تجارب ومواقف غريبة

القتال بالثياب

بقلم : ابن اليمن – اليمن

كانا يلبسان حللاً كأنها نُسجت من جناح أسحم الغربان و أشد الليالي سواداً
كانا يلبسان حللاً كأنها نُسجت من جناح أسحم الغربان و أشد الليالي سواداً

 
في احدى الليالي المقمرة من الشتاء الحالي و حينما انطفئت الأنوار و انغلقت الأجفان على العيون وغُلّقت الأبواب و أُسدلت الشبابيك على النوافذ ولاذت الناس بجدران البيوت هرباً من زمهرير الشتاء القارس و برده الذي لا يرحم ، في ساعةً فيها صار الكل في بحر المنام غريق حين تترك المركبات الراحة والسكون للطريق ، كنت ساهراً على شاطئ أحد الأودية البعيدة كعادتي وحيداً لا أنيس لدي ولا جليس ، فأخذت أتأمل سكون الليل وهدؤه المريب الغريب واستمع إلى موسيقى هادئة أخذتني إلى البعيد و سرت بي في بحر الذكريات و أيام الأمس و ريح الشمال الباردة تلقحني كأنها غانية تداعب خدي حبيبها ، و حفيف الأشجار على امتداد الوادي الفسيح يصدر لحناً موسيقياً بديع ،

أرفع نظري تارتاً نحو السماء فإذا هي كقطعة الحرير الزرقاء مطرزة بحبات اللؤلؤ ، و القمر في كبد السماء كأنه حسناء لابسه قطعة الحرير الزرقاء المطرزة بحبات اللؤلؤ الناصعة ، و يا لها من ليلة تلك ! حينما ذهبت إلى شاطئ ذلك الوادي الذي تحفه ربوتين صغيرتين من جهتيه الشرقية و الغربية و تنتشر فيه أشجار السُمر وكأنها رهبان متبتلة في محراب ذلك الليل المقمر ، جلست كعادتي بعد أن بسطت حصيراً صغير وجلست عليه في مكان مرتفع عن منخفض الوادي ، تداعبني أفواج النسائم من كل الجهات وكأنها صبايا حسان يوخزنني بأناملهن الحريرية الغضة ، ثم اذا أشحت اليهن بناظري جفلن عني و أخذن يتضاحكن أفواجاً أفواجاً ، جلست على ذلك الحصير وحيداً فقط برفقتي هاتفي الجوال الذي هو أنيسي و ونيسي الوحيد في هذا الليل الطويل ،

فأخذت أبحث عن مقطوعه موسيقية هادئة في ملفات الموسيقى في هاتفي تناسب هدوء الليل و سكونه المفرط ، و أخيراً وجدتها فشغلتها على شكل mp3 بمستوى صوت منخفض نسبياً ، ثم أخذت أجول ببصري و أقلّب طرفي في ملكوت الله إلى السماء أنظر واحياناً إلى بطن ذلك الوادي الغائر الذي يمتد لسان منه من جوف لجه عميقة ضاربة في صدر جبلاً شاهق نحو الشمال الغربي من موقع جلوسي ، فإذا الوجود غارقاً في صمتاً عميق والأفق تسبح فيه الأفلاك والكواكب كأنهن حوريات يتأزرن في جو من الألفة والانسجام ، فجأة قطع خيط تأملي وانجذابي صوت تلاطم ثياب قادم من أسفل الوادي و على بعد ما يزيد عن عشرين متر تقريباً من موقع جلوسي إلى الأسفل من الجهة الغربية ، فانتابني شعور بالروع والهلع نسبياً ، لأنني لست ممن يخاف بقدر أفقد فيه صوابي أو وعيي ،

وثبت قائماً ثم سرت متجهاً نحو مصدر الصوت يقودني الشعور بالفضول و الخوف و التعجب والاستغراب معاً ، ثم اختفيت خلف أحد الأشجار على مقربه من مصدر الصوت ، كانت السماء صحوة جداً والقمر في ليلة الخامس عشر و هي ليلة البدر ، يمكنك أن ترى أدق التفاصيل من حولك ، لذلك انسللت رويداً و بخفه حتى ارتميت خلف احدى الأشجار الكثيفة التي تقع على مقربة من مكان الصوت ، فأخذت اختلس النظر من خلال أغصانها المتشابكة و هالني ما رأت و راعني حقاً ! عندما أخذت موقعي من تلك الشجرة بحثت عن فرجة واسعة أنظر من خلالها بشكل أوضح و أشمل ، و أخيراً وجدتها ، ثم أمعنت النظر نحو مصدر الصوت ، فيا لهول ما رأت و يا عجباً من ذلك المشهد !

كانا غلامين صغيرين في حدود الرابعة عشر من العمر يلبسان حللاً كأنها نُسجت من جناح أسحم الغربان و أشد الليالي سواداً ، فلما نظرت اليهما خلت أن البدر انقسم في وجهيهما وترك السماء تسبح في ظلاماً دامس ، و لكن الغريب أنهما كانا يتعاركان بعنف ، و  الأغرب أن ذلك العراك لم أرى عراكاً مثله في حياتي ، تلك الثياب التي يرتديانها كانت ضيقة و لاصقة حول كتفيهما إلى نصف سواعدهما ، ثم اتسعت حول منطقة الرسغ ثم عادت لتضيق حول منطقة الصدر ،  ثم انفرجت و اتسعت في مكان الخصر منهما ، لها ذيول طويلة كأنها حبالاً مسترسلة أو ذيول ديناصورات قادمة من أقصى العصور والحقب الغابرة ، و كلاً منهما يضرب الأخر بطرف كمه الفضفاض ،

فبرغم طول ذيول الملابس التي يرتدونها إلا أنهما يتعاركان بأطراف كميهما ، يضرب هذا على خد خصمه فتنتثر الدموع كأنها عقد جماناً تناثر على خده البدري ،  فيثور المضروب و يصفع خصمه بضربه لا تقل عنفاً عن تلك التي تلقاها قبل برهه من الزمن ، فأخذت اقترب منهما فقد تلمكتني شجاعة غير عادية و شعور يدفعني بشراسة نحوهما لفظ هذا العراك المستمر ، اقتربت رويداً رويداً متخفياً بين الأشجار حتى أتيتهما من جانب لا يروني منه ، و تحديداً من خلفهم حيث تسترهم تلك الشجرة التي تشبه العظاه ،

فانسللت حتى اختفيت تحت تلك الشجرة و ما عاد يفصل بيني وبينهم سوى أقل من خطوتين فقط ، غير أنهما لا يرياني لأنني متلفع بأغصان تلك الشجرة الكثيفة ، أما أنا فأشاهدهما بشكل واضح جداً و أرى أدق تفاصيل وجهيهما ، تمعنت فيهما و تأملتهما فإذا الدموع تخر على وجه كلاً منهما كأنها الينابيع الساهرة التي تشق بطن الوادي المحاذي لهما ، و الاحمرار على وجناتهما كأنه طلاسم كاهن حمراء من دم الحيض ، عراكاً بلا كلام غير صوت الأكمام حين ترتطم بالوجوه لا بكى يوجد و لا صراخ!.

بلغ بي التعجب والاستغراب أقصاه و تأبطني الذهول و الحيرة ، ما هذا و من هذان الولدان و أي نوعاً من العراك هذا ؟ فرجعت إلى ذاتي أفكر و أفكر ما العمل ، ما الذي يجب أن أفعله ؟ فنظرت إلى الساعة في هاتفي فإذا هي الواحدة والربع ،  و بدأ القمر ينزاح و يبتعد عن كبد السماء والصمت يحتضن الوادي من جميع أطرافه بشغف و شوق عنيف لا أنسان يسير لا صوت دراجة أو مركبة لا شيء فقط على بعد ما يقارب الثلاثة كيلو متر من موقعي وموقع الغلامان يأتي صوت عواء ذئاب تبثه ريح الجنوب بشكل متهدج و مبحوح ، يا لها من ليلة !

ما الحل ؟ الصبيان يتقاتلان و بدأ القتال يشتد ضراوة و عنف من ذي قبل و زاد انهمار الدموع من مقلتيهما و كاد الاحمرار يغطي ملامح وجهيهما السافرة النقية ، وضعاً لا يُطاق و لا يمكن اترك هذين الصغيرين يفني كلاً منهما حياة الأخر ، فاستجمعت قواي واستعنت بالله وتوكلت عليه ثم انطلقت من بين أغصان الشجرة التي اختبئ فيها كأنني السهم فما شعرت إلا و أنا وحيداً قائماً و لا أحد موجود ، تلفت يمنة و يسرة هنا وهناك ولكن لا أحد ، ألم يكونا قائمين هنا و أنا كنت متخفياً في تلك الشجرة ؟ فعدت أنظر إلى حيث كانا يتعاركان و نظرت جيداً فانتابتني نوبة ذهول ثم جثيت على ركبتي سريعاً ، نعم هذه دموع ! نعم أنها الدموع التي كانت تنسكب من عينيهما ، تمعنت جيداً و سلطت كشاف هاتفي جيداً على الموقع الذي كانا يتقاتلان فيه ، فوجدت الأثار شاخصة ،

كانت أثار أقدام أدميه صغيرة تماماً كسنهما الصغير ، ثم انتابني التعجب والاستغراب اذا كانت هذه أثارهما و مخلفات معركتهما الدامية فأين هما و أين اختفيا وما الذي أتى بغلامين صغيرين إلى بطن هذا الوادي السحيق الموحش و في هذه الساعة المتأخرة من الليل ؟ انسللت من ذلك المكان المقفر الموحش و الذي أزداد وحشة و وجوم لأن القمر قد غادر سماء الوادي و الساعة تزحف نحو الثانية والنصف صباحاً ، انسللت حذراً وجلاً إلى مكان أكثر أماناً قرب المنزل الذي تحيط به عدة منازل ، و هو يقع في أول بيوت القرية مواجهاً لثغر ذلك الوادي الذي أدلف اليه و أزوره حين يجن الليل ثم انحدرت إلى عشتي المتهالكة و ارتميت على سريري و الكوابيس تعصف في زوايا رأسي ثم سكنت حركتي فما فقت إلا و الشمس قد اكتسحت الوجود و جلت الليل عن بيوت القرية و طرد الظلام عنوه.

تُرى ما حكاية الغلامين و من أي المخلوقات هما ؟ فلو كانا من الجن ما كانت أقدامها بشرية ، لأن الجن لهما أقدام كأقدام الحمير و حوافر الخيل ، و اذا قلنا أنهما من الأنس ، فهل يمكن لغلامين لم يجاوزا الرابعة عشر أن يخرجا إلى عمق ذلك الوادي و في تلك الساعة المتأخرة من الليل و الذي لا يستطيع كل أهل القرية  أن يسروا اليه مجتمعين في تلك الساعة من الليل ، بل حتى في الصباح لا تزال تحيط به الرهبة والخوف و لا يدخله أحد ، أنا فقط من لا يهاب ذلك المكان ، و لكنني لا أدخله بشكل كامل فقط أبقى على حافة ذلك الوادي بعيداً عن لجته وعمقه ، فكيف يدخلاه هذان الغلامين ، ثم لماذا يتقاتلان بأطراف كميهما وليس بأيديهما ، و لماذا لا يصرع أحدهم الأخر أو يتراشقا بالحجارة ، لماذا هكذا قتالهما مرتب ؟.

أسئلة لم أجد لها جواباً ، و قد سألت القرية برمتها و قصصت حكايتي عليهم ، فاتت الردود بالنفي والاستغراب والتكذيب ، بل ربما الرمي بالجنون من بعض الأشخاص تجاهي ، لأن أهل القرية كما تعلمون يهجعون من أول الليل ثم يستيقظون أول الفجر و بعيدين كل البعد عن السهر كباراً و شباباً ن فكيف بغلامين صغيرين ؟ ثم أنني أعرف كل أهل القرية فهي بيوتات معروفة و محصورة و الغلامين ليسا منهم و لم أراهما من قبل !.

تاريخ النشر : 2021-01-11

guest
36 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى