِ القلب)، وقتها ضحكتُ ملء فمي أمام دموع أمي ومنظر الرعب الذي علاَ وجه والدي، لا لشيء.. سوى لسخريةِ القدر الذي جعل من قلبي عُرضة لكل أنواعِ الفشل ..

* * *

فبراير.. عام 1994م

أمام المرآة جلست تتأمل نفسها وهي بكامل زينتها، كانت مشتتة الأفكار مشوشة العقلِ، فقبل أيام عاود الظهور من جديد في حياتها بعد أن أخلفت صديقتها العجوزُ الفرنسية بوعدها، وأعطته رقم هاتفها الذي تتبع منه عنوانها، عندما اتصلت بها بعد ذلك وسألتها عن السبب أجابتها بلهجةٍ ثابتةٍ و حكيمة : ” إنه مغرم بك بصدقٍ يا نور، لقد تأكدت من ذلك بنفسي، لقد تغير من أجلك.. ثقي بكلامي يا ابنتي، كما أني لا أريد لك أن تندمي و تصبحي مني نسخةً ثانية ..”

دَق باب بيتها ذات مساء، فتحته دون اكتراث.. عندما رأته سيطرت عليها صدمة عنيفة وتسمرت مكانها غير قادرة على الحراك ..

– لم أتوقع أن تكوني بتلك القسوة ..

تملكها إضطراب شديد وهي تصغي لكلماته المشحونة بالعتب، تأملت تقاسيم وجهه، كان لا يزال يحتفظ بنفسِ الإبتسامة الساخرة و ذاتِ النظرة الساحرة ..

– ألن تدعيني للدخول ؟، لاتزال لديك هذه العادة السيئة ! ..

شرعت الباب فدخل، أغلقته خلفه، ثم بقيا واقفين وجها لوجه يتأمل كل منهما الآخر بصمت.. لحظتها أُثيرت ذكريات عميقة في نفسها، اغرورقت عيناها بالدموع، عبثا حاولت مقاومتها، تركته وأسرعت لغرفتها، أطلقتِ العنان لها لبرهة من الزمن، مسحت آثار خيبتِها، تناولت أقراص دوائها، ثم سحبت نفسا طويلاً و عميقاً و عادت إليه قائلةً بنبرة حيادية لا تشي بما يختلج في داخلها :

– آسفة.. ماذا تود أن تشرب ؟.

أجاب مبتسما : عصير .. ثم أردف بعد أن تطلع في ملامحها المتعبة : هل أنتِ بخير ؟.

هزت رأسها إيجاباً واتجهت صوب المطبخ ..

بعد ساعتين غادر تاركا إياها بمشاعر متعارضةٍ تتصارع بأعماقها، رجوعه أنعش بداخلها أحاسيس ومشاعر لم تمت أصلاً، كانت سعيدةً لأنها رأت حبا كبيرا تجاهها يرشح من عينيه وكلماته، خائفةً من أن تعاود نفس التجربة الفاشلة فتقتل روحها المرهقة و المثقلة بالهمومِ والخيبات.. كان آخر ما قاله :

– من أجلك قررتُ أن أكون شخصا جديدا حتى أستحقكِ، لم يكن ذلك سهلاً لكني حاولت بأقصى طاقتي، و كما أخبرتك قبل قليل.. الحفلة الموسيقية بعد عدة أيام، لديكِ وقت كافٍ للتفكير، إن جئتِ فسأعتبر ذلك موافقةً على بدءِ صفحة جديدة بيننا ..

بتر سلسلة أفكارها صوتُ صديقتها :

– أسرعي يا نور، مارك على وشك أن القدوم، لابد أن نَصل بسرعة قبل أن تبدأ الحفلة ..

– أخبرتكِ أني مترددة في الذهاب ..

– أنت حمقاء.. كفي عن ذلك يا نور، أعطي لنفسك فرصة ثانية، أنتِ لاتزالين تحبينه.. ألم تقولي أنه يبدو جديًّا هذه المرة ؟..

زفرت مسلِّمة بواقع الحال و قالت :

– هذا صحيح.. لكن الوضع تغير، لست أنا الفتاة القوية نفسها التي كُنتها قبل سنتين .. لن أستطيع تحمل انكسارٍ آخر .. إن آثار جرحي القديم لم تُمح بعد ..

– لا أحد يعلم ما ينتظره، تفاءلِي خيرا وثقِي بنفسك، أنت امرأةٌ بمنتهى الشجاعةِ والقوة..

– هو لا يعلم بمرضي يا صوفيا ..

– أخبريه، سيكون ذلك بمثابةِ اختبارٍ لصدقه ..

شدتها من يدها وسحبتها نحو الباب ..

– كفى أعذارا يا نور، تأخر الوقت.. هيا بنا ..

* * *

قال وهو يمرر بصره بين جمال وجهها و أناقةِ فستانها الأزرق :

– ها قد أتيتِ إذن ..

– إنك تحرجني بنظراتك هذه ..

– ليس ذنبي أنك جميلة.. ضحك ثم أكمل : أراكِ بعد الحفل، لن تُفلحي بالهربِ هذه المرة ..

راقبَته بعينين عاشقتين و هو يتقدم نحو المنصّة بخطوات واثقة، جلس.. أمسك نهاية مقبض الكمان بقوة، ثبته إلى كتفه الأيسر، ثم بدأ يعزفُ بمهارةِ الكِبار لحنها المفضل ..” الفصول الأربعة ” ..

النـــــــــــــــهاية

تاريخ النشر : 2019-02-14

وفاء

الجزائر
guest
56 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى